كيف استعاد الصّحافيون السودانيون نقابتهم بعد عقود من هيمنة السلطة؟

كانت ملاذ حسن وفتح الرحمن حمودة، خريجي جامعتي الخرطوم كلية الآداب وبحري كلية علوم الاتصال، اللذين لا تتعدى خبرتيهما في مجال الصّحافة عامين، يدليان بصوتيهما للمرة الأولى في انتخابات نقابة الصحفيين السودانيين، جنباً إلى جنب مع نقيب الصحفيين المنتخب، عبد المنعم أبو إدريس، الذي تصل خبرته لنحو 25 عاماً.

أبو إدريس ليس لوحده، فجميع أولئك الصحافيين الذين تصل خبرة بعضهم، حتى لأكثر من 30 عاماً، لم يدلوا بأصواتهم من قبل في انتخابات نقابة الصحفيين السودانيين، مثل رئيسة تحرير صحيفة الميدان السابقة، مديحة عبد الله.

وأمس السبت، صوّت بالعاصمة الخرطوم، وإلكترونياً، من أنحاء البلاد والعالم المختلفة، لاختيار مجلس النقابة ونقيب لنقابة الصحفيين السودانييين 659 صحفياً، من جملة 1250 ناخباً مسجلاً في الجمعية العمومية التي عُقدت في يوليو الماضي، الذين شاركوا من بينهم في انتخابات نقابة الصحفيين السودانيين، عام 1986، يُمكن عدهم على أصابع اليدين.

الوصول إلى انتخابات نقابة الصحفيين السودانيين، كان عملية شاقة ومهمة شبه مستحيلة، بدأت مع اعتصام القيادة في 2019م، عندما بدأ ابتدار عملية حصر الصحافيين الممارسين للمهنة، حيث تشكلت 3 كتل رئيسية تولت العمل على إنشاء نقابة تضم جميع الصحافيين.

لكن، الخلافات بين ممثلي الأجسام، عطّلت تأسيس النقابة لنحو ثلاث سنوات، لكن بعد توسط عميد الصحافيين السودانيين، محجوب محمد صالح، بين الأطراف المختلفة، عُقدت أول عملية إجرائية في مارس الماضي، انتهت بانتخابات السبت، حيث من المنتظر أن تعلن لجنة الانتخابات الفائزين بمجلس النقابة، اليوم أو غداً.

تجسد اختلاف الرؤى والخلافات بين الأجسام التي شكلت اللجنة التمهيدية لنقابة الصحفيين السودانيين، في القوائم الثلاث التي خاضت الانتخابات، وهي؛ قائمة شبكة الصحفيين، التحالف المهني للصحفيين، وقائمة الوحدة الصحفية التي فازت بمنصب النقيب، إلى جانب ترشح آخرين لمنصب النقيب كمستقلين، بينهم الصحافية دُرة قمبو.

في الصباح الباكر من يوم السبت السابع والعشرين من أغسطس الحالي، بدأ مئات الصحافيين في التوافد على دار المهندس، بمنطقة العمارات بالخرطوم، عند التاسعة صباحاً بدأت عملية الاقتراع، حيث اصطف الصحافيون في طابور طويل للإدلاء بأصواتهم في أول عملية انتخابية منذ أكثر من 3 عقود. رغم الحملات الانتخابية، للأطراف المتنافسة، والتي احتوت على انتقادات متبادلة، كان المتنافسون من قوائم مختلفة بمن فيهم مرشحو منصب النقيب، يتبادلون أطراف الحديث مع بعضهم البعض، جلوساً وهم مصطفين في طابور الاقتراع.

حتى السادسة مساء، موعد إعلان قفل أبواب الاقتراع، سارت العملية الانتخابية بشكل سلس، في ظل حضور قادة سياسيين وقادة مجتمع، للاحتفال بانتخابات نقابة الصحفيين السودانيين، لتمر بعدها نحو 5 ساعات، بعد بدء عمليات فرز الأصوات وسط ترقب القاعدة الصحفية، ليعلن رئيس لجنة الانتخابات، فيصل محمد صالح، حوالي الساعة الحادية عشرة ليلاً، فوز مرشح قائمة الوحدة الصحفية، عبد المنعم أبو إدريس بمنصب النقيب.

بعد منتصف النهار، انسحبت قوات الشرطة التي كانت تؤمن مقر الانتخابات، وسط تساؤلات بين الصحافيين عن مغذى الخطوة، لتدور بعدها أحاديث عن طلب من جهاز المخابرات العامة لوالي الخرطوم بالتصرف حيال، ما وصف من قبل صحافيين وقادة في نظام الرئيس المخلوع عمر البشير، بأنها عملية غير مشروعة، لكن الناخبين كانوا يمضون قدماً في الإدلاء بأصواتهم.

في أعقاب إطاحة الرئيس المخلوع، جعفر نميري، عبر انتفاضة مارس/أبريل 1985، وإجراء انتخابات عامة في البلاد عام 1986، احتكم مئات الصحفيين أيضاً للانتخابات، عبر كتلتين أسفرت عن انتخاب عمر عبد التام نقيباً للصحفيين السودانيين، وهي آخر نقابة شرعية حلها انقلاب 30 يونيو 1989.

بعد حل الانقلاب لنقابة الصحفيين السودانيين، أنشأ اتحاد الصحفيين السودانيين، الذي كان يتنافس فيه الصحافيون الموالون له.

وضم اتحاد الصحفيين المحلول، في عضويته مئات من ضباط الأمن والشرطة، غير الممارسين للمهنة، حيث ظل لسنوات طويلة ذراعاً ورقيباً بالوكالة على الصحافة والصحافيين لصالح السلطة الداعمة له.

ومع ذلك، أعاد الصحافيون يوم السبت كتابة تاريخ جديد لصالح مهنتهم.

“نقابة الصحافيين السودانيين، ظلت مفقودة خلال أكثر من 3 عقود، افتقد فيها الصحافيون الجهة التي تُدافع عن حقوقهم، في ظل شروط عمل غير منصفة وأجور ضعيفة”، يقول الصحافي عبد الله رزق لـ(بيم ريبورتس)، وهو من القلائل الذين شاركوا في انتخابات آخر نقابة شرعية.

يرى رزق، أن الجانب الأهم هو استعادة النقابة بوسائل ديمقراطية، مشيراً إلى أن انتخابات الصحافيين تتعدى حدود مصالحهم، إذ تتعلق بالممارسة الديمقراطية بشكل عام في البلاد، إذ عدها تقدم أمثولة للنقابات الأخرى.

“المطلوب من النقابة، تطوير المهنة وترقيتها ومعالجة إشكالات صناعتها بما في ذلك تدريب الصحافيين”، يضيف رزق.

ويعتقد رزق، أن الروح التي سادت أثناء التحضير للانتخابات، إذا استمرت فهي كفيلة بأن تحفظ للنقابة تماسكها وتُمكنها من أداء مهامها على الوجه الأكمل، مشدداً على ضرورة أن يحمي الصحافيون إنجازهم.

كان رزق يتحدث إلى (بيم ريبورتس)، وسط مقاطعة العشرات من تلاميذه الذين كانوا يودون إلقاء التحية إليه والتقاط صور تذكارية معه.

“تشكلت نقابة الصحفيين السودانيين عقب الانتفاضة من مئات الصحافيين، حيث فاز بمنصب النقيب الصحفي عمر عبد التام”، يقول الصحافي بوكالة السودان للأنباء ـ سونا، عبد الله محمد بابكر وأحد القلائل المشاركين في تلك الانتخابات.

“إلى جانب النقيب عمر عبد التام، تشكلت النقابة من أمانات عديدة ومجلس أربعيني، شغل فيها الصحافي الراحل حيدر طه من وكالة سونا أمانة الحريات”، يضيف بابكر.

وحول الفرق بين النظام الأساسي القديم والحالي للنقابة، يوضح أنه ثمة تعديلات محدودة بين النظامين.

“أهم مهام النقابة، هي تصفية إرث ممارسات النظام البائد من الجذور”، يشدد بابكر ويقول لابد من تطبيق قاعدة “النقابي آخر من يستفيد وآخر من ينال”. وهو ما رآه أنه كان من ضمن الممارسات المعيبة في حقبة نظام الرئيس المخلوع، عمر البشير.

كذلك دعا بابكر إلى تطوير الأجهزة القومية مثل وكالة سونا، ونقل تبعيتها للبرلمان، حتى لا تكون موالية للحكومة وتضطلع بدورها الرقابي مثل البرلمان، مضيفاً “خلال فترة الحكومة الانتقالية كنا نغطي أخبار العسكريين أكثر من الحكومة المدنية نسبة لتبعيتها لرئاسة الجمهورية”.

أيضاً رأى أن مهام النقابة، وضع قواعد لعضويتها في التعامل مع أعضاء الحكومات وحتى الجهات الأجنبية، ليتمكن الصحافيون من أداء دورهم بشكل كامل في مراقبة الجميع كسلطة رابعة.

دعا بابكر وهو حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة أمدرمان الإسلامية في منتصف الثمانينات، النقابة كذلك إلى احتساب الحد الأدنى للأجور بناء على سعر الدولار الأميركي، ليتجنب الصحافيون تآكل الجنيه السوداني من خلال ارتفاع معدل التضخم.

يُقاتل الصحافي النقابي عبد الله بعد أكثر من 35 سنة في مجال الصحافة، لصالح حقوق أجيال الصحافيين الجديدة والمقبلة.

ظلت ذاكرته متقدة، وهو يستعيد تواريخ بعيدة، تاريخ آخر نقابة منتخبة، وميثاق الشرف بوكالة سونا الذي كتبوه لتحديد حجم التعامل المباشر مع المسؤولين وحصره في إطار العمل الرسمي.

ظل عبد الله محمد بابكر، طيلة حديثه مع (بيم ريبورتس)، حريصاً على تأكيد معلوماته ومطابقتها مع زملائه الآخرين، حيث إنه يؤمن بتعددية المصادر وضرورتها، كصحفي أمضى عقوداً من حياته في مهنة المتاعب، لكنه لم يزل مملوءاً بحماس ملاذ حسن وفتح الرحمن حمودة العشرينيان، ما قبل منتصفها.

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع