عمال السكة الحديد يعاودون حراكهم المطلبي في خضم معركة مستمرة مع السلطة

نرجو إخطار جميع العمال الذين شملهم قرار الفصل بإنهاء خدماتهم”، بهذا القرار، الصادر عن حاكم إقليم الولاية الشمالية وقتذاك، محمد الحسن الأمين، تعرض حوالي 4 آلاف عامل بالسكة حديد، في 11 يوليو 1990، إلى الفصل تحت حجة الصالح العام، علاوة على حرمانهم من مستحقاتهم.

ولم يأتِ استهداف نظام الإنقاذ وقتها لعمال السكة حديد، بعد أشهر معدودة من استيلائه على السلطة عبر انقلاب عسكري، من فراغ أو بشكل عشوائي، بل تم عن سابق إصرار وترصد للدور الطليعي الذي لعبته نقابة عمال السكة الحديد تاريخياً في مقاومة الاستعمار البريطاني والنظم الديكتاتورية التي حكمت البلاد. كما ساهمت في التأسيس لقيام بقية النقابات في السودان، مثل نقابة المزارعين. 

السكة الحديد قديماً

ومع أن الاستعمار البريطاني أنشأ السكة الحديد لخدمة مصالحه الاقتصادية، إلا أنه ربما لم يتوقع أن تصبح أساس التواصل الاجتماعي بين كافة أطراف البلاد والناقل الوطني لكافة السودانيين على حد سواء، وأن يكون لها قصب السبق في قيادة الدور السياسي الذي قصم ظهر الاستعمار نفسه.

 

وقتها تمتعت السكة الحديد بأهمية كبيرة جداً، حيث كان مديرها أحد أهم خمس شخصيات إدارية في البلاد، ضمن مجلس الحاكم العام البريطاني، الذي ضم الحاكم العام، والسكرتير الإداري، والمالي، والقضائي، ومن ثم مدير عام السكة الحديد.

أول نقابة عمالية

مع نشأتها الأولى، خضعت السكة الحديد لإدارة مباشرة من قبل المستعمر البريطاني، وشغل وظائفها الرئيسية عسكريون حتى عام 1902، بعدها بدأ الموظفون المدنيون السودانيون يشغلون وظائف إدارية مع انتقال مركز الإدارة الرئيسي من حلفا إلى مدينة عطبرة في عام 1906.

 

وفي 1948، تأسست نقابة عمال السكة حديد، وأجريت أول انتخابات لاختيار أعضائها، وشكلت وقتها البداية لإنشاء نقابات أخرى لقطاعات إنتاجية أهمها نقابة مزارعي الجزيرة. لتصبح نقابة السكة حديد الدينمو المحرك لمقاومة الاستعمار.

 

لم يقف دور السكة الحديد مع خروج المستعمر على متن نفس القطارات التي أدخلها البلاد لخدمته، إذ أن الحركة النقابية كانت السبب الرئيس في إنهاء حكم الرئيس المخلوع، إبراهيم عبود في ثورة أكتوبر 1964، بعدما حركت قطارين من مدينة بورتسودان تجاه العاصمة الخرطوم لدعم المتظاهرين. في المقابل مثلت مدينة عطبرة، أحد أهم لحظات ثورة أكتوبر بعدما انخرط مواطنوها على رأسهم عمال السكة الحديد في إضراب عام امتد إلى سائر أنحاء البلاد حتى إسقاط نظام عبود.

 

ومع تزايد أهميتها، اتخذت السكة الحديد، في عام 1967، صفة الهيئة الإدارية المستقلة التي يترأسها مدير عام يساعده مجلس استشاري يتألف من خمسة أعضاء بينهم وزير النقل.

 

ولطالما شكلت السكة الحديد هاجساً يؤرق الحكومات السودانية، فبعد أشهر معدودة من استيلائه على السلطة عبر انقلاب عسكري في 25 مايو 1969، وسعياً منه لتخفيف تأثيرها الشعبي، أصدر “مجلس الثورة”  الذي شكله الرئيس  المخلوع، جعفر نميري، في التاسع والعشرين من نوفمبر عام 1971 قراره رقم (69)، والذي قضى بحل الهيئة وإلغاء صفتها المستقلة ووضعها تحت إشراف وزارة النقل.

 

لتمر السكة حديد بعدها بسياسات تجفيف متعددة في عهد حكومة المخلوع أبرزها قرار حل النقابة الشرعية وفصل أكثر من 4000 عامل، بجرة قلم.

استعادة مؤقتة للنقابة

نجحت السكة الحديد، في تسيير قطار الثورة الشهير من عطبرة إلى الخرطوم، خلال اعتصام القيادة العامة، والذي توج بإطاحة النظام المخلوع، في أبريل 2019، واستمر دور السكة الحديد في أعقاب تشكيل الحكومة الانتقالية، حيث سيرت قطارات أخرى لدعم الحراك الثوري، كما أنها شكّلت لجنة تسييرية بعد الثورة.

لكن وبعد انقلاب الجيش في 25 أكتوبر 2021، عاد استهداف السكة الحديد والنقابات سريعاً، وفي ظل وجود لجنة تسييرية للنقابة، إلا أنها فشلت في مجابهة قرار قائد الجيش بحل اللجان التسييرية، ليواصل العمال بعدها مطالبهم دون جهة نقابية حتى اليوم.

اعتصام بقيادة جماعية

دخل عمال السكة حديد في اعتصام مفتوح، منذ مطلع مارس الحالي، للمطالبة بتحسين الأجور وصرف متأخرات رواتب سابقة. وهو امتداد لحراك مماثل، خلال العام الماضي، حيث شهدت السكة حديد تنفيذ أكثر من إضراب لنفس السبب، لكن العمال نفذوا اعتصامهم هذه المرة دون تسمية جسم محدد لتبني الإعتصام ومطالب العمال.

و على خلفية حراكاتهم السابقة التي فشلت في الوصول لمبتغاها اتفق العمال على تنظيم اعتصام بقيادة جماعية، فاقدين الثقة في الادارة الحالية للسكة حديد في محاولة للحد من الفشل الذي واجه محاولات قياداتهم السابقة في ادارة الحراك في أوقات سابقة .

في هذا السياق يقول العامل بإدارة الحركة والنقل (عبد الخالق سعد ) في حديثه مع (بيم ريبورتس) “أصر العمال على استمرار الاعتصام بقيادة جماعية حتى بعد تقديم لجنة الأجور المكونة من 7 أفراد لاستقالاتهم” 

و تضم مطالب العمال رفع الحد الأدنى للأجور بالإضافة لصرف المتأخرات التي تتضمن فروقات 3 أشهر .

قضية عالقة

بعد مرور ما يربو على الـ 33 عاماً، فإن أخر رئيس لنقابة السكة حديد، في دورة (1985-1991)، علي عبدالله السيمت، لم ينس القرارين رقم 138 و 139، واللذين تسببا في فصل 4000 عامل بصورة تعسفية، وحل نقابة السكة حديد. واللذين جاءا لخوف النظام، حديث العهد وقتها، من تأثير النقابة على نجاح الانقلاب خاصة بعد إصدارها بيان استنكاري لحادثة إعدام 28 ضابطاً بالجيش في أبريل 1990 .

يذكر السيمت، والذي عمل على استرداد حقوق المفصولين بعد ثورة ديسمبر 2018، رغم تقدمه في السن أن خطاب الفصل وقتها صدر بأمر من نائب حاكم الإقليم الشمالي، محمد الحسن الأمين، والذي يصدف أنه عضو بهيئة الدفاع عن الرئيس المخلوع حالياً.

 

وكان السيمت قد فتح بلاغاً، بتاريخ 10 سبتمبر 2019، ضد الأمين بنيابة عطبرة. ليتلقى رداً من النيابة بعد ستة أشهر، بأنها قبلت طلب محامي المشكو ضده بشطب البلاغ في مواجهة، محمد الحسن الأمين، بحجة أن أسباب الدعوى سياسية وكيدية وتستند على شهادات عمال مفصولين من الخدمة فقط، خاصة وأن خطاب الفصل لا يحمل توقيع محمد الحسن الأمين.

ويرى سمت أن المؤسسات المهنية والكيانات العمالية  عليها تكوين مؤتمر قومي لمناقشة مشاكل القطاعين المهني والعمالي والخروج برؤية واضحة لها.

وهو ما يتفق معه سعد، مشيراً إلى ضرورة تكوين نقابة منتخبة لعمال السكة حديد في أسرع وقت.

يستمر اعتصام عمال السكة حديد في القطاعات المختلفة ، بالتزامن مع اضرابات واعتصامات مختلفة  تشهدها البلاد، وصراعات لاستعادة النقابات غابت عنها نقابة السكة حديد عريقة التاريخ، أما السكة حديد التي بدأ نجمها في  الأفول  مع ميلاد فجر حكومة المخلوع ما تزال معركتها الماثلة إلى اليوم مستمرة في سبيل استعادة مجدها.

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع