
الجوع يفتك بمواطني جنوب كردفان المحاصرين بين ثلاث جبهات عسكرية
«مع اشتداد الجوع واعتماد معظم سكان المدينة على أوراق الشجر كغذاء رئيسي، تناول ثلاثة من الأطفال أوراق نبتة تعرف بـ “بن بلاش” والتي لم يعرفوا أنها سامة، ليصابوا بالإسهال والاستفراغ المستمر، ويفارقوا الحياة بعدها» – هكذا تحدثت سماح (اسم مستعار) لـ«بيم ريبورتس» وهي تصف وضع مواطني مدينة الدلنج بولاية جنوب كردفان.
فتحت حرب 15 أبريل 2023 الباب واسعًا أمام الصراع المركب في ولاية جنوب كردفان بتعدد الأطراف المتحاربة، فالجيش السوداني والجيش الشعبي يخوضان حربهما الخاصة داخل الحرب الأوسع، فيما يخوضان معًا بشكل غير معلن في بعض الحالات الحرب ضد قوات الدعم السريع، فيما تحارب الدعم السريع الجميع في ولاية جنوب كردفان على رأسهم السكان.
وضع هذا الصراع المركب سكان ولاية جنوب كردفان بين ثلاث جبهات عسكرية تتشارك السيطرة على المنطقة، أثر هذا الأمر بشكل مباشر على إمدادات الغذاء والأدوية على مدينة الدلنج وهي ثاني أكبر مدن ولاية جنوب كردفان، والتي تقع على مسافة 498 كيلو مترًا جنوب غربي العاصمة السودانية الخرطوم والتي كانت تعيش أوضاعًا مستقرة، علاوة على كونها ملجأً لما يزيد على خمسة آلاف من المواطنين الذين نزحوا إثر هجوم الدعم السريع على منطقة هبيلا الزراعية (الواقعة شرق الدلنج).
لكن كل ذلك تغيَر في مطلع يناير 2024، عندما حشدت الدعم السريع قواتها في محاولةٍ لدخول المدينة، ليتصدى للهجوم كلِ من الجيش السوداني والجيش الشعبي التابع للحركة الشعبية قيادة عبد العزيز الحلو، وبينما أشار الطرف الأول إلى وجود تنسيق مشترك بين الطرفين لصد الهجوم، نفت الشعبية وجود هذا التنسيق.

الدلنج.. مدينة محاصرة ومعزولة
تأثرت مدينة الدلنج بالمعارك التي دارت بين الجيش السوداني والجيش الشعبية التابع للحركة الشعبية بمدينة كادوقلي (حاضرة ولاية جنوب كردفان) منذ أغسطس 2023، والتي أدت إلى نزوح آلاف المواطنين داخل الولاية وخارجها. علاوة على إغلاق الرابط بين الدلنج وكادوقلي، وهو وضع تعقد بعد هجوم الدعم السريع على مدينة هبيلا ومن ثم الدلنج مطلع يناير 2024، وبذلك أصبحت المدينة معزولة، الأمر الذي فرض خناقاً اقتصادياً قاسياً على المدينة، أصبحت مع معاناة المواطنين أمراً يومياً مستمراً، خاصة فيما يتعلق بالحصول على الغذاء والأدوية والخدمات الصحية.
وقالت بعض المصادر التي تحدثت لـ«بيم ريبورتس» من مدينة الدلنج، إن هناك انعدام شبه كامل للسلع الغذائية، وحتى التجار توقف عملهم بسبب عدم توافر البضائع وإغلاق الطرق من وإلى المدينة، ومعظم الأسر لا تمتلك ما تأكله فأصبحت تعتمد على أوراق الأشجار بشكل رئيسي، الأمر الذي زاد معدلات سوء التغذية وسط الأطفال بالإضافة إلى زيادة نسبة وفيات الأطفال وكبار السن”.
وتشرح سماح في ذات السياق، بأن «إغلاق الطريق وعدم توفر السيولة النقدية تسبب في ارتفاع جنوني لأسعار السلع الغذائية الرئيسية، والتي لا تستطيع معظم الأسر توفيرها أو شرائها في المقام الأول».
وأدناه جدول يوضح أسعار السلع بتاريخ 25 سبتمبر:
السلعة | السعر بالجنيه السوداني |
ملوة الذرة | 20 ألف |
ملوة البصل | 20 ألف |
رطل الزيت | 40 ألف |
كيلو الدقيق | 9 آلاف |
وفي السياق نفسه، فإن معاناة سكان الدلنج لا تقتصر على عدم توافر السلع الاستهلاكية فحسب، فالجانب الصحي كذلك بالغ الصعوبة، إذ هناك ندرة في الأدوية، خاصة أدوية الأمراض المزمنة (القلب، والكلى، والسكري) علاوة على عدم توفر الأدوية والأمصال الوقائية لتطعيم الأطفال.
وتضيف سماح «أدى هذا الوضع إلى تسول أهل المدينة لمأكلهم، وبالرغم من عمل بعض الجهات والمبادرات والمنظمات التطوعية، مثل صدقات وصناع الخير والنفير وللخير نسعى وأمل بلا حدود، إلا أن الوضع ما يزال كارثيًا، حيث أن حاجة الناس كبيرة للغاية».
وإن كان الوضع قاسيًا على سكان مدينة الدلنج، فإن حدته تتضاعف على النازحين إليها من منطقة هبيلا الواقعة شرقها، إذ نزح الآلاف من يعتمدون على الزراعة وتربية الماشية خالي الوفاض من كل ما بإمكانه مساعدتهم في رحلة نزوحهم، علاوة على إقامتهم في دور الإيواء، والتي تعاني هي الأخرى أشد أنواع المعاناة، وتنعدم فيها أدنى مقومات الحياة.

كادوقلي.. وجه آخر للمعاناة
لا تختلف حدة الوضع كثيرًا في مدينة كادوقلي، والتي نزح إليها الآلاف حيث يواجهون شتى ضروب المعاناة؛ من ندرة في توفر الطعام ومياه الشرب، إلى جانب تدهور واسع في الأوضاع الصحية.
وهذه المعاناة يعيشها كل سكان المدينة، وتزيد وطأتها على النازحين، والمدينة مثلها مثل الدلنج تأثرت بإغلاق الطرق وعدم وصول البضائع والمساعدات الإنسانية، ما تسبب في تكرار نفس مشاهد الجوع المفزعة وسوء التغذية وموت الأطفال نتيجة تناول أوراق شجر سامة، علاوة على وفاة 19 طفلًا خلال شهر مايو الماضي فقط، نتيجة سوء التغذية والإسهالات المائية، الأمر الذي يزيد من مخاوف السكان، خاصة مع بداية الخريف وانتشار الحميات والأوبئة، بالإضافة إلى الكوليرا التي تفتك بالبلاد.
مناطق سيطرة الشعبية.. إعلان رسمي للمجاعة
في منتصف أغسطس الماضي، أعلنت الحركة الشعبية-شمال عن المجاعة بمناطق سيطرتها في إقليمي جبال النوبة والفونج الجديدة، والتي يبلغ عدد سكانهما، بحسب بيانات الحركة، (3,000,000) نسمة بعد نزوح الفارين من الحرب إليهما من الولايات الأخرى.
وأرجعت الحركة الشعبية أسباب المجاعة في تأثر الإقليمين بالحرب الدائرة، والتي أدت إلى تقلَّص المساحات المزروعة في السودان بسبب الحرب إلى (60%) مما جعل أكثر من (80%) من القوى العاملة في الزراعة يغادرون مناطق الإنتاج وأصبحوا لاجئين ونازحين، ما تسبب في فشل الموسم الزراعي السابق وعدم توفر التقاوي والوقود وقطع الغيار نتيجة لإغلاق الطرق.

جوعٌ لا يذهبه تبادل الاتهامات
سبق إعلان المجاعة اختراق مهم لكنه أجهض في مهده، إذ شهدت مسألة المساعدات الإنسانية تطورًا في الرابع من مايو الماضي، عندما وقع كلٍ من نائب القائد العام للجيش السوداني، شمس الدين كباشي، ورئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان، عبد العزيز الحلو، اتفاقاً مبدئياً نصّ على تسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق المتضررة في جبال النوبة، والتي تسيطر عليها القوات التابعة للطرفين، وهو ما قوبل باستحسان كبير داخل السودان، خاصة وأن الاتفاق مثل خطوة أولى نحو تحسين الأوضاع المعيشية للملايين من السودانيين المتأثرين بالصراع المستمر منذ أبريل 2023.
لكن لم تمر إلا أيام، لتتعثر جولات المفاوضات بعد أيام قليلة من بدء جولات المفاوضات نتيجة الخلافات العميقة بين الطرفين حول طبيعة الاتفاق. فقد اتهم الجيش الحركة الشعبية بإصرارها على إدخال قوات الدعم السريع كطرف في المباحثات، مما اعتبره الجيش محاولة لتبرير الانتهاكات التي ارتكبتها تلك القوات ضد المدنيين. من جانبها، ردت الحركة الشعبية باتهام الجيش بمحاولة استغلال المفاوضات ليس لإيصال المساعدات الإنسانية، بل لتأمين إمدادات عسكرية لقواته المحاصرة في مناطق كردفان، متهمة الجيش بالابتعاد عن الهدف الإنساني للمفاوضات.
وفي خطوة مفاجئة أمس السبت، 19 أكتوبر 2024، أصدرت اللجنة الوطنية للطوارئ الإنسانية «حكومية» قرارًا أعلنت فيه التزامها بتقديم كافة التسهيلات لانسياب المساعدات الإنسانية وتقديم كل ما من شأنه أن يسهل وصولها إلى المحتاجين في كافة أنحاء البلاد.
كما كشفت اللجنة الوطنية للطوارئ عن فتح مطارات: كسلا ودنقلا والأبيض وكادقلي أمام المنظمات الدولية، بالإضافة إلى 7 معابر برية تمت الموافقة عليها مسبقًا. كما كشفت عن تواصل فعال هذّه الأيام- لم تسم الجهة- لبدء لنقل المساعدات الإنسانية إلى ولاية جنوب كردفان من مطار جوبا إلى مطار كادقلي.
وفي الوقت الذي أشارت فيه في البيان إلى أنها ستكون بهذه الخطوة قد أوفت بكل متطلبات دخول وإنسياب المساعدات الإنسانية عبر الجو والبحر، قال المتحدث باسم وفد الحركة الشعبية شمال، جاتيقو اموجا دلمان، في تصريح لـبيم ريبورتس إن “بيان مجلس السيادة السوداني الغرض منه التنصل من التزامات سابقة تمت ما بين حكومة بورتسودان ووكالات الأمم المتحدة المعنية بالإغاثة ومثلها مع الحركة الشعبية”.
وأضاف كان يفترض أن يتم استخدام معبر جوبا الدولي لنقل مساعدات إنسانية لأربع مدن في ولاية جنوب كردفان عن طريق الإسقاط الجوي، وهي كادقلي وكاودا والدلنج وجلد وليس مدينة واحدة فقط.
وضع استمرار الحرب بأشكالها العسكرية والسياسية في مدن ولاية جنوب كردفان حياة الملايين من السكان على شفا كارثة إنسانية محققة في ظل انعدام الأمن والغذاء، ومعاناة الناس من الجوع والعوز، مما يجعلهم أكثر عرضة للأمراض الفتاكة وسوء التغذية، خاصةً الأطفال وكبار السن. ومع تفاقم الأوضاع المأساوية وإغلاق الطرق وحصار المدن، فإن المدينة المحاصرة من قبل ثلاث قوات عسكرية، تعيش قصة مأساة يومية، تُكتب بحروف من ألم وفقدان.