عندما تتحول الكلمات إلى رصاص.. كيف يساهم خطاب الكراهية في تأجيج النزاعات الأهلية بالسودان؟

بهذه الكلمات تحدث القائد العام للجيش السوداني ، ورأس الدولة بحكم الأمر الواقع، عبد الفتاح البرهان، أمام مجموعة من السكان في مسقط رأسه بولاية نهر النيل شمالي البلاد، في يوليو الماضي.

حديث البرهان، يأتي في خضم أحداث عنف أهلي واجتماعي تشهده البلاد منذ عدة أشهر، يمثل الانحياز للجهة أو العرق، أحد أهم عوامل اندلاعه، فيما تُجسد أحداث العنف الأهلي بإقليم النيل الأزرق جنوب شرقي السودان، آخر تجلياته.

البرهان ليس، المسؤول الوحيد في سلطة الأمر الواقع الذي يدلي بأحاديث مرتبطة بخطاب الكراهية، فقد سبقه مسؤولون آخرون في إبداء إشارات وانحيازات جهوية ومناطقية، بينهم قائد ثاني الدعم السريع عبد الرحيم دقلو، عندما تحدث بشكل جهوي عن العاصمة السودانية الخرطوم.

على الرغم من عدم وجود تعريف في القانون الدولي لمفهوم خطاب الكراهية، وما يثيره توصيف ما يمكن اعتباره بالكراهية من جدل وخلاف، يُشار إلى سياق خطاب الكراهية في مفهوم الأمم المتحدة على أنه أي نوع من التواصل، الشفهي أو الكتابي أو السلوكي، الذي يهاجم أو يستخدم لغة ازدرائية أو تمييزية، بالإشارة إلى شخص أو مجموعة على أساس الهوية.

 وبعبارة أخرى، على أساس الدين أو الانتماء الإثني أو الجنسية أو العرق ما يستمد جذوره من اللون أو الأصل أو نوع الجنس أو أحد العوامل الأخرى المحددة للهوية. وهذا الخطاب كثيراً ما يثيرّ مشاعر التعصب والكراهية التي يغذيها في الوقت نفسه، ويمكن في بعض السياقات أن ينطوي على  الإذلال ويؤدي إلى الانقسامات، وهذا ما ينطبق على حديث البرهان.

عندما تصبح كلمات القادة السياسيين والمجتمعيين مهداً لخطاب الكراهية، سرعان ما تدفع المجتمعات المحلية الثمن من دماء أبنائها، قبل أن يدعي المسؤولون مرةً أخرى أنهم يعملون على حل النزاعات الدموية التي أشعلوها هم أنفسهم.   

ومع تمكن ملايين السودانيين في السنوات الأخيرة من امتلاك هواتف ذكية متصلة بشبكة الانترنت، أصبحوا هدفاً لوسائل الإعلام الاحترافية الموجودة على شبكة الانترنت والمنظومات السياسية، بالإضافة للجهات الحكومية. فضلاً عن أنهم أصبحوا عُرضة لشبكات أجنبية ومحلية، درجت على تقديم محتوى زائف ومضلل، بالإضافة إلى وجود محتوى آخر يحض على الكراهية ويعمل على خلق المشكلات في أوساط المجتمعات المحلية.

اندلعت ثورة ديسمبر عام 2018م، في أوج صعود عدد مستخدمي الإنترنت في السودان، وهو الأمر الذي وضع نظام الرئيس المخلوع عمر البشير، في تحدي مواجهة الإعلام الجديد على وسائل التواصل الاجتماعي الذي كان ينشط في نقل أخبار الحراك الشعبي.

ولمواجهة ذلك الأمر، بدأ النظام البائد في إيقاف عدد من تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي على رأسها فيسبوك، وسرعان ما ابتدر استراتيجية جديدة، تمثلت في إطلاق حملات مضادة مناوئة للثورة ترتكز على المعلومات المضللة والزائفة. لكن كل ذلك، لم ينجح في إيقاف الحراك الشعبي، ليبدأ الدخول في مرحلة جديدة تمثلت في نشر خطاب الكراهية بين السودانيين.

تصاعد خطاب الكراهية في وسائل الإعلام الجديد بتدبير من سلطة النظام البائد، في محاولاتها تحجيم وتأطير الحراك الشعبي المناهض للحكومة بتصويره كحراك جهوي تارة، أو بتصويره كحراك علماني تارة أخرى.

في ظل فشل النظام البائد في السيطرة على التظاهرات، أفاق السودانيون في أحد أيام الثورة، على خبر اعتقال طلاب بجامعة سنار بحجة أنهم يتبعون لحركة جيش تحرير السودان بقيادة عبدالواحد نور التي كانت تقاتل النظام البائد في إقليم دارفور، وأنهم ينوون القيام بعمليات إجرامية، وفقاً لما نشره التلفزيون الرسمي حينها.

لاحقاً، ورغم ادعاءات الحكومة وقتها، حول نية المعتقلين ارتكاب جرائم  جنائية، إلا أن ذلك الأمر تحول إلى خطاب كراهية ضد طلاب دارفور عامةً، وخصوصاً الأذرع الطلابية للحركات المسلحة بالجامعات السودانية، باعتبار أنهم عملاء لإسرائيل وجهات أجنبية، حيث ألقى تشويه سمعة أولئك الطلاب الذين قُتل أحدهم برصاص قوات الأمن في الخرطوم بحري، بظلال سلبية على وضع البلاد، حيث كان الغرض منه وضع الجميع في حالات استقطاب جهوي وعرقي لإفشال الحراك الشعبي.

وبينما درج المسؤولون الحكوميون سواء في فترة الحكومة الانتقالية، أو في أعقاب انقلاب 25 أكتوبر، في الحديث عن أن خطاب الكراهية يُفاقم المشكلات في بلد خرج لتوه من حروب أهلية امتدت لنحو عقدين في نسختها الحديثة، إلا أنهم بالمقابل كانوا في حالات جزءاً من هذا الخطاب، سواء كان في شكل انحيازات جهوية أو إثنية.

بجانب أنهم لم يعملوا على تجاوز العقبة الرئيسية المتمثلة في طرح دولة قائمة على المواطنة، والتي تضمن الحقوق لكل السكان على أساس متساوٍ، في بلد يواجه بشكل مستمر شبح الانقسامات العرقية. 

وتُعد قضية الهوية والنزاع على ملكية الأرض والجهوية والمناطقية، أحد أبرز عوامل تأجيج خطاب الكراهية، والذي تُغذيه من ناحية أخرى عدم وجود سياسات من الدولة لمعالجته كجذر رئيس للصراع في البلاد. 

في أحداث عنف أهلي واجتماعي عديدة شهدتها البلاد منذ عام 2019م، مثل أحداث بورتسودان، كسلا الجنينة وغرب كردفان وإقليم النيل الأزرق أخيراً، مثّل خطاب الكراهية وقوداً لتلك النزاعات الدموية، سواء كان ذلك على منصات مواقع التواصل الاجتماعي أو في شكل خطابات سياسية للقادة المحليين أو السياسيين.

ومع ذلك، لم يكن من الهين تصور أن يكون القائد العام للقوات المسلحة، ورأس الدولة الحالي بحكم الأمر الواقع، عبد الفتاح البرهان، أحد صنّاع خطاب الكراهية في البلاد.

ومثّلت كلمات البرهان الذي كان يتحدث إلى مجموعة من السكان في مسقط رأسه بولاية نهر النيل شمالي البلاد، في يوليو الماضي، ذروة خطاب الكراهية، عندما تحدث على أساس جهوي بالكامل، رغم تعارض ذلك مع منصبه كقائد للجيش السوداني. أيضاً أدخلت كلماته الرأي العام في حالة من الاستقطاب الحاد وهو الأمر الذي يساهم في تأجيج خطاب الكراهية ومفاقمة النزاعات في البلاد.

لا تكف سلطة الأمر الواقع في السودان، عن الدعوة لإيقاف خطاب الكراهية، ومع ذلك، عندما يتحدث قادتها، فإنهم يثيرون الكراهية في أي اتجاه.

خلال مناسبة إطلاق سراح الزعيم الأهلي، موسى هلال، قبل عدة أشهر، أطلق قائد ثاني الدعم السريع، عبد الرحيم دقلو كلمات أثارت الرأي العام السوداني، عندما تحدث بشكل جهوي حاد في موضوع كان يتعلق بالعاصمة الخرطوم.

بينما تسيل دماء السودانيين من وقت لآخر وتبتعد الشقة بينهم بسبب خطاب الكراهية، لا يزال نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي من أنحاء البلاد المختلفة، يؤججون الصراع بتبنيهم لمزاعم ورؤى عنصرية لا تستند على أي أساس منطقي.

كما يتغذى خطاب الكراهية في البلاد باستغلال بعض الخطابات السياسية، حيث يُعد الحديث عن سكان أصليين وآخرين وافدين، من بين العوامل التي يتم استخدامها في تأجيج خطاب الكراهية، وهو من بين الأسباب الرئيسية التي تؤدي إلى اندلاع أعمال عنف.

لا يقف خطاب الكراهية في البلاد والذي يزيد من حدة التوترات المجتمعية، عند عتبة السكان المدنيين، بل استشرى حتى في أوساط القوات العسكرية، في حالات عديدة كان سبباً في تفاقم أحداث العنف، بسبب الحياد أو الانحياز أو الانحياز المضاد.

ومنذ عقود يعاني السودان من حروب أهلية أفرزت صراعات متشابكة ليس أقلها تحول مشكلات عادية إلى اقتتال دامٍ، خاصة مع انتشار السلاح لدى المواطنين، وبطء استجابة قوات الأمن.

كشف وكيل أول وزارة الإعلام والثقافة السابق، رشيد سعيد، عن اعتزام الحكومة الانتقالية مخاطبة دولتي تركيا وتونس حول وجود بعض المواقع الالكترونية التي تُدار من أراضيها وتعمل على تفكيك النسيج الاجتماعي بالبلاد، مشيرا إلى أنه سيتم اتخاذ إجراءات قانونية تجاه الشركات التي تنشر محتوى يثير الكراهية.

وقال سعيد، إن الحكومة ستتخذ خطوات قانونية بشأن الشركات التي تنشر هذا المحتوى الذي يثير الكراهية، مشيرا إلى أن بعض الصفحات في مواقع التواصل الاجتماعي ضارة وأحيانا لا يُعرف من يقف خلفها.

فيما أوضح مستشار رئيس الوزراء السابق للسلام جمعة كندة، في تصريحات سابقة، أن خطاب الكراهية والخطاب السياسي غير المنضبط هو أسلوب يتم توظيفه من خلال تضخيم الحقيقة أو إظهار الشائعة كحقيقة أو التشكيك فيها. 

وقال كندة، إن خطاب معظم القادة السياسيين تحريضي إقصائي، منوها إلى أن الهدف من هذا النوع من الخطابات ديني وسياسي واجتماعي وغيره. مضيفاً “أن ذلك النوع من الخطاب يؤدي الى العنف، لذلك لا بد من خصائص ومعايير متفق عليها”. 

“المشكلة ليست في تنامي خطاب الكراهية في الفترة الأخيرة، لكن توجد ثقافة التعايش معه، وبالتالي يوجد شبه إجماع بأن هذا الخطاب أصبح أكثر بروزاً بعد اتفاق جوبا وكان يجب أن يحدث العكس”، يقول كندة.

يضيف كندة “إن النزاعات العنيفة التي شهدها السودان لسنوات طويلة أدت الى تنميط المجموعات السياسية والاجتماعية وأعطت صورة سالبة للآخر تغذي خطاب الكراهية”.

 وتابع “من أسباب ظهور خطاب الكراهية هو الوعي غير المرشد، كما أن المناهج محملة بخطاب الكراهية وبالتالي وجود جيل مستعد لتبني هذا الخطاب. بالإضافة إلى الانفجار المعلوماتي، وتراجع الشعور بالانتماء الوطني وتزايد الاعتزاز بالقوميات المحلية والإقليمية”،  وقال “فشلنا في تقديم برنامج يجمع السودانيين حول الوطنية”.

في خضم صراع سياسي حول الديمقراطية والدولة المدنية من جهة، ومحاولة عسكرة الدولة والحياة السياسية واستعادة النظام البائد بوجوه جديدة منذ انقلاب 25 أكتوبر الماضي، ووجود اتفاق سلام هش، وغياب فصائل مسلحة رئيسية عن المشهد السياسي، صعد خطاب الكراهية إلى ذروته، حيث يتم استخدامه بكثافة لتحقيق مكاسب سياسية، الأمر الذي يزيد من مخاطر تفاقم النزاعات، في بلد ظل يرزح تحت حروب أهلية وانقسامات اجتماعية طيلة تاريخه الحديث.

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع