بعيداً عن الزمن الكوشي.. (تهارقا العظيم) يصحو لوهلة وسط ضجيج أحفاده

في أمسية السبت الرابع عشر من يناير الماضي، يصحو الملك الكوشي العظيم تهارقا، لوهلة من الزمن، بعد أكثر من 2700 عام على ميلاده، ليجد أحفاده المفترضين غارقين في وحل اللادولة. سرعان ما عاد إلى نومته الأبدية، تاركاً إياهم في غمرة يأسهم، يحركونه ذات اليمين وذات الشمال.

ومع ذلك، حاول أحفاده المنهكين، القول إنهم ما يزالون يذكرونه. فوسط أجواء من الزغاريد والصافرات، وحضورٍ إعلامي كثيف، تم تحريك تمثال الملك الكوشي تهارقا إلى مكانه الجديد داخل المتحف القومي على مقربة من مقرن النيلين، بالعاصمة السودانية الخرطوم. 

“تهارقا يتحرك”، هكذا أعلنت منظمة الثقافة والتربية والعلوم التابعة للأمم المتحدة (اليونسكو) عن عملية نقل التمثال للمرة الرابعة خلال ما يقارب الثلاثة آلاف سنة. وبحسب إفادة كبيرة أمناء متحف السودان القومي، إخلاص إلياس، لـ(بيم ريبورتس)، فإن التمثال تحرك لأول مرة من المعبد إلى متحف مروي، ومن ثم نُقِل إلى المتحف القومي في المرة الأولى، من مستقره في ستينيات القرن الماضي، ضمن عملية إنقاذ آثار النوبة إثر تشغيل بحيرة السد العالي.

تهارقا الذي تميز عصره بالعمارة والبناء، جرى تحريكه في مدينة لا تمتلك أي هوية معمارية، والبحث عن الجمال فيها مهمة شاقة تكاد تلامس المستحيل.

أيضاً، بالنسبة لنظام الحكم الذي ظل يتغير على مدار التاريخ، ليخاطب حاجات الشعوب المتغيرة، تجدر الإشارة إلى أن جمهورية أحفاده التي أنشأوها حديثاً ما تزال تبحث عن إرساء نظام حكم يقيها شرور التفكك والانحلال، انحلال الدولة.

أما بالنسبة للعسكر، فهم على عكس نظم جيشه الذي كان يقاتل خارج الحدود، يهجمون على الشعب في وضح النهار، تاركين قطعاً واسعة من الأرض تُقتطع بأيدي الجيوش الأجنبية، يوماً بعد يوم. 

تهارقا

في العام ٧٢٢ قبل الميلاد، ولد تهارقا (ابن الملك بعانخي) والذي سيصير خامس ملوك مملكة كوش، حيث امتدت فترة حكمه ما بين أعوام 690 – 664 ق.م. عُرف تهارقا كواحد من ضمن أعظم المقاتلين في التاريخ، كما أنه كان قائداً جسوراً، امتلك جيشاً مكنه من التوغل شمالاً ليصير حاكماً لمصر، ما جعله يعرف بملك الأرضيين، حيث كان ابن الأسرة الـ 25 التي حكمت مِصر.

يتصف عصر تهارقا بالاهتمام الكبير تجاه العمارة وتشييد المعابد، فشهدت فترة حكمه بناء الكثير من الآثار التاريخية، التي ضمنت له خلود اسمه كأشهر ملك من ملوك السودان القديم (مملكة نبتا) التي امتدت من القرن الثامن إلى القرن الرابع قبل الميلاد.

عملية النقل

كانت عملية النقل صعبة للغاية، وذلك بسبب ضيق مساحة الصالة” هكذا عبّر سائق عربة (الكرين) ، الفاتح إسماعيل، عن دوره في مهمة نقل التمثال. وأضاف إسماعيل، أنه برغم مشقة العملية، إلا أنه سعيد وفخور بكونه من ضمن من شاركوا في هذه المهمة التاريخية. وكان الملك قد حُرك عن طريق استخدام روافع، وأجريت عملية النقل تحت إشراف فريق عمل إيطالي متخصص.

وحظيت الفعالية باهتمام إعلامي عالمي ومحلي، لما يمثله الملك تهارقا للحضارة الإنسانية القديمة، وبفعاليات رسمية من سلاح الموسيقى السوداني الذي ألقى التحية على الملك لحظة جلوسه على عرشه الجديد، الذي تحفه عدد من التماثيل.

فقدان الآثار

وسط غياب الدولة ومسؤوليتها في حماية الآثار، بل ومشاركتها في جريمة تدمير الآثار عبر سياساتها وقوانينها فيما يخص منح تراخيص وأذونات تنقيب عن الذهب في الأماكن الأثرية، دون إجراء أي عمليات مسح أثري. 

كانت نتيجة ذلك هو أنه في ظل تنامي التنقيب عن الذهب والآثار، فإن عدداً من المواقع الأثرية في شمال السودان (ولايتي نهر النيل والشمالية) قد تعرضت للتخريب. فما بين 2000م إلى 2008م تعرض جبل البركل (موقع أثري في مدينة كريمة) لعدد من عمليات السرقة، الأمر الذي أدى إلى فقدان 50 تمثالاً، لتعاود ثلاثة من هذه التماثيل الظهور خلال مزاد علني بعاصمة إسبانيا، مدريد، في أكتوبر 2020م، وهي تماثيل تخص الملك تهارقا.

إهمال مؤسسي

لكن المواقع الأثرية لا تتعرض للتخريب فقط عن طريق منح وزارة المعادن رخصاً لشركات التنقيب، بل كذلك عبر التمدد السكاني والزراعي داخل المواقع الأثرية، هذا التمدد الذي باركته مؤسسات الدولة. ومثال لذلك، ما شهدته منطقة الكوة الأثرية، في مدينة دنقلا بالولاية الشمالية، حيث صادقت سلطات الولاية على تحويل جزء كبير من الموقع لأنشطة زراعية، وهو ما تسبب في التعدي على 80 فداناً من المنطقة الأثرية، التي ضرب عليها سوراً من حولها من أجل حماية مساحتها المقدرة  بـ 700 فدان، وتعتبر من المواقع الأثرية المهمة لاحتوائها على مدن و مدافن أثرية. 

السرقات لا تقتصر على المواقع الأثرية فقط، بل امتدت إلى المتحف القومي في العاصمة الخرطوم، حيث تعرض لعدد من السرقات في فترات مختلفة. والحادثة التي شهدها العام 1991م، والتي استغل فيها اللصوص فتحات التهوية من أجل الوصول إلى المتحف وسرقة تمثال ذهبي. لكن المتحف، الذي لم يكن يحتوي على كاميرات مراقبة وأجهزة الإنذار حينها، تعرض إلى السرقة مرة أخرى في العام 2003م، والتي كانت عملية سطو كبيرة، فقدت على إثرها 52 قطعة أثرية. حدثت خلال غياب القائمين على حراسة المتحف لتناول الشاي خلال شهر رمضان. لكن السلطات تمكنت من القبض على اللصوص واستعادة القطع المنهوبة.

وتبين هذه الحوادث الطريقة التي تتعامل بها السلطات في السودان مع ملف الآثار، وهي طريقة لا تستند على أي وعي تاريخي بأهمية الآثار، كما أنه خلال فترات مختلفة في تاريخ السودان، كانت الآثار تمنح من قبل الرؤساء إلى نظرائهم كهدايا وقروض طويلة الأجل في مراتٍ أخرى.

مبادرات مختلفة

وسط غياب رؤية الدولة تجاه الآثار وتاريخ البلاد، إلا أنه، على صعيد آخر، توجد مطالبات مستمرة من السودانيين والسودانيات بضرورة استرجاع آثار البلاد التي بدأت سرقتها منذ عصر الاحتلال التركي المصري، والتي تتوزع في عدداً من الدول والمتاحف الأوروبية. قبل أربع سنوات نشط هاشتاق أعيدوا مومياء أماني ريديس في وسائل التواصل الاجتماعي، والذي ناقش فيه المتفاعلون قضية الآثار السودانية في الدول الغربية. وفي حين طالب كثيرُ من الناس بضرورة عودة الآثار إلى السودان باعتبارها ملك للتاريخ السوداني، رأى آخرون أن تبقى الآثار محفوظة بالخارج، في ظل عدم اهتمام داخلي قد يؤدي إلى فقدانها للأبد.

برغم حالة الاحتفاء التي صاحبت تحريك الملك تهارقا، والاحتفاء اللحظي بالحركة نفسها، إلا أن سؤال كيفية التعاطي مع الآثار في السودان، وعدم التنظيم البائن الذي صاحب فعالية نقل الملك، تشي تماماً بحالة الفوضى التي يعيشها السودان اليوم، والتي لا تتجسد في الحالة السياسية والاجتماعية فقط، وإنما تجسدت بشكل أكثر وضوحاً في الطريقة العشوائية التي حرك بها، وكأن من يُحرك، ليس أحد أبرز رموز البلاد.

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع