يتلمس الملايين في العاصمة الخرطوم، منذ اندلاع الحرب، طرق وسبلُ للحياة عبر مبادراتٍ تدبير معاشهم اليومي، في سعيً حثيث لتوفير احتياجاتهم من الغذاء والماء والرعاية الصحية، والدعم النفسي، وذلك عبر أجسامٍ قاعدية ومبادرات متعددة؛ غرف الطوارئ والمطابخ والتكايا المركزية، وغرف الطوارئ النسوية ومبادرات الأحياء المختلفة.
واليوم، بعد استعادة الجيش السوداني العاصمة، يواصل ساكنوها في تشييد الحياة العامة كهمٍ مشترك وفعلٍ من مواقع مختلفة، والتي من ضمنها ما يقوم به الفنانون بأشكالٍ مغايرة، يأتي ذلك والمدينة مثقلة ومنهكة بشواهد القتل والدمار التي تدلل عليها المقابر في الأحياء والساحات العامة، وآثار القذائف والحرائق في الجدران، وانتشار الوبائيات من كوليرا وحمى الضنك، المشهدُ الذي يشمل كل المدن السودانية التي وصلت إليها الحرب، ولكن حظ الخرطوم، كان كبيراً بما تمثله من رمزية للسلطة وصراعاً عليها.
فمن وسط جامعة الخرطوم، يظهر الموسيقي حسام عبد السلام، وهو مؤلف موسيقي وعازف كمان، ومحاضر بجامعة الأحفاد للبنات وأستاذ للنظريات الموسيقية ببيت العود العربي فرع الخرطوم، متوسداً كمنجته بحنوٍ، يعزفُ لحن الجنزير التقيل الكردفاني، الذي يرتبطُ بأوقات الشدة والتكاتف والتعاضد “يوم الحارة الزول بلقا أخو” ومن بعدها يناشد الناس للتبرع في سبيل التخفيف وسد رمق إخوانهم وأخواتهم في الفاشر وجنوب كردفان.
ومجدداً يظهر حسام في فيديو آخر يعزف لحناً وبعد انتهاء العزف، يناشد الناس للتبرع مالياً لإصلاح محطة توليد مياه امتداد ناصر بحي بري شرق الخرطوم.
من جهةٍ أخرى، وانتقالاً من الصوت والموسيقى إلى اللون والرسم، ينطلق الفنان والخطاط سهل الطيب، عبر جهودٍ فردية في توفير موادٍ التلوين، والانتقال من مرفقٍ عام إلى آخر للرسم على جدرانه باستخدام فن الخط العربي ومهاراته في الفن التشكيلي، يفتح سهل الطيب أفقاً مغايراً في مسألة عودة المواطنين إلى مدينة الخرطوم، وذلك بعد ما يقارب عامين ونصف، عملت فيهما الآلة العسكرية للحرب في تفتيت بنية تحتية كانت في الأصل متهالكة قبلها.
جدارية للفنان سهل الطيب
فنانون بالتزاماتٍ اجتماعية
ينطلق سهل الطيب في ممارساته الفنية وانشغالاته من تعريف نفسه كـ “مواطن” معتبراً المواطنة – حسب قوله – “دافعاً أساسياً وشرفاً عظيماً في عمل المبادرات خاصة في هذه المرحلة من عمر السودان”.
وبهذا المعنى، يشير سهل إلى أن المبادرة ليس لها علاقة بالتحشيد السياسي، ولا تنتمي لجهةٍ ماعدا توجهها في نشر روح التفاؤل ونبذ الكراهية والعنصرية، والبعد من فضاءات الصراع السياسي “والتراشق الحزبي” على حد تعبيره، وهو توجه يرى أن كل السودانيون يحبون بلدهم، ولكنهم يختلفون في الرؤى والأساليب، وأن الفن يمتلك إمكاناً ليصبح أرضية مشتركة، خاصةً مع التضاريس الصعبة والعميقة التي يمر بها السودان ومواطنيه، والذي “لا أمتلك فيه سوى الريشة واللون، والرغبة والقدرة في التغيير من خلال استخدام ألواناً زاهية ومفرحة، لأننا لن نقيم في هذا الواقع البائس للأبد”.
عبارة من إحدى جداريات سهل التي استخدم فيها فن الخط
يقول حسام تمهيداً لموقفه وانشغالاته الفنية والاجتماعية “إن هناك رؤيتان للفن، ترى الأولى أن الفن قيمة مستقلة بذاته، لا يجب أن يُستخدم لأغراض تعليمية أو سياسية أو اجتماعية، بينما الثانية تعتبر أن للفن دورًا في التوعية، النقد، والتغيير الاجتماعي وتربط بين الإبداع الفني والرسالة الأخلاقية أو الاجتماعية”.
ويضيف أنه يؤمن بالرؤيتين، وقد يتأرجح بينهما. لكن بطبيعة المرحلة التي تمر بها البلاد الآن وسابقاً، فإن الرؤية الثانية تجد كل القبول من المجتمع لذلك يعتقد عبد السلام “أن هناك حاجة في نفس الجميع لوسيلةٍ تعبيرية عن الشعور الجمعي للناس، خاصةً في الأزمات التي تجعل الفن قادراً على توحيد الوجدان والتأثير في عقول وقلوب قاعدة عريضة من الناس”.
يعضد سهل ما ذهب إليه حسام، مستبصراً أفقاً نحو الانفراج والانعتاق من آثار الحرب ومحاولة تجنبها في المستقبل، والذي يحتاج أن نتزود بالأمل والغد المشرق، إذ “هناك كوة ضوء ونافذة أمل لا يمكن أن نتجاهلها” لأن السودان يمتلك الامكانيات لتجاوز هذه المرحلة الصعبة، والتي يكون فيها للفنانين والمثقفين “دوراً كبيراً، وكل ما نعيشه الآن هو نتيجة لغياب الفنون والثقافة” واللذين بإمكانهما معالجة الجهوية والعنصرية والتحشيد الأعمى بحسب تعبيره.
معاناة ممتدة
برغم هذه المهمة التي يضطلع بها الفنانون والفاعلون الثقافيون في مختلف الحقول الإبداعية، إلا أنهم كانوا الأكثر معاناةٍ خلال الحرب الجارية، وذلك بطبيعة البنية التحتية المختلة من قبل الحرب في الأصل، وهشاشة المؤسسات الثقافية في البلاد، نسبة لغياب الدعم المادي والأمان الاجتماعي لها وغيباها من مخيال الدولة كذلك.
وفي هذا السياق، يشير حسام إلى أن الفنانين هم من أكثر الفئات تضررًا من حالة الحرب وعدم السلام، لأن في ظل الحرب تتغير أولويات الناس وحاجاتهم بشكل يتوافق مع المرحلة، حيث تتحول أولوياتهم إلى الأمن والغذاء ، ما يجعل الفن في ذيل قائمة الاحتياجات.
يقول حسام “إن الوضع الحرج الذي عايشناه كفنانين خلال الحرب جعل الكثير منهم يضطر إلى العمل في مهن أخرى، ربما تكون هامشية فقط من أجل أن نبقى على قيد الحياة، ونؤمن لأسرنا سبل العيش”. لكن رغم هذه المعاناة، فإن حسام كان ينظر وينخرط، منذ اليوم الأول للحرب، في تيسير الحياة بالنسبة لآلاف المواطنين في أماكن مختلفة، فعبر مشروع مبادرة توفير الطعام “پروماتيك” والتي انطلقت في فبراير 2024 وحتى الآن، بهدف توفير وجبات غذائية متكاملة وتوزيعها على آلاف المحتاجين في بورتسودان وأم درمان والخرطوم، وذلك “من خلال فاعلين الخير من بنات وأبناء الشعب السوداني الذين ما بخلوا على المجتمع بأي شيء” على حد وصفه.
تكامل الفردي والجماعي
بدأت المبادرات التي أطلقها كلٍ من سهل وحسام، كشراراتٍ فردية لمشاريع تحاول خدمة المواطنين بطرقٍ مختلفة، ولكنها سرعان ما تحولت إلى فضاء مملوك للجميع. يؤكد حسام على الوضع الشائك الذي أفرزته الحرب في جميع الأصعدة، إلا أنه يقول “بالرغم من ذلك فقد لاحظت في كل مكانٍ من فضاءات النزوح، في أمدرمان والخرطوم وبورتسودان، أن الفنانين في كل مجالات الفن لديهم القدرة على تلطيف حياة المجتمع الجديد الذي يعيشون فيه، علاوةً على القدرة على نشر قيم الخير والمحبة وقبول الآخر بأبسط الإمكانيات المتاحة”. ويضيف “وهذا يعكس فعليا أثر الفن وقيمة الفنان في المجتمع”.
هذه الإمكانيات البسيطة هي التي كانت باباً لمشروع الجداريات الذي بدأه سهل بإمكانياتٍ بسيطة للغاية؛ عبر عبوتي طلاء “بوماستك” والقليل من الغِراء والألوان، انطلاقاً من شارع النيل أمدرمان – جنوب كبري الحلفايا “هناك، وتصادف مرور شباب من المؤسسة التعاونية الوطنية – وهي كيان اقتصادي يتبع للقوات المسلحة – أعجبوا بالجداريات ووعدوا بالمساعدة. أنزلوا المواد دون أن يطلبوا توقيع اسم المؤسسة. لقد كانوا شباباً، الأمر الذي أقوله للتأكيد على العنفوان والإقدام والحماس.
الفن والسلطة…علاقة ملتبسة
لطالما لعبت الفنون والثقافة دوراً طليعياً في السودان، منذ الجمعيات الأدبية التي تشكلت ما قبل الاستقلال، وكانت ملاذاً ومساحة مقاومة للفنانين من أمثال خليل فرح، علاوةً على أدوار الفنون في مختلف التغيرات الاجتماعية التي شهدتها البلاد، وآخرها ثورة ديسمبر.
في المقابل فإن السلطات الرسمية تنظر إلى الفنون بعين الريبة والتشكك إذا كانت تهدد سلطتها وخطابها، وهو ما شاهدناه إبان مجزرة القيادة العامة، في 3 يونيو 2019، إذ أول ما فعلته السلطة العسكرية أن أزالت جداريات الشهداء من المساحات العامة؛ خاصة محيط القيادة العامة الذي شهد اعتصاماً امتد لعدة أشهر، وهو ما يمكن قراءته كفعلٍ يهدف إلى محو الذاكرة الجمعية.
أما اليوم، ومع حالة الاستقطاب التي أنتجتها الحرب، فنجد أن نفس الفنون التي كانت مبعدة، يجري تسيسها لتحقيق أهدافٍ مختلفة، وهو ما ظهر جلياً في الزيارات التي قام لها كلٍ من نائب رئيس مجلس السيادة، مالك عقار، ورئيس الوزراء المعين، كامل إدريس، إلى معرض سهل الطيب بمركز أمدرمان الثقافي على سبيل المثال. وفي حين أن هذا لا يقدح في العمل الجليل الذي تؤديه هذه الأعمال الفنية، إلا أنه يطرح تساءلاً حول الأفق الذي يمكن أن يوجد للفن والثقافة، خاصةً إذا كانت نقدية للسلطة ولا تدعم سردياتها، في فضاء السودان حالياً ومستقبلاً.