سنوات من الانتظار.. جعلت تحقيق العدالة لشهداء الثورة أكثر ضبابية

حتى بعد مرور 4 سنوات على مقتل ابنها الطبيب، بابكر عبد الحميد، الذي اقتنصه رصاص قوات الأمن في يناير 2019م بمنطقة بري شرق العاصمة السودانية الخرطوم، ما تزال شريفة عوض تبحث عن العدالة، حيث شاركت في وقفة احتجاجية أمام مقر السلطة القضائية، بوسط الخرطوم، رفضاً لقرار إلغاء محكمة الشهداء في 15 من شهر ديسمبر الماضي. بعدما كان يحدوها الأمل بإدخال ملفه إلى محكمة خاصة بالشهداء.

جاءت وقفة ذوي الشهداء أمام مقر السلطة القضائية بالخرطوم، احتجاجاً على إصدار رئيس القضاء في حكومة الأمر الواقع، عبد العزيز فتح الرحمن عابدين، قراراً بإلغاء المحاكم الخاصة بالشهداء، بعدما كانت نيابة الشهداء قد تقدمت بدعاوى البلاغات إلى المحكمة.

وتمت الوقفة بعد دعوة من أسرة الشهيد الفاتح النمير التي تقاسم أسرة شريفة عوض وجع اغتيال فلذة أكبادهم في موكب 9 يناير ببري على يد نفس المتهمين في نفس اليوم، وتأخر المحكمة الخاصة بالشهداء في إدخال الملفين للمحكمة.

ومع ذلك، ليست أسر الشهداء وحدها من رفضت قرار رئيس القضاء الذي وجد اعتراضات عديدة، حيث حذرت لجنة أطباء السودان المركزية من التعامل مع قضايا الشهداء بهذا الاستسهال، مؤكدة أنها ستقف مع قوى الثورة للتصدي لهذا الانحراف، عبر التصعيد الإعلامي والوقفات الاحتجاجية ووسائل الضغط الأخرى المجربة. كما طالبت السلطات المختصة بتكملة إجراءات تسليم المتهمين واستجواب الشهود في قضايا وملفات دعاوي الشهداء والانتهاكات ما بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021م.

كذلك تفاعلت مع الدعوة منظمة أسر شهداء ديسمبر التي نشرت بيان مناشدة للمشاركة في الوقفة، وبالإضافة إلى لجان مقاومة وكيانات نقابية وحقوقية عبرت عن غضبها من القرار، فيما استنكرت لجنة أطباء السودان المركزية القرار قائلة إنه “أمر خطير يكرس لحالة الإفلات من العقاب ويهدد العدالة”.

في السياق نفسه مضت مجموعة محامو الطوارئ التي تنشط في رصد الانتهاكات، والتي اعتبرت تبرئة المتهمين بقتل الشهداء مخططا متكاملاً للإفلات من العقاب وضوءاً أخضر للأجهزة الأمنية بالمزيد من التنكيل فی حق الثوار.

وأشار محامو الطوارئ في تصريح صحفي، إلى عدم إلغاء المنشور 3/2021 الذي منح الحصانة لأفراد الأجهزة الأمنية، فيما استنكرت تحول النيابة العامة إلى أداة في يد السلطة وأجهزتها الأمنية.

وتأسست محكمة الشهداء، بقرار من رئيسة القضاء السابقة، نعمات عبد الله، التي تم اعفاؤها بتاريخ 18 مايو 2021م بعد سبعة أشهر من تعيينها بالتزامن مع استقالة النائب العام تاج السر الحبر ليصبح بعدها منصب رئيس القضاء فارغاً حتى تاريخ انقلاب 25 من أكتوبر، بالإضافة إلى استمرار غياب تشكيل المجلس الأعلى للقضاء في السودان.

ودخلت على إثر القرار قضايا الشهداء: “حنفي عبد الشكور، ومحجوب التاج ، والأستاذ أحمد الخير، بينما رفضت نيابة الشهداء استلام قضيتي الشهيدين  بابكر والفاتح النمير.

وبعد تنفيذ الوقفة الاحتجاجية، ردت السلطة القضائية بتأكيد عدم صدور قرار بإلغاء المحاكمات الخاصة، فيما أوضحت منظمة أسر الشهداء لاحقاً صدور قرار بتاريخ 16 /12/ 2022 بتوقيف قرار الإلغاء.

“الدستور والإتفاق الذي يتبنى قتلة الشهداء ويستند على وضعنا أيدينا في أيدي قتلة أبناءنا، مرفوض لدينا تماماً تقول شريفة لـ( بيم ريبورتس) تأكيداً على عدم قبولها وغالبية أسر شهداء ديسمبر بالمستجدات السياسية في البلاد وآخرها توقيع العسكر والمدنيين على الاتفاق الإطاري الأخير.

وكانت منظمة أسر الشهداء تمسكت في بيان لها في نوفمبر الماضي بموقفها الرافض لأي تفاوض بالنيابة عنها، مشددة على أن أسر الشهداء هم أصحاب المصلحة، كما أكدت على تمسكها بالعدالة ومحاسبة مرتكبي الجرائم.

شهداء ما قبل السقوط

وطريق الإطاحة بالرئيس المخلوع، عمر البشير، منذ ديسمبر 2018م، وحتى تاريخ سقوطه في أبريل 2019م، روته دماء مئات الضحايا الذين سقطوا أثناء مواجهات مع الأجهزة الشرطية والأمنية وكتائب ظل النظام السابق، حتى أن يوم عزل البشير من السلطة وحده شهد سقوط 19 شهيداً بالقيادة العامة بالخرطوم وخارجها في مدينتي زالنجي وعطبرة.

وأحصت لجنة أطباء السودان المركزية حتى تاريخ سقوط البشير أكثر من 80 قتيلاً بينهم 51 بالخرطوم و9 في احتجاجات القضارف و8 في مدينة زالنجي بولاية وسط دارفور، بينهم 4 نساء و12 طفلاً.

وبلغ عدد القتلى منذ اعتصام القيادة العامة وحتى 19 ديسمبر 2019م، ما يزيد عن 150 قتيلاً.

شهداء فض اعتصام القيادة العامة

نشرت منظمة أسر شهداء ديسمبر إحصائية لعدد 180 شخصاً تم قتلهم أثناء فض قوات المجلس العسكري لاعتصام القيادة العامة، بينما قالت وزارة الصحة إن العدد 64 وهو الأمر الذي دحضته تقارير لمنظمات حقوقية وشهود عيان.

لجنة تحقيق ولكن

بعد وصول المكون المدني والعسكري لاتفاق ثنائي والتوقيع على وثيقة دستورية لحكم المرحلة الانتقالية في 17 أغسطس 2019م ، تم الإعلان عن إنشاء لجنة تحقيق وطنية في 21 سبتمبر للتحقيق في أحداث فض الاعتصام من سبعة أعضاء أبرزهم قاضي المحكمة العليا وممثل من وزارات الدفاع والعدل والداخلية ومحامون مستقلون، وتمت تسمية المحامي نبيل أديب رئيساً للجنة في 20 أكتوبر 2019م بتعيين رسمي من مجلس الوزراء.

ولكن اللجنة التي منحت صلاحيات واسعة في التحقيق واستدعاء المسؤولين والأفراد، رغم استجوابها لما يزيد عن 3000 شاهد، إلا أنها لم تعلن عن أي نتائج للتحقيق الذي يفترض أن تكون مدته 3 أشهر فقط، وظل رئيس اللجنة يعزو تأخر النتائج إلى عدم قدرة الأدلة الجنائية السودانية على التعامل مع الأدلة المادية، إضافة إلى بعض الصعوبات المتعلقة بالدعم اللوجستي.

تعليق عمل اللجنة

ظلت اللجنة تباشر أعمالها حتى بعد انقلاب 25 أكتوبر واستقالة رئيس الوزراء، عبدالله حمدوك، لكنها أعلنت بشكل مفاجئ تعليق عملها بعد 5 أشهر من الانقلاب لجهة استيلاء قوة أمنية عسكرية على مقرها بالخرطوم وحذرت من احتمال إدخال معدات وأدوات يمكن استخدامها في كشف أسرار التحقيق المستمر منذ نحو 3 أعوام، ولم تزاول اللجنة أعمالها من وقتها وحتى اليوم. 

شهداء انقلاب 25 أكتوبر

منذ تنفيذ القائد العام للجيش، عبد الفتاح البرهان، انقلابه العسكري ضد الحكومة الانتقالية بلغت حصيلة إصاباته حتى ديسمبر 2022م حوالي 3200 مصاب بينها 34 حالة إصابة بالشلل الكامل و8 في حالة غيبوبة، بينما خلف الانقلاب ما يزيد عن 130 شهيداً وهو عدد سيصعب التحقيق حول تفاصيل مقتلهم، بالإضافة إلى عدم استقرار البلاد سياسياً ورفض مكونات كثيرة للاتفاق الجديد، بما في ذلك  أسر شهداء ديسمبر، بعد تأجيل ملف العدالة في الاتفاق حتى موعد الاتفاق النهائي.

لجنة تحقيق الانقلاب

بعد شهرين من الانقلاب، أصدر النائب العام بالإنابة خليفة أحمد خليفة في 13/12/2021 قرار رقم 69 قضى بتشكيل لجنة برئاسة وكيل أعلى نيابة الطاهر عبد الرحمن و8 أعضاء نيابة آخرون، للتحري والتحقيق حول وقائع ما أسماه ملابسات الأحداث والانتهاكات التي حدثت بعد 25 أكتوبر، وقتها بلغت أعداد قتلى ما بعد الإنقلاب 43 شخصاً قتلوا خلال المواكب الاحتجاجية، لكن اللجنة لم تجد قبولا من الشارع بسبب تكوينها بتوجيه من قائد الانقلاب المتهم في نفس القضية.

رؤية أسر الشهداء للعدالة

تقول مديرة الإدارة القانونية بمنظمة أسر شهداء ثورة ديسمبر، سعدية سيف لـ(بيم ريبورتس)، إن المنظمة أعدت رؤية قانونية فيما يخص ملف العدالة تشمل شروطها للموافقة على منظور العدالة في الاتفاق الإطاري، وكشفت عن عرض الرؤية في مؤتمر صحفي يوم الاثنين المقبل وتسليم نسخة منها للآلية الثلاثية ومسؤولي التفاوض الحالي ومنظمات المجتمع المدني.

وحسب مديرة الإدارة القانونية بالمنظمة، فإن الرؤية تتمسك بعدم إفلات المتهمين من العقاب، ورفع الحصانات وتنفيذ الأحكام وإصلاح القوانين، مشيرة إلى أنها تستند في ذلك على تجارب دول تعاملت مع قضية العدالة. ووصفت القضية بالمتمرحلة خاصة وأن وضع شهداء ما قبل الاعتصام يختلف عن ما بعده وعن وضع شهداء ما بعد انقلاب 25 أكتوبر بحسب المحامية.

عدد من المتهمين في القضايا أعضاء بمجلس السيادة

وترى سعدية، أن أي رؤية لملف العدالة لن تنجح مع وجود العسكر في السلطة، خاصة وأن عدداً من المتهمين في القضية أعضاء بمجلس السيادة.

وتؤكد أن موافقتهم على الاتفاق الإطاري مبنية على قبول الأطراف الموقعة والشارع السوداني على رؤية المنظمة تجاه قضية العدالة والتي ترتكز بشكل أساسي على إلغاء الحصانة.

وكشفت عن تصور ستقدمه المنظمة يطالب تكوين لجنة مستقلة مختلطة تتكون من عضوية محامين محليين ودوليين مع تصور للميزانية التي ستحتاجها اللجنة.

وترى سعدية، أن قضية محاكمة شهداء ثورة ديسمبر يمكن أن تصل لمبتغاها بتعيين كفاءات وطنية مستقلة وإصلاح المنظومة العدلية والقضائية ووزارة العدل في ظل وجود حكومة مدنية.

وفيما يخص شهداء 25 أكتوبر، أشارت سعدية لوجود رؤية متعلقة بملفاتهم في النيابات قبل أن تشير لعدم وصولها للمحاكم، وأضافت “تحريك قضايا الشهداء يتطلب معالجة مشاكل متعلقة بحماية الشهود وبالأدلة ورفع الحصانات وتحتاج لتغيير القوانين والمنظومة العدلية”.

وأوضحت عن إدخال ملف الشهيدين “بابكر عبدالحميد والفاتح النمير” لمحكمة خاصة خلال الأسبوع المقبل، وأضافت هنالك متهمين في القضية هربوا إلى مصر ومطلوبين من الانتربول. فيما كشفت عن شروعهم في إجراءات لاستئناف قرار المحكمة الدستورية بإطلاق سراح متهم رئيسي في قضيته وسيتم الرد على طلب الاستئناف الأسبوع المقبل أيضاً.

6 قضايا فقط رفعت للمحاكم

ورغم كم الشهداء الذين سقطوا خلال مسيرة الثورة، بواسطة القوات الأمنية، إلا أن ملفات 85 شهيداً فقط وصلت النيابة، لشهداء ما بعد انقلاب 25 أكتوبر، بينما تمت محاكمات في 6 قضايا فقط لشهداء ما قبل فض اعتصام القيادة العامة، ولا يزال الغموض يكتنف مصير تحقيق لجنة أديب في قضية شهداء فض الاعتصام.

ويصطدم التحقيق في هذه القضايا بوضع البلاد الأمني والقانوني، إذ شهدت محاكمات الشهداء التي وصلت المحكمة تراجعاً كبيراً بعد انقلاب 25 أكتوبر حيث تمت تبرئة أحد قتلة الشهيد حنفي عبد الشكور في سبتمبر 2022م، بعد إصدار محكمة أم درمان في 24 مايو 2021م حكما بإعدام الضابط المنتدب من جهاز الأمن إلى قوات الدعم السريع يوسف محي الدين بعد إدانته بقتل الشهيد دهسا بسيارته بعد ساعات من مجزرة فض اعتصام القيادة العامة.

بينما برأت محكمة عطبرة في الثالث من أكتوبر 3/10/2022 المتهمين بقتل الشهداء (طارق علي، مختار عبد الله وعصام علي حسين) بسبب عدم كفاية الأدلة ورغم صدور حكم الإعدام بحق قتلة الشهيد أحمد الخير وشهداء مجزرة الأبيض لم يتم تنفيذ الحكم حتى اليوم.

ومؤخرا صدر حكم بالإعدام على قاتل الشهيد حسن محمد عمر الثلاثاء الماضي بينما لا تزال جلسات الشهيد محجوب التاج مستمرة حتى اليوم.

ما بعد توقيع الاتفاق الإطاري

بتوقيع المكون العسكري اتفاقا سياسيا جديدا سمي بالاتفاق الإطاري بتاريخ 4/12/2022 اخذت الاحداث في البلاد منعطفا جديدا بعد عام من الإنقلاب ،لكن الإتفاق السياسي أجل النقاش في 5 قضايا مصيرية لحين البت فيها منها العدالة والعدالة الانتقالية. واصطدم الإتفاق ببيانات رفض له من أجسام ثورية ومن أسر شهداء ثورة ديسمبر.

يقول عضو اللجنة القانونية لقوى الحرية والتغيير محمد صلاح لـ(بيم ريبورتس)، إن ملف العدالة في الاتفاق لا يزال محل نقاش، حيث تم تقسيمه لـ3 محاور هي (إصلاح الأجهزة العدلية، و العدالة الجنائية و العدالة الانتقالية). ويرى صلاح أنه ليس بالضرورة أن توافق أسر شهداء الثورة على الإتفاق الإطاري أو توقع عليه لأنها ليست جهة سياسية.

ويشير صلاح إلى أن إصلاح الأجهزة العدلية سيشمل تغيير رؤوس الأجهزة العدلية الحالية من رئيس القضاء ونوابه والنائب العام ومساعديه وتعيين آخرين عبر مجلس عدلي متخصص به قانونيين معروفين.

والأجهزة يتم شغلها عبر المجلس العدلي بواسطة مفوضية إصلاح الأجهزة العدلية والحقوقية، وهي مفوضية تعمل على ترتيب وعمل إصلاح حقوقي داخل المؤسسات العدلية وهيكلتها ولوائحها، وشكل الإدارة الداخلية للأجهزة العدلية وهي التي تكون مجلس القضاء العالي والمجلس الأعلى للنيابة.

وثانيها تفعيل العدالة الجنائية بتحديد الجناة المسؤولين عن الانتهاكات منذ عام 1989م وحتى جرائم ما بعد 25 أكتوبر وبتشكيل لجان تحقيق خاصة مدعومة دوليا ومحليا وفنيا ولديها سلطات النائب العام.

وأضاف صلاح، أن المحور الثالث يستند على العدالة الانتقالية عبر تشكيل مفوضية العدالة الانتقالية لجان خاصة بالمصالحة الوطنية ولجان خاصة بقضايا شهداء وانتهاكات ما قبل وبعد 25 أكتوبر للوصول لمرتكبي الجرائم.

وأشار إلى أن اللجان الخاصة مثل لجنة نبيل أديب سيتم إعادة تشكيلها وتعيين محاكم خاصة بالشهداء وبانتهاكات 25 أكتوبر بواسطة رئيس القضاء ،وتفعيل قرارات المحكمة الدستورية،وأكد صلاح على أن الاتفاق السياسي لن يمنح أي حصانة لمرتكبي الجرائم.

ومع مرور 4 أعوام على الثورة لم تنطفئ النيران المشتعلة في قلب شريفة وأهالي شهداء الثورة على فقد أبنائهم، وعلى الرغم من تمسك الشارع بدماء الشهداء واستمرار مواكب العدالة والقصاص  للتذكير بحق الشهداء وتسليم عشرات المذكرات تؤكد شريفة أن غليلها لن يشفيه إلا الاقتصاص من قاتل ابنها الطبيب الشاب.

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع