الشارع الثائر يفرض أجندته:
على الرغم من أن غالبية القنوات موضع المراقبة سعت بجد إلى فرض أجندتها وتمرير رؤية ملاكها للتأثير على الرأي العام المحلي والإقليمي والدولي، والتلاعب بالنقاش العام، من خلال تغطيات متحيزة وانتقائية، إلا أن الشارع الثائر ضد الانقلاب، والذي تحركه لجان المقاومة في الأحياء والمدن والقرى والممثل لصوت الأغلبية الشعبية قد فرض أجندته على وسائل الاعلام التي تغطي الأوضاع في السودان، ووكما يبين الرسم البياني رقم (2) أن أعلى الكلمات والمفردات تكراراً في تغطيات وسائل الإعلام العربية في الفترة من 6 نوفمبر 2021م إلى 31 يناير 2022م، كانت هما مفردتي (تظاهرات) و (احتجاجات)، تكرر استخدام الاولى 489 مرة، بينما تكرر استخدام الثانية 278 مرة، بجميع القنوات، بما في ذلك القنوات التي كانت متحيزة في تغطيتها.
استحوذت تغطية المظاهرات الرافضة للإنقلاب والمطالبة بانسحاب الجيش نهائياً من الحياة السياسية على أعلى تكرار في الكلمات المستخدمة في محتوى القنوات موضوع المراقبة، أي على أعلى تغطيات، على الرغم من أن التغطيات المتعلقة بالمظاهرات كانت في البدء تغطيات متحيزة وغير منصفة، بل ولم تتورع بعض القنوات الاعلامية العربية في أن تصف المظاهرات السلمية الرافضة للانقلاب بأنها “اضطرابات” أو “أعمال شغب” أو “العنف” أو خلافها من الاوصاف ذات المدلولات السلبية، ومحاولة لتأطير المظاهرات في إطار “الاضطرابات” أو “الشغب” أو خلافها من الأفعال الخارجة عن القانون، في حين أن المظاهرات الرافضة للانقلاب تتم بصورة سلمية وعالية التنظيم، ويتم الإعلان المسبق عن خرائط نقاط التجمعات وخطوط السير وترفع فيها شعارات ولافتات مكتوب عليها مطالب المتظاهرين السلميين، التي تنحصر أغلبها في إبعاد الجيش من العملية السياسية، ورفض الانقلابات العسكرية، وتحقيق العدالة لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت خلال المظاهرات، أي أن هذه المظاهرات هي تعبير سلمي مكفول في مواثيق حقوق الانسان، وليست أفعال خارجة عن القانون أو “أعمال شغب” أو “عنف”، كما تورد بعض القنوات موضع المراقبة في تغطيتها.
تتعمد بعض القنوات الاعلامية إلى تكرار مفردتي “اضطرابات” و “عنف” لوصف المظاهرات السلمية في السودان، ومن المتعارف عليه أن مفردة “العنف” يقصد بها في غالب الاحيان العنف والعنف المضاد، أو حالة الفوضى، وهو ما لم يحدث خلال المظاهرات المناهضة للانقلاب العسكري.
في هذا السياق أيضاً، تعمَد بعض القنوات الاعلامية إلى الاعتماد على المصادر الرسمية فقط، لعكس ما يحدث خلال المظاهرات، وعلى سبيل المثال تورد بعض القنوات الإعلامية تصريحاً رسمياً للشرطة يتحدث عن إصابة 39 من قواتها خلال المظاهرات، بينما تتحاشى إيراد عدد المصابين في صفوف المتظاهرين، أو الإشارة إلى عدد الذين قتلوا برصاص قوات الشرطة والأمن، على الرغم من توفر المصادر والمعلومات بهذا الخصوص، وقد وثقت جهات طبية وحقوقية العنف الذي واجهت به القوات العسكرية المتظاهرين السلميين، والذي أدي إلى مقتل أكثر من (94) متظاهراً سلمياً (من يوم 25 أكتوبر 2021 وحتى ابريل 2022) .. إلا أن بعض القنوات تتعمد تجاهل هذه المعلومات المهمة في سياق الأوضاع الراهنة في السودان.
من جانب آخر، ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في التغطية الإعلامية للمظاهرات وكشف الانتهاكات ضد المتظاهرين السلميين المناهضين للإنقلاب العسكري، الأمر الذي اضطر وسائل الإعلام العربية – لا سيما المملوكة للدول الداعمة للانقلاب – لتغطية التظاهرات في نشراتها الاخبارية، على الرغم من أن بعض التغطيات جرت على مضض وبطريقة متحيزة وانتقائية.
اندلعت المظاهرات المناهضة للانقلاب العسكري والرافضة لتدخل الجيش في العملية السياسية، منذ صبيحة الخامس والعشرين من أكتوبر، صبيحة الانقلاب، وظلت متواصلة بلا انقطاع، ولكنها كانت في بادئ الأمر تجد التجاهل المطلق من قبل بعض القنوات الاعلامية موضوع المراقبة، وحينما تصاعدت وتيرة التظاهرات وأصبحت الحدث الأول والرئيس في البلاد، اضطرت بعض القنوات العربية إلى تناول المظاهرات، في البدء، بشيء من التبسيط، ثم ربطها بأحداث لا علاقة لها بالمظاهرات، وعلى سبيل المثال، تربط (قناة العربية) المظاهرات بإعلان تشكيل المجلس السيادي الجديد، وتربطها قناة (سكاي نيوز) بالمطالبة بمدنية الدولة، وهو مطلب حقيقي لكن تم انتقاؤه من بين عدة مطالب أهمها رفض الانقلابات، لكن القناة تتحاشى ذكر مطلب المتظاهرين المتعلق برفض الانقلابات العسكرية.
الربط بين المظاهرات وأحداث لا علاقة لها بها، هو في جوهره عملية تضليل للمتلقي، إذ أن المظاهرات السلمية التي انطلقت منذ فجر الخامس والعشرين من أكتوبر رفضاً للانقلاب، وظلت متواصلة ولها أهداف محددة عبرت عنها بيانات لجان المقاومة، وهي إنهاء الحكم العسكري، والوصول إلى دولة مدنية كاملة.
من جهة أخرى، سعت بعض القنوات الى ترسيخ صورة نمطية سلبية عن المظاهرات، وفي هذا السياق تتعمد بعض القنوات استضافة أشخاص يمثلون جانب واحد، داعم للانقلاب، ويصبغون عليهم صفات وألقاب فخيمة حتى يبدو ان ما يقولونه أمراً ذا بال وعلى سبيل المثال استضافت احدى القنوات موضوع المراقبة، شخصا يحمل عددا من الألقاب، ليقول في مداخلته : “المشاركون في الاحتجاجات على قرارات البرهان أعداد قليلة لا تمثل جميع السودانيين”، وفي نفس اليوم استضافت ذات القناة، شخص آخر يحمل عددا من الألقاب ليدلي بالتصريح التالي: “الرافضون لقرارات البرهان فصيل من الشعب السوداني بينما الكتلة المرجحة هي الأغلبية الصامتة”.
في الوقت الذي تنتقي فيه القنوات الاعلامية أشخاص مؤيدين للانقلاب العسكري لاستضافتهم وإبراز آراءهم في عناوين التغطيات، كانت لجان المقاومة قد أعلنت عن متحدثيها الرسميين وتصدر بياناتها بانتظام لتوضيح وجهات نظرها، إلا أن بعض القنوات الاعلامية ظلت تتجاهل منشورات اللجان ومتحدثيها الرسميين، وتستضيف العديد من مؤيدي الإنقلاب.