«الدالي» أرض غنية ومنسية في جغرافيا شاسعة مزقتها سيطرة «الدعم السريع»

مجاهد حلالي - Freelancer

مجاهد حلالي - Freelancer

تمثل بداية شهر يونيو من كل عام إعلان قدوم موسم الأمطار في منطقة الدالي والمزموم، الواقعة جنوب ولاية سنار وتمتد حدودها مع ولاية النيل الأبيض والأزرق وتصل حتى جنوب السودان.

 والدالي هي أرض هادئة ومنسية، في جغرافيا السودان الشاسعة والمترامية الأطراف لم يعرف أهلها المتنوعون الحرب أو رائحة الموت من قبل، ويبقى جل همهم حرث أرضهم مع قدوم موسم الزراعة الجديد والأرض حبلى بالخير الوفير فهم يتبعون أغنامهم إلى الغابات وأماكن توفر الكلأ حتى يلين الضرع. كما أن الدالي تعد سودانًا مصغرًا، في ثرائها وتنوعها القبلي، إذ تحتضن جميع قوميات المجتمع السوداني.

وتعتبر الدالي والمزموم من أعلى المناطق إنتاجا في الزراعة المطرية، خاصة محاصيل الذرة والسمسم وعباد الشمس والصمغ العربي كما إنها تمتلك ثروة حيوانية كبيرة.

لكن نهاية يونيو 2024 كانت غير متوقعة بالنسبة لهم، حيث حملت لهم مفاجأة كبرى وجرح عميق ربما لن يندمل أبدا، وقد يحتاجون لعشرات المواسم وربما مئة حول حتى ينسى الناس ما حدث.

 في مساء يوم السبت التاسع والعشرون من يونيو 2024، حينما تناقلت الأخبار سقوط مدينة سنجة، عاصمة ولاية سنار، في يد قوات الدعم السريع. وكان أهل الدالي والمزموم من قبل أيام من هذا التاريخ يدب فيهم الخوف والرعب بسبب وجود عربات الدفع الرباعي التي تتبع لقوات الدعم السريع، والتي تحمل على متنها مدافع ثقيلة وآلات الموت والتشريد والاغتصاب والنزوح إلى المجهول، التي قد تدمر حياتهم، وهذا ما قد حدث بالفعل. 

محاولة استباق الفاجعة

مع سقوط مدينة سنجة في يد قوات الدعم السريع، شعر الناس بالهلع الحقيقي ولأول مره فكروا في ترك أرضهم وأغنامهم التي كانت بمثابة الأوكسجين بالنسبة لهم، وذلك مخافة أن تنتهك أعراضهم وينكل بأجسادهم، لذا لم يكن لهم خيار سوى الفرار من الموت. فاختار بعضهم النزوح لاتجاهات مختلفة، والبعض الآخر قرر أن يبقى في أرضه ويموت في طينها، ليبقى ملح دمه مهرًا لحب هذه البلدة التي منحته معنى للحياة، معلنًا حبه غير المشروط، وإن كان ثمنه دمه الحي.

ومع ذلك ستظل ذكرى ذلك اليوم المشؤوم ذاكرة مأساوية خالدة وسط النساء والأطفال وكبار السن، وواحدة من أصعب تجارب وحكايات الموت التي مرت على الآلاف من سكان تلك المناطق. لن ينسى الناس كيف حرموا من أرضهم وهربوا من الموت ورائحة الدماء.

نذر الفاجعة وهلع النزوح

في مساء التاسع والعشرين من شهر يونيو 2024، حسم الجميع أمرهم في بداية رحلة نزوح للمجهول، هربًا من آلة الموت التي قد تصلهم في أي لحظة، وازدادت الفجيعة مع سماع الناس دوي الأسلحة الثقيلة في وسط المدينة، أصوات لم يسمعوها طيلة حياتهم. ثم انقطع التيار الكهربائي وشبكة الاتصالات والإنترنت، ولم يكن يعرف الناس ماذا يحدث؛ هل اجتاحت الدعم السريع المدينة أم هذه اشتباكات. لم يمتلك أحد إجابهً، فقط تسمع صراخ الأطفال ونومهم تحت السرائر في “قطاطي” القش البسيطة أملاً أن تحميهم من سيل الموت الذي ينتظرهم، والذي أضحى أقرب إلى الحقيقة، خاصة بعد ازدياد شدة أصوات السلاح هنا وهناك.

 بدأت الطرق تمتلئ بالأسر في منتصف الليل، والسحاب الأسود غطى السماء مع برق خاطف وأبيض وأصوات الرعد معلنة عن بداية هطول الأمطار، والتي لم يكن هناك شيء يحمي الناس منها.

سار بعض الناس راجلين، واستقل البعض الآخر السيارات والوابورات، وكان محظوظاً من وجد (حمارًا) يمتطيه. خرج الناس بجلدهم حفاة وبلا أغراضهم واحتياجاتهم من ملابس أو غذاء، بعض الناس تركوا وجبة العشاء في النار، لم تكن لهم رفاهية الوقت الكافي حتى يسدوا رمقهم، ونسي الأطفال في هذا المساء كل شيء، ويبدو أنه من مدة طويلة لم يسمعوا فيها أحاجي عن الغابة والعصافير والمرفعين، وستكون هناك أيام طوال تنتظرهم.

صباح جديد برائحة الترقب والخراب

طالت المدينة، في صبيحة اليوم التالي، 30 يونيو حالات نهب واسعة. حُرقت جميع المؤسسات الحكومية؛ المحلية ومؤسسات الشرطة والنيابة العامة، ونهب السوق. كانت المدينة تدخل في حالة صمت مهيب لأول مرة في تاريخها الممتد؛ الطرق فارغة إلى من مشاهد بعض الناس الذين لم يستطيعوا مغادرة المدينة بسبب عدم توفر وسيلة للنزوح والهرب من الموت. وكان الخوف والترقب هو سيد المشهد، طال الخراب المستشفيات والمراكز الصحية، إذ نُهبت وكسّرِت ما تبقت من أجهزة المعامل، وحرقت الأدوية الطبية ونثرت في الطرقات. كان كل شئ يدل على رائحة الخراب والموت وفناء المدينة.

النزوح إلى المجهول

الرحلة إلى المجهول كانت هي عنوان الحكاية لآلاف النازحين هربًا من آلة الموت على أيادي جنود الدعم السريع، سلك الناس جميع الاتجاهات وزحفوا في الطرقات.

 سيل من الجماعات يركضون غربًا وجنوبًا وشرقًا، نساءً ورجالًا وأطفالًا وكبار سن يشقون الأرض التي خبرتهم وعرفتهم وارتوت بعرقهم. ولأول مرة يودعونها وتودعهم تاركين ورائهم حزن كبير مثل جبل الدالي الذي يسكن أرواحهم ولن ينسى أبدًا.

لم يجد الناس شئ يحميهم من المطر والبرد

امتدت الرحلة لأكثر من أسبوع في طرقٍ وعرةٍ وماطرة، ونهش الجوع والبرد أجساد الناس وأرواحهم التي تثقلها الحيرة والخوف من الغد المجهول. 

 وصل العديد من النازحين من الدالي إلى مناطق تقع في شرق محلية الجبلين، ولاية النيل الأبيض، تحديدًا إلى أم القرى “أم كويكا” سابقًا، وأبو ضلوع والمجابي وأبو الدخيره وحي الصفا وجوده، وبعضهم اتجه جنوبًا نحو القرى المجاورة؛ أبو عريف بوزي المزموم، لكن لم يحالفهم الحظ، إذ بعد سويعات فقط من مكوثهم طالتهم يد جنود الدعم السريع فلم يكن لهم خيار إلا أن يبحثوا جميعهم مع أهل تلك القرى التي استضافتهم عن أماكن جديدة لعلهم يجدون فيها الأمان.

مناورة بناء حياة جديدة

طفلة تجلب الحطب من أجل توفير الغذاء وأساسيات الحياة

وصل قرية أم القرى، في بداية الأسبوع الأول من النزوح، حوالي 950 أسرة، أي بما يعادل حوالي 5000 نسمة وفقًا للإحصاءات المبدئية للجنة داخل معسكر أم القرى.

 وقدّم المجتمع المستضيف في القرية مثالًا عظيمًا في التكافل والتضامن، وهو جزء من الإرث الثقافي للمجتمع السوداني.  فقدموا للناس الطعام واقتسموا معهم منازلهم ووجباتهم. لكن الحوجة كانت ضخمة للغاية، مما ترك فجوة كبرى وجعل المئات من الأسر تسكن في العراء تمامًا، حيث افترشوا الأرض والتحفوا السماء، مع هطول الأمطار ومواجهة لدغات الثعابين والعقارب وغيرها من الحشرات الضارة التي تسببت في انتشار الأمراض الجلدية.

صعوبة في تقديم الرعاية الصحية مع قلة الأدوية

ظهرت، بعد الأسبوع الأول، مشكلات صحية كبيرة نتيجة نقص الغذاء الحاد، وعدم توفر الإيواء المناسب، حيث انتشرت الإسهالات المائية والملاريا الحادة ونقص السوائل، ووصل الوضع إلى مستوى الكارثة الإنسانية، وظهرت الوفيات وسط الأطفال، وتوفت امرأة حامل في شهرها الأخير بسبب رحلة نزوح طويلة على الأرجل. ليشهد هذا العام، تحول الدالي إلى أرضٍ جدباء وبور، وكتب على مدينة كاملة النسيان، وعلى أهلها الموت والنزوح والمرض.

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع
أخبار بيم

«تقدم» تطالب «الإنتربول» برفض طلب النيابة السودانية لإصدار نشرة حمراء ضد قياداتها

24 سبتمبر 2024 – أعلنت تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية «تقدم»، الثلاثاء، عن رفع اللجنة القانونية وحقوق الإنسان التابعة لها مذكرة لمنظمة الشرطة الجنائية الدولية «الإنتربول»

المزيد