Category: سياسي

الجوع يفتك بمواطني جنوب كردفان المحاصرين بين ثلاث جبهات عسكرية 

«مع اشتداد الجوع واعتماد معظم سكان المدينة على أوراق الشجر كغذاء رئيسي، تناول ثلاثة من الأطفال أوراق نبتة تعرف بـ “بن بلاش” والتي لم يعرفوا أنها سامة، ليصابوا بالإسهال والاستفراغ المستمر، ويفارقوا الحياة بعدها» – هكذا تحدثت سماح (اسم مستعار) لـ«بيم ريبورتس» وهي تصف وضع مواطني مدينة الدلنج بولاية جنوب كردفان.

فتحت حرب 15 أبريل 2023 الباب واسعًا أمام الصراع المركب في ولاية جنوب كردفان بتعدد الأطراف المتحاربة، فالجيش السوداني والجيش الشعبي يخوضان حربهما الخاصة داخل الحرب الأوسع، فيما يخوضان معًا بشكل غير معلن في بعض الحالات الحرب ضد قوات الدعم السريع، فيما تحارب الدعم السريع الجميع في ولاية جنوب كردفان على رأسهم السكان.

وضع هذا الصراع المركب سكان ولاية جنوب كردفان بين ثلاث جبهات عسكرية تتشارك السيطرة على المنطقة، أثر هذا الأمر بشكل مباشر على إمدادات الغذاء والأدوية على مدينة الدلنج وهي ثاني أكبر مدن ولاية جنوب كردفان، والتي تقع على مسافة 498 كيلو مترًا جنوب غربي العاصمة السودانية الخرطوم والتي كانت تعيش أوضاعًا مستقرة، علاوة على كونها ملجأً لما يزيد على خمسة آلاف من المواطنين الذين نزحوا إثر هجوم الدعم السريع على منطقة هبيلا الزراعية (الواقعة شرق الدلنج).

لكن كل ذلك تغيَر في مطلع يناير 2024، عندما حشدت الدعم السريع قواتها في محاولةٍ لدخول المدينة، ليتصدى للهجوم كلِ من الجيش السوداني والجيش الشعبي التابع للحركة الشعبية قيادة عبد العزيز الحلو، وبينما أشار الطرف الأول إلى وجود تنسيق مشترك بين الطرفين لصد الهجوم، نفت الشعبية وجود هذا التنسيق.

صورة أرشيفية من جبل "الدش" بمدينة الدلنج

الدلنج.. مدينة محاصرة ومعزولة

تأثرت مدينة الدلنج بالمعارك التي دارت بين الجيش السوداني والجيش الشعبية التابع للحركة الشعبية بمدينة كادوقلي (حاضرة ولاية جنوب كردفان) منذ أغسطس 2023، والتي أدت إلى نزوح آلاف المواطنين داخل الولاية وخارجها. علاوة على إغلاق الرابط بين الدلنج وكادوقلي، وهو وضع تعقد بعد هجوم الدعم السريع على مدينة هبيلا ومن ثم الدلنج مطلع يناير 2024، وبذلك أصبحت المدينة معزولة، الأمر الذي فرض خناقاً اقتصادياً قاسياً على المدينة، أصبحت مع معاناة المواطنين أمراً يومياً مستمراً، خاصة فيما يتعلق بالحصول على الغذاء والأدوية والخدمات الصحية.

وقالت بعض المصادر التي تحدثت لـ«بيم ريبورتس» من مدينة الدلنج، إن هناك انعدام شبه كامل للسلع الغذائية، وحتى التجار توقف عملهم بسبب عدم توافر البضائع وإغلاق الطرق من وإلى المدينة، ومعظم الأسر لا تمتلك ما تأكله فأصبحت تعتمد على أوراق الأشجار بشكل رئيسي، الأمر الذي زاد معدلات سوء التغذية وسط الأطفال بالإضافة إلى زيادة نسبة وفيات الأطفال وكبار السن”.

وتشرح سماح في ذات السياق، بأن «إغلاق الطريق وعدم توفر السيولة النقدية تسبب في ارتفاع جنوني لأسعار السلع الغذائية الرئيسية، والتي لا تستطيع معظم الأسر توفيرها أو شرائها في المقام الأول».

وأدناه جدول يوضح أسعار السلع بتاريخ 25 سبتمبر:

السلعة

السعر بالجنيه السوداني

ملوة الذرة

20 ألف 

ملوة البصل

20 ألف 

رطل الزيت

40 ألف 

كيلو الدقيق

9 آلاف 

وفي السياق نفسه، فإن معاناة سكان الدلنج لا تقتصر على عدم توافر السلع الاستهلاكية فحسب، فالجانب الصحي كذلك بالغ الصعوبة، إذ هناك ندرة في الأدوية، خاصة أدوية الأمراض المزمنة (القلب، والكلى، والسكري) علاوة على عدم توفر الأدوية والأمصال الوقائية  لتطعيم الأطفال.

 وتضيف سماح «أدى هذا الوضع إلى تسول أهل المدينة لمأكلهم، وبالرغم من عمل بعض الجهات والمبادرات والمنظمات التطوعية، مثل صدقات وصناع الخير  والنفير وللخير نسعى وأمل بلا حدود، إلا أن الوضع ما يزال كارثيًا، حيث أن حاجة الناس كبيرة للغاية».

وإن كان الوضع قاسيًا على سكان مدينة الدلنج، فإن حدته تتضاعف على النازحين إليها من منطقة هبيلا الواقعة شرقها، إذ نزح الآلاف من يعتمدون على الزراعة وتربية الماشية خالي الوفاض من كل ما بإمكانه مساعدتهم في رحلة نزوحهم، علاوة على إقامتهم في دور الإيواء، والتي تعاني هي الأخرى أشد أنواع المعاناة، وتنعدم فيها أدنى مقومات الحياة.

صورة أرشيفية من مخيم للنازحين بمدينة كادوقلي

كادوقلي.. وجه آخر للمعاناة

لا تختلف حدة الوضع كثيرًا في مدينة كادوقلي، والتي نزح إليها الآلاف حيث يواجهون شتى ضروب المعاناة؛ من ندرة في توفر الطعام ومياه الشرب، إلى جانب تدهور واسع في الأوضاع الصحية.

وهذه المعاناة يعيشها كل سكان المدينة، وتزيد وطأتها على النازحين، والمدينة مثلها مثل الدلنج تأثرت بإغلاق الطرق وعدم وصول البضائع والمساعدات الإنسانية، ما تسبب في تكرار نفس مشاهد الجوع المفزعة وسوء التغذية وموت الأطفال نتيجة تناول أوراق شجر سامة، علاوة على وفاة 19 طفلًا خلال شهر مايو الماضي فقط، نتيجة سوء التغذية والإسهالات المائية، الأمر الذي يزيد من مخاوف السكان، خاصة مع بداية الخريف وانتشار الحميات والأوبئة، بالإضافة إلى الكوليرا التي تفتك بالبلاد.

مناطق سيطرة الشعبية.. إعلان رسمي للمجاعة

في منتصف أغسطس الماضي، أعلنت الحركة الشعبية-شمال عن المجاعة بمناطق سيطرتها في إقليمي جبال النوبة والفونج الجديدة، والتي يبلغ عدد سكانهما، بحسب بيانات الحركة، (3,000,000) نسمة بعد نزوح الفارين من الحرب إليهما من الولايات الأخرى.

وأرجعت الحركة الشعبية أسباب المجاعة في تأثر الإقليمين بالحرب الدائرة، والتي أدت إلى تقلَّص المساحات المزروعة في السودان بسبب الحرب إلى (60%) مما جعل أكثر من (80%) من القوى العاملة في الزراعة يغادرون مناطق الإنتاج وأصبحوا لاجئين ونازحين، ما تسبب في فشل الموسم الزراعي السابق وعدم توفر التقاوي والوقود وقطع الغيار نتيجة لإغلاق الطرق.

صورة من مناطق سيطرة الحركة الشعبية

جوعٌ لا يذهبه تبادل الاتهامات

سبق إعلان المجاعة اختراق مهم لكنه أجهض في مهده، إذ شهدت مسألة المساعدات الإنسانية تطورًا في الرابع من مايو الماضي، عندما وقع كلٍ من نائب القائد العام للجيش السوداني، شمس الدين كباشي، ورئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان، عبد العزيز الحلو، اتفاقاً مبدئياً نصّ على تسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق المتضررة في جبال النوبة، والتي تسيطر عليها القوات التابعة للطرفين، وهو ما قوبل باستحسان كبير داخل السودان، خاصة وأن الاتفاق مثل خطوة أولى نحو تحسين الأوضاع المعيشية للملايين من السودانيين المتأثرين بالصراع المستمر منذ أبريل 2023.

لكن لم تمر إلا أيام، لتتعثر جولات المفاوضات بعد أيام قليلة من بدء جولات المفاوضات نتيجة الخلافات العميقة بين الطرفين حول طبيعة الاتفاق. فقد اتهم الجيش الحركة الشعبية بإصرارها على إدخال قوات الدعم السريع كطرف في المباحثات، مما اعتبره الجيش محاولة لتبرير الانتهاكات التي ارتكبتها تلك القوات ضد المدنيين. من جانبها، ردت الحركة الشعبية باتهام الجيش بمحاولة استغلال المفاوضات ليس لإيصال المساعدات الإنسانية، بل لتأمين إمدادات عسكرية لقواته المحاصرة في مناطق كردفان، متهمة الجيش بالابتعاد عن الهدف الإنساني للمفاوضات.

 وفي خطوة مفاجئة أمس السبت، 19 أكتوبر 2024، أصدرت اللجنة الوطنية للطوارئ الإنسانية «حكومية» قرارًا أعلنت فيه التزامها بتقديم كافة التسهيلات لانسياب المساعدات الإنسانية وتقديم كل ما من شأنه أن يسهل وصولها إلى المحتاجين في كافة أنحاء البلاد.

كما كشفت اللجنة الوطنية للطوارئ عن فتح مطارات: كسلا ودنقلا والأبيض وكادقلي أمام المنظمات الدولية، بالإضافة إلى 7 معابر برية تمت الموافقة عليها مسبقًا. كما كشفت عن تواصل فعال هذّه الأيام- لم تسم الجهة- لبدء لنقل المساعدات الإنسانية إلى ولاية جنوب كردفان من مطار جوبا إلى مطار كادقلي.

وفي الوقت الذي أشارت فيه في البيان إلى أنها ستكون بهذه الخطوة قد أوفت بكل متطلبات دخول وإنسياب المساعدات الإنسانية عبر الجو والبحر، قال المتحدث باسم وفد الحركة الشعبية شمال، جاتيقو اموجا دلمان، في تصريح لـبيم ريبورتس إن “بيان مجلس السيادة السوداني الغرض منه التنصل من التزامات سابقة تمت ما بين حكومة بورتسودان ووكالات الأمم المتحدة المعنية بالإغاثة ومثلها مع الحركة الشعبية”.

 وأضاف كان يفترض أن يتم استخدام معبر جوبا الدولي لنقل مساعدات إنسانية لأربع مدن في ولاية جنوب كردفان عن طريق الإسقاط الجوي، وهي كادقلي وكاودا والدلنج وجلد وليس مدينة واحدة فقط.

وضع استمرار الحرب بأشكالها العسكرية والسياسية في مدن ولاية جنوب كردفان حياة الملايين من السكان على شفا كارثة إنسانية محققة في ظل انعدام الأمن والغذاء، ومعاناة الناس من الجوع والعوز، مما يجعلهم أكثر عرضة للأمراض الفتاكة وسوء التغذية، خاصةً الأطفال وكبار السن. ومع تفاقم  الأوضاع المأساوية وإغلاق الطرق وحصار المدن، فإن المدينة المحاصرة من قبل ثلاث قوات عسكرية، تعيش قصة مأساة يومية، تُكتب بحروف من ألم وفقدان.

سرادق جديدة للموت شمالي الجزيرة في موجة انتهاكات عنيفة من «الدعم السريع»

26 أكتوبر 2024 – نقلت قوات الدعم السريع حملاتها الانتقامية إلى شمال ولاية الجزيرة وسط السودان، حيث قتلت أمس، أكثر من 124 شخصًا وجرحت مئات آخرين بقرية «السريحة»، في موجة وحشية جديدة من الانتهاكات ضد المدنيين. 

تأتي حملات الدعم السريع التي وصفتها منظمات حقوقية بالانتقامية في ولاية الجزيرة في أعقاب انشقاق قائدها السابق، أبو عاقلة كيكل وانضمامه إلى الجيش، في المنطقة التي ظلت هادئة على مدى أشهر عديدة، إذ هوجم السكان على أساس يبدو أنه انتقامي من مجموعات الدعم السريع الموالية لحميدتي.

في وقت حثت فيه منظمة «هيومن رايتس ووتش» الدول الأعضاء في الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي على البدء في التخطيط لنشر بعثة لحماية المدنيين في السودان. وأضافت في بيان أمس أنه لا يمكن انتظار محادثات وقف إطلاق النار لتؤتي ثمارها أو الظروف المثالية لنشر البعثة. «يحتاج المدنيون إلى الحماية الآن» – أردف البيان.

وأوضحت المنظمة أن التصعيد الأخير في القتال الدائر في العاصمة السودانية الخرطوم وولاية الجزيرة يعرض المدنيين مجددًا لـ«لخطر الهائل المتمثل في الغارات المتعمدة والموت أو الإصابة جراء الأسلحة المتفجرة التي يستخدمها الطرفان»، لافتةً إلى أن المدنيين ما زالوا يتعرضون للتعذيب والإعدام دون محاكمة، فيما تعاني النساء والفتيات من انتشار العنف الجنسي.

كذلك دعت المنظمة مجلس الأمن إلى أن يوسّع فورًا حظر الأسلحة الأممي المفروض حاليًا على دارفور ليشمل البلد بكامله، وأن يفرض عقوبات على المسؤولين عن الفظائع، ويؤكد أنهم سيُحاسبون.

في السياق، قالت مجموعة «محامو الطوارئ» الحقوقية إن قوات الدعم السريع تواصل استهداف المدنيين العزل في هجمات انتقامية عشوائية تمارس فيها أقسى أشكال العنف، غير مبالية بالمعايير الإنسانية أو الأخلاقية.

 وأضافت في بيان السبت، أنها استهدفت قرى: كريعات، زرقة، العقدة، العبوداب، الطندب، ود موسى، والشقلاوه، مما أسفر عن مئات القتلى والمصابين، بالإضافة إلى تشريد مئات العائلات ونزوح نحو 10,000 شخص بحثًا عن ملاذ آمن.

وأكد البيان أن هذه الانتهاكات مخالفة لنص المادة الثالثة المشتركة في اتفاقيات جنيف لعام 1949 التي تُلزم الأطراف في النزاعات المسلحة غير الدولية باحترام كرامة الأشخاص الذين لا يشاركون في الأعمال العدائية، بما في ذلك المدنيين، وتحظر جميع أشكال العنف ضدهم، بما في ذلك القتل والمعاملة القاسية.

وتابع البيان: «كما شهدت قرية السريحة مجزرة مروعة أسفرت عن مقتل 124 مدنيًا وإصابة مئات آخرين، إضافة إلى حملات اعتقال وانتهاكات واسعة بحق المواطنين الأبرياء». وأردف البيان: «في محاولة للتغطية على هذه الجرائم، قامت قوات الدعم السريع بتعطيل شبكات الاتصال والإنترنت، بما في ذلك خدمة (ستارلينك)، لمنع توثيق الانتهاكات».

ولفت البيان إلى أنه في المقابل، يقوم الجيش بتحشيد وتسليح بعض المجتمعات المحلية بدعوى مقاومة قوات الدعم السريع، ما يعرّض المدنيين لخطر الاستهداف المباشر ويزيد من حدة الانقسامات المحلية ويضاعف العنف.

وأشار البيان إلى أن توظيف المدنيين في النزاع المسلح يمثل انتهاكًا لمبادئ القانون الدولي الإنساني، وتحديدًا المادة 13 من البروتوكول الإضافي الثاني لاتفاقيات جنيف لعام 1977، التي تحظر الهجمات التي تجعل من السكان المدنيين هدفًا مباشرًا للأعمال العدائية.

وطالب محامو الطوارئ المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية بتحمل مسؤولياتها والعمل على حماية المدنيين في السودان، ووضع حدّ لكل أشكال الدعم العسكري للأطراف التي تتورط في انتهاكات حقوق الإنسان.

وأظهرت مقاطع مصورة نشرها عناصر من الدعم السريع وهم يمارسون أشكالًا وحشية من الانتهاكات والتعذيب بحق السكان المدنيين في قرية «السريحة»، بما في ذلك الضرب والإذلال بتقليد أصوات الحيوانات.

وفي أحد المقاطع كانوا يقتادون عشرات المدنيين في صف طويل ويطالبونهم بترديد أصوات الحيوانات. فيما أمسك قائد ميداني بالدعم السريع لحية رجل مسن وجرها في مقطع إذلالي آخر.

وسبق الحملة على «السريحة» توعد عناصر الدعم السريع بمهاجمتها في مقطع مصور بثته منصاتهم، معلنين أنهم سيهاجمون أي منطقة كانت تحت حماية قائدهم السابق بولاية الجزيرة أبو عاقلة كيكل. وقال أحدهم “كيكل ذهب.. نحن قادمون إليكم” مستخدمًا عبارة دارجة تعني القتل. 

أيضًا أظهر مقطع آخر إجلاس العشرات قسريًا، معظمهم رجال مسنون، ومن ثم اقتيادهم، فيما يقول متحدث من عناصر الدعم السريع إن هؤلاء يتبعون لـ«كيكل» في قريتي «السريحة وأزرق» بشمال الجزيرة.

وفي مقطع فيديو آخر ظهر عشرات الرجال المدنيين وهم محتجزين، بينما يخاطبهم أحد قادة الدعم السريع باعتبارهم جزءًا من قوات كيكل. 

وأمس الجمعة، أظهرت مقاطع مصورة أهالي «السريحة» وهم يوارون جثامين العشرات من ذويهم، فيما بثوا نداءات لإنقاذ الجرحى في ظل انعدام أي رعاية طبية بالمنطقة. 

فيما قال مؤتمر الجزيرة (كيان مدني) إن قوات الدعم السريع اقتادت أكثر من 150 من مواطني القرية إلى معتقلات بمنطقة «كاب الجداد» القريبة.  

في المقابل، أدانت وزارة الصحة الاتحادية، في بيان، الاستهداف المستمر من قبل قوات الدعم السريع للمواطنين والمؤسسات الصحية، مؤكدة أنه يعد خرقًا للأعراف والقوانين الدولية. 

وقالت بيان الوزارة: «في جريمة بشعة تمتهن قوات الدعم السريع قتل المدنيين والكوادر الطبية العاملة في ولاية الجزيرة بأبشع الصور وتقتل المدنيين والكوادر الطبية»، مضيفًا «في مستشفى رفاعة تم قتل كادر طبي واختطاف ثلاثة ممرضات أثناء اجتياحها للمنطقة مستخدمة الأسلحة الثقيلة».

وأشارت وزارة الصحة إلى صعوبة تقديم الخدمات الصحية في ظل هذا السلوك والإبادة الجماعية للمواطنين في المناطق الواقعة تحت سيطرة الدعم السريع، حتى من قبل المنظمات الدولية والأممية.

وطالبت الوزارة المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان بإدانة واستنكار جرائم الدعم السريع ومحاسبة مرتكبيها، إعمالًا لمبدأ عدم الإفلات من العقاب.

    

وفي السياق، قال قائد الجيش السوداني، عبدالفتاح البرهان، في منشور على حسابه بمنصة «إكس» أمس، إنه «كلما تمادت مليشيا آل دقلو الإرهابية في سفك دماء المواطنين الأبرياء،

ازدادت عزيمة الشعب السوداني على مقاومتهم». وأضاف: «إن انتهاك القانون الدولي الإنساني والجرائم الإنسانية لن تمر دون عقاب، وتجعل من غير الممكن التسامح مع هذه المليشيا الإرهابية».

في المقابل، قالت قوات الدعم السريع في بيان أمس إن البرهان يتحمل المسؤولية الكاملة فيما تشهده ولاية الجزيرة من اشتباكات مع المقاومة الشعبية وكتائب العمل الخاص، مشيرةً إلى تصريحاته بشأن تسليح كل من هو قادر على حمل السلاح في منطقة البطانة. 

وأنكرت قوات الدعم السريع في بيان قتلها المواطنين، متحدثة عن أنها تواجه مسلحين مشددة على أنها ستضرب بيد من حديد كل من يحمل السلاح. كما حاولت قوات الدعم السريع في بيانها ربط ما يجري في الجزيرة بقائدها المنشق، أبو عاقلة كيكل.  

وسط هذه الأجواء القاتمة التي خلفها انضمام كيكل وقواته إلى الجيش السوداني الأحد الماضي، وضعت قوات الدعم السريع الموالية لحميدتي، كل ثقلها العسكري في الجزيرة في مواجهة المدنيين، إذ لم يكف عناصرها عن ترديد اسم «كيكل» في كل انتهاك يرتكبوه، ناظرة إلى كل مواطن على أنه جزء من «كيكلها» المنشق.

«بيم ريبورتس» تستطلع آراء قانونيين وتجمع تفاصيل من مصادر في بحري بشأن «إعدامات الحلفاية»

6 أكتوبر 2024 – اتهمت أحزاب ومنظمات حقوقية سودانية، مجموعات تقاتل مع الجيش، بارتكاب جرائم قتل خارج نطاق القانون، بالتزامن مع سيطرته على منطقة الحلفاية بمدينة بحري شمالي العاصمة الخرطوم الأسبوع الماضي، وهو الأمر الذي نفاه الجيش من جهته في تصريح للناطق الرسمي باسمه، نبيل عبدالله لـ«بيم ريبورتس» كما نفت لجان المقاومة والتغيير -حلفاية الملوك في بيان السبت ماقالت أنه شائعات بسقوط شهداء من متطوعي الغرفة من قبل القوات المسلحة.

الاتهامات بتنفيذ إعدامات جماعية خارج نطاق القانون انضم إليها أيضًا خبير الأمم المتحدة المعين من المفوض السامي لحقوق الإنسان حول السودان، رضوان نويصر، معلنًا  أن أعداد القتلى وصلت لـ 70 شابًا حسب التقارير.

في المقابل، يطرح محامون تحدثوا إلى «بيم ريبورتس» المسار القانوني لفتح تحقيق في مثل هذا النوع من الاتهامات. يقول المحامي نبيل أديب لـ«بيم ريبورتس»، أن أعضاء القوات المسلحة يخضعون في ممارستهم للعمليات العسكرية للقانون العسكري الوطني وللقانون الدولي الإنساني على السواء بالاضافة لخضوعهم لأحكام القانون الجنائي السوداني.

فيما يقول المحامي والمدافع الحقوقي عبد الباسط الحاج، إن عملية إثبات الجرائم المماثلة لهذه الاتهامات، لها طرق كثيرة، بينها التحقيقات المستقلة سواء عبر منظمات وطنية مهمة مشهود لها بالاستقلالية والكفاءة، أو عن طريق باحثين في التحقيقات، أو خبراء لجمع الأدلة والتحقيق مع ضحايا النزاعات وغيرها من  المتطلبات الأخرى.

في السياق، دعا الخبير الأممي المعني بحقوق الإنسان في السودان،رضوان نويصر، إلى إجراء تحقيق في عمليات القتل، ومحاسبة الجناة وفقًا للمعايير الدولية ذات الصلة، وقال «حتى للحرب قواعد، ويجب أن يتوقف الإفلات من العقاب».

وكان الجيش السوداني قد عبر الجسور النيلية إلى مدينتي الخرطوم وبحري الأسبوع الماضي ليكتسب أراضٍ في منطقة المقرن بالخرطوم، كما سيطر على منطقة الحلفاية شمالي الخرطوم التي يوجد فيها سكان، كانوا تحت حصار قوات الدعم السريع منذ اندلاع الحرب.

وكانت تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية «تقدم» قد اتهمت الثلاثاء الماضي مجموعات تقاتل إلى جانب الجيش ـ لم تسمها ـ بتصفية وقتل عشرات المدنيين خارج نطاق القانون عند دخولها منطقة الخرطوم بحري.

تنديد بارتكاب جرائم قتل خارج نطاق القانون

كذلك اتهم حزب الأمة ومجموعة محامو الطوارئ في بيانات منفصلة الثلاثاء عناصر من الجيش السوداني ومجموعات تقاتل في صفوفه، بينها لواء البراء بن مالك، بارتكاب انتهاكات شملت جرائم قتل خارج نطاق القضاء وعمليات اعتقال تعسفية في منطقة الحلفايا بالخرطوم بحري، قالت إنها شملت المتطوعين في المطابخ الخيرية «التكايا»، بالإضافة إلى القتل والاستهداف على أساس الإثنية.

وأظهر مقطع فيديو اطلعت عليه «بيم ريبورتس» جنودًا يرتدون زي الجيش وهم يتحدثون بلغة تهديدية وسط أشخاص ملقون على الأرض في أحد المنازل يبدو أنهم قتلى أو مصابين حيث تظهر آثار الدماء. 

وأمس السبت نفت  لجان المقاومة والتغيير – حلفاية الملوك- سقوط قتلى بين متطوعيها على يد الجيش السوداني ووصفت الأقاويل المتداولة عن ذلك “بالشائعات”.

مصادر: لم يتم استهداف المتطوعين…والإعدامات طالت بعض الأشخاص بتهمة التعاون مع «الدعم السريع»

في المقابل، تحدثت «بيم ريبورتس» مع 3 مصادر مطلعة من بحري  للاستفسار حول تنفيذ الجيش السوداني إعدامات بحق مدنيين ومتطوعين في المطابخ الخيرية «التكايا» في منطقة الحلفاية بمدينة الخرطوم بحري بتهمة التعاون مع قوات الدعم السريع. 

أكدت المصادر كل على حدة لـ«بيم ريبورتس» إعدام عدد من المواطنين بتهمة التعاون مع الدعم السريع.

  • وقال المصدر الأول إن الذي يحدث في الحلفاية وبحري، بدأ مع دخول الجيش في يوم السادس والعشرين من سبتمبر الماضي إلى الحلفاية ومن ثم سيطر عليها وحاليًا في تخوم شمبات الأراضي.

وأضاف بعد سيطرة الجيش على الحلفاية بدأ في تمشيط المنطقة، مشيرًا إلى حدوث تصفيات لبعض مواطني الحلفاية، إلا أنه ليس بينهم متطوعين أو عاملين في المطابخ الخيرية حتى اللحظة (يوم الثلاثاء) تاريخ حديثنا مع المصدر، مؤكدًا أنهم بخير ولم يتم تصفيتهم أو اعتقالهم. 

في الوقت نفسه أكد حدوث تصفيات لمواطنين آخرين من سكان الحلفاية بتهمة أنهم متعاونين مع قوات الدعم السريع.

وشدد المصدر أنه لا يستطيع أن يجزم ما إذا كانوا متعاونين أم لا قبل أن يقول إنه لا يستطيع تأكيد عدد الذين تم إعدامهم، لأن التواصل مقطوع بالإضافة إلى عدم استقرار الوضع الأمني لذا لم يتأكدوا بعد من عدد القتلى، مؤكدًا أن التصفيات شملت بعض معارفه في الحي.  

  • أما المصدر الثاني فقال إن الجيش منذ وصوله للحلفاية دخل إلى البيوت وطلب من السكان الخروج من المنطقة.

وذكر المصدر أن قوات الجيش واجهت شباب بتهم التعاون مع قوات الدعم السريع بناء على أشكالهم وإثنياتهم، خصوصًا الموجودين دون أسرهم، مضيفًا أنه تم قتل 3 من الشباب العزل بالرصاص داخل أحد المنازل بعد اتهام اثنين منهم بالتعاون مع الدعم السريع وإطلاق النار عليهم، بينما قتل الثالث عند حضوره من المنزل المجاور بعد سماعه صوت الرصاص.

  • وأكد مصدر ثالث من بحري إعدام مواطنين – لم يحدد عددهم- قال إن بينهم متعاونين مع الدعم السريع، بالإضافة إلى آخرين لا علاقة لهم بالدعم السريع. قبل أن ينفي أن تكون الإعدامات قد طالت متطوعين في «التكايا».

الجيش ينفي ويتهم «تقدم» بترويج الأكاذيب ضده

الناطق الرسمي باسم الجيش

من جانبه، نفى الناطق الرسمي باسم الجيش، نبيل عبد الله، هذه الاتهامات قبل أن يتهم بدوره تحالف «تقدم» بترويج الأكاذيب ضد الجيش، في وقت لم يرد على سؤال «بيم ريبورتس» بشأن فتح تحقيق في الحادثة. 

حزبا الأمة القومي والبجا المعارض ومحامو الطوارئ يدينون

الأمين العام لحزب الأمة

في المقابل، أدان حزب الأمة بشدة «هذه الجريمة البشعة والفعل الإجرامي» متهمًا مجموعات إرهابية من عناصر النظام البائد بارتكابها.

 وأكد أن ما حدث يشكل «وصمة عار يتحمل مسؤوليتها الجيش المعني المعنية بحماية المدنيين وفق الأعراف والقوانين»، لافتًا إلى أنه يضع أمام مخالفة المواثيق الدولية.

وطالب البيان قيادة الجيش بحسم مثل هذه «الجرائم المروعة» والتحقيق العاجل والشفاف فيها وتقديم مرتكبيها للعدالة والالتزام بحماية المدنيين.

وفي السياق، قال مؤتمر البجا المعارض «ببالغ الحزن والغضب تلقينا خبر الإعدامات الوحشية التي نفذتها ـ مليشيا كتائب البراء ـ الإرهابية بحق الشباب الأبرياء الذين كانوا يعملون في تكايا بحري لتقديم المساعدة للمدنيين المتضررين من الحرب».

وطالب البيان «كل الشرفاء ومنظمات حقوق الإنسان بإضافة هذه الجريمة إلى السجل الحافل بالانتهاكات التي ارتكبت بحق الأبرياء»، مؤكدًا على ضرورة تشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة لضمان محاسبة الجناة وإغلاق باب الإفلات من العقاب.

فيما قالت مجموعة محامو الطوارئ، إن مصادرها، أفادت بارتكاب قوات لواء البراء بن مالك وأفراد من الجيش انتهاكات جسيمة شملت جرائم قتل تستند إلى أسس عرقية ومناطقية سميت بالمحاكمات الميدانية واعتقالات تعسفية.

وأكدت أن بعضها جاء استجابة لدعوات التحريض والكراهية بذريعة التعاون مع قوات الدعم السريع، حسبما ذكر بيانها.  

وأضافت أن هذه الأفعال تمثل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني وترقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية وفقًا للمعايير الدولية المعترف بها بموجب اتفاقيات جنيف لعام 1949 لاسيما المادة (3) المشتركة.

وتابعت أن هذه الانتهاكات تشكل خرقًا واضحًا للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية خاصة المادة (6) التي تضمن الحق في الحياة وتحظر أي إعتداء على هذا الحق”.

وأكدت على ضرورة التحرك السريع والفوري لوقف هذه الجرائم وضمان حماية المدنيين في كافة المناطق المتأثرة بالنزاع لافتة إلى أن إستمرار هذه الإنتهاكات دون محاسبة يعزز مناخ الإفلات من العقاب ويزيد من تدهور الأوضاع الإنسانية والأمنية.

خضوع أعضاء الجيش للقانون العسكري الوطني والقانون الإنساني الدولي والقانون الجنائي السودان

المحامي نبيل أديب

قال المحامي نبيل أديب لـ«بيم ريبورتس» ، إن أعضاء القوات المسلحة يخضعون في ممارستهم للعمليات العسكرية للقانون العسكري الوطني والقانون الدولي الإنساني على السواء، بالإضافة لخضوعهم لأحكام القانون الجنائي السوداني.

وأوضح أن الجهة المختصة بمحاكمة من يواجهون إتهامات منهم، وفقًا لأي من القانونين، هو القضاء العسكري السوداني، ما لم يقرر قائدهم إحالتهم للمحاكمة بموجب أحكام القانون الجنائي للمحكمة الجنائية المختصة، وذلك ردًا على سؤالنا حول ما هي الطريقة لإثبات ارتكاب جرائم بواسطة الجيش في الحلفايا.

وأضاف أديب – ردًا على سؤالنا حول كيفية توثيق مثل هذه الجريمة أو الإدعاء وما هو المطلوب من الجيش في هذا الموقف – أن الجهة المختصة بالتحقيق في تلك الجرائم وتوجيه الاتهامات هي فرع التحقيق الجنائي في القضاء العسكري ويرأسه المدعي العام العسكري .

ولفت أديب إلى أنه يتم تعيين ضباط فرع القضاء العسكري من بين خريجي كليات القانون ممن اجتازوا امتحان تنظيم مهنة القانون بواسطة فرع القضاء العسكري ويتم تعيينهم عبر رأس الدولة بناءً على توصية القائد العام.

التحقيق مع ذوي الضحايا والشهود

في السياق قال المحامي والمدافع الحقوقي، عبد الباسط الحاج لـ«بيم ريبورتس»، إن عملية إثبات الجرائم المماثلة لها طرق كثيرة، بينها التحقيقات المستقلة سواء عبر منظمات وطنية مهمة مشهود لها بالاستقلالية والكفاءة تبحث وتعمل تحقيق شفاف عن طريق باحثين في التحقيقات أو خبراء لجمع الأدلة والتحقيق مع ضحايا النزاعات وغيرها من المتطلبات الثانية.

وأشار إلى أنه من ضمن الطرق لإثبات ذلك أيضًا التحقيق مع ذوي الضحايا والشهود الذين كانوا موجودين في المكان المحدد قبل أن ينوه إلى أن هذه المسألة في الوقت الراهن لها خطورة، خاصة كون المنطقة نفسها بها اشتباكات ومسألة خروج المدنيين منها لمكان آمن بها صعوبة.

وتابع الحاج «لكن يمكن إثبات ذلك من خلال التحقيقات وليس من خلال إطلاق الاتهامات والمحاكمة في وسائل التواصل الإجتماعي والإعلام»، مشيراً إلى أن هذه المسالة مرفوضة بدون وجود تحقيقات تثبت هذه الادعاءات، مشيرًا إلى أن الغموض ما يزال يحيط بالموضوع في مستوى المعلومات المتوافرة حوله، بخلاف بعض الانتهاكات والفيديوهات التي تنشر هنا وهناك والتي يظهر فيها أشخاص فيمكن القول بعدها أن هناك معلومات مبدئية حولها».

وأردف «إذا كانت هذه الادعاءات فيها معلومات أولية تشير إلى تورط الجيش أنصحه بفتح تحقيقات مستقلة ومحاسبة الجنود والمسؤولين المتورطين، على الأقل هذا التحقيق ينفي مسؤولية القادة في المراكز العليا».

ولفت إلى أن فتح تحقيق في هذا الموضوع من مصلحة الحكومة، مشددًا على أن مسألة التكتم والتستر على مثل هذه الأحداث، إذا كانت حقيقية، يشير إلى أن هناك سياسة متبعة من الجيش مشددًا على أنه يجب ورود هذه الاتهامات في سجل الجيش.

تحقيق وفقًا للمعايير الدولية

رضوان نويصر

وعلى خلفية هذه الأحداث، دعا خبير الأمم المتحدة المعين من المفوض السامي لحقوق الإنسان حول السودان ،رضوان نويصر، الجيش السوداني، والحركات المسلحة، وقوات الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها إلى «اتخاذ تدابير فورية لضمان حماية المدنيين في منطقة الخرطوم الكبرى». 

وأعرب نويصر عن قلقه إزاء التقارير التي تفيد بإعدام «عشرات الشبان بلا محاكمة من حي الحلفاية في الخرطوم شمال، على يد الجيش السوداني وكتيبة البراء بن مالك»، وأضاف أن أعداد القتلى وصلت لـ 70 شاب حسب التقارير.

وحث نويصر جميع أطراف الحرب على احترام التزاماتهم بموجب القانون الإنساني الدولي، بما في ذلك التزامهم بضمان عدم حرمان أي شخص من حقه في الحياة بشكل تعسفي، كما دعا إلى إجراء تحقيق في عمليات القتل، ومحاسبة الجناة وفقاً للمعايير الدولية ذات الصلة، وأضاف «حتى للحرب قواعد، ويجب أن يتوقف الإفلات من العقاب».

قوات «الدعم السريع» تمزق الحياة في توتي بعد 15 شهرا من تحويلها لثكنة عسكرية

 

26 أغسطس 2024 – بعد أكثر من عام على فرض قوات الدعم السريع سيطرتها على جزيرة توتي المنطقة المدنية الواقعة في قلب العاصمة السودانية الخرطوم لم تعد تعمل فيها إلا حوالي 10 محال تجارية ومركز صحي تخدم قلة من سكانها الذين ظلوا يعيشون هناك على مدى قرون محاطين بمياه النيل من كل اتجاه. 

 

تمزقت توتي منذ مايو من العام الماضي بحكم استبدادي مارسته قوات الدعم السريع على سكانها قتلا ونهبا واغتصابا وحصارا.

 

وقال ثلاثة مصادر من سكان توتي لـ«بيم ريبورتس»، إنه يوجد في الجزيرة حاليًا حوالي 10 محال تجارية تعمل، ثلاثة منها عند المحطة الرئيسية وأربعة بالقرب من المسجد الكبير وفي فريق فور (فرق الإمام) ومع ذلك توفر سلعًا بسيطة ويعاني أصحابها في إحضار المواد. إذ عليهم الذهاب عبر النيل إلى بحري لجلبها. 

 

وتشهد توتي بشكل مستمر عمليات نهب وسرقة للسكان حيث لم يسلم منزل من قوات الدعم السريع وتضييق على المواطنين وتنفيذ اعتقالات قسرية وفرض حظر التجوال الذي عُدلت مواعيده إلى الخامسة مساءً، بحسب المصادر.

تكايا مهددة بالتوقف

 

مثلها مثل بقية المناطق المدينة المتضررة من الحرب اتخذ سكان توتي من التكايا، أسلوبًا لتوزيع الطعام على أكبر قدر من الناس.

 

والتكايا هي نظام تكافل اجتماعي يتم فيه إعداد الطعام وتوزيعه بشكل جماعي مجانا وزادت الحاجة إليها مع حالة الجوع التي تسببت بها الحرب.

 

تم فتح التكايا في توتي منذ الأسبوع الأول للحرب بتبرعات المواطنين وكانت تقدم العدس والفول بدون خبز، ولاحقًا اعتمدت اعتمادًا كليًا على أبناء الجزيرة المقيمين خارج السودان في دعمها.

لكن قوات الدعم السريع لم تكتفِ بمضايقتهم أمنيًا فحسب بل أصبح أفرادها يشاركون المواطنين في الطعام بنهبه بالقوة، وقال المصادر الثلاثة لبيم ريبورتس إن التكايا مهددة بالإغلاق.

 

وأضافت المصادر أن قوات الدعم السريع نهبت مواد تموينية تم إنزالها من قبل الجيش منها دقيق الخبز ومن ثم قامت ببيعه للمواطنين بواقع ألفي جنيه سوداني للكيلوجرام.

 ومع استمرار حصارها على المنطقة تشددت قوات الدعم السريع في إعطاء تصريحات للخروج من توتي لشراء المؤن كما منعت خروج الأسر حتى بمبالغ مالية.

مركز صحي وحيد

يوجد في جزيرة توتي مركز صحي واحد يعمل في ظل ظروف عصيبة منذ بداية الحصار. 

وبحسب المصادر، فإن الوضع في المركز الصحي مترد وسط شح في الأدوية بالإضافة إلى انقطاع الكهرباء المستمر وهو ما أدى إلى تشغيله بالطاقة الشمسية لكنها لا تكفي حاجة كل المركز.

 في وقت يوجد معمل الفحوصات خارج المركز وكان يعمل به طبيب مختبرات يتبع للدعم السريع عمل فيه لمدة سبعة أشهر ثم غادر. 

يُشار إلى أن القابلة الوحيدة التي كانت تعمل بالمركز توفت ولا توجد به طبيبة نساء وتوليد، في الوقت الحالي.

 

 ووفق المصادر، فإن عدد الأسر التي نزحت من توتي بصعوبة بسبب الأحداث 209 أسرة بينما يبلغ عدد المعتقلين في سجون الدعم السريع بسوبا والرياض 30 شخصًا بالخرطوم توفي منهم ما يزيد عن خمسة.

 في وقت لا تزال مئات الأسر التي فضلت البقاء في توتي تعايش أوضاعًا أمنية ومعيشية صعبة، بينما تواصل الدعم السريع استباحة الجزيرة. 

 

ويوم السبت قبل الماضي أشار بيان صادر عن أبناء جزيرة توتي بالخارج عن تواتر أنباء لهم تفيد بمقتل ستة من أبناء المنطقة كانوا محتجزين قسريًا في معتقلات الدعم السريع ، كما أشار البيان إلى اختطافها 25 شخصًا منهم مرضى وكبار سن بحاجة للرعاية الصحية.

 

ومنذ الأيام الأولى للحرب تحاصر قوات الدعم السريع المواطنين وتمنع الدخول والخروج من الجزيرة بعد سيطرتها على جسر توتي الأمر الذي خلف أوضاعًا إنسانية صعبةً وشح المواد التموينية والخدمات الطبية وتوفر الأغذية للسكان بل ووصل الأمر إلى صعوبة دفن الموتى.

 

وبتاريخ 31 مايو العام الماضي قالت مجموعة محامو الطوارئ إن الدعم السريع تحاصر الجزيرة لليوم الثامن على التوالي من خلال إغلاق جسر توتي بالإضافة إلى إطلاق النار على كل من يقترب من ضفاف النيل محاولاً الخروج من المدينة.

 

أيضاً ذكر البيان أن القوات أطلقت النار على أحد عمال الكمائن مما أدى إلى وفاته كما منعوا دفن الموتى في مقابر حلة حمد واضطر الأهالي إلى دفن موتاهم في الجزيرة بالإضافة إلى منعها خروج الحالات المرضية الحرجة والوصول للمستشفى.

بداية الحصار

في الأول من مايو 2023 تم دخول أول قوة للدعم السريع الجزيرة ومنع المواطنين من الخروج وبعد استيلاء الدعم على الجزيرة بأربعة أيام بدأت بوادر شح المواد التموينية بما فيها ملح الطعام، لكن سكان المنطقة كانوا يدبرون أمورهم بالخروج  بالمراكب إلى بحري، أيضاً تشهد المنطقة انقطاع الكهرباء والمياه منذ مايو 2023.  

 

مع اشتداد الحصار على الجزيرة وتقييد الدعم السريع حركة مرور المواطنين والسلع الاستهلاكية والأدوية، لجأ السكان إلى التحرك بقوارب إيجارها 5 آلاف عن طريق النيل إلى حلة حمد والصبابي وحلة خوجلي بعد دفع مبلغ 1200 أو 1800 للأسرة الواحدة بتصريح من قائد الدعم السريع في توتي.

 

ولاستجلاب المؤن الغذائية إلى المنطقة المنكوبة منذ بدايات الحرب يدفع تجار توتي مبالغ كبيرة لأخذ تصريح من الدعم السريع ليوفر لهم عربة كبيرة (دفار) توصلهم إلى السوق المركزي جنوبي الخرطوم.

وفيات واغتصاب

مع استمرار الحصار يوماً عن يوم، سجلت الجزيرة عددًا من الوفيات بسبب ضعف الخدمات وانعدام الأمن، حيث أشارت هيئة محامي الطوارئ مطلع أكتوبر العام الماضي إلى تلقيها شكاوى عن وفاة مواطنين قائلة: “الحصار أدى إلى تجويع مواطني الجزيرة ووفاة البعض نتيجة انعدام الرعاية الصحية ونقص الدواء والغذاء وتلقينا شكاوى أكدت وفاة ثلاثة مواطنيين بينهم طفلة مصابة بالسكري ولم تحصل على جرعة الأنسولين.

 

“إن أهل الجزيرة صبروا على نهب ممتلكاتهم وسياراتهم والتضييق لكن الأمر تجاوز الحدود عندما وصل لانتهاك الأعراض والحرمات ولا ينبغي السكوت عليه”، قال إمام مسجد توتي خلال خطبة صلاة عيد الفطر الماضي في أعقاب قيام أفراد من الدعم السريع باغتصاب  فتاة تحت تهديد السلاح في التاسع من أبريل الماضي.

 

واعتدت الدعم السريع على المواطنين السلميين الذين تجمعوا في مسجد توتي للاحتجاج على الحادثة والتطورات الخطيرة لقوات الدعم السريع بحقهم مما تسبب في مقتل طفل وإصابة 6 آخرين.

 

واستمرت الأوضاع كما هي في توتي حتى لحظة استعادة الجيش السوداني مقر الإذاعة والتلفزيون في أم درمان بعد نحو 11 شهراً من القتال، حيث كثفت الدعم السريع بعدها عملياتها في توتي وفق ناجين من الجزيرة تحدثت معهم بيم ريبورتس ونفذت اعتقالات كثيرة وبلغ عدد المتوفين جراء الحصار وانعدام الرعاية الصحية  حوالي 100 شخص.

 

وتقع جزيرة توتي عند نقطة التقاء نهري النيل الأزرق والأبيض في العاصمة الخرطوم وتحيط بها  مدن العاصمة الثلاث وتبلغ مساحتها تسعمائة وخمسين فدانًا وتشتهر بجمال الطبيعة الخلاب وتتميز بشواطئها ذات الرمال البيضاء.

«15» شهراً من بدايتها.. كيف تطارد محنة الحرب اللاجئين السودانيين في مصر؟

 «انفتح باب مفوضية تسجيل اللاجئين، وتوجهت الموظفة بالحديث إلينا، نحن مئات المتكدسين منذ الصباح الباكر أمام وحول مبنى المفوضية، وقالت بكلمات قليلة حفظناها من شدة التكرار: أكتمل العدد لليوم، وعليكم القدوم غداً للحصول على موعد آخر».

 

هذا ما قاله عامر الهادي – اسم مستعار- ، في إفادته لـ«بيم ريبورتس» عن معاناته المستمرة لأربعة أشهر، وذلك بعد دخوله مصر هو وأسرته عن طريق الحدود البرية بين البلدين، وذلك هرباً من وطأة الصراع المستعر في السودان، بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منذ الخامس عشر من أبريل 2023.

 

فمع بداية الحرب آثرت أسرة عامر البقاء في منزلها بأم درمان (حي الفتيحاب)، ولكن بعد أشهر من اشتداد وطأة الصراع وصعوبة الحصول على علاج والده المريض بالقلب، ووصول الاشتباكات المسلحة إلى حيهم، قرروا أخيرًا الخروج من منزلهم والذهاب إلى الولاية الشمالية التي لم يكن فيها الوضع مختلفًا كثيرًا في صعوبته، وربما أكثر قسوة في الحصول على مسكن مع غلاء الإيجارات ومحدوديتها، علاوة على انتفاء مصادر الدخل والعمل، الأمر الذي حدا بهم لأن يقرروا أخيرًا السفر إلى القاهرة عبر الطريق البري.


واليوم، مع دخول الحرب عامها الثاني، فإن التقارير تفيد بأن هناك 5 ملايين سوداني على حافة المجاعة، بينما 18 مليون يواجهون الجوع الحاد، في أزمة إنسانية جسيمة تقع على عاتق السودانيين والسودانيات بشكل يومي، وهو ما يجعل الوضع الإنساني في السودان يوصف بالمأساة، وقد قدرت الأمم المتحدة أن تكلفة الاستجابة لهذه الأزمة يقدر بحوالي 2.7 مليار دولار، لم يتوفر ويدعم منها سوى 6% فقط من إجمالي التكلفة الكلية.

الحرب والشتات

تسببت الحرب في تهجير ما يزيد عن 10 ملايين سوداني من منازلهم، وبحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة والمنظمة الدولية للهجرة، فإن عدد الذين عبروا حدود السودان إلى دول الجوار المختلفة (مثل مصر وتشاد وجنوب السودان وإثيوبيا وجمهورية إفريقيا الوسطى) يزيد عن الـ 1.8 مليون سوداني، منهم 500 ألف وصلوا مصر حتى تاريخ أبريل 2024، في رحلاتٍ واجهوا فيها مخاطر جمة في رحلات نزوحهم، بدءاً بالخروج من أحيائهم ومدنهم التي تشهد اشتباكاتٍ مسلحة، من انتشار للجنود المسلحين ونقاط التفتيش، وتعطل الخدمات المصرفية وانعدام السيولة.

 

 علاوة على شح الوقود وارتفاع أسعار تذاكر السفر البري إلى 10 أضعاف، وليس انتهاءً بالمتطلبات والإجراءات الحدودية التي وقفت عائقًا أمامهم في المعابر الحدودية بين السودان ومصر.

 

 في مدينة حلفا ومعبر أرقين البري، حيث تكدس المواطنون في انتظار الحصول على تأشيرة، وسط أوضاع مأساوية وشكاوى من تردي الخدمات وبطء الإجراءات المطلوبة للدخول، والتي استغرقت  لبعض الأشخاص أكثر من شهر ولم يتمكن البعض الآخر من إكمال إجراءاته.


 وهنا حيث ظهرت بدائل غير رسمية أخرى لعبور الحدود، خاصة مع توقيف الخارجية المصرية التعامل بوثائق السفر المؤقتة، والتي كانت هي الأمل الوحيد للسودانيين الذين لم يتسن لهم تجديد جوازاتهم أو إحضار مستنداتهم الرسمية اللازمة للسفر.

الطريق إلى مصر قبل الحرب

كان تنقل المواطنين السودانيين والمصريين بين البلدين يسيرًا ولا يتضمن تعقيداتٍ كبيرة، خاصة ضمن اتفاقية الحريات الأربع، الموقعة بين البلدين في العام 2004، والتي تكفل لمواطني البلدين حرية التنقل والعمل والتملك. 

ووفق هذه الاتفاقية فإن كافة النساء، والفتيات السودانيات في عمر أقل من 16 والرجال فوق عمر الـ 49 معفيون من الحصول على تأشيرة من أجل التواجد في الأراضَ المصرية، بينما تحصل عليها الفئات الأخرى من القنصلية المصرية في السودان.

 

لكن مع بداية تدفق اللاجئين السودانيين إلى مصر، علاوة على وجود لاجئين من دول أخرى، وبعد أربعة أشهر من اندلاع الحرب في السودان، أصدر رئيس الوزراء المصري في نهاية أغسطس 2023، قراراً بالرقم 3326، والذي يلزم جميع الأجانب الذين دخلوا إلى مصر بطريقة غير رسمية  بضرورة توفيق وتقنين أوضاعهم في غضون ثلاثة أشهر.

 ولكن بعد اندلاع الحرب في السودان، في 15 أبريل 2023، استحدثت الحكومة المصرية إجراءات جديدة فيما يخص دخول السودانيين إلى مصر، حيث فرضت على كل السودانيين، في أواخر شهر مايو 2023، ضرورة الحصول على تأشيرات دخول مسبقة.


وبالرغم من مناشدة جهات دولية السلطات المصرية بضرورة تسهيل عبور الفارين من الحرب للحدود، وعدم وضع العراقيل أمامهم، إلا أن السلطات المصرية، منذ سبتمبر 2023، شنت حملة اعتقالات قسرية على اللاجئين السودانيين ورحلتهم إلى السودان، دون اتباع الإجراءات الواجبة أو إتاحة أي فرصة لطلب اللجوء، حيث تشير التقديرات إلى أن حوالي 3 ألف لاجئ سوداني رحلوا من مصر إلى السودان في شهر سبتمبر 2023.

الحصار الداخلي وزيادة النزوح

مع دخول الحرب في السودان عامها الثاني، واستعار الاشتباكات المسلحة وانتقالها إلى مدن ومناطق جديدة (مدني والنيل الأبيض وسنجة وسنار) يجد الملايين من السودانيين في ولايات وأقاليم السودان المختلفة أنفسهم محاصرين بالمجاعة والعنف وعدم الأمان وغياب الوسائل المعيشية والخدمات الصحية، والسؤال الأكثر الحاحاً: إلى أين نذهب؟. 

 

وبرغم أن هذا السؤال كان حاضرًا منذ انطلاق الرصاصة الأولى للحرب في العاصمة السودانية، الخرطوم، إلا أن الإجابات عنه، والاستجابة له كانت متفاوتة وترتبط بالوضع الاقتصادي والاجتماعي للأسر والأفراد المختلفين، وهو ما جعل من عمليتي النزوح واللجوء موجات مختلفة ومتباينة. فالذين كان لهم القدرة إلى اللجوء في بدايات الحرب لم يواجهوا التعقيدات الحالية، والتي تتوقع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن تساهم  في تدفق 860 ألف لاجئ وعائد من السودان في الشهور المقبلة.

احتجاجات واعتقالات في ظروف قاسية

بدأت الاعتقالات التي يتعرض لها السودانيون بعد الحرب منذ سبتمبر من العام الماضي، وذلك بعد القرارات الجديدة التي انتهجتها السلطات المصرية، حيث تعرض السودانيين للاعتقال أثناء سفرهم بعد دخولهم الحدود المصرية، في محافظة أسوان، ومن المستشفيات التي كانوا يتلقون فيها العلاج جراء إصاباتهم في حوادث سير. وزادت حدة الاعتقالات في الشهور اللاحقة لتشمل حتى الذين ينتظرون مواعيد تسجيلهم في مفوضية اللاجئين، وأعيدت أعداد كبيرة، قدرتها منظمة العفو الدولية بـ 800 شخص إلى السودان، دون امتلاك حق الإستئناف أو الاعتراض على هذا الترحيل.

كيف أصبحت «فاشر السلطان» العاصمة التاريخية لدارفور محط أنظار السودانيين؟

20 يوليو 2024 – في لحظة فارقة من أزمنة السودانيين القاسية، أصبحت مدينة الفاشر عاصمة دارفور التاريخية، محط أنظار السودانيين منذ مايو الماضي وسط حرب مشتعلة للشهر السادس عشر على التوالي توزع الموت والنزوح واللجوء والخراب على سكان 11 ولاية من أصل 18 تشكل السودان.

الفاشر، عاصمة السلطان علي دينار، الحاكم القوي وآخر سلاطين مملكة الفور والذي لجأ إلى جبل مرة واغتيل هناك في عام 1916 ببنادق الجيش الانجليزي الغازي، بعد هزيمة جيشه في معركة برنجية على تخوم الفاشر، وهي أحد أحياء المدينة حاليًا.

 ومع ذلك، ظلت مدينة الفاشر، مركز دارفور التاريخي، مكانًا رحيبًا يضم الأعراق السودانية بلا تمييز ويصهر مجتمعها. وهكذا؛ تمضي فيها الحياة، كفضاء مكاني غارق في المحبة والفنون تشده الذكريات إلى تاريخ إداري تليد وتقاليد للدولة استمرت لقرون، كان مجلس سلطانها الحربي، يتشكل من جميع الأعراق، ويوزع قمع سلطته القابضة حينها على الجميع.

وضمن إرث الدولة في سلطنته، أنشأ السلطان علي دينار الحدائق العامة وشق الطرقات ومجاري المياه وسك العملة في إطار نظم إدارية للدولة الحديثة.  

ويشكل إقليم دارفور المنكوب منذ أكثر من عشرين عامًا 20% من مساحة السودان ويعيش فيه نحو 14% من سكان البلاد البالغ عدهم نحو 42 مليون نسمة.

فيما تحتل مدينة الفاشر موقعًا استراتيجيًا في شمال دارفور، فهي حاليًا تعتبر المدينة الكبيرة الوحيدة التي يمكن الوصول إليها من مدن شمال السودان مثل الدبة، نظرًا لقربها الجغرافي من تلك المناطق، وبالتالي فهي تعتبر المدخل الوحيد لقوافل المساعدات الإنسانية القادمة من ميناء بورتسودان – على ساحل البحر الأحمر – الذي يستقبل المساعدات الخارجية في الوقت الحالي، ومن ثم يتم نقل المساعدات منها إلى بقية أرجاء الإقليم.

جغرافيًا، تحدها من الغرب دولة تشاد، ومن الشمال ليبيا، ما يجعلها في موقع استراتيجي عسكري للجهة التي تسيطر عليها، خاصة في ظل وجود فصائل مسلحة وقوات سودانية داخل حدود الدولتين الجارتين.

وبعد سقوط مدن: «نيالا، زالنجي، الجنينة والضعين» على التوالي في يد الدعم السريع نهاية العام الماضي، تضع الدعم السريع أعينها حاليًا نصب الفاشر حتى تبسط سيطرتها على كامل إقليم دارفور عدا منطقة جبل مرة التي تخضع لسيطرة حركة جيش تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور

لذلك، تسعى الأطراف المتقاتلة إلى فرض سيطرتهما على الفاشر نظرًا لأهميتها الاستراتيجية البالغة في دارفور إذ تعد بوابة بحكم موقعها الجغرافي، حيث تقع على بعد 195 كيلو مترًا شمال شرق نيالا وتربطها طرق رئيسية، بمدن: أم كدادة والجنينة وبها أهم وأكبر مراكز النزوح مثل أبوشوك وزمزم والسلام ما يعزز من أهميتها الإنسانية واللوجستية.

مدخل مدينة الفاشر، الصورة: مواقع التواصل الاجتماعي

مولد الفاشر

بعد تداعي حكم السلطان علي دينار، في عام 1916، حافظت الفاشر الواقعة في شمال دارفور والقريبة من دولتي تشاد وليبيا ومصر عبر الصحراء الكبرى والطرق البرية، على ذلك العالم الإداري والاجتماعي والروابط الاجتماعية ونما شعبها بشكل مثالي متحدًا ومتماسكًا. ومع دخول التعليم الحديث، ما فتئت الفاشر تقدم أبنائها وبناتها لعموم السودانيين في المجالات العلمية والإدارية والطبية والتجارية، لتنصهر مرة أخرى مع عموم السودان.

وبحسب مؤرخين فاشريين، فإن نشأة الفاشر كانت في نهايات القرن السابع عشر، وتميزت بأنها كانت عاصمة لسلطنات متعددة وفي العهد الحديث كانت عاصمة لمحافظة دارفور قبل الحكم الإقليمي في عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري. ثم توسعت لاحقًا وازدادت كثافتها السكانية بسبب النزوح إليها من القرى المجاورة لها هربًا من المجاعات والحروب.

كما اختلفت الروايات وتعددت حول معنى واسم الفاشر إلا أن أكثرها شيوعًا وأقواها حجة تلك التي تذهب إلى أن اللفظ يعني مجلس السلطان، كما ورد في الأعمال الأدبية والغنائية بالسودان مثل الأغنية التراثية التي تقول في «..الفاشر الكبير طلعوا الصايح» أي مجلس السلطان الكبير، والفاشر أبو زكريا، أي مجلس السلطان زكريا بن محمد الفضل والد علي دينار.

وفي السياق نفسه، عرفت الفاشر بأنها مكان إقامة السلطان أو قلعته. فهناك عدة فواشر منتشرة في دارفور مثل «فاشر قرلي» التي بناها السلطان تيراب في منطقة جبل مرة، كما شيّدت فواشر في المناطق المجاورة لها في الغرب الأوسط لإفريقيا.

وهناك رواية تقول إن الفاشر هو اسم الوادي الذي تقوم على ضفتيه المدينة بمعنى الفاخر.

وتلقب الفاشر كذلك بالفاشر أبو زكريا نسبة إلى الأمير زكريا والد السلطان علي دينار الذي كان له فضل كبير في تطويرها. ويعود تاريخ الفاشر العريق إلى أيام السلطان عبد الرحمن الرشيد ( 1787ـ 1802 ) والذي اختار رهيد تندلتي موطنًا لمملكته قبل أن يتحول اسمها إلى الفاشر.

الميارم يلعبن دورًا كبيرًا في مجتمع الفاشر، الصورة: مواقع التواصل الاجتماعي

ميارم السلطنة

كانت النساء في الفاشر في ذلك العهد، عهد السلطان علي دينار ذوات وجود وتأثير واضح المعالم، حيث توجد الميارم وهن نسوة قويات شكلن شبكة من النفوذ الاجتماعي والسياسي في عاصمة سلطنة الفور الأخيرة، وأشهر الميارم هي ميرم تاجة شقيقة السلطان علي دينار.

يقول الباحث في التراث الدارفوري، محمود الشين، إن الميارم هن العنصر النسائي في منزل السلطان ويتم إعدادهن من تنشئة وتربية على نسق نساء الدولة في العصر الحديث.

مضيفًا “لكن ما يميزهن في هذا الجانب هو الإلمام بكافة تقاليد وقيم المجتمع لأن المرأة في سلطنة الفور مسؤولة عن إعداد وتنشئة رجال الدولة بما في ذلك السلاطين أنفسهم”.

وأكد أن لقب ميرم أطلق علي سائر النساء اللائي يبدعن في إعداد وطهي الطعام، مشيرًا إلى أنها جزئية ضئيلة من مهامها الكبرى.

لكن مع مرور الزمن أصبح لقب ميرم مماثلًا للقب الكنداكة في شمال السودان، والمرأة السودانية عمومًا. 

«نكاد نجزم بأنه لا توجد قبيلة في السودان ليس لها امتداد أو تمثيل مقيم في مدينة الفاشر ومنذ عهد قديم» يقول الدكتور جبريل عبد الله أحد أشهر المؤرخين للفاشر عن مجتمعها في كتابه (من تاريخ مدينة الفاشر)، ويتابع «أما تاريخها الاجتماعي يمكننا وصفه بالتمازج والتداخل».

وتعتبر الفاشر مدينة المصاهرات المفتوحة وبها ذابت الحدود القبلية وصار أهلها يعرفون بعضهم على اختلاف قبائلهم، إذ استقرت مكونات إثنية عديدة أتت من مختلف مناطق الإقليم، وهو ما جعل مجتمعها متراحمًا ومتواددًا يرحبون بالضيوف الوافدين إلى مدينتهم للخدمة المدنية أو العسكرية، أو لأجل التجارةـ أو أية أغراض أخرى حتى صار بعضهم جزءًا من نسيجها الاجتماعي.

ومع مرور الزمن تشكل مجتمع الفاشر وحيواتها بما في ذلك من فنون ورياضة وسياسة ومسرح ودور تعكس ذلك لتنطلق في عملية تنمية بطيئة ككل السودان وخاصة أركانه البعيدة عن مركز السلطة في الخرطوم. وكما غيرها من المدن السودانية، ظلت بمنأى عن العنصرية والقبلية، وإنما تعكس قيمها الاجتماعية وفاشريتها فقط.

وفي أعقاب اندلاع حرب دارفور الأولى في السابع والعشرين من أبريل عام 2003، اهتز أمان وأمن الفاشر للمرة الأولى منذ عقود حين نفذت حركات مسلحة هجومًا على مطارها الدولي كإعلان لتمردها على السلطة المركزية، لكن سرعان ما عاد إليها هدوئها كمجتمع، رغم القبضة الأمنية الباطشة لنظام الرئيس المخلوع، عمر البشير. 

ورويدًا رويدًا تم ربطها بطريق بري بالعاصمة الخرطوم، وأصبحت أنديتها لكرة القدم أحد أعمدة الدوري السوداني الممتاز لكرة القدم، حيث شهد استاد النقعة ملاحم كروية وألتراسات صاخبة، وكانت فرق الخرطوم الرفيعة مثل الهلال، المريخ والخرطوم، تخشى ما تخشاه، أن تحل باستاد النقعة، حيث الهزائم المتتالية لها.

التعليم والفنون في الفاشر

قصر السلطان علي دينار، الصورة: مواقع التواصل الاجتماعي

تعتبر دارفور(أرض التقابة) وهي نار توقد من الحطب في الخلاوى مساءً لتعين الطلاب على حفظ القرآن بضيائها، والفاشر باعتبارها إحدى أهم مدن الإقليم، كان التعليم فيها قرآنيًا وانتشرت فيها خلاوى تحفيظ القرآن وتعليم علومه للتلاميذ، وهو من بين أقدم نظم التعليم التقليدي في السودان ككل.

وتأسست أول مدرسة فيها في العام 1916 وهي مدرسة المزدوجة الأولية ثم المدرسة الأهلية الوسطى الأميرية ومدرستي دارفور والفاشر الثانويتين وازداد عدد المدارس بعدها بإزدياد كثافة السكان، ثم أتت جامعة الفاتح من سبتمبر كهدية من الحكومة الليبية قبل أن يتم تغيير اسمها إلى جامعة الفاشر.

ويوجد بالفاشر عدد من المسارح منها مسرح نادي الفاشر وتم تحويل اسمه إلى مسرح (المجمع الثقافي)، ومسرح القيادة، إضافة إلى المسارح المدرسية، وتوجد بها عدد من الفرق المسرحية، بينها: (فرقة فنون دارفور) بإوركسترا كاملة ومغنيها العديدين الذين تغنوا بأغانيهم الخاصة من التراث الشعبي.

وكتب أبناءها وبناتها الشعر باللغات المحلية والعربية، ومنهم الشاعر عالم عباس وشقيقه حافظ، والدكتور محمد الأمين “سيكا “، وعايدة أحمد عبد القادر “ننيه”، وعواطف إسحق وأستاذ الصافي.

ومن الشخصيات العامة أيضًا الطبيب الجراح، إبراهيم حسن، الشهير بـ”كوجان” والذي كتب رواية (خور جهنم)، وأيضًا هناك المحامي محمد بدوي الذي كتب كتابًا من ثلاثة أجزاء أسماه “وجوه ” وثق فيه التاريخ الاجتماعي لشخصيات عاشت في الفاشر في مختلف الحقب. 

وتعتبر الفاشر من أبرز المدن التاريخية في السودان، وتشمل أهم معالمها، قصر السلطان علي دينار ويضم مركزاً لتحفيظ القرآن ومسجدًا ومكتبة الكترونية، بالإضافة إلى آبار حجر قدو وهناك مقولة مشهورة بحقها، وهي: “من شرب من مياه آبار قدو لا بد أن يعود ويشرب منها مرة أخرى”. أيضًا، من ضمن معالمها  الفولتيين الكبيرة والصغيرة ، سجن خير خنقا، سوق المواشي الخاص ببيع اللحم المشوي والطازج، وسوق أم دفسو الخاص بالفواكه الناتجة من جبل مرة، وأشهر ما يباع به ” المرس، الكول، السمن الطبيعي وعسل الجبل”، وسوق المدينة الكبير وبه المحال التجارية والمقاصف والدكاكين وبرج الفاشر.

أيضًا توجد أسواق أخرى مهمة مثل: (سوق الخضار، ، سوق نيفاشا، سوق المواسير والسوق المركزي).

على مستوى التجارة الحدودية، كانت الفاشر بمثابة مركز تجاري بين السودان ودول غرب إفريقيا، واشتهرت بتصدير البضائع.

وتصل البضائع والمؤن إلى الفاشر عبر الحدود مع دول غرب إفريقيا، ومن مدن أخرى في إقليم دارفور، وعبر الشمال بطريق الدبة ـ مليط.

صورة جوية لمدينة الفاشر، تصوير: محمد زكريا

عام من الحصار وأسابيع من اشتداد الحرب

يُسرع الزمن بالسودانيين وهو يحمل في جوفه المخاطر لتنفجر الحرب في الخرطوم في أبريل 2023، أي، بعد عشرين سنة تمامًا من اندلاع حرب دارفور، لتنتقل إلى إقليم دارفور، لكنها لم تصل إلى الفاشر بشكل قوي إلا في مايو الماضي، حين بدأت قوات الدعم السريع شن هجوم غير مسبوق على المدينة بهدف الاستيلاء عليها بقوة السلاح.

وعلى مدار أكثر من شهرين، تحولت الفاشر إلى محرقة استثنائية، بعدما حول القصف المدفعي الذي تشنه الدعم السريع على أعيانها المدنية، تلك البنية التحتية التي بنيت على مدار عقود من الزمن إلى رماد، وفر مئات الآلاف منها، وأصبحت العاصمة الغنية والواقعة تحت الحصار بحاجة إلى أن تطعم أطفالها وشيوخها ونسائها وكل شعبها، ولم يكن أمامهم سوى التكايا التي تحول الطعام إلى كونه حق للجميع.

والآن، تحت رماد الحرب، يحاول الجيش والقوة المشتركة والمتطوعين للدفاع عن آخر معاقل الدولة المركزية الكبرى في إقليم دارفور وسط سيل هجمات عنيفة تشنها الدعم السريع. كما أن حرب الفاشر، تعكس وجهة نظر سياسية أخرى، فبالحفاظ عليها، يعني ذلك عمليًا عدم قدرة الدعم السريع على إنشاء سلطة كاملة ومستقلة في إقليم دارفور، على غرار النموذج الليبي.

وكانت الفاشر ظلت على مدار حوالي عام تحت الحصار الذي تضربه عليها قوات الدعم السريع من حوالي ثلاثة اتجاهات خاصة بعد استيلائها على عواصم الإقليم الأخرى نهاية العام الماضي.  

وفي أواخر أبريل الماضي يبدو أن صبر قوات الدعم السريع قد نفد في محاولتها للسيطرة على كامل إقليم دارفور الذي تعادل مساحته مساحة الجمهورية الفرنسية، لتبدأ في حشد قواتها من جميع أماكن سيطرتها في أنحاء البلاد المختلفة في تخوم العاصمة الأخيرة في إقليم دارفور الخاضعة للسلطة المركزية.  

وقبل بدئها الهجوم المباشر على الفاشر، شنت الدعم السريع هجمات على ما يزيد عن 12 قرية غرب الفاشر، شملت قرى: (درماء، ازباني، كارو، جروف، حلة محمد علي ، حلة عبد الله، سرفاية، حلة خميس، ام عشوش، تركينية، جخي، ام هجاليج، جقي مقرن، جرونقا) ونزح جراء تلك الهجمات غالبية سكانها إلى مخيم زمزم بالفاشر وبلدة شقرة ومحلية طويلة.  

وتزامنًا، مع بداية تحركات الدعم السريع في اتجاه الفاشر، انطلقت التحذيرات الأممية والدولية لها بتجنب الهجوم على المدينة التي كانت مركزًا رئيسيًا لتوزيع الإغاثة والمساعدات. وحذرت الولايات المتحدة أطراف النزاع المختلفة من مغبة محاولة السيطرة على مدينة الفاشر، فيما أبدى الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش قلقه من هجوم وشيك محتمل على الفاشر، مشيراً إلى أن القتال سيؤدي إلى توسيع نطاق الصراع على طول الخطوط القبلية في أنحاء ولايات دارفور الخمس.  

بينما اعتبر المبعوث الأمريكي للسودان توم بيريلو في حسابه على منصة إكس إن الهجوم على الفاشر سيضيف زيتاً على النار التي تحرق السودان.

 أيضًا، حذر برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة من أن نافذة الوقت تضيق أمام مساعي منع حدوث مجاعة في هذه المنطقة الشاسعة، وحذرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسيف” من خطر يتهدد حياة ورفاه 750 ألف طفل في الفاشر وربما ملايين آخرين في حال شن هجوم عسكري وشيك على المدينة. وقالت إن تصاعد القتال في الولاية تسبب في خسائر بشرية مميتة بين الأطفال مشيرة إلى مقتل مالا يزيد عن 43 شخصاً بينهم أطفال ونساء في فترة أسبوعين.

ومع اشتداد حدة الصراع في مايو الماضي، أعلنت وزارة الصحة في الولاية عن مقتل  38 شخصاً وإصابة 280 في هجوم قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر بعد يومين من الاشتباكات الحادة بتاريخ 13 و 14 مايو، قبل أن يرتفع عدد الضحايا لاحقًا إلى مئات. كما تأثرت عدد من المستشفيات وخرجت عن الخدمة بينها مستشفى الفاشر للأطفال الذي تعرض لغارة جوية من الجيش 13 مايو، تسببت في انهيار سقف وحدة العناية المركزة ومقتل طفلين وفق ماذكرت منظمة أطباء بلا حدود.

ومع استمرار القتال يومًا عن يوم خرجت جميع المرافق الطبية في الفاشر عن الخدمة بعد تعرضها للاستهداف بغارات جوية للدعم السريع، لكن في المقابل ظلت أيادي المتطوعين والخيرين تحاوط المراكز وتقوم بعمليات صيانه وترميم عديدة وإنشاء عيادات جديدة رغم القصف.

تسلسل زمني للصراع الحالي في الفاشر

بدأت محاولات الدعم السريع للهجوم على المدينة منذ شهر مايو 2023 إذ تم رصد أول محاولة في نهاية الشهر وأعلن الجيش عن صده الهجمة.

  • تلا هذا الهجوم العديد من الهجمات الأخرى، ففي منتصف سبتمبر شنت قوات الدعم السريع هجومًا آخر أعلن الجيش تصديه له وقتل 30 من أفراد القوة المهاجمة.
  • شهدت الهجمات تغيرًا في استراتيجية الدعم السريع، ففي نهاية أكتوبر شنت القوات هجومًا على قيادة الجيش في الفاشر باستخدام الطائرات المسيرة، مصحوبًا باشتباكات بالأسلحة الثقيلة في عدد من الأحياء شمال شرقي المدينة. أدى هذا الهجوم إلى موجة نزوح نحو المناطق الآمنة في وسط المدينة وخارجها. 
  • تفاقمت أزمة النزوح في الفاشر بعد إعلان الدعم السريع سيطرته على حاميات الجيش في نيالا وزالنجي والجنينة، حيث أصبحت الفاشر تؤوي عشرات الآلاف من المواطنين الذين فروا إليها من ولايات دارفور المختلفة.
  • في بداية نوفمبر، حذر وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن من وجود مؤشرات على هجوم وشيك واسع النطاق لقوات الدعم السريع على المدينة، وسط تحذيرات من حدوث أزمة إنسانية ضخمة نظرًا للعدد الكبير من المدنيين المحتمين في المدينة. 
  • في 8 نوفمبر، وبعد أيام من التحذيرات الأمريكية، هاجمت قوات الدعم السريع منطقة أم كدادة بولاية شمال دارفور وسيطرت على خزان قولو، أحد أهم مصادر المياه الرئيسية في مدينة الفاشر.
  • في أبريل الماضي بدأ العد التنازلي للمعركة الكبرى حول الفاشر،بحشد الدعم السريع قواتها عند تخوم الفاشر ، في أعقاب تنفيذها عدد من الهجمات على قرى غربي الفاشر لتبدأ ضربتها المباشرة للعاصمة التاريخية في مايو.
  • بدأت الإشتباكات في الأسبوع الأول من مايو وازدادت بشكل يومي حتى بلغت أقصى مستوياتها بعد تاريخ العاشر من الشهر مما تسبب في دمار عدد من المرافق الحكومية والخاصة كما حُرقت أحياء ومنازل ومعسكرات نزوح ودفعت حدة الإشتباكات حاكم إقليم دارفور،لإعلان الإستنفارالعام في المدينة.
  • قلة حدة الإشتباكات أواخر مايو بتمكن الجيش والقوى المشتركة لحركات الكفاح المسلح الموالية له  في 27 مايو من دحر الدعم السريع وجعلها تتراجع إلى خارج المدينة بينما توزعت بعضها في أحياء قليلة شرق الفاشؤ وأصبحت الأخيرة تنتهج سياسة القصف العشوائي بالمدفعية الثقيلة  والصواريخ قصيرة المدى على أحياء المدينة والهجمات مستمرة حتى اللحظة.

مئات الآلاف نزحوا من مدينة الفاشر، الصورة مواقع التواصل الاجتماعي

على مدى أكثر من شهرين لفتت الفاشر أنظار السودانيين والعالم. فبالنسبة للسودانيين، كان ترابط مجتمع الفاشر بكل مكوناته أمرًا مثيرًا للاهتمام، رغم المعاناة الفائقة التي يواجهونا مع بدء هجوم الدعم السريع على المدينة في مايو الماضي. 

كذلك، لفتت الفاشر أنظار العالم بحجم المعاناة الإنسانية الكبيرة بسبب حصارها وانقطاع طرق قوافل المساعدات الإنسانية إليها. 

سياسيًا وعسكريًا، تمثل الفاشر نقطة الصراع الفاصلة في إقليم دارفور، لذا تبدو العاصمة التاريخية على وشك كتابة تاريخ جديد للوحدة الوطنية في السودان.

تقارير بيم: سلسلة مدن السودان

«بيم ريبورتس» تحلل تطور الصراع بـ«الفاشر» وأهميتها الاستراتيجية بالنسبة لأطراف الصراع

12 يونيو 2024 – «قتلت عائلة كاملة نتيجة لقصف قوات الدعم السريع لمنازل المواطنين في معسكر أبو شوك للنازحين في مدينة الفاشر خلال شهر مايو الماضي»، هكذا يضع أحد سكان المدينة صورة مكبرة للمآساة التي تضرب العاصمة التاريخية لإقليم دارفور منذ أبريل الماضي. 

هؤلاء النازحون الذين يعيشون بمعسكر أبوشوك ودمرت حياتهم بسبب القصف، يعيشون في المعسكرات  منذ العام 2003  في الحدود الدنيا للخدمات، ثم دُفع بهم في أتون الدمار مرةً أخرى، وكأن الحرب تلاحقهم، من مكان إلى مكان.

وكانت موجة المعارك الحالية الدائرة في الفاشر العاصمة التاريخية لإقليم دارفور غربي البلاد قد بدأت منذ منتصف أبريل 2024، بالتزامن مع إكمال الحرب بين الجيش السوداني والدعم السريع عامها الأول.

تقع الفاشر في شمال دارفور، وهي المدينة الرئيسية التي ما تزال تسيطر عليها السلطة المركزية في البلاد في كامل الإقليم الذي تعادل مساحته الجمهورية الفرنسية و تسيطر الدعم السريع على أربع من عواصمه من أصل خمس.

وتكتسب الفاشر أهمية استراتيجية وعسكرية نظرًا لموقعها الجغرافي المحوري الذي يربط السودان بثلاث دول مجاورة، وهي تشاد وليبيا ومصر. كما تعتبر الفاشر مركزًا رئيسيًا لتوزيع المساعدات الإنسانية القادمة من ميناء بورتسودان، شرقي البلاد مما يجعلها هدفًا استراتيجيًا لكافة الأطراف المتصارعة.

منذ اندلاع الصراع بين الجيش السوداني والحركات المسلحة المتحالفة معه ضد قوات الدعم السريع، شهدت الفاشر سلسلة من الهجمات المكثفة التي أدت إلى تدمير واسع ونزوح كبير للسكان. ومع تصاعد حدة الاشتباكات، تزايدت التحذيرات الدولية من كارثة إنسانية وشيكة، خاصة مع تفاقم أزمة النزوح ونقص الموارد الأساسية.

يهدف هذا التقرير إلى تحليل تطور الصراع في الفاشر واستعراض أبرز الهجمات التي تعرضت لها المدينة، بالإضافة إلى تسليط الضوء على الأهمية الاستراتيجية للفاشر بالنسبة لأطراف الصراع. بالإضافة إلى استعراض الأضرار التي تعرضت لها أحياء المدينة وبنيتها التحتية، مع تحليل مختصر لأبرز الإشاعات التي رصدها فريق «بيم ريبورتس» المرتبطة بالهجمات الأخيرة.

1. كيف تطور الصراع في الفاشر؟

لم تلبث الفاشر طويلاً حتى وصلتها نيران الصراع بعد اندلاعه في 15 أبريل 2023 في ولاية الخرطوم، حيث بدأت محاولات الدعم السريع للهجوم على المدينة منذ شهر مايو 2023، تستعرض هذه الجزئية أبرز الهجمات التي تعرضت لها المدينة قبل اجتياح الدعم السريع الأخير:  

  • تم رصد أول هجوم على الفاشر في نهاية مايو 2023، حيث أعلن الجيش عن صد هجوم لقوات الدعم السريع على المدينة أثناء محاولة الأخير التوسع في ولايات غرب وسط وشمال دارفور. 
  • تلا هذا الهجوم العديد من الهجمات الأخرى، ففي منتصف سبتمبر شنت قوات الدعم السريع هجومًا آخر أعلن الجيش تصديه له وقتل 30 من أفراد القوة المهاجمة.
  • شهدت الهجمات تغيرًا في استراتيجية الدعم السريع، ففي نهاية أكتوبر شنت القوات هجومًا على قيادة الجيش في الفاشر باستخدام الطائرات المسيرة، مصحوبًا باشتباكات بالأسلحة الثقيلة في عدد من الأحياء شمال شرقي المدينة. أدى هذا الهجوم إلى موجة نزوح نحو المناطق الآمنة في وسط المدينة وخارجها. 
  • تفاقمت أزمة النزوح في الفاشر بعد إعلان الدعم السريع سيطرته على حاميات الجيش في نيالا وزالنجي والجنينة، حيث أصبحت الفاشر تؤوي عشرات الآلاف من المواطنين الذين فروا إليها من ولايات دارفور المختلفة.
  • في بداية نوفمبر، حذر وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن من وجود مؤشرات على هجوم وشيك واسع النطاق لقوات الدعم السريع على المدينة، وسط تحذيرات من حدوث أزمة إنسانية ضخمة نظرًا للعدد الكبير من المدنيين المحتمين في المدينة. 
  • في 8 نوفمبر، وبعد أيام من التحذيرات الأمريكية، هاجمت قوات الدعم السريع منطقة أم كدادة بولاية شمال دارفور وسيطرت على خزان قولو، أحد أهم مصادر المياه الرئيسية في مدينة الفاشر، مما فاقم الأزمة الإنسانية في المدينة. خلال الشهور اللاحقة، شهدت الفاشر فترة من التوترات والتخوف من تنفيذ الدعم السريع هجومًا جديدًا على المدينة. أعلنت قوات الدعم السريع سيطرتها على الخزان مرة ثانية في 26 مايو الماضي، حيث اطلعت «بيم ريبورتس» على فديو لقائد ميدان للقوات يأمرهم بإغلاق الخزان. لم تدم سيطرة الدعم السريع طويلا حيث أعلن حاكم اقليم دارفور، مني أركو مناوي، في يوم 27 مايو أن القوة المشتركة التابعة للحركات المسلحة استعادت الخزان.

في أبريل الماضي، نفذت قوات الدعم السريع هجمات متتابعة على عدد من القرى غرب الفاشر  تمهيدًا للهجوم الأخير على العاصمة، لتبدأ ضربتها المباشرة مطلع مايو وتدخل في مواجهة مع الجيش والحركات المسلحة المنضوية تحت لواء القوة المشتركة  التي شُكِلت لتأمين المرافق في الولاية وإيصال المساعدات الإنسانية، قبل أن يعلن اثنين من قادة الحركات في نوفمبر الماضي انحيازهم للجيش في معركته ضد الدعم السريع، وهي قوات حركة جيش تحرير السودان، بقيادة، مني أركو مناوي، وحركة العدل والمساواة التي بقيادة وزير المالية، جبريل إبراهيم، بالإضافة إلى رئيس حركة تحرير السودان، مصطفى تمبور.  

بدأت الإشتباكات في الأسبوع الأول من مايو وازدادت بشكل يومي حتى بلغت أقصى مستوياتها بعد تاريخ العاشر من الشهر مما تسبب في دمار عدد من المرافق الحكومية والخاصة كما حٌرِقت أحياء ومنازل ومعسكرات نزوح.

ودفعت الهجمات الشديدة على الفاشر حاكم إقليم دارفور لإعلان الاستنفار العام في المدينة. واستمرت الاشتباكات بين الأطراف حتى 27 مايو، ومن ثم قلت حدتها بتمكن الجيش والقوة المشتركة من دحر الدعم السريع التي تراجعت إلى خارج المدينة، بينما توزعت بعضها في أحياء قليلة شرق الفاشر وأصبحت تنتهج سياسة القصف العشوائي بالمدفعية الثقيلة والصواريخ قصيرة المدة على أحياء المدينة.

2. أهمية الفاشر لأطراف النزاع

الجيش السوداني: يعتبر الفاشر المعقل الأخير له في إقليم دارفور، حيث تتمركز الفرقة السادسة مشاة التابعة له بعد سيطرة الدعم السريع على أربع من أصل خمس ولايات في دارفور. 

تحتضن مدينة الفاشر، البالغ مساحتها 802 كيلومترات مربع، ربع سكان إقليم دارفور البالغ عددهم نحو 6 ملايين نسمة، بحسب آخر إحصاء سكاني. وتعتبر الفاشر موقعًا استراتيجيًا عسكريًا للجهة التي تسيطر عليها، حيث تقع جغرافيًا في ملتقى طرق ثلاث دول مجاورة للسودان: تشاد، ليبيا، ومصر. كما يمكن الوصول للمدينة بسهولة من مدن شمال السودان مثل الدبة بالولاية الشمالية، نظرًا لقربها الجغرافي من تلك المناطق. وبالتالي، فهي تعتبر المدخل الوحيد لقوافل المساعدات الإنسانية القادمة من ميناء بورتسودان على ساحل البحر الأحمر، ومن ثم تُنْقَل المساعدات منها إلى بقية أرجاء الإقليم، بالإضافة إلى احتوائها على مطار دولي.

 

قوات الدعم السريع: تركز الدعم السريع على الفاشر في محاولة لتأمين خطوط إمداد للأسلحة عبر الحدود الغربية، مع إنشاء مركز قيادة يُسهل شن هجمات على ولايات كردفان، وتعزيز دفاعاتهم في ولاية الجزيرة، وتهديد ولايات الشرق حتى الحدود الإثيوبية.

و في حالة سيطرة الدعم السريع على المدينة، فإن أحد السيناريوهات المحتملة هو إعلان حكومة في إقليم دارفور ومناطق سيطرتهم في ولاية الجزيرة وولاية الخرطوم، مما يثير قلق الجيش. في حالة تحقق هذا السيناريو، سوف تُقسَّم البلاد بين حكومة الدعم السريع وحكومة يسيّرها قادة الجيش من مدينة بورتسودان في شرق البلاد، بالإضافة إلى السلطة المدنية للحركة الشعبية في منطقة جبال النوبة في جنوب كردفان. وقد بدأت الدعم السريع خطوات نحو هذا الاتجاه، كان آخرها افتتاح نقطة جمارك مليط بشمال دارفور وتشكيل إدارة جديدة للمنطقة.


الحركات المسلحة: تتمثل أهمية الفاشر للحركات المسلحة في جوانب أخرى، ويظهر هذا الأمر في تصريح حاكم إقليم دارفور، مني أركو مناوي، بأن دوافع الدعم السريع لدخول المدينة هي دوافع “إثنية” وليست سياسية. في هذا السياق، يمكن استرجاع تحليل وزير الإعلام السابق، فيصل محمد صالح، لصحيفة «الشرق الأوسط» في نوفمبر 2023، حيث ذكر أن اقتراب دخول الدعم السريع لولاية شمال دارفور يمكن أن يؤدي إلى استهدافهم لإثنية الزغاوة التي ينتمي إليها مناوي وجبريل إبراهيم. أضاف صالح أن انحياز حركات مناوي وجبريل قد يكون مدفوعًا جزئيًا بهذه المخاوف، مما دفعهم للخروج من حالة الحياد التي أعلنوها في بداية الحرب.

3. الانتهاكات ضد المدنيين

ازدادت حدة تدهور الوضع الإنساني المصاحب لاندلاع أحداث العنف في الفاشر منذ منتصف مايو، حيث امتدت المعارك الى المناطق التي كانت آمنة نسبيًا، ونزح ما يقارب 1,500 شخص حتى 20 مايو 2024، من أحياء القشلاق، والقاضي، والعظمة بسبب القتال بين الجيش السوداني والحركات المسلحة المتحالفة معه وقوات الدعم السريع في الأحياء الشمالية والشرقية والغربية من المدينة نحو جنوب المدينة.

وكانت معسكرات النازحين في الفاشر تعاني من ظروف سيئة من قبل الأحداث الأخيرة، بما في ذلك نقص المأوى وتدهور البنية التحتية والإمدادات الطبية.

وأفادت منظمة أطباء بلا حدود في 29 مايو أن المستشفيات الثلاثة الرئيسية في الفاشر تعرضت لأضرار بالغة. وتعرضت مستشفى الجنوب، المدعومة من منظمة أطباء بلا حدود، للقصف مرتين في الأيام الأخيرة، مما أسفر عن مقتل وإصابة العديد من المرضى وأفراد الطاقم الطبي.

وأضافت أطباء بلا حدود أنه مع تزايد القصف العشوائي في أحياء المدينة، تزايد استخدام البنية التحتية المدنية لأغراض عسكرية من قبل أطراف الحرب  ووجود عناصر مسلحين في جميع أنحاء المدينة، ما يزيد من مخاطر الحماية التي يواجهها المدنيون. وتلقت الجهات الإنسانية تقارير تشير إلى أن الاحتياجات الأساسية، بما في ذلك المياه، أصبحت بعيدة المنال لجزء متزايد من السكان المدنيين بسبب القتال المستمر

القيود على الحركة

في تقريره عن الأوضاع في الفاشر في 23 مايو، ذكر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن أغلب الطرق الرئيسية للخروج من الفاشر إما مغلقة أو تتعرض لحواجز كبيرة للحركة أو غير آمنة بسبب وجود الأنشطة العسكرية والجماعات المسلحة. وأضاف أنه في حين أن بعض التحركات خارج الفاشر باتجاه الجنوب نحو زمزم، أبو زريقة، دار السلام ونيالا ما زالت مستمرة، إلا أن التقارير تشير إلى أن المسافرين يتعرضون للتفتيش في نقاط التفتيش، علاوة على تقارير عن فرض رسوم على المدنيين الذين يحاولون مغادرة المدينة.

وتسهم المعارك وانعدام الأمن في وضع قيود طويلة الأمد على وصول المعونات الانسانية عبر الخطوط الحدودية.  وذكرت الأمم المتحدة في 23 مايو أنه منذ بداية العام 2024 وحتى الآن وصلت فقط 39 شاحنة إلى الفاشر عبر الخطوط الحدودية تنقل إمدادات الصحة والتغذية لما يقدر بـ 186,000 شخص. بالإضافة إلى ذلك، هناك 1,500 طن متري من المعونات تنتظر الموافقة على التحرك منذ ثلاثة أسابيع، ما يحرم أكثر من 94,000 شخص من المساعدة. بالإضافة إلى ذلك، توجد 13 شاحنة محملة بالمعونات الإنسانية لأكثر من 121,000 شخص تم إرسالها من بورتسودان في 3 أبريل لم تصل إلى الفاشر حتى الآن بسبب التأخير في الحصول على التصاريح عند نقاط التفتيش، وانعدام الأمن.

4. نظرة على الأحداث في الفاشر

المناطق والمعسكرات التي تعرضت للقصف:

توضح الخريطة رقم «1» واحد 36 منطقة وحي تم قصفهم خلال شهر مايو في مدينة الفاشر. اعتمد الفريق في عملية الحصر على عدد من المصادر المفتوحة منها: صفحات لجان المقاومة ومجموعات خاصة بأهالي الفاشر في موقع فيسبوك، وفي بعض الحالات تم العمل مع فريق “Bellingcat” للتحقق من عدد من الفيديوهات التي تم نشرها لأحداث الفاشر باستخدام صور الأقمار الصناعية. 

للتأكد من المعلومات التي تم جمعها من المصادر المفتوحة تواصل فريق «بيم ريبورتس» مع عدد من الناشطين والمتطوعين وسكان الفاشر للتأكد من صحة المواقع المذكورة.

خريطة رقم «1»

توضح الخريطة أيضًا معسكرات النزوح في الفاشر والتي تعرض أكبرها وأبرزها وهو معسكر أبو شوك الذي يضم قرابة 17 مركز مليئة بالفارين من نيران الحرب للقصف والنهب من قبل قوات الدعم السريع خلال فترة البحث، وبشكل عام تضم  الفاشر ثلاث معسكرات كبيرة هي:

  1. معسكر أبو شوك غرب معسكر السلام:  يقع شمال الفاشر بالقرب من حي النصر من ناحية الشمال. (كانت تدور فيه المعارك بشكل مستمر، ولكن تحولت إلى جنوب شرقي المدينة).
  2. معسكر زمزم: يقع جنوب غرب الفاشر وبعيد من منطقة الاشتباكات.
  3. معسكر أبوجا ” السلام” : متاخم لحي الشهداء بالاتجاه الشمالي الشرقي للمدينة (يعتبر طريق مفتوح لتحرك الدعم السريع إلى الولايات الأخرى). 

توضح الصورة رقم «1» تحليل مؤسسة «Bellingcat» لبيانات “NASA FIRMS” التي تظهر إشارات حرارية شرقي الفاشر في الفترة ما بين 10 إلى 13 مايو الماضي، والتي من المحتمل أن تكون ناتجة عن القتال الدائر في تلك المنطقة. تشير هذه البيانات إلى وجود نشاط حراري غير طبيعي. يمكن أن تكون هذه الإشارات نتيجة لنيران الأسلحة الثقيلة أو القصف، مما يساهم في رسم صورة أوضح عن حجم ونطاق العمليات العسكرية وتأثيرها على المناطق المدنية في الفاشر.

Img1 - Credit: NASA FIRMS annotation Bellingcat

توضح الصور رقم «2» المأخوذة بتاريخ 26 مايو الماضي إلى وجود إشارات حرارية في جنوب شرقي مدينة الفاشر.

Img2 - Credit: NASA FIRMS annotation Bellingcat

الأضرار في البنية التحتية:

توضح الخريطة رقم «2» عدد من المنشآت والمؤسسات التي تعرضت للقصف والضرر خلال شهر مايو الماضي، والتي بلغ عددها 12 منشأة، وهي: 

  • كهرباء الفاشر
  • مستشفى الفاشر التخصصي للأطفال
  •  مركز صحي بابكر نهار
  • مخازن الإمدادات الطبية لولاية شمال دارفور
  • المخازن الرئيسية لـ UNHCR
  • المستشفى السعودي للولادة (أقصى غرب المدينة).
  • سوق الفاشر
  • مستشفى نبض الحياة الخاص
  • المستشفى التعليمي
  • إذاعة الفاشر
  • بعض المكاتب الإدارية بوزارة الصحة
  • مقر حكومة إقليم دارفور

بالإضافة للمنشآت تم رصد عدد من المدارس التي تضررت خلال الاشتباك، وهي:

  •  مدرسة الاتحاد الثانوية بنات.
  • مدرسة الرباط الثانوية بنات.
  • مدرسة الإسراء الأساسية بنين.
  • مدرسة الجنوبية الثانوية بنين

كما توضح الخريطة أيضًا بعض المنشآت المهددة بالقصف خلال الفترة القادمة نتيجة لارتكاز قوات الدعم السريع فيها.

خريطة رقم «2»

صورة رقم «3» - على اليسار: صورة توضح تأثير قصف قوات الدعم السريع على الألواح الشمسية وخزان المياه في المستشفى السعودي للولادة (credit: Facebook annotation Bellingcat)، على اليمين: تعليق توضيحي مطابق للمعالم الموضحة في الصورة (credit: Google Maps 13.629360, 25.329815 annotation Bellingcat)

5. توزيع القوات داخل الفاشر

  1. مناطق توزع قوات الدعم السريع: 
    • الأحياء التي تتمركز فيها الدعم السريع شرق المدينة :
      • حي الشاكرين.
      • حي الوفاق.
      • حي الكهرباء.
      • حي الشهداء.
      • حي النخيل (سم الجراد).
      • حي المعهد.
      • حي مثاني.
      • حي الصفاء.
      • حي القاضي.
  • أحياء تمددت فيها الدعم السريع جنوب المدينة وجنوب شرق بشكل كبير:
    • الوحدة.
    • السلام.
    • البشارية.
    • التيمانات 
  1. مناطق توزع القوة المشتركة: 
    • مناطق تمركز الحركات المسلحة (القوة المشتركة):
      • مقر اليوناميد “قيادة الحركات المسلحة”،  شمال غرب المدينة 
      • حي ابشوك الحلة وليس المعسكر.
  • منطقة تقع بين تمركز الدعم السريع والحركات:
    • حي التجانية.

6. التضليل المرتبط بالأحداث في الفاشر

منذ اندلاع النزاع في أبريل 2023، تم استخدام المعلومات المضللة بشكل كبير من قبل طرفي النزاع وحلفائهم. حيث يخوض الطرفان حرب معلومات على مواقع التواصل الاجتماعي بضراوة لا تقل عن ضراوة المعارك على أرض الواقع. تم استخدام التضليل لنشر معلومات عن انقسامات داخل القوات، تضخيم حجم العمليات العسكرية والخسائر بين الطرفين، أو لتقديم روايات بديلة لبعض الأحداث وتبادل الاتهامات.

لم تكن الهجمات على الفاشر استثناءً من هذا النهج. فقد رصد فريق «بيم ريبورتس» خمسة أخبار مضللة خلال شهر مايو مرتبطة بالأحداث في الفاشر، والتي استُخدمت للتأثير على الرأي العام. 

  1. انقسامات بين الجيش السوداني وحاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي

رصدت فريق «بيم ريبورتس» تداول تصريح منسوب لحاكم إقليم دارفور، مني أركو مناوي، قائد جيش حركة تحرير السودان، حول زج «النظام البائد» لهم في هذه الحرب وسعيهم للعودة إلى الحياد. يأتي هذا الادعاء في سياق احتدام المعارك بين الجيش وقوات الدعم السريع في دارفور، حيث أعلن مناوي الاستنفار ضد قوات الدعم السريع.

نُشر هذا التصريح على صفحات عديدة في وسائل التواصل الاجتماعي بتاريخ 16 مايو، بعضها يضم أكثر من 500 ألف متابع. كما نُسب التصريح إلى مقابلة قام بها مناوي مع قناة «الحدث». إلا أن فريق «بيم ريبورتس» تحقق من أن هذا الخبر مفبرك.

في نفس سياق الإدعاء السابق، رصد الفريق تداول صورة أخرى منسوبة لقناة «الحدث» تفيد بنقل خبر عن تفاقم الخلافات بين مناوي والجيش السوداني. من الواضح أن نشر هذه الأخبار يهدف إلى زرع الشكوك حول وجود انقسامات بين صفوف الجيش السوداني وحلفائهم في حركة مناوي، التي تعتبر أحد أكبر القوى المقاتلة في الفاشر، وهو جزء من حرب المعلومات المستمرة التي تخوضها الأطراف المتنازعة.

2. العمليات العسكرية في الفاشر

رصد فريق «بيم ريبورتس» تداول صورة لعربة محترقة تابعة لقوات الدعم السريع، مصحوبة بإدعاء بأن الحدث مرتبط بالأحداث الأخيرة في الفاشر. يدعي المنشور بأن الجيش السوداني وحلفائه من الحركات المسلحة دمروا 34 عربة دفع رباعي مقاتلة (تاتشر) وقتلوا 19 من قوات الدعم السريع. بعد التحقق، أكد الفريق أن الصورة ليس لها علاقة بأحداث الفاشر، بل هي صورة قديمة نشرت أول مرة في أبريل الماضي في سياق مختلف. ورغم ارتباط الصورة بالصراع بشكل عام، إلا أن إعادة توظيفها لتصوير تقدم في العمليات العسكرية في الفاشر يعد تضليلاً.

كما رصد الفريق فيديو آخر يزعم توثيق استهداف الطيران الحربي التابع للجيش السوداني لقاعدة الزرق العسكرية التابعة للدعم السريع بولاية شمال دارفور. بعد تحليل الفيديو، تبين أن الفيديو تم نشره لأول مرة في أبريل الماضي وليس له ارتباط بالأحداث الأخيرة في الفاشر. كما حلل الفريق لهجة الأشخاص المتحدثين في الفيديو، واتضح أنها ليست لهجة سودانية بل من شمال مالي. وعليه، فإن التحليل يوضح أن الفيديو ليس لديه ارتباط بالصراع في السودان بشكل كامل، ناهيك عن أحداث الفاشر. توضح هذه الحوادث نهج التضليل الذي يعتمد على إعادة توظيف صور وفيديوهات من دول أخرى لدعم ادعاء التقدم العسكري لأحد الأطراف. 

وأخيراً، رصد الفريق تداول صورة لقوات عسكرية على متن عربات قتالية في منطقة شبه صحراوية، ادعى مروجوها أنها لقوات تابعة لقوى تحرير السودان بقيادة الطاهر حجر، متجهة إلى مدينة الفاشر لدعم الجيش السوداني وحلفائه من الحركات المسلحة. بعد تحليل الصورة للتحقق من صحة الادعاء. توصل الفريق إلى أن الصورة قديمة، حيث تم نشرها لأول مرة في عام 2021 في سياق مختلف تماماً. كانت الصورة الأصلية مصحوبة بإدعاء مختلف وهو وصول القائد العام لجيش تجمع قوى تحرير السودان إلى الفاشر في طريقه إلى الخرطوم لتنفيذ بند الترتيبات الأمنية. وبذلك، يتضح أن الصورة لا علاقة لها بالصراع الحالي في الفاشر.

تشير هذه الأمثلة إلى استخدام واسع النطاق للمعلومات المضللة في النزاع الحالي في الفاشر، حيث يسعى كل طرف إلى تعزيز موقفه وتشويه صورة الآخر باستخدام صور وفيديوهات قديمة أو من سياقات مختلفة تماماً. من المهم ملاحظة أن هذه الصور والفيديوهات دائماً ما تُنشر على منصات وصفحات تتبنى الدعاية الحربية لصالح أحد طرفي النزاع، مستخدمة في ذلك معلومات مضللة وزائفة. تحوز هذه الصفحات على عدد كبير من المتابعين، يتراوح بين 10 آلاف ويصل إلى ما يزيد عن 800 ألف متابع، مما يساعد في انتشار هذه الأخبار بشكل كبير بين المواطنين.

خاتمة

في ختام هذا التقرير، يتبادر إلى الذهن صورة مؤلمة لمدينة الفاشر وسكانها الذين يتعرضون لمختلف أشكال العنف والتهجير. رغم الأحداث الصادمة التي شهدتها المدينة، فإن روحها الصلبة وإرادتها القوية تبقى قائمة، حيث يستمر أهلها في التصدي للتحديات بشجاعة وإصرار.

أولئك الذين أرسلتهم الحرب إلى «عطبرة» يحاولون ضبط إيقاعهم على وقع مائة عام من موسيقى القطارات

 عطبرة، 4 مايو 2024  – لم تتهيأ تلك القرى المتناثرة قبل أكثر من قرن، على ضفاف الاتبراوي ونهر النيل، والتي حولها من بعد ذلك البريطانيون إلى مدينة عطبرة، أكثر مناطق شمالي السودان عمرانًا وحداثة بتأثير السكة الحديد، أن تتغير في غضون عام واحد، ويجد مجتمعها الذي وحده إيقاع هدير القطارات التي لم تكف عن إطلاق صافرتها منذ أكثر من مائة عام، وجهًا لوجه أمام آلاف القادمين على غير موعد – مع أولئك الذين أرسلتهم الحرب إليها نازحين في مدارسها و هائمين في طرقاتها، لا يلوون على شيء، وهم من فقدوا أصولهم وأموالهم وديارهم في عاصمة الحرب السودانية الخرطوم، ومدن أخرى. 

كان العطبراويون، وهم الذين قدموا إلى مدينتهم في هجرات متواترة على مدى عقود من كل أنحاء البلاد، قبل اندلاع الحرب في العاصمة السودانية الخرطوم في منتصف أبريل 2023، يعيشون حيواتهم كما ألفوها، صباحًا في القهاوي لتناول الشاي والقهوة، وتضج سودنتهم وحصايتهم وداخلتهم وغيرها من الأحياء، وأنديتهم وأسواقهم، وسكتهم الحديد وهناك على ضفة النهر جلساتهم وأمسياتهم، يعرفون بعضهم البعض، فيما الغرباء، هم من يرسلهم الميناء البري أو القطار لأي غرض كان على مدار اليوم، أو من ترسلهم القرى القريبة في سيارات قديمة الطراز إلى سوقها ولكونداتها العريقة، ثم أتت الحرب، وتغير كل شيء هناك، إما للأبد أو لوهلة الحرب الطويلة التي يمكن أن تكون أبدًا.        

إذن؛ تغيرت عاصمة السكة الحديد والمدينة العمالية وبلد الهجرات الواقعة على ضفاف نهري النيل وعطبرة والتي تبعد حوالي 360 كيلو مترًا شمالي العاصمة الخرطوم، ذات الأسماء والألقاب العديدة والتاريخ السياسي الكبير والمرتبطة بالثورات السودانية والنضال السياسي ضد السلطات الاستعمارية البريطانية السابقة. 

وإذ لم يكن أمام قاطرة المدن- كما يطلق عليها أحيانًا، إلا أن تصبح ملاذًا للنازحين، غير أن السلطات، ترى أن الدور الحكومية التي لجأ إليها الفارون من الحرب، أغلى ثمنًا من الإنسان، وهكذا أصبح حضن اتبرا، وهو أحد أسمائها، حانيًا من مجتمعها وقاسيًا من سلطتها. 

ميلاد عطبرة

عندما نقلت السلطات الاستعمارية البريطانية إدارة السكة الحديد من وادي حلفا في العام 1906 إلى مدينة عطبرة ووضعت ونفذت الخارطة المعمارية للمدينة لخدمة مصالحها في المنطقة الجديدة، لم يتوقع أحد أن تنهض -اتبرا- التي كانت تعرف وقتها بقرية الداخلة، قبل أن تحولها السكة الحديد لواحدة من أهم المدن السودانية. 

 

بمرور السنوات نمت المدينة وتطورت لتصبح أهم مدينة عمالية في السودان وأكبر مركز عمراني في شمال البلاد، يضاف إلى ذلك الأدوار المركزية التي لعبتها المدينة على الصعيد القومي اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا وسرعان ما أصبحت بمثابة النافذة التي أطلت منها البلاد بأسرها على إنجازات غير مسبوقة في كافة المجالات حتى أسماها البعض – المدينة القاطرة -.

قبل السكة الحديد كان المكان الذي تقوم فيه المدينة الآن «شرق نهر النيل وشمال نهر اتبرا» فضاءً شاسعًا ومنطقة غابية قوامها أشجار الدوم والسدر والطلح والسيال والعشر وغيرها وكثير من الحشائش التي اشتهرت بها في الشريط الممتد من قرية السيالة شمال المنطقة وحتى نقطة اقتران نهر اتبرا بنهر النيل جنوبًا.

وكانت تسكنها مجموعات سكانية صغيرة من الرباطاب والجعليين الذين شكلوا النواة التركيبية للمنطقة وتوزعوا في ثلاث قرى، السيالة والكريماب والداخلة، والأخيرة ظلت ردحًا من الزمن اسماً لما يعرف حاليًا بعطبرة.

منذ عهد الممالك السودانية التي سبقت الغزو التركي للسودان، حملت عطبرة اسم «الداخلة» وظلت ترد على ألسنة العسكريين في تقاريرهم كاسم للمنطقة بينهم رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل إبان الحرب العالمية الثانية في كتابه «حرب النهر» والذي تحدث فيه عن معركة النخيلة التي جرت بين جيش المستعمر وجيش المهدية عند نهر اتبرا.

منذ بواكير نشأتها شهدت مدينة عطبرة العديد من موجات النزوح أبرزها في العام 1908 وحتى 1918، عندما ظهرت فيها جماعات من قبائل شمال السودان «شايقية، دناقلة، جعليين، ميرفاب، انقرياب، البديرية، الشكرية، الهواوير، مناصير، محس، سكوت، فدجا». وقبائل أخرى قدمت من مصر، وهي: «المغاربة، الجعافرة، العبابدة، العليقات والكنوز» بالإضافة إلى السودانيين من أصول شامية ومصرية، مسلمين ومسيحيين، كما سكنها قلة من جنود جيش الأمير محمود ود أحمد الذي قاد معركة النخيلة والذين تعود أصولهم إلى قبائل غرب السودان حيث استقروا في ضفة الاتبراوي الشمالية في منطقة العشش التي سميت بحي الموردة  في السبعينات، قبل أن تلحق بهم جماعات من الفلاتة،ولاحقاً  الهدندوة والبشاريين والرشايدة.

ومما يميز عطبرة أنه لا يمكن القول إن قبيلة بكاملها قطنتها  لكن أفراد وأسر وجماعات من مختلف القبائل والأعراق انصهرت جميعها في بوتقة واحدة وشكلت تركيبة سكانية فريدة عرفت بالمجتمع الاتبراوي.

أتبرا النهر

برزت كلمة اتبرا كاسم بعد معركة النخيلة وارتبطت بنهر اتبرا آخر روافد نهر النيل قبل مصبه في البحر الأبيض المتوسط. ومع ذلك، لم يتفق المؤرخون على أصل التسمية لكن أكثر التفسيرات تتحدث عن أن اتبرا مكونة من كلمتين أتى وبرا وترمز لفيضان النهر في موسم الخريف أي أتى دون إخطار كما ذكروا أنها من «متبر، تبرنا، وتتبيراً»، وتعني أتى محطمًا ومدمرًا لأنه كان قوي الدفع والجريان ثم تم استبدال حرف التاء لتصبح عطبرة.

عطبرة الثورة

لم تمثل عطبرة أحد مراكز المقاومة للمستعمر البريطاني وحسب، بل عرفت بصمودها التاريخي في مواجهة أنظمة الحكم الشمولية التي أعقبت الاستقلال، إذ شكلت نقطة انطلاقة لثورتي أكتوبر 1964 ضد نظام الرئيس إبراهيم عبود، وأبريل 1985 ضد نظام الرئيس جعفر النميري، إلى جانب ثورة ديسمبر 2018 ضد نظام الرئيس عمر البشير والتي لعبت المدينة دورًا حاسمًا في نجاحها بتغيير مسار حركة الاحتجاجات من مطالب معيشية إلى سياسية بعد إحراق المحتجين لمقر حزب المؤتمر الوطني – الحاكم آنذاك.

ولطالما خشيت الأنظمة الشمولية من عطبرة بسبب احتضانها مركز نقابة السكة الحديد التي كانت المحرك لأغلب التظاهرات والاحتجاجات وهي المخاوف التي دفعت نظام الإنقاذ إلى قمع حراك عمال السكة الحديد في بدايات استيلائه على السلطة بفصله ما يزيد عن 4 آلاف عامل وتشريدهم.

اجتماعيًا، قدمت المدينة للسودان شخصيات مؤثرة في تاريخ البلاد السياسي، الاجتماعي والثقافي. سياسيًا، بينهم عددًا من القادة الشيوعيين والعماليين، مثل الشفيع أحمد الشيخ وقاسم أمين والأكاديمي والسياسي البارز عبد الله علي إبراهيم. كما أن عددًا من المؤثرين السودانيين الذين لم يكونوا من مواليدها، إما تلقوا تعليمهم في مدراسها الصناعية أو عملوا في السكة الحديد وتأثروا بها، بينهم الزعيم إسماعيل الأزهري الذي عمل بالتدريس فيها، والشاعر محمد الحسن سالم حميد الذي درس الثانوية فيها بالإضافة لآخرين. 

وبسبب الوقوع في حبها، سخّر عدد من الفنانين والأدباء أشعارهم لها وتغنوا في جمالها وتاريخها كما تعتبر من أكثر المدن التي كتبت فيها الإصدارات الثرة التي توثق لتاريخها حتى كادت تنافس مدينة أم درمان في المجلدات.

عطبرة في أزمنة الحرب

 

لعقود ظلت مدينة عطبرة شمالي البلاد تمثل وجهة رئيسية تفد إليها العديد من القوميات، ومع نشوب حرب الخامس عشر من أبريل، شهدت المدينة موجات نزوح كبيرة باعتبارها من أكثر المدن قربًا من العاصمة السودانية الخرطوم.

واستقبلت ولاية نهر النيل في المجمل والتي تعتبر عطبرة أكثر مدنها حيوية، آلاف النازحين وتصدرت في كثير من الأحيان ترتيب أولى ولايات السودان من حيث أعداد النازحين داخليًا، مما جعل الضغط على الولاية لم يسبق له مثيل ووضعها أمام تحد كبير، خاصة اقتصاديًا.

ووفق مفوضية العون الإنساني فإن عطبرة تحوي  95 مركزًا موزعة بين الأحياء المختلفة وفي 52 جمعية-زاوية-و4 أندية رياضية و39 مدرسة فيما يبلغ عدد النازحين في المدينة أكثر من 15 ألف شخص .

 وفي بدايات الحرب عاشت-عطبرة- حالة من الحذر إذ شهدت نكسة اقتصادية، بسبب تحسب التجار من الأزمة الاقتصادية التي قد تتسبب فيها الحرب، لكن سرعان ما تدفقت الصادرات عبر الحدود البرية الشمالية ومن خلال الشرق عبر موانئ البحر الأحمر ودخلت كمية من البضائع السوق في وقت توقفت فيه جميع الشركات المحلية التي كان مقرها العاصمة الخرطوم. 

كذلك أنعشت حركة التجار النازحين من الخرطوم السوق لكنه أيضاً شهد ضغطًا كبيرًا من القادمين الجدد وما زالت المحاولات لتنظيمه بعد أن أصبح يضج بالتجار والمحال، مستمرة.

ومع دخول الحرب شهرها السادس، كانت عطبرة قد شهدت تصعيدًا من النازحين بسبب قرار الحكومة بإخلاء مراكز النزوح في الولاية من أجل بدء العام الدراسي الجديد كأول منطقة تقوم بالخطوة، وبعد اشتباك ورفض من النازحين تم فتح بعض المدارس وإخلاء النازحين منها وتوزيعهم في مدارس أخرى.

لكن السلطات التي رضخت مؤقتاً لرغبات النازحين، عاودت مضايقتهم الأسبوع الماضي بطردها 27 أسرة نازحة في مدرستين بقوة السلاح، وهددت مدارس وداخليات أخرى بمعايشتهم نفس المصير.

بوادر خطاب كراهية

 

وما إن تنفست المدينة الصعداء من تلك الأزمة حتى عاشت أحداثًا جديدة وضعت المنطقة التي يغلب علي أهلها صفة التعايش والتسامح أمام امتحان اجتماعي، فبعد سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة المتاخمة للخرطوم وانسحاب الجيش منها دون قتال أواخر ديسمبر الماضي، تشكلت بوادر خطاب كراهية على السطح ضرب المدينة والولاية ككل في نسيجها الاجتماعي الذي ولد من رحم السكة الحديد لعقود وظل متماسكاً، رغم الهزة العابرة. 

كما شهدت المنطقة انتشارًا كبيرًا للسلاح لأول مرة في تاريخها، إذ قبلها كان يوجد في أيدي مجموعات قبلية بسيطة في أطراف الولاية، وفي بعض مناطق التعدين، لكن مع التطورات الأمنية أصبح مشهد تجول المواطنين بالسلاح أكثر من اعتيادي تحت مرمى نظر السلطات التي فتحت الباب على مصراعيه لتقنين الأسلحة.

وتحت مظلة ما أطلق عليها بالمقاومة الشعبية، أضحت عطبرة منطقة مركزية للحشد الأهلي، كما انتشرت دعوات تدريب المدنيين على استخدام السلاح حتى وسط النساء. وبالتزامن مع حملات الاستنفار شنت الحكومة حملات اعتقال ذات خلفية عنصرية في بعض الأحيان، إذ تم استهداف العشرات من المقيمين في المدينة من أبناء أقاليم أخرى والتشدد معهم في التفتيش ربما بحجة انتمائهم للدعم السريع والتخابر معها، إلى الحد الذي جعل حاكم إقليم دارفور، مني أركو مناوي يشكل لجنة لإطلاق سراح المحتجزين من أبناء دارفور في سجون ولايتي الشمالية ونهر النيل. 

وفي أواخر رمضان الماضي، عاشت المدينة صدمة كبيرة بتفجير مسيرة إفطارًا نظمه لواء البراء بن مالك المحسوبة على الإسلاميين في زيارة لها للمنطقة حضره عدد كبير من أبناء المدينة وعدد من عائلات قتلى الجيش ومصابيه في الحرب في تطور أمني جديد جعل اللجنة الأمنية بالولاية تمنع المواطنين من أداء صلاة العيد في الساحات والميادين العامة.

كما ما يزال المواطنون يعيشون حالة من الترقب والحذر الشديدين إلى اليوم بسبب التهديدات الكثيرة والوعيد من منتسبي قوات الدعم السريع بالهجوم على المدينة التي برزت ميدانيًا، أيضاً في ظل الحرب، عبر قوات المدفعية عطبرة ذائعة الصيت.

فيتشرات بيم – سلسلة مدن السودان

«زالنجي».. قصة مدينة لفها النسيان ومزقتها الحرب

كانت مدينة زالنجي عاصمة ولاية وسط دارفور والمعروفة بأجوائها الجميلة والقريبة من جبل مرة إحدى أجمل البقاع في السودان، مثلها ومثل معظم مدن البلاد بما في ذلك العاصمة الخرطوم ليست في ثوب مثالي، لكنها مع ذلك تعيش حدًا معقولًا من السلام والحياة بأفراحها و أتراحها، غير أنها بعد عام من الحرب تحولت إلى بقعة ممزقة ومنسية لا تكاد تقوى على البقاء.

 

بدأت قصة زالنجي مع الحرب بعد أيام قليلة من اندلاع القتال في عاصمة البلاد بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، لتدخل بعدها المدينة في دورة حرب عبثية بين الطرفين انتهت بسيطرة الدعم السريع على الفرقة 21 مشاة التابعة للجيش، بعد معارك قضت على البشر والحجر وحولت عاصمة وسط دارفور إلى ركام. 

 

في أكتوبر الماضي انتهت مرحلة المواجهات المباشرة بعدما تمكنت الدعم السريع من السيطرة على حامية الجيش والمدينة كثاني عاصمة من عواصم ولايات إقليم دارفور الخمس تسيطر عليها بعد نيالا في الجنوب. ومع ذلك، لم تنته الحرب حيث يعيش الآلاف في زالنجي حياتهم تحت رمادها وسلطتها القهرية. كما أضحى الوضع في المدينة أكثر ضبابية وهشاشةً لتصبح أكثر مدن الإقليم انعزالاً وبعدًا عن الإعلام.

 

وتعتبر مدينة زالنجي من بين أجمل مدن السودان من حيث الطبيعة كما أنها غنية بالموارد الطبيعية وتتميز بموقع استراتيجي في الإقليم، إذ تتاخم شمال دارفور من ناحية الشمال وشرقها ولاية جنوب دارفور وفي الشمال الغربي ولاية غرب دارفور وغربها تشاد وجنوبًا تحدها جمهورية أفريقيا الوسطى.

 

وتتكون زالنجي من ثلاث وحدات إدارية. فبالإضافة لزالنجي، توجد أبطأ وتريج، وبها سلسلة وديان وجبال على امتداد أراضيها وسهولها الخصبة وهي مدينة غنية بالزراعة والرعي وتتميز بالأراضي السهلية الطينية والرملية والتي تجعلها خصبة للزراعة في فصل الخريف والموسم الشتوي.

تداخل تجاري

بشكل عام، يقوم اقتصاد ولاية وسط دارفور على الزراعة والثروة الحيوانية والتجارة والتعدين (خام الحديد، النحاس، الزنك، الألومنيوم، الرصاص والذهب)، كما توجد بها حركة تجارية محلية بين القرى في شكل أسواق موسمية بالإضافة للتداخل التجاري الممتد بين دولتي تشاد وأفريقيا الوسطى بميناء تجاري بري في منطقة تيسي.

 

لكن ورغم كون الولاية غنية بكافة الموارد، لم تتقدم عجلة التنمية فيها بسبب إهمالها من الحكومات المتعاقبة خاصة حكومة الرئيس المخلوع، عمر البشير والتي انتهى في عهدها أبرز مشاريع التنمية في إقليم دارفور ككل (مشروع جبل مرة للتنمية الريفية) حيث تأثر بالعقوبات الاقتصادية التي فرضت على السودان وتوقف الدعم الذي كانت توفره السوق الأوروبية المشتركة للمشروع في عام 1995 وضمه لوزارة الزراعة  بولاية غرب دارفور، ومنذها عملت حكومة البشير على خصخصة أملاكه واستهداف عمال المشروع الذي بدأ منذ منتصف القرن الماضي بالفصل التعسفي.

 

فضلًا عن زالنجي توجد بالولاية مدن أخرى ذات أهمية بينها، نيرتتي وقارسيلا وأزوم والأخيرة تعد أكبر منطقة زراعية في الولاية. أما بالنسبة للتقسيم الإداري للولاية، فتوجد بها تسع محليات، هي: (أزوم، وادي صالح، قارسيلا، مكجر، أم دخن، غرب جبل مرة “نيرتتي”، شمال جبل مرة “روكرو”، بندسي، وسط جبل مرة “قولو” وأخيراً العاصمة زالنجي).

 

لكن إحدى مميزات زالنجي التي عززت حركة التجارة والتواصل فيها، هي وجود مطار يبلغ طول مدرج مهبطه تقريباً حوالي 2000 متر وعرضه أكثر من 50 مترًا، كما يوجد مهبط ترابي للطائرات تم انشاؤه بمدينة قارسيلا بواسطة إدارة مشروع جبل مرة.



من أين جاء اسم زالنجي؟

 

وتسمية زالنجي وفق روايات محلية من المدينة، ترجع إلى اسم حشائش تنمو على الوادي والكلمة بلغة قبيلة الفور أكبر مجموعة عرقية في المدينة. كما من ضمن الروايات، أن التسمية ترجع لقصة سلطان منطقة (وداي) بتشاد عندما استدعاه السلطان علي دينار لأمر ما لكن طريقة الاستدعاء لم تنل رضاه، وعند وصوله أخبر وفد المقدمة السلطان علي دينار بإحساس سلطان وداي قائلين باللهجة المحلية “سطان وداي زعلان، كما قالوا، زعلان جي ..أي حضر”، لكن هذه الروايات لم تذكر في أي وثائق عن تاريخ المنطقة بل متداولة عند بعض المثقفين المتحدرين من الولاية.

اندلاع الحرب في زالنجي

شهدت المدينة في أواخر مايو وعقب عمليات القتال العنيفة بين الجيش والدعم السريع، انتشارًا واسعًا لعمليات نهب وتخريب لمقار المؤسسات الحكومية بما فيها مخازن الأدوية التابعة لوزارة الصحة والأسواق  وجامعة زالنجي ومقار المنظمات الوطنية والأممية والبنوك، بينها البنك المركزي فرع زالنجي، مما تسبب في أزمة نقدية غير مسبوقة بواسطة مسلحين على متن دراجات نارية – ودرجت هذه المجموعة على مشاركة الدعم السريع في الميدان وتنفيذ أعمال عنف وتخريب وقتل-.

 

ومنذ تاريخ 17 مايو العام الماضي، أي بعد شهر من اندلاع الحرب وإلى اليوم، تعيش المدينة في عزلة تامة كما تشهد انقطاعًا تاماً لشبكات الإتصال والإنترنت، بجانب انقطاع المياه والكهرباء نتيجة تعرض وقود المحطة الرئيسية للكهرباء في المدينة للنهب.



كيف تبدو زالنجي؟

 

وفق مصادر تواصلت بيم ريبورتس معها في زالنجي بشكل متقطع بسبب انعدام الشبكة واعتمادهم على أجهزة الإنترنت الفضائي (إستارلينك) التي توفرها الدعم السريع للمواطنين مقابل المال، فإن الصورة في المدينة تبدو قاتمة بعد عام على الحرب خاصة في وجود ما يسمى بهيئة الإسناد المدني التي شكلتها الدعم السريع من المدنيين الموالين لها لإدارة المدينة. 

 

ووفق المصادر، فإن سوق زالنجي وسوق مرين وسوق آخر شرق المدينة وأسواق أسبوعية مثل سوق الخميس تعمل في المدينة بشكل دوري وأحيانًا بشكل غير منتظم وتتوفر فيها السلع الاستهلاكية والخضر والفواكه بالإضافة إلى المحاصيل والماشية لكن لا تتوفر سيولة للشراء، كما أن محال الإجمالي لم تفتح أبوابها إلى اليوم.

كما تنتشر في زالنجي عملة مزورة، وعملة أخرى تبدو أصلية لكن ليس بها أرقام رجحت المصادر أنها سُرقت من مطبعة العملة في الخرطوم.

انعدام المساعدات الإنسانية

منذ اندلاع الصراع لم تصل إلى مدينة زالنجي سوى ست شاحنات تابعة لمنظمة أطباء بلا حدود محملة ببسكويت للأطفال الذين يعانون من سوء التغذية وكانت تخص معسكرات النزوح بالإضافة إلى بعض الأثاثات.  وبشكل عام لا توجد سوى منظمتي IMC (الهيئة الطبية الدولية)، وأطباء بلا حدود، كما علمنا أن باقي المنظمات الوطنية والأممية كانت ترسل وفودًا لزيارات ميدانية فقط وتعود أدراجها، فيما لم تصل زالنجي أياً من المساعدات الجديدة التي خُصِصت للإقليم مؤخرًا.

أعلى نسبة نازحين في الولاية

وتضم زالنجي أربعة معسكرات رئيسية موجودة ما قبل الحرب هي (معسكر الحصاحيصا، الحميدية، معسكر خمسة دقائق ومعسكر طيبة). أما المعسكرات في باقي محليات ولاية وسط دارفور فتشمل بين معسكرين إلى ثلاثة في كل محلية من محليات الولاية الثماني الأخرى، وتعاني جميعها من سوء الأوضاع وانعدام الخدمات والدعم.

 

وقدرت مصفوفة تتبع النزوح في آخر تقرير لها مارس الماضي أن 428,180 نازحًا تمت استضافتهم في وسط دارفور اعتبارًا من 21 مارس 2024. وكانت المحليات التي استضافت أعلى نسبة من النازحين هي زالنجي (24%)، وشمال جبل مرة (20%)، ووسط جبل مرة (19%). ووفق التقارير، فإن ما يقرب من 63 في المائة قد نزحوا من مواقع أخرى داخل وسط دارفور، في حين نزح آخرون من ولايات في جميع أنحاء منطقة دارفور، بما في ذلك شمال دارفور (17٪)، وغرب دارفور (14٪)، وجنوب دارفور (5٪).

 

وذكرت التقارير أن ديناميكيات عمليات النزوح هذه عكست الروابط القبلية، مما يشير إلى درجة من التركيز حسب الأصل. وكان سبعة وتسعون في المائة من النازحين من شمال دارفور موجودين في محلية شمال جبل مرة، بينما لوحظ أن 85 في المائة من النازحين أصلاً من غرب دارفور في محلية أزوم. ومع ذلك، تمت ملاحظة النازحين في الأصل من وسط دارفور عبر نطاق أوسع من المحليات، حيث تمت ملاحظة 75 في المائة منهم في محليات زالنجي ووسط وغرب جبل مرة. وتفيد التقارير أن حوالي 35 في المائة من أسر النازحين داخلياً في وسط دارفور يقيمون في مجتمعات مضيفة، وهو ما يعكس عادة هذه الروابط القبلية وأنظمة الدعم الاجتماعي.

مستشفى و4 مراكز صحية

ما يزال مستشفى زالنجي التعليمي و4 مراكز صحية في الخدمة لكنها توفر خدماتها بشكل شبه تجاري ويعجز المواطنون عن تلقي العلاج بسبب الحالة الاقتصادية المتردية وفق ما أكد سكان محليون من زالنجي لبيم ريبورتس.

الحدود مفتوحة للنزوح

رغم ما شهدته زالنجي من أحداث ما زالت حدود بعض المدن والولايات متاحة للتنقل من وإلى زالنجي، إذ تبلغ التذكرة من زالنجي لنيالا  25 ألف جنيه سوداني وللجنينة 20 ألف جنيه وباقي المحليات 15 ألف جنيه، بينما الحدود مع دول تشاد، أفريقيا الوسطى وليبيا تبلغ تكلفة السفر إليها 500  ألف جنيه سوداني.

الدعم السريع تكمم أفواه الأصوات المناهضة لها



وفق روايات متطابقة من زالنجي، فإن الدعم السريع تشن اعتقالات ضد الذين يحاولون عكس الوضع الإنساني والأمني سواء في صفحاتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي وعبر الإعلام، ويتم استهدافهم وتهديدهم وهو ما جعل أغلب المصادر التي تحدثت إلينا تطلب عدم ذكر هوياتهم خوفًا من بطش قوات الدعم السريع. 

 

ومن أبرز حالات الاعتقال التي شهدتها زالنجي مؤخرًا بواسطة استخبارات الدعم السريع ، اعتقال أحد قيادات النازحين بمعسكرات زالنجي، الشيخ عبد الرازق سليمان، إذ اعترضته من أمام الساحة الشعبية بزالنجي وهو في طريقه مع وفد من شيوخ النازحين إلى مفوضية العون الإنساني للبحث عن سبل وصول المساعدات الإنسانية.

 و اقتادته إلى مقر الدعم السريع الذي يسمى بـ(الفوج) الواقع بجوار مبنى جهاز الأمن السابق وفق ما أعلنت مجموعة ( يلا نرصد الحقوقية) في منتصف فبراير الماضي.

وكان  بيان المجموعة الحقوقية  قد أوضح وقتها أن الاعتقال تم عن سابق رصد على خلفية تصريحات أدلى بها خلال مقابلات إذاعية تحدث فيها عن الوضع الإنساني بالولاية.

 

ما مصير زالنجي بعد توقف الإنترنت الفضائي؟

 

رغم حالة العزلة شبه الكاملة التي تعيشها زالنجي حالياً إلا أن تواصلها مع العالم خارج حدودها يظل مرهونًا فقط بأجهزة استارلينك التابعة لشركة SPACE X، مع استمرار انقطاع الإتصالات والانترنت.

 لكن حتى هذا الأمل المحدود  أضحى معلقاً بمدى جدية تنفيذ قرار إيقاف خدمة الإنترنت الفضائي في السودان بعد إعلان الشركة عن قطعها الخدمة عن المشتركين اعتباراً من تاريخ 30 أبريل الجاري لحين الموافقة على العمل من الحكومات المعنية، إذ بتنفيذه لن تصبح زالنجي وحدها بقعة من الظلام بل جميع مناطق السودان المتأثرة بالنزاع بما فيها العاصمة الخرطوم وولاية الجزيرة في الوسط.

تقارير بيم

عام من الحريق.. كيف يقطع السودانيون الطريق من الحرب إلى السلام؟

مثّلت المواجهات المسلحة التي اندلعت صبيحة السبت الخامس عشر من أبريل 2023 في عدة مناطق بالعاصمة السودانية الخرطوم، بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، والتي دخلت أمس عامها الثاني، أكثر الإشارات المقلقة، في دورات الصراع المسلح في تاريخ السودان الحديث.

وبالفعل، لم تمضِ سوى أيام وأسابيع وأشهر معدودة، حتى تحولت، حياة ملايين السودانيين في معظم أنحاء البلاد إلى جحيم حقيقي، إذ قُتلوا وجرحوا وشردوا كما فقدوا ما بُني ورُوكم عبر السنين، عامًا كان أم خاصًا ليبدأوا رحلتهم إلى المجهول يرافقهم الإفقار المتعمد والحطام الشامل، مع نور للأمل بكل تأكيد.

فالبلاد وشعبها وأرضها، تحدوا على مدى آلاف السنين، الحروب، الكوارث والصراعات، باقين في أرضهم بكل صلابة مادّين أياديهم للحياة في جغرافية عضوية مترامية الأطراف تكمل بعضها بعضا، اقتصادًا، روحًا وتنوعًا تحت العنوان الأكبر، السودان.

بعد عام من انطلاق الرصاصة الأولى والتي ما تزال تثير جدلًا في أوساط الرأي العام السوداني حول من أطلقها من طرفي القتال، انزلقت البلاد في أتون حرب مدمرة و واسعة النطاق، تعيد تعريف السودان بالسلاح، ومع ذلك تستمر المجهودات الدولية في محاولة إنهاء الحرب الدامية في السودان.

وفي هذا السياق، برز ملف العودة إلى طاولة المفاوضات لإيجاد حل سلمي للصراع ،بإعلان المملكة العربية السعودية عن استئناف محادثات جدة في غضون الأسابيع الثلاثة المقبلة.

في وقت رحب المبعوث الأمريكي الخاص للسودان، توم بيرييلو، الاثنين، بالقرار السعودي، وقال إن المفاوضات ستعود بين الأطراف المتقاتلة في السودان خلال ثلاثة أسابيع وذلك عقب اجتماعه مع نائب وزير الخارجية السعودي، وليد الخرجي، على هامش مؤتمر باريس حول السودان.

وشدد المسؤول الأمريكي  قائلًا «إن الحرب على الشعب السوداني يجب أن تنتهي الآن».

ورغم مخاوف التمزق والانهيار التي تحيط بثالث أكبر بلد إفريقي، إلا أن بعض الخبراء والسياسيين، يرون أن هناك فسحة من الأمل وخطوات عملية قد تؤدي إلى إنهاء الحرب. وبالتالي، تبدو محاولة تفادي المزيد من الانهيار ممكنة، إذا بدأ السودانيون السير في طريق السلام.

الظهور بموقف منسجم ضد الحرب أمام المجتمع الدولي

جمعة كندة

الخبير في دراسات السلام ومستشار رئيس الوزراء السابق لشؤون السلام، جمعة كندة يضع مصفوفة من عدة محاور يرى أنها تقود إلى السلام في السودان.

وقال كندة لـ«بيم ريبورتس» إن الطريق إلى السلام سيكون ممهدًا من خلال تنامي الصوت الرافض للحرب وتراجع القوى الداعمة لها بالإضافة إلى توحد أو تنسيق القوى المدنية حول أجندة إيقاف الحرب والظهور بموقف منسجم ضد الحرب أمام المجتمع الدولي.

ورأى أن قدرة القوى المدنية والسياسية المؤثرة على استيعاب مصالح دول بعض الجوار والدول المجاورة ومدى تضاربها مع مصالح السودان ومحاولة إيجاد صيغة سياسية توفر أرضية لمعادلة (كسب- كسب) في علاقات السودان الإقليمية والجوارية، أمر محوري ومهم.

ويعتقد كندة أن اقتناع القوى الدولية والإقليمية الفاعلة والمؤثرة في الشأن السوداني بضرورة ممارسة الضغط الدبلوماسي والسياسي والاقتصادي المطلوب على أطراف الحرب بما فيها داعمي المجهود الحربي من قوى إقليمية ودولية ودول جوار، مسألة محورية ومهمة في تحقيق السلام.

مؤتمر مائدة مستديرة

«عام لم يكن أحد يظن أنه سينقضي دون أن تضع الحرب أوزارها؛ لا نحن المدنيون المجني عليهم ولا الجناة الذين أشعلوا الحرب وقد ظنوها تنتهي في ليلة وضحاها»، تقول مساعدة رئيس حزب الأمة القومي،رباح الصادق المهدي.

ورأت المهدي في حديث لـ«بيم ريبورتس» أن الطريق إلى السلام رهين بتنامي شعور عام وسط المدنيين بضرورة وقفها فورًا وبأن أي مكاسب منظورة من استمرارها ثمنها أغلى من التفكير في دفعه، وأضافت «فإذا صار هذا هو الشعور العام سيجد الطرفان أنهما عزلا ونضب معينهما البشري وانهارت روحهما المعنوية وألا مناص من الجلوس للتفاوض حول السلام».

رباح الصادق

وتعتقد المسؤولة الحزبية الكبيرة أن الوضع الحالي في البلاد يشهد استقطابا، وقالت «الآن على العكس يتفاقم المد المدني بالغضب ويزداد استقطاب المستنفرين الغاضبين من انتهاكات الدعم السريع مع القوات المسلحة. وفي المقابل، يستمر الإمداد القبلي والانحياز للدعم السريع على أسس بعضها جهوي وبعضها باعتباره مخلص السودان من الإخوان».

وتقول المهدي  «حتى رافعي شعار لا للحرب للأسف انتهى ليكون في غالبه منصة للغاضبين من الجيش والإسلامويين من خلفه. وبالتالي صار منصة لتأجيج الكراهية والاستقطاب ولسان حاله يقول: نعم للحرب حتى القضاء على آخر كوز».

تابعت قائلة «نحتاج إلى منصة ترفض الحرب بصورة مخلصة وحقيقية لا مجرد شعار.. منصة تفلح في تجميع أكبر قدر من القوى المدنية والديمقراطية الرافضة للحرب حقًا والتي لا تنظر لمكاسبها، بقدر ما تنظر، إلى مصير البلد المشؤوم حال استمرت هذه الحرب».

وأضافت «إذا قامت هذه المنصة و أفلحت في جذب غالبية السودانيين يمكن حينها أن تفلح الدعوة إلى مؤتمر مائدة مستديرة يشارك فيها الجميع وتضع تفاصيل اتفاق وقف إطلاق النار الكامل والترتيبات الأمنية وملامح الإصلاح والبناء الأمني والعسكري وترتيبات خروج العسكريين من المشهدين السياسي والاقتصادي».  وقالت «الآن للأسف فإن الحرب لا تزال في حالة مد وسط المدنيين؛ وجزرها يحتاج إلى نفوس جديدة تأخذ من درس هذا العام اللعين عبرة لتغيير شامل».

تعرية المتحاربين وفضح أجندة الحرب

للجان المقاومة السودانية رؤيتها لإنهاء الحرب وتحقيق السلام الذي تشتد الحاجة إليه، يقول ممثل تنسيقيات لجان المقاومة الميثاق الثوري، عصام الدين أحمد، إن الطريق إلى السلام يبدأ بإيقاف الحرب وإنهاء مسبباتها عبر تعرية المتحاربين ورفع الغطاء السياسي عنهم.

كما دعا إلى فضح أجندة الحرب التي قال إنها عملت على تعطيل مسار ثورة ديسمبر وتغيير تركيبة الشعب السوداني الاجتماعية والاقتصادية لصالح القوى المضادة للثورة ممثلة في المحاور الإقليمية والدولية وحلفائهم في الداخل من الإسلاميين والدعم السريع والحركات المسلحة المصطفة مع ذات المحاور.

ورأى أحمد في حديث لـ«بيم ريبورتس» أن الخطوة التالية تتمثل في العمل على تكوين قاعدة برامجية واحدة من أصحاب المصلحة في التغيير قادرة على إدارة الأزمة.

وأضاف أنه وفقًا للرؤية السياسية لا بد من قيام مؤتمر بتمثيل جماهيري للوصول إلى كيف يحكم السودان، معربًا عن اعتقاده أن الرؤية السياسية والميثاق الثوري من أفضل المنجزات الثورية لمخاطبة قضايا السودان وإيقاف وإنهاء الحرب.

تظاهرات في شوارع الخرطوم - 19 ديسمبر2021 CNN

ممارسة المزيد من الضغوط على طرفي الحرب

المتحدث الرسمي باسم تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية «تقدم»، بكري الجاك، رأى أنه لا بد من وصول طرفي الحرب إلى قناعة بأنه لا يوجد خيار نصر عسكري حاسم لأي منهما وأن الاستمرار فى الحرب سينتهي بفقدان قياداتهما السيطرة على القوات.

وقال الجاك لـ«بيم ريبورتس» إن المجتمعين الإقليمي والدولي يجب أن يقوما بممارسة المزيد من الضغط لحث الطرفين على الجلوس للتفاوض، كما أكد أن على القوى المدنية عدم التماهي مع سردية أي من أطرافها وحشد الهمة الوطنية على رفضها و المطالبة بهدنة إنسانية يمكن أن تغير طبيعة الصراع.

بكري الجاك

التمسك بالحوار والوسائل السلمية

رئيس الهيئة القيادية لتنسيقية تقدم ورئيس الوزراء السابق، عبد الله حمدوك يقول إن هذه الحرب لم تندلع فجأة بل كانت أسباب تفجرها تتراكم يوماً بعد يوم، مشيرًا إلى تحذيره من لحظة اقترابها وعما ستجلبه على بلادنا من كوارث.

ودعا حمدوك في كلمة متلفزة بمناسبة مرور عام على اندلاع الحرب في البلاد، للتمسك بالحوار والوسائل السلمية «مستلهمين هذه الروح من ثورتنا التي تمسكت بسلميتها رغم كل ما واجهها من عنف وعنت وتآمر».

ورأى حمدوك أن «التآمر على الثورة بدأ منذ يومها الأول بالإعلان عن الالتزام بأهدافها ثم التخلي عنها ومحاولة وأدها مثلما حدث في مذبحة فض الاعتصام ثم التوقيع على المواثيق والاتفاقات ونقضها والعمل مع أعداء الثورة وتم تتويج ذلك بالانقلاب الذي وقع في 25 أكتوبر 2021. سدوا كل منافذ الضوء التي قدمها لهم شعبنا وقادو بلادنا لهذه المحرقة».

عبدالله حمدوك

وتابع «ظلت القوى المدنية حريصة على استعادة مسار الانتقال الديمقراطي، لكن رغم ذلك نحن لا ننكر الأخطاء التي ارتكبت خاصة فيما يتعلق بوحدة قوى الثورة والتي كانت يجب أن تكون فوق كل اعتبار لأنها هي الضمان الوحيد للحفاظ على الثورة وأهدافها. انشغلت القوى المدنية بالخلافات الصغيرة وفتحت ثغرات في جدار الثورة نفذ من خلالها أعداءها».

وقال «رغم كل ما تقدم لقد ترفعنا عن كل دافع ذاتي وشخصي وظلت بوصلتنا مصوبة نحو مصلحة وسلامة أمن بلادنا وشعبنا، بذلنا مع الحريصين جهوداً لمنع انفجار الأوضاع ولم تتوقف الاتصالات الداخلية والخارجية لمنع الحرب إلا أن النية كانت مبيتة عند البعض لإشعال الحرب غير مبالين بنتائجها وآثارها على البلاد».

وأكد حمدوك أنهم قدموا الدعوات لطرفي الحرب للقاء مع قيادة تقدم لبحث سبل إنهاء الحرب لافتًا إلى أنهم تلقوا ردودًا ايجابية وتم تدشين ذلك باللقاء مع حميدتي وتوقيع اتفاق أديس أبابا، وقال «نتطلع للقاء القائد العام للقوات المسلحة».

وفيما يتعلق بمؤتمر باريس، قال حمدوك إن مشاركتهم تأتي للفت أنظار العالم للظروف المأساوية التي يعيشها شعبنا ولندعوه لتحمل مسؤولياته تجاه بلادنا وشعبنا. مضيفًا «لسنا محايدين أو وسطاء.. نحن منحازون لأسر الشهداء من العسكريين والمدنيين ومنحازون للشعب الذي تعرض لانتهاكات كثيرة ومنحازون للبرنامج الوطني الديمقراطي ولن يتحقق ذلك إلا عبر العودة لمنبر التفاوض واتخاذ الحل السلمي التفاوضي».

وشدد قائلًا «إننا نتفهم حجم الغبن والغضب الذي اعتمر في قلوب الذين تعرضوا لهذه الانتهاكات ونحترم حقهم في المطالبة بالقصاص، لكننا نرى أن على القيادات السياسية والعسكرية والمجتمعية والمدنية أن تنظر أبعد من ذلك وتدرك أن نار الحرب لن تعيد الحقوق بل تفتح الباب لمزيد من الجرائم والانتهاكات».

تقارير بيم