Tag: الحدود السودانية

كيف أصبح اضطراب الحدود بين السودان وأفريقيا الوسطى مدخلاً لسيطرة روسيا على موارد البلدين؟

على مدى السنوات الأخيرة، ظلت جمهورية أفريقيا الوسطى، الواقعة على حدود السودان الغربية بطول 174 كلم، تعيش حالة مستمرة من الاضطرابات السياسية والحروب الأهلية، أثرت على البلاد بشكل كبير. 

وبقيت أفريقيا الوسطى المستعمرة الفرنسية السابقة، لعقود من الزمن تحت نفوذ باريس، لكن أخيراً تمدد إليها النفوذ الروسي بشكل كبير عن طريق نظام الرئيس المخلوع عمر البشير، الذي رعى في فبراير عام 2019م مفاوضات سلام بين المتمردين والحكومة بالعاصمة الخرطوم شارك فيها مسؤولون روس رفيعو المستوى.

عقب إسقاط نظام الرئيس المخلوع، عمر البشير في أبريل 2019م، تواصل التمدد الروسي في الحدود بين السودان وأفريقيا الوسطى، وصل في السنتين الأخيرتين إلى وجود عسكري شمل حتى العاصمة بانغي، إلى أن أصبح البلد الأفريقي الغني بالموارد المعدنية كما لو أنه مستعمرة روسية.

وبعد انفجار الحرب الأهلية بأفريقيا الوسطى في عام 2013م، أشارت تقارير إعلامية إلى تدخل نظام البشير المخلوع، عسكرياً إلى جانب أحد الأطراف المتصارعة.

ومع استمرار الحرب الأهلية التي اندلعت على أسس عرقية، ودينية من ناحية أخرى، أصبح السودان، وتحديداً إقليم دارفور، ملاذاً لآلاف اللاجئين الفارين من الحرب، في حدود ظلت مفتوحة أمام النشاط التجاري الشعبي لسنوات طويلة.

التجارة الرسمية والموازية بين البلدين

تنشط حركة تجارية واسعة بين البلدين، وتعتبر مدينة أم دافوق والتي تقع على بعد 370 كلم غربي مدينة نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور، إحدى أكبر المناطق الحدودية التي تربط السودان بأفريقيا الوسطى، والمعبر الرئيسي لحركة التجارة بين البلدين. 

ومنطقة (أم دافوق)، كانت جزءاً من محافظة (رهيد البردي)، التي تمتد من غرب منطقة الشويب حتى حدود أفريقيا الوسطى، ولكن تم فصلهما لاحقاً وأصبحت (أم دافوق) محلية منفصلة من محلية (رهيد البردي).

وطبيعة النشاط الاقتصادي في محلية أم دافوق، نشاط رعوي، يمتد بين السودان ودولة أفريقيا الوسطى، مما أدى إلى وجود تداخل شعبي في المناطق الشرقية لأفريقيا الوسطى، مثل منطقة جبل فاطمة ومنطقة مأمون وغيرها، كما أدى التداخل إلى وجود مجموعات إثنية توزع وجودها بين السودان وأفريقيا الوسطى مثل مجموعات (الكارا) و(الصرا).

وتنتعش في (أم دافوق) التجارة الموازية، وذلك بفضل الحماية التي توفرها الجماعات المسلحة، مثل الجبهة الشعبية لنهضة أفريقيا الوسطى الإسلامية. وتنطلق الشاحنات التجارية من السودان نحو أفريقيا الوسطى محملة بالسلع السودانية مثل الزيت والبنزين وغيرها من السلع الاستهلاكية، بعد تفريغ السلع في أفريقيا الوسطى يُعاد تحميل الشاحنات بسلع محلية في مقدمتها البن لإعادة بيعها في السودان.

يعود هذا الشكل من أشكال التجارة الموازية بفائدة كبيرة على الجماعات المسلحة، والتي تعدها مورداً مالياً مهماً بفضل “الرسوم” التي تفرضها مقابل حماية القوافل، حيث يوجد حوالي 64 نقطة تفتيش لمسلحين من كل الانتماءات، وتبلغ أرباح مجموعات سيليكا السابقة وأبرزها الجبهة الشعبية حوالي 192 مليون فرنك سنوياً (حوالي 300 ألف يورو) من خلال الإقطاعات التي  تجمعها من تلك النقاط.    

أما على صعيد حركة التجارة الرسمية بين البلدين، فتبدو ضعيفة للغاية، إذ بلغ حجم الصادرات الرسمية السودانية لأفريقيا الوسطى في عام 2018م حوالي 128 ألف دولار، تتمثل في صادرات الآليات (3.78 ألف دولار)، والمعادن (124 ألف دولار). بينما بلغ حجم الواردات السودانية الرسمية من أفريقيا الوسطى، في عام 2018م، حوالي 783 ألف دولار تنقسم بين قطاعات الزراعة (530 ألف دولار)، والمعادن (36.5 ألف دولار)، والمواد الكيميائية (27.4 ألف دولار)، والآليات (165 ألف دولار)، والكهرباء (20.2 ألف دولار)، وأخرى (1.19 ألف دولار). 

جرائم الشركات الروسية

 مع تزايد نشاط التعدين التقليدي سواء كان في دارفور أو أفريقيا الوسطى، ارتفعت وتيرة الحركة بين الشعبين في الوقت الذي تمددت فيه الشركات الروسية في عمليات تعدين محمومة بالبلدين، أصبحت تطيح بالمعدنيين التقليديين السودانيين، حيث قامت قوات عسكرية تتبع للشركات الروسية في مارس الماضي بمطاردة المعدنين السودانيين من أفريقيا الوسطى إلى داخل الحدود السودانية، وقتلت العشرات منهم. 

لاحقاً، أفاد ناجون من هجوم المسلحين الروس، المسؤولين عن حماية الشركات الروسية التي تعمل في مجال التنقيب عن المعادن، على العاملين في مناجم الذهب من السودانيين والتشاديين ومواطنين  محليين من أفريقيا الوسطى بمنطقة “انداها” بافريقيا الوسطى، إن المسلحين الروس قتلوا أكثر من 20 شخصاً بعدما هاجمتهم في قرية “قورديل”،  بينما لا يزال عدد من عمال المناجم مفقودين. 

وتنشط في المناطق الشمالية لجمهورية أفريقيا الوسطى حركة “السيليكا” المسلحة المعارضة لحكومة أفريقيا الوسطى، بينما تتولى شركة الأمن الروسية “فاغنر” مساعدة الحكومة للقضاء على مسلحي الحركة.

ورغم قتل المعدنين السودانيين، بيد الروس، إلا أن الحكومة المركزية وحكومة جنوب دارفور، التزمتا الصمت حيال ذلك. بينما قال والي جنوب دارفور المكلف، حامد التجاني هنون، في مارس الماضي والذي زار مدينة أم دافوق الحدودية مع افريقيا الوسطى، إنه ليس لديه علم بالأحداث التي وقعت في منجم “اندها” بأفريقيا الوسطى.

مستوطنون جدد

وتنشط في حدود السودان مع ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى عمليات تهريب واسعة، تشمل الأجهزة الكهربائية والسيارات ومستحضرات التجميل والمخدرات، إضافة إلى نشاط تجارة البشر والأسلحة.  

وفي خضم النزاع المسلح بأفريقيا الوسطى، تمددت حركة النزوح تجاه إقليم دارفور، أيضاً أشارت تقارير أممية إلى أن مستوطنين جدد من دول عديدة، بينها أفريقيا الوسطى احتلوا أراضي النازحين في دارفور، حيث أبلغت جهات غير حكومية، فريق خبراء تابع لمجلس الأمن الدولي، عن احتلال أجانب من تشاد وأفريقيا الوسطى ومالي والنيجر ونيجيريا، أراضي النازحين واللاجئين في إقليم دارفور.

وذكر التقرير الأممي، أن معظم المحاورين غير التابعين للدولة في دارفور، أبلغوا الفريق بأن مستوطنين أجانب يحتلون أراض تعود ملكيتها للنازحين واللاجئين”، مشيراً إلى أن هؤلاء الأجانب الذين يُطلق عليهم العرب الرحل والجنجويد من تشاد وأفريقيا الوسطى ومالي والنيجر ونيجيريا.

ونقل التقرير عن محاورين من ولايات غرب وشمال ووسط وجنوب السودان، تأكيدهم وجود عناصر أجنبية – لاجئون ومهاجرون ومجرمون ومستوطنون جدد.

وتابع: “تداخلت التوترات في غرب دارفور وبعض مناطق وسط دارفور مع الحالة في الحدود المتاخمة لتشاد وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان”.

وشدد فريق الخبراء، على أن دارفور، لا تزال نقطة انطلاق للهجرة الدولية، من بلدان غرب ووسط أفريقيا والقرن الأفريقي إلى أوروبا عبر ليبيا والبحر الأبيض المتوسط، وذلك على الرغم تأكيد السلطات في الخرطوم على سيطرة قوى الأمن على الحدود.

وتابع: “التقارير المنتظمة عن الأنشطة غير القانونية في الحدود مثل تهريب المركبات والمخدرات والذهب، إلى جانب الإتجار بالبشر والسلاح من وإلى جنوب السودان وأفريقيا الوسطى وتشاد وليبيا تؤكد أن الحدود مفتوحة”.

حدود مفتوحة

ومع هذه التقارير عن المستوطنين الجدد في دارفور، أظهر فيديو منشور على الإنترنت، ضابط في قوات الدعم السريع، يتحدث إلى عشرات من مواطني أفريقيا الوسطى معظمهم نساء وأطفال، بوصفهم سودانيين وأنه مرحب بهم في بلدهم، رغم إقراره بأنهم قادمين من أفريقيا الوسطى.

وقال الضابط الذي عرف نفسه باسم، مرتضى أحمد أبوه، لعشرات الفارين من أفريقيا الوسطى

"نحن ما كنا عارفين هذه الموقع بهذه الطريقة، ولو كنا عارفين أهلنا الأتوا من أفريقيا الوسطى حالهم بهذه الطريقة كان التقيناهم قبل ما يدخلو السودان.. لكن نحن مع الأشغال، يعني نحن الآن ناس مسؤولين والشغل كتير في الدولة، الآن جرينا كتير وما منتبهين لمشاكل الأهل، فما أبت نفسنا إلى نجي نشوف مشاكل أهلنا ونسلم عليهم ونقول ليهم حمدا لله على السلامة في هذا السودان وانتو أصول من أصول السودان. ما دام الآن انتو بتمثلونا ونحن بنمثلكم، الآن انتو من أصالة السودان، والآن انتو أتيتم لسودانكم وأتيتم وطنكم".

وأضاف “أنا أتحدث معاكم ملازم أول دعم سريع/ مرتضى أحمد أبوه، قيادي من قيادات الدعم السريع، قطاع ولاية جنوب دارفور نيالا، والآن أيضاً مسؤول ومشرف بالإدارة الأهلية في المصالحات ما بين القبائل”.

إحلال ديموغرافي وتجارة سلاح

فسر الكثيرون هذا الأمر على أنه عملية إحلال ديمغرافي، وقد أكد تقرير أممي هذه المسألة، خصوصاً، وأن المنطقة المتاخمة لأفريقيا الوسطى غنية بالموارد المعدنية والغابية وبها أراض زراعية خصبة. وتشكو بشكل مستمر، مجتمعات النازحين واللاجئين في دارفور، من استيلاء مستوطنين جدد على أراضيهم بالقوة، في الإقليم الذي غيرته وما تزال الحرب التي اندلعت في عام 2003م.  

هناك أيضاً قضية تجارة السلاح في  الحدود السودانية مع دول الجوار التي من ضمنها  أفريقيا الوسطى، أو ما يعرف بـ “تجارة النمل”، وهي تشير إلى حركة الأسلحة الصغيرة التي يتم تهريبها عبر الحدود، وبالرغم من صعوبة حصر مسار هذا التدفق بحسب دراسة نطاق الأسلحة، خارطة تدفقات الأسلحة الصغيرة في أفريقيا، إلا أنه في أحيان كثيرة لا يحدث بطريقة مباشرة، بل عن طريق تغيير مسار نقل الأسلحة إلى دولة أخرى. وهو ما حدا بالسودان وتشاد وأفريقيا الوسطى لتكوين القوات المشتركة في وقت سابق. وبحسب الدراسة، فإن اضطراب الأوضاع السياسية يساهم في انتشار تجارة السلاح، حيث إمداد مناطق النزاع بالسلاح، ويتم استخدام المهاجرين الحدوديين كـ”بغال” للتهريب من قبل الجماعات المسلحة والعصابات الإجرامية.

إغلاق الحدود

وليس بعيداً عن ذلك، كانت قوات الدعم السريع، قد أعلنت بشكل مفاجئ في يناير الماضي، إغلاق الحدود بين السودان وأفريقيا الوسطى، البالغة 174 كلم، جراء ما وصفتها بالمخاطر الأمنية، دون تقديم مزيد من التوضيحات.

وقال قائد القوات المشتركة لتأمين الحدود بين السودان وأفريقيا الوسطى، أبشر بلايل، في تصريح عبر صفحة الدعم السريع على موقع فيسبوك، إنه تم إغلاق الحدود بين السودان وأفريقيا الوسطى بشكل كامل، لأسباب تتعلق بمخاطر أمنية.

وأضاف، أن القوات التي نفذت إغلاق الحدود، هي قوات مشتركة، ضمت القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، بجانب قوات من دولتي أفريقيا الوسطى وتشاد.

وأكد بلايل، وجود مخاطر أمنية وممارسات سلبية بين الحدود، استدعى إجراء السودان تنسيقاً مع أفريقيا الوسطى من جهة، ومع تشاد من جهة أخرى، لغلق الحدود بين البلدين.

وعلى عكس بيان الدعم السريع، قال مسؤول بمحلية أم دخن بولاية وسط دارفور، إن قرار إغلاق الحدود بين السودان وأفريقيا، جاء بعد تجمع مقاتلين يتبعون لمجلس الصحوة الثوري بقيادة الزعيم الأهلي، موسى هلال، في منطقة “أندها” الواقعة على الحدود بين البلدين، بغرض التعدين.

وأضاف: “هذه التحركات أثارت مخاوف قوات الدعم السريع التي دفعت في منتصف شهر يناير الماضي بنحو مائة عربة مسلحة إلى منطقة أم دخن الحدودية، لمراقبة الأوضاع، قبل أن تقرر إغلاق الحدود بشكل كامل بين البلدين ومنع تحركات المواطنين والقوافل التجارية، خاصة بعد فرار عناصر من قوات الدعم السريع الذين وصلوا المنطقة بعربة مسلحة إلى جمهورية أفريقيا الوسطى، الشيء الذي أثار مخاوف قيادات الدعم السريع.

بداية النفوذ الروسي

وتمر أفريقيا الوسطى التي نالت استقلالها في أغسطس عام 1960م، باضطرابات، إثر إطلاق جماعات مسلحة، كانت تسيطر آنذاك على معظم أنحاء البلاد، في ديسمبر 2020م، هجومًا للحيلولة، دون إعادة انتخاب الرئيس فوستين أركانج تواديرا، المدعوم من روسيا.

وتمكنت حكومة افريقيا الوسطى، بدعم روسي، من استعادة السيطرة على كل المدن الكبيرة وأجبرت المسلحين على اللجوء إلى الغابات.

وبدأت العلاقة بين مجموعة فاغنر الروسية وجمهورية أفريقيا الوسطى، بعدما وافق مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على مهمة تدريب روسية هناك، والتي على إثرها تم فك حظر الأسلحة الذي امتد منذ 2013م حتى 2017م. 

وفي أكتوبر 2017م، وقع الرئيس تواديرا عدداً من الاتفاقيات الأمنية مع الحكومة الروسية، وشمل ذلك طلب دعم عسكري، مقابل الوصول إلى كميات كبيرة من الألماس والذهب واليورانيوم في جمهورية أفريقيا الوسطى. ووافقت الأمم المتحدة على نشر 175 مدربا روسيا فقط للجيش المحلي.

في مطلع 2018م، قامت روسيا بنقل أسلحة لأفريقيا الوسطى، بالإضافة إلى أفراد سابقين في الجيش الروسي، بهدف تدريب كتيبتين عسكريّتين هناك، كما نجحت في الحصول على إعفاء من حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة بغرض توفير الأسلحة لجيش أفريقيا الوسطى لإبقاء الجماعات المتمردة تحت السيطرة.

وتتخذ مجموعة فاغنر عشر دول أفريقية كنقاط تمركز في القارة؛ وهي: السودان، جمهورية إفريقيا الوسطى، ليبيا، زيمبابوي، أنغولا، مدغشقر، غينيا، غينيا بيساو، موزمبيق وربما في جمهورية الكونغو الديمقراطية.

لم تقتصر أهداف الكرملين لدخول أفريقيا الوسطى على الوصول إلى الألماس والذهب واليورانيوم وغيرها، إذ أن روسيا اعتمدت على أفريقيا الوسطى كبوابة للاختراق وتوسيع النفوذ في القارة، وكان التوسع الروسي في أفريقيا الوسطى على حساب النفوذ الفرنسي التاريخي الذي يمثل القوة الاستعمارية المهيمنة تاريخياً.

اتفاقيات مشتركة

وأثناء فترة الحكومة الانتقالية الأولى في الخرطوم، اتفق السودان وأفريقيا الوسطى، على تعزيز التعاون بينهما في المجالات العسكرية وتأمين الحدود عبر القوات المشتركة، واستقبل وقتها رئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان، وزيرة الدفاع بأفريقيا الوسطى ماري نويل كويارا في نوفمبر2019م.

وأعلن وزير الدفاع السابق، جمال عمر، أنه تم الاتفاق علي تعزيز التعاون بين البلدين في المجالات العسكرية لتأمين الحدود بين البلدين عبر القوات المشتركة بين السودان وتشاد وأفريقيا الوسطي، مضيفاً

أن الجانبين اتفقا على استمرار التواصل ومراجعة الاتفاقيات والبروتوكولات العسكرية لتعزيز التعاون بين البلدين.

لم يكن هذا اللقاء، هو الأول بين الدولتين في إطار التعاون العسكري والحدود، إذ ألتقى وزير الدفاع، في عهد الرئيس المخلوع، عمر البشير، عبد الرحيم محمد حسين رئيس أفريقيا الوسطى السابق، فرانسوا بوزيزيه في سبتمبر 2007م، وأشارا إلى ضرورة تفعيل الاتفاقيات المبرمة مسبقاً (يقصد بها الاتفاقية الثنائية لتأمين الحدود الموقعة عام 2004م، والاتفاقية الثلاثية بين السودان وتشاد وأفريقيا الوسطى عام 2005م، والتي تتحدث عن تأمين الحدود بقوات مشتركة).

 وفي مايو 2011م، تم إقامة قمة ثلاثية بين رؤساء السودان وتشاد وأفريقيا الوسطى بالخرطوم لإنشاء آلية استشارية ثلاثية للتعامل مع القضايا الأمنية، والعمل على تعزيز التعايش السلمي بين القبائل المشتركة وتشجيع العودة الطوعية للاجئين، كما تم الاتفاق على تفعيل اتفاقية إنشاء القوات المشتركة لحماية الحدود المشتركة الممتدة على بعد 1500 كلم. وترتكز مهام هذه القوى على الحد من الجرائم العابرة للحدود مثل تهريب البضائع والأسلحة ومنع المعارضين المسلحين عبور الحدود.

 في يونيو 2014م، أجرى السودان وأفريقيا الوسطى مباحثات، تركزت على مسألة فتح الحدود والتبادل التجاري. 

مع استمرار الاضطرابات الأمنية في أفريقيا الوسطى من جهة، وفي إقليم دارفور من جهة أخرى، فضلاً عن الوجود الروسي على مقربة من الحدود السودانية وتأثيراته الأمنية على البلاد والصراع والتنافس على التعدين. بالإضافة لاستمرار إغلاق الدعم السريع للحدود، وحركة التغيير الديمغرافي والاستيطان المحمومة، وانتشار تجارة السلاح، يبدو أن الحدود المضطربة بين السودان وأفريقيا الوسطى، أصبحت معبراً للنفوذ الروسي على الموارد الأفريقية.

توترات حدودية مستمرة.. ما قصة سيادة السودان على الفشقة؟

جددت تصريحات أدلى بها قائد القوات البرية، عصام الدين كرار، يوم الأربعاء الماضي، حول سيطرة القوات المسلحة على الوضع في منطقة الفشقة الحدودية بين السودان وإثيوبيا، التساؤلات حول طبيعة وتاريخ التوترات الحدودية بين الخرطوم وأديس أبابا.

تلقي (بيم ريبورتس)، في هذا التقرير، الضوء، على تاريخ تخطيط الحدود السودانية الإثيوبية بالتركيز على مثلث الفشقة، وكيف بدأ الخلاف حولها.

رغم الاعتراف الإثيوبي بسيادة السودان على منطقة الفشقة على مر الحقب الحديثة إلا أنه ومع إعلان الجيش السوداني، في نوفمبر 2020م، ما سماها، عملية انفتاح على الحدود الشرقية، بدأ الاعتراف الإثيوبي بسيادة السودان على مثلث الفشقة الغني بالأراضي الزراعية الخصبة، محل شك من قبل أديس أبابا.

وجاءت العملية التي وصفها الجيش السوداني، بأنها إعادة انتشار وانفتاح على حدود البلاد الشرقية، بالتزامن مع إطلاق أديس أبابا من جهتها عملية عسكرية بإقليم تغراي شمالي البلاد. كما أتت التطورات على الحدود، في ظل تنامي الخلافات حول سد النهضة بين السودا، إثيوبيا ومصر.

أين تقع الفشقة؟

تقع الفشقة في ولاية القضارف شرقي البلاد، وتمتد من منطقة نهر سيتيت، وحتى منطقة القلابات جنوبي القضارف. وتضم الفشقة أخصب الأراضي الزراعية في السودان. وتنقسم إلى ثلاث مناطق أصغر؛ وهي: الفشقة الكبرى والفشقة الصغرى والمنطقة الجنوبية.

تبلغ مساحة الفشقة 5,700 كلم، وتعتبر أخصب الأراضي بالسودان. تحتكر الفشقة مسافة 168 كيلو متر من الشريط الحدودي بين السودان وإثيوبيا البالغ طوله 265 كلم.

التطورات الأخيرة:

خلال العملية العسكرية للجيش السوداني بالفشقة، تبادلت الحكومتان الاتهامات، حيث قال المتحدث الرسمي باسم الخارجية الإثيوبية (دينا مفتي) ، إن “الجيش السوداني تخطى الحدود مع إثيوبيا انتقاماً من المليشيات الإثيوبية التي هاجمت المزارعين السودانيين”. في السياق نفسه، اتهم السفير الإثيوبي بدولة الإمارات (سليمان ديدافو) الجيش السوداني بالدخول في حرب مع إثيوبيا بالوكالة عن مصر – لتصوير السودان كمناصر لمصر ضد تشييد سد النهضة-. 

بالمقابل قال وزير الثقافة والإعلام السوداني الأسبق ، (فيصل محمد صالح)، إن السودان حريص على عدم اللجوء للحرب سواء مع إثيوبيا أو غيرها من الدول الأخرى. 

غير أن عضو مجلس السيادة الانتقالي السابق، محمد الفكي سليمان رد بالتفصيل على اتهامات الحرب بالوكالة قائلاً: 

  • منطقة الفشقة سودانية، وطالبنا إثيوبيا بالانسحاب من نقطتين على الحدود بين البلدين.
  • لا نقوم بهذه الحرب وكالة عن أحد وهذه أكاذيب محضة، لم نتخذ قراراً بالحرب، ولكن من حقنا الانفتاح حتى آخر نقطة حدودية داخل أراضي السودان.
  • نستطيع أن نخوض حرباً، لكن الأولوية للحل السياسي وقرار الانفتاح شرقاً تم بموافقة مجلس الأمن والدفاع بكامل عضويته.
  • مجلس الأمن والدفاع السوداني هو الذي يوصي بإعلان الحرب وليس هنالك إعلان حرب على إثيوبيا.

أيضاً قال القائد العام للجيش السوداني، عبدالفتاح البرهان، إنه اتفق مع الرئيس الإثيوبي على تأمين حدود البلدين إبان (عملية إنفاذ القانون)، وأن ما قام به الجيش السوداني هو فقط تأمين للحدود وليس حرباً.

خلفية تاريخية:

بدأت الاشتباكات بين السودانيين والإثيوبيين عندما قاد شخص يدعى “كنفي” – يتبع لقومية الأمهرا- هجوماً على جبل أبو طيور، وسيطرت مليشياته على مساحة شاسعة في الفشقة الكبرى، بما فيها جبل أبو طيور، و كان ذلك في العام 1968م. بعدها بعام واحد، حررت الشرطة السودانية بمعاونة الأهالي المحليين المنطقة. في عام 1972م، اتفق البلدان على إعادة تخطيط الحدود بينهما عبر اتفاق موقع  من قبل وزيري الخارجية بالبلدين.

احتلال إثيوبي:

في عام 1996م، احتلت القوات الإثيوبية مساحات واسعة من أراضي الفشقة، بالتزامن مع اشتداد وتيرة الحرب الأهلية في جنوب السودان. 

بجانب انسحاب الجيش السوداني من الحدود الشرقية، لإسناد القوات المقاتلة في الجنوب، حيث مثلت المحاولة الفاشلة لاغتيال الرئيس المصري السابق، حسني مبارك، في أديس أبابا عام 1995، والتي اتهمت بها الخرطوم، دافعاً إضافياً للنظام الإثيوبي لاحتلال الفشقة.

ومع كل عملية هجومية ظلت تشنها مليشيات (فانو)، و (الشفتة) وغيرها من المليشيات التي تتبع لقومية الأمهرا؛ تتبع السلطات الإثيوبية سياسة تتبرأ بها من إحتلال الفشقة، بإلقاء اللائمة على تلك المليشيات بينما تستنكر هذه الهجمات و تدعي أنها لمليشيات لا علاقة لها بها.

بالعودة إلى الوضع الحدودي على الأرض بين السودان وإثيوبيا، عادةً ما يتم تداول مصطلح “إعادة ترسيم”، هذا المصطلح خاطئ؛ لأن ترسيم الحدود تم مسبقاً، أما ما يمكن الحديث عنه حالياً، هو تخطيط الحدود، وهو ببساطة يعني إظهار الترسيم المتفق عليه.

الإطار القانوني للحدود السودانية الإثيوبية:

بنيت حدود السودان وإثيوبيا الحالية على معاهدة (أنجلو-إثيوبيا) الموقعة في عام 1902م بين بريطانيا -إبان سيطرتها على الأراضي السودانية- وإثيوبيا إبان حكم الإمبراطور (منليك الثاني). 

نصت المعاهدة على تعريف الخط الحدودي الفاصل بين البلدين كالتالي:

“يسير من خور «أم حجر» إلى «القلابات»، فالنيل الأزرق فنهر بارو فنهر بيبور ثم نهر أكوبو حتى مليلي، ومنها إلى نقطة تقاطع خط عرض 6 شمالا مع خط طول 35 شرق جرينتش” ، تم رسم خط الحدود بالخط الأحمر في الخريطتين الملحقتين بالاتفاق.

جاءت هذه الاتفاقية تبعاً لخطاب أرسله الإمبراطور (منيليك الثاني) للقادة الأوروبيين، محدداً فيه حدود إمبراطوريته، حيث ذكر أنها تمتد غرباً حتى كركوج على النيل الأزرق بأواسط حدود السودان الحالية. الخريطة أدناه تعرض الخريطة المرفقة مع المعاهدة المذكورة، و يتضح فيها الخط الأحمر الذي يمثل الشريط الحدودي بين البلدين.

عادة ما يعترض الإثيوبيون على هذه الاتفاقية وينكرون توقيعهم عليها قائلين بأنها من حقبة الاستعمار، لكن الحقيقة أن الإمبراطور (منليك الثاني) كان موافقاً عليها وتعهد بالمادة الثانية من المعاهدة على “عدم تشييد أو السماح بتشييد أي عمل على النيل الأزرق وبحيرة تانا أو نهر السوباط”، بينما كان السودان تحت سيطرة التاج البريطاني ولم يكن له كامل الإرادة من التوقيع أو عدمه. و بناء على هذه المعاهدة كسبت إثيوبيا أراضي بني شنقول الغنية بالمعادن، بينما اعترفت المعاهدة بأن أراضي الفشقة سودانية.

نصت المعاهدة أيضاً على تشكيل لجنة لترسيم الحدود بين البلدين، و تم ترسيم الحدود في عام 1903م عن طريق الرائد الايرلندي (قُوِين) الذي استخدم صخوراً ضخمة يصل طولها لثلاثة أمتار، بالإضافة إلى بعض الأنابيب المعدنية في بعض الأحيان. بدأ (قوين) ترسيم الحدود في ديسمبر 1902م من تقاطع خور الرويان مع نهر ستيت، وانتهى في يوليو 1903م في مليلي.

صورة تظهر ترسيم الرائد (قوين) للحدود بمنطقة (قلعة الزراف) بالعام 1903 مصدر الصورة: نور طه حسن (1971) دراسة عن الجغرافيا السياسية بالحدود السودانية-الاثيوبية

دأبت السلطات الإثيوبية على استخدام حجة أن الرائد (قوين) رسّم الحدود منفرداً دون رفقة إثيوبية أو تصريح من الإمبراطور، إلا أن (قوين) نفسه ذكر في تقريره الأخير أن “الإمبراطور (منليك الثاني) أعطاه وثيقة تفوضه ليرسم الحدود بالإنابة عن إثيوبيا”. فضلاً عن ذلك، فقد ذكر (اللورد كرومر) -قنصل بريطانيا في مصر- في برقية أرسلها إلى ممثل ملكة بريطانيا في روما بتاريخ 17 نوفمبر 1902م “أفاد (هارينجتون) -ممثل بريطانيا في أديس أبابا- أنه إذا تم توظيف الرائد (قوين)، فإن الإمبراطور (مينليك) لا يريد إرسال أي مندوب. فلديه ثقة كاملة في الرائد قوين وسيصدر أوامر باحترام الحدود التي سيحددها”. 

بالإضافة إلى ذلك، أقرت اتفاقية 1972م الموقعة بين البلدين باعتراف إثيوبيا بالحدود التي رسمها (قوين). و في يونيو من العام 2015م، أقر نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الإثيوبي ديمكي مكونن ، بأن الفشقة سودانية الملكية. فقد ذكر أن الأراضي التي احتلتها إثيوبيا في عام 1996م تم إرجاعها للسودان، دون ذكر المساحة التي أرجعت.

خريطة توضح الحدود بين السودان و إثيوبيا بعد تخطيط (قوين)

الحدود مع إريتريا

كانت دولة إريتريا مستعمرة إيطالية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث آلت بعدها لتكون تحت السيطرة الإثيوبية حتى استقلالها في عام 1993م.

وبما أن إريتريا كانت مستعمرة إيطالية، فقد تم ترسيم حدودها مع السودان وفقا لمعاهدة بالعام 1891م بين إيطاليا وبريطانيا. لم تشهد الحدود السودانية الإريترية خلافاً يذكر بين البلدين كما هو الحال بين السودان وإثيوبيا.

صورة توضح الحدود التي حددتها اتفاقية ايطاليا و بريطانيا بالعام 1891م

المبادرة الإماراتية والموقف السوداني:

تقدمت دولة الإمارات العربية المتحدة بمبادرة لحل ما أسمته “النزاع بين السودان وإثيوبيا”. تضمنت المبادرة تقسيم أراضي الفشقة للفائدة الزراعية للسودان وإثيوبيا، بالإضافة إلى الإمارات. 

لم يتم الإعلان عن تفاصيل المبادرة، لكن العديد من التسريبات اتفقت في المضمون، حيث اقترحت تقسيم الأراضي بنسبة 25 بالمئة من الأراضي للسودان، ومثلها لإثيوبيا، والنصف المتبقي يؤول استثمارياً لدولة الإمارات.

في أبريل من العام 2021م، رفض مجلس الأمن والدفاع السوداني هذه المبادرة -حسبما ذكر مصدر بالمجلس لصحيفة الشرق الأوسط-، مبرراً رفضه قائلا: “السودان لن يقبل أي مبادرة تتضمن نسباً، أو تقاسم أراضيه التي استردها من إثيوبيا، وموقف السودان الموحد هو وضع العلامات الحدودية بين الدولتين، قبل بدء أي تفاوض يتعلق بقضايا أخرى”.

المشروعات التي أقامتها القوات المسلحة بالفشقة أخيراً

استهدفت القوات المسلحة السودانية إنجاز عدة المشروعات بمنطقة الفشقة، حيث ذكرت في صفحتها الرسمية على فيسبوك في أبريل 2021م، استهدافها إنشاء (6) جسور، ومعدية، و مد (310) كلم من الطرق المعبدة، و (42) معبر خرساني، و (11) محطة مياه. ولكن على الصعيد الرسمي لم يتم الإعلان إلا عن افتتاح جسرين فقط، إبان زيارة رئيس الوزراء الدكتور عبدالله حمدوك في أغسطس 2021م بمعية القائد العام للقوات المسلحة، حيث افتتحا جسر (ود عاروض) الذي يربط بين شرق و غرب الفشقة الصغرى، بالإضافة إلى جسر (ود كولي).

عادة تذكر صفحة القوات المسلحة عبارة “مشروعات تنموية بالفشقة”، تواصل فريق البحث في (بيم ريبورتس) مع مصدر محلي مطلع بالفشقة. ذكر المصدر أن جسري (ود كولي) و (ود عاروض) خدما التنمية بالمنطقة فعلاً، لكن تخطيط إنشائهما لم يكن لأغراض التنمية، بل كان عسكريا بإمتياز نظرا لأن إختيار مواقع إنشاء الجسور لم يراع للتوزيع الجغرافي للقرى غرب نهر عطبرة، بل اعتمد على إنشاء الجسور بالقرب من المناطق التي يتمركز فيها الجيش.

الفشقة لم تحرر بالكامل:

حتى لحظة نشر التقرير، ترابط القوات المسلحة السودانية في منطقة الفشقة شرقي السودان. أكد مصدر محلي لـ(بيم ريبورتس)، أن القوات المسلحة السودانية لم تحرر الفشقة بالكامل، ولم تُعِد الأراضي المحررة لمالكيها من السكان المحليين. أيضا، ذكر القائد العام للقوات المسلحة السودانية إبان احتفاله بالعيد (67) للقوات المسلحة السودانية في أغسطس الماضي، أنه قد تبقت 7 “جيوب” قال إن القوات المسلحة ستستردها.