Category: سياسي

سبائك الدم: كيف يهرّب ذهب السودان الذي يموّل حربه الطاحنة

«في الحدود التشادية يتسلم وسطاء وشركات، الذهب المهرب من مناجم جبل عامر بشمال دارفور ومناجم أغبش وأكثر من عشرة مناجم أخرى في منطقة سنقو بولاية جنوب دارفور في غربي السودان، ومن ثم يذهبون به إلى مدينتي أبشي وأدري ومنها إلى أنجمينا وهناك تستخرج له أوراق رسمية باعتباره ذهبًا تشاديًا، قبل أن يصدر عبر مطار أنجمينا إلى مطار دبي لتكون دولة الإمارات العربية المتحدة محطته النهائية». يقول (محمد) -اسم مستعار- وهو تاجر ذهب سوداني على صلات واسعة بالحكومة السودانية وحكومات في دول الجوار وزار معظم مناجم الذهب في البلاد وذهب بنفسه في رحلات تهريب عديدة، في مقابلة مطولة مع «بيم ريبورتس» في تحقيق أجرته عن مسارات تهريب ذهب السودان ووجهته النهائية خلال عامين من الفوضى في ظل حرب مدمرة.  

ويُشعل الذهب في السودان تنافسًا محمومًا في الحصول على الموارد بين الحكومة والجماعات المسلحة في جميع أركان هذا البلد الإفريقي الذي تعصف به حرب دموية دخلت عامها الثالث، حيث كان وما زال الذهب يمثل أحد أبرز مصادر تمويلها.

بعد استقلال جنوب السودان في يوليو 2011 وذهاب أكثر من ثلثي النفط مع البلد الجديد، بدأ السودان في مضاعفة إنتاجه من الذهب والاعتماد عليه في محاولة لتعويض فقدانه الذهب الأسود (النفط).

وخلال سنوات معدودة أصبح الذهب موردًا رئيسيًا ومصدرًا كبيرًا لرفد الخزانة العامة بمليارات الدولارات. لكن مع ذلك، لم تستفد منه البلاد بشكل كبير نسبة لعمليات التهريب الكبيرة والواسعة التي تتم سواء عبر المنافذ الرسمية للبلاد مثل المطارات والموانئ البرية الحدودية أو البحرية. أو من خلال عمليات تهريب سرية، من المناجم المنتشرة في شمال وغرب وشرق وجنوب البلاد، سواء من خلال المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة أو جماعات مسلحة، حيث تسبب الانقسام السياسي والعسكري بعد الحرب في إعادة تقسيم وترسيم مناجم الذهب في السودان والبلاد نفسها، بناء على خريطة السيطرة العسكرية للأطراف المتحاربة خاصة الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في شرق وشمال وغرب البلاد. 

قادتنا هذه الخارطة العسكرية الجديدة في السيطرة على مناجم الذهب إلى تتبع مسارات تهريبه، حيث تمكنّا عبر مصادر عليمة، من تحديد المسارات النشطة لتهريب الذهب في شمال وشرق وجنوب غرب وغرب البلاد والتي ترتبط بأربع من دول جوار السودان، وهي دول: تشاد، جنوب السودان، ومصر وليبيا، بالإضافة إلى دولتي جوار إقليمي هما كينيا وأوغندا، فيما تمثل دولة الإمارات العربية المحطة النهائية لمعظم الذهب المهرب من السودان. 

التحقيق كشف أيضًا أن معظم الدول المذكورة تضاعفت صادراتها من الذهب خلال عامين من الحرب، في مقابل انخفاض صادرات البلاد الرسمية من الذهب. 

ويبدو أن عمليات التهريب المتعاظمة للذهب خلال عامين من الحرب قد أثارت قلق الحكومة السودانية، أخيرًا. حيث أعلن مدير الجمارك السودانية، صلاح أحمد إبراهيم،  خلال اجتماعه مع المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية المحدودة، محمد طاهر عمر، في 26 أبريل 2025، عن (خطة محكمة) تشمل عمليات الرقابة لمنافذ ومعابر البلاد باستخدام الطيران المسير والأجهزة الحديثة، مؤكداً قدرة قوات الجمارك على إحباط عمليات التهريب. 

وتتم عمليات تهريب الذهب المحمية بالسلاح في دارفور غربي السودان عبر شبكات واسعة تضم مسلحين ووسطاء دوليين وشركات، يسلك فيها المهربون طرقًا معقدة وسط مخاطر جمة. 

«يحمل رجال مسلحون على متن دراجات نارية ذهب السودان المهرب من جنوب دارفور وصولًا إلى الجنينة في غرب دارفور ومنها إلى أدري التشادية عبر عدة منافذ. هناك على جانبي الحدود أيضًا، يتحرك التجار والوسطاء بعربات دفع رباعي مسلحة، وآخرون أيضًا يعبرون إلى الأراضي التشادية تحت حماية عناصر مسلحة من الدعم السريع في خدمة مدفوعة الثمن»، يقول (محمد). 

ويضيف «يصل المهربون أيضًا من مناجم جبل عامر في شمال دارفور عبر كورنوي وغيرها من المناطق الصغيرة في مسارات معقدة ومحمية بالسلاح إلى الأراضي التشادية المكتظة بالوسطاء والشركات التشادية والأجنبية مثل الشركات الإماراتية، والذين ما إن يستلمون الذهب المهرب، حتى يذهبوا إلى أبشي ومنها إلى العاصمة أنجمينا ومن مطارها إلى مطار دبي في دولة الإمارات العربية المتحدة». 

وتمثل منطقة سنقو بجنوب دارفور أيضًا مسارًا ثانيًا لتهريب الذهب إلى جنوب السودان. 

وتوجد في سنقو عدد من المناجم، بالإضافة إلى منطقة كفيا كنجي على الحدود مع جنوب السودان، حيث يتم تهريب الذهب وسط فوضى أمنية عالية، في رحلته إلى جوبا عاصمة جنوب السودان ومنها إلى كينيا وأوغندا. 

ليست دارفور وحدها، ففي مناطق جنوب كردفان الواقعة تحت سيطرة الحركة الشعبية-شمال بقيادة عبدالعزيز الحلو تنشط أيضًا عمليات تهريب الذهب من مناجم التعدين التقليدية إلى وجهات خارجية عدة. 

أما في شمال السودان، يتم استخدام طرق التهريب الصحراوية القديمة نفسها التي يهرب بها البشر لتهريب الذهب انطلاقًا من منطقة أبوحمد أكبر أسواق الذهب، في مسارات يعرفها المهربون جيدًا، وصولًا إلى الحدود المصرية، سواء في شلاتين التي تحتلها القاهرة، أو قرب معبر أرقين أو أسوان.

على جانبي الحدود السودانية – المصرية، يترجل المهربون من سياراتهم مسنودين بشبكة حماية أمنية مسبقة، حيث الأدلاء ينتظرونهم على سيارات الأجرة، ثم يعبرون إلى الأراضي المصرية محملين بذهب السودان. 

أما بالنسبة لشرق السودان، في بورتسودان أقصى شمال شرق البلاد، يتسلم التجار ذهبهم في السوق الشعبي، ثم لا يأخذون وقتًا طويلا، حتى يسلمهم له المهربون في أسوان المصرية. 

وهكذا يبدو ذهب السودان بعد عامين من الحرب، تحت قبضة من شبكات المصالح العابرة للحدود، وهو يلمع في بلدان أخرى تمنحه منشأها.

من النفط إلى الذهب: تحولات الاقتصاد السوداني بعد الانفصال

شكّل انفصال جنوب السودان في يوليو 2011 ضربة قوية للاقتصاد السوداني، إذ فقد السودان نحو 70% من احتياطي النفط، المقدر بحوالي 6 مليارات برميل، والذي كان يقع في أراضي الجنوب. منذ بدء استخراج النفط في عهد الرئيس جعفر النميري 1969-1985، أصبح النفط المورد الأساسي لتمويل الموازنة العامة، كما مثّل الصادر الرئيسي للدولة. ففي عام 2011، شكّل النفط 75.6% من صادرات السودان، بعائد بلغ 7.3 مليار دولار.

لكن بعد الانفصال، تراجعت صادرات النفط في عام 2012 إلى 955 مليون دولار فقط، ما أدى إلى انخفاض إجمالي عائد الصادرات إلى 3.4 مليار دولار مقارنة بـ9.7 مليار في العام السابق.

يوضح الشكل (1) مساهمة صادرات الذهب مقارنة بصادرات النفط في ميزان المدفوعات خلال الفترة من 2011 إلى 2024. وميزان المدفوعات هو سجل إحصائي يبين حركة الأموال الناتجة عن التبادل التجاري والمعاملات المالية بين السودان والدول الأخرى خلال فترة معينة..

يُظهر الشكل التراجع الحاد لصادرات النفط حتى أصبحت تمثل 0.85% فقط من إجمالي الصادرات بحلول عام 2021، بينما حافظ الذهب على مستويات شبه مستقرة خلال الفترة ذاتها، مما جعله المصدر الأساسي للنقد الأجنبي بعد عام 2011.

بناءً على ذلك، توجهت الدولة نحو تعزيز إنتاج الذهب لتعويض خسارة النفط وسد العجز في النقد الأجنبي. ويوضح الشكل (2) ارتفاع إنتاج الذهب بين عامي 2012 و2017، حيث بلغ ذروته في عام 2015 بإنتاج 107.3 طن، ما جعل السودان يحتل المرتبة الثالثة في قائمة أكبر منتجي الذهب في إفريقيا.

الشكل رقم (1): مساهمة صادر الذهب والبترول في ميزان المدفوعات خلال الفترة من 2011 إلى 2024

التهريب والانهيار النقدي: أسباب تراجع الذهب رغم وفرة الإنتاج

لم يدم نمو السودان في إنتاج الذهب طويلًا؛ فبدءًا من عام 2018، شهد إنتاج الذهب تراجعًا حادًا، ليصل إلى 35.7 طن فقط في عام 2020، وهو أدنى مستوى منذ 2011. وقد أثار هذا الانخفاض المفاجئ تساؤلات عديدة، خاصة بعد أن كشفت وزارة المعادن في أغسطس 2018 أن الفاقد من إنتاج الذهب خلال النصف الأول من العام نفسه بلغ 48.8 طن.

في تقرير نشرته «سكاي نيوز»، صرّح وزير المعادن حينها، محمد أحمد علي، بأن بنك السودان لم يشترِ سوى 10% فقط من الكمية المنتجة خلال شهري يونيو ويوليو، وافتقد لمنافذ فعّالة في مناطق الإنتاج. كما أشار اللواء طارق شكري، المسؤول في هيئة الأمن الاقتصادي، إلى أن الفاقد في إنتاج الذهب “كبير”، داعيًا إلى معالجته بدلًا من التركيز على زيادة الإنتاج.

رغم أن عمليات التهريب كانت قائمة قبل عام 2018، إلا أن تفاقم الأزمة النقدية وانخفاض قيمة الجنيه السوداني بنسبة 63.8% في العام نفسه، دفع المعدنين التقليديين إلى تهريب الذهب للحصول على سعر أفضل في السوق الموازية، مقارنة بسعر الدولار الرسمي الذي كان يُلزمهم به بنك السودان. ومع غياب الرقابة، وعدم وجود آلية فعالة لحصر الذهب المنتج، فقد السودان نحو 50% من إنتاجه في عام 2019، واستمر التراجع في الأعوام التالية، دون أن يستعيد مستويات الإنتاج السابقة.

الشكل رقم (2): يوضح الشكل إنتاج الذهب وصادراته خلال الفترة من 2011 إلى 2023، حيث يُظهر العلاقة بين المؤشرين. فقد كانت الدولة تصدّر في المتوسط نحو 33% من الذهب المنتج خلال الفترة من 2011 إلى 2018، لترتفع النسبة إلى نحو 61% خلال الفترة من 2019 إلى 2021

تأثير الحرب ومحاولات التعافي: قراءة في واقع الذهب عام 2024

زاد الوضع سوءًا مع اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، ما فاقم الأزمات الاقتصادية القائمة. أشار تقرير (تطورات الاقتصاد السوداني للعام 2023) الصادر عن بنك السودان المركزي إلى أن معدل النمو الاقتصادي تراجع إلى سالب (18.3%)، مقارنة بـ سالب (2.5%) في عام 2022. واعتُبر “تعطيل سلاسل التوريد المحلية والإقليمية، وتأثر إنتاج وتصدير الموارد الطبيعية مثل الذهب” من أبرز أسباب هذا التراجع.

ورغم هذه التحديات، ظهرت بوادر أمل في يناير 2025، حين أعلن وزير المالية أن السودان أنتج 64 طنًا من الذهب في عام 2024. ورغم أن هذا الرقم لا يرقى لمستويات إنتاج الذهب بين عامي 2013 و2018، إلا أنه يُعد بداية إيجابية لوقف التدهور.

وأشار المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية محمد طاهر عمر، إلى أن هذه الزيادة تعود إلى تسهيل الإجراءات للشركات العاملة في قطاع الذهب، من خلال نافذة موحدة لتقليل البيروقراطية، وخفض الرسوم المفروضة. كما أعلنت الدولة خفض رسوم الامتياز إلى 18%، ورسوم إعادة طحن مخلفات التعدين إلى 20%، بهدف دعم الشركات النظامية.

مع ذلك، لا تزال التحديات قائمة، إذ اعترف عمر بأن 48% من صادرات الذهب لا تزال خارج القنوات الرسمية، مما يتطلب مزيدًا من الرقابة، وتفعيل نوافذ حكومية لشراء الذهب من المعدنين التقليديين، واستخدام تقنيات حديثة لمكافحة التهريب، وافتتاح مكاتب مراقبة في المعابر والمطارات الواقعة ضمن المناطق الآمنة.

ويُشكّل تهريب الذهب في السودان أحد أبرز التحديات الاقتصادية التي تواجه الدولة، حيث يؤدي إلى فقدان خزينة الدولة لموارد مالية ضخمة حيث قدر بعض المختصين خسائر السودان المالية من الذهب المهرب بحوالي 7 مليارات دولار سنويًا كان من الممكن تحصيلها عبر القنوات الرسمية، مما ينعكس سلبًا على الموازنة العامة ويضعف قدرة الحكومة على تمويل الخدمات الأساسية، كما يسهم التهريب في تفاقم عجز ميزان المدفوعات نتيجة خروج كميات كبيرة من الذهب دون تسجيل.

إضافة إلى ذلك، يؤدي انتشار التهريب إلى تقليل جاذبية قطاع التعدين للاستثمار المحلي والأجنبي، مما يعرقل جهود تطوير هذا القطاع الحيوي كأحد أعمدة الاقتصاد السوداني. 

ويعيش العديد من السودانيين في مناطق التعدين الأهلي على أمل الثراء من استخراج الذهب لكن بسبب تفشي التهريب وتدفق الذهب إلى الأسواق غير الرسمية تزداد أوضاعهم الاقتصادية سوءًا، كما أن العاملين في التعدين الأهلي يواجهون أيضًا مخاطر صحية بسبب أساليب التعدين غير المنظمة، ولا يحصلون على عوائد مادية مناسبة رغم الجهود الكبيرة التي يبذلونها.

كما أن المواد المستخدمة في عمليات استخراج الذهب مثل السيانيد يمكن أن يكون لها آثار صحية كارثية على العاملين وعلى السكان في المنطقة التي توجد بها المناجم وتتم فيها عمليات التعدين الأهلي، كما يستخدم المعدنون التقليديون معدن الزئبق في استخلاص ما نسبته 30% من الذهب الموجود في التربة من أجل تهريبه، ويواجهون مخاطر التسمم، في حين يتم استخلاص النسبة المتبقية باستخدام السيانيد في مصانع كبيرة، دون الالتزام بالاشتراطات اللازمة للحفاظ على سلامة الإنسان والبيئة.

من المستفيد من تهريب ذهب السودان؟

نركّز في هذا التحقيق على خمس دول رئيسية يُحتمل أن تكون لها علاقة، بشكل أو بآخر، بعمليات تهريب الذهب من السودان، بالإضافة إلى نظرة خاصة على دولة الإمارات، التي تُعدّ أحد أبرز مستوردي الذهب عالميًا، والذهب الإفريقي بشكل خاص.

يُوضح الشكل (3) إجمالي صادرات الذهب من ست دول: السودان، أوغندا، مصر، تشاد، كينيا، وجنوب السودان. تهدف هذه المقارنة إلى ملاحظة أنماط وتغيرات صادرات الذهب في هذه الدول، مع التركيز على فترة الحرب الأخيرة في السودان.

نلاحظ من الشكل وجود نمط واضح لارتفاع صادرات الذهب من الدول الأخرى بالتزامن مع انخفاض صادرات السودان، خاصة خلال عامي 2023 و2024، حيث ارتفعت صادرات مصر وأوغندا بشكل حاد، وكذلك تشاد ولكن بدرجة أقل، بينما شهدت صادرات السودان تراجعًا بنفس الحدّة. ورغم أن التزامن في ارتفاع وانخفاض الصادرات لا يعني بالضرورة وجود علاقة سببية مباشرة، إلا أن هذه الأنماط قد تشير إلى احتمالية وجود نشاط تهريب من السودان إلى هذه الدول. وسنستند إلى هذا المؤشر خلال البحث، وسندعمه بمقابلات مباشرة تهدف إلى تحديد مسارات التهريب، وحجم الذهب الذي يُهرب عبرها.

الشكل رقم (3): إجمالي صادرات الذهب من ست دول: السودان، أوغندا، مصر، تشاد، كينيا، وجنوب السودان في الفترة من 2018 إلى 2024

دور الإمارات في استقبال وتبييض الذهب الأفريقي المهرب

يوضح الجدول رقم (1) نسبة صادرات الذهب إلى الإمارات من إجمالي صادرات الذهب في الدول الست التي تركز عليها هذه الدراسة. تُظهر البيانات أن صادرات أربع من هذه الدول – وهي السودان، جنوب السودان، كينيا، وتشاد – تتجه بالكامل أو تكاد إلى الإمارات، ويستمر هذا النمط طوال فترة الرصد من 2018 إلى 2023. ويعني ذلك سيطرة شبه كاملة للإمارات على الذهب الخارج من هذه الدول.

أما الدولتان المتبقيتان، مصر وأوغندا، فقد صدّرتا أيضًا غالبية إنتاجهما من الذهب إلى الإمارات. ففي حالة أوغندا، توجهت كامل صادراتها من الذهب إلى الإمارات حتى عام 2022، بينما صدّرت مصر أغلب إنتاجها من الذهب للإمارات بنسبة تجاوزت 50% في معظم السنوات – أنظر الشكل رقم «4».

الدولة 2018 2019 2020 2021 2022 2023
السودان (%)
97.1%
97.2%
96.0%
99.0%
98.6%
99.8%
جنوب السودان (%)
100%
98%
26%
100%
100%
كينيا (%)
50.1%
24.4%
13.4%
49.2%
59.8%
89.1%
أوغندا (%)
99.8%
96.0%
100.0%
100.0%
62.3%
33.8%
مصر (%)
53.4%
66.8%
67.8%
31.8%
49.5%
50.1%
تشاد (%)
100%
100%
100%
100%
100%
100%

جدول رقم (1): نسبة صادرات الذهب إلى الإمارات من إجمالي صادرات الذهب (2018 – 2023)

المصدر: مرصد التعقيد الاقتصادي (OEC)

دور الإمارات في تجارة الذهب المُهرّب

لم تقتصر علاقة الإمارات بالذهب الإفريقي على الصادرات الرسمية، بل أصبحت أيضًا وجهة رئيسية للذهب المُهرّب. فقد أشار تقرير لمنظمة «سويس إيد» نُشر في عام 2022 إلى أن 66.5% من الذهب الذي استوردته الإمارات من إفريقيا – أي ما يعادل 40 طنًا – كان مهربًا من دول إفريقية. وذكر التقرير أن الإمارات تُساهم في “تبييض” الذهب، حيث تكتسب كميات كبيرة من الذهب المهرب صفةً قانونية بمجرد دخولها عبر الإمارات.

وأشار التقرير أيضًا إلى أن التهريب بهذا الحجم لا يتسبب فقط في فقدان العائدات الضريبية للدول، بل يُثير أيضًا مخاوف بشأن وجود اقتصاد غير قانوني يمكن استغلاله في غسل الأموال، تمويل الحروب والإرهاب، والتهرب من العقوبات.

وفي عام 2019، نشرت وكالة «رويترز» تقريرًا بعنوان «ذهب بمليارات الدولارات يُهرّب من إفريقيا»، تناولت فيه بالتفصيل دور الإمارات كوجهة رئيسية للذهب المُهرّب من القارة.

أشار التقرير أيضًا إلى وجود فروقات ضخمة بين الأرقام التي تُعلنها الإمارات حول واردات الذهب من الدول الإفريقية، وبين الأرقام التي تعلنها هذه الدول نفسها بشأن صادراتها للإمارات. ففي بعض الحالات، بلغت الفروقات نحو 1.3 مليار دولار، ما يُشير إلى نشاط تهريب أو تجارة غير قانونية.

ورغم الاتهامات، نفت وزارة الاقتصاد الإماراتية مسؤولية الدولة عن دقة بيانات التصدير للدول الأخرى، قائلة إن الإمارات لا يمكن أن تُحاسب على سجلات تصدير تصدرها حكومات غيرها.

الشكل رقم (4): إجمالي صادرات الذهب الرسمية إلى الإمارات من السودان، مصر، أوغندا، تشاد، كينيا، وجنوب السودان خلال الفترة من 2018 إلى 2023

بوجه عام، تبدو استفادة الإمارات من الذهب الإفريقي جلية، فقد استفادت من ضعف الرقابة لدى هذه الدول لتتحول إلى ثاني أكبر مركز لتجارة الذهب في العالم بقيمة تجاوزت 129 مليار دولار، وبنسبة نمو سنوي بلغت 36% في عام 2023. كما صعدت إلى المرتبة الثانية عالميًا في حجم صادرات الذهب في 2023 وفقاً لبيانات مرصد التعقيد الاقتصادي (OEC) – أنظر الشكل رقم «5».

الشكل (5): إجمالي صادرات الإمارات من الذهب بين عامي 2018 و 2023

الشكل (6): إجمالي واردات الإمارات من الذهب بين عامي 2018 و 2023

المصدر: مرصد التعقيد الاقتصادي (OEC)

الوجهة الأولى الإمارات:

الإمارات التي لطالما اتُّهمت بتزويد قوات الدعم السريع السودانية بالأسلحة سرًا عبر دولة تشاد المجاورة، وهي تهم نفتها أبوظبي بشكل قاطع وكشف تقرير داخلي مصنف (سري للغاية) اطّلعت عليه صحيفة الغارديان البريطانية عن رصد عدة رحلات شحن جوية من الإمارات استخدمت فيها طائرات نقل مسارات تُظهر محاولات متعمدة لتفادي الرصد أثناء توجهها إلى قواعد في تشاد، حيث تم توثيق عمليات تهريب أسلحة عبر الحدود نحو السودان ارتبط اسمها أيضًا بذهب السودان المهرب.

كشفت العديد من التقارير والتحقيقات الصحفية عن أن دولة الإمارات تلعب دورًا محوريًا في تهريب الذهب السوداني، إذ تصدّر كميات كبيرة من الذهب دون أن تمر عبر القنوات الرسمية للدولة، مما يعيق قدرة الحكومة السودانية على مراقبة وتحقيق الأرباح من صادرات الذهب.

وفقًا لبيانات بورصة دبي للسلع، أصبحت الإمارات العربية المتحدة ثاني أكبر مُصدّر للذهب في العالم في عام 2023، مُتجاوزًة بريطانيا.

 في عام 2023 أظهرت بيانات حصلت عليها منظمة سويس إيد أن واردات الإمارات من الذهب من تشاد الواقعة على الحدود الغربية للسودان تجاوزت بأكثر من الضعف القدرة القصوى المقدرة لإنتاج الذهب في البلاد ، مما يشير إلى أن معظم هذه الكميات كانت غير مُعلنة  ومُهرّبة عبر الحدود.

ويقول مارك أومل، الباحث في مؤسسة سويس إيد التي تقوم برصد تهريب الذهب من دول إفريقية إلى الإمارات، أنه لنفهم الحرب في السودان، يجب أن نتتبع الذهب، وسوف نصل إلى الإمارات العربية المتحدة. وكشفت تقارير الأمم المتحدة أنها صارت تمد الدعم السريع بالأسلحة وسائر اللوازم التي تحتاجها، وكثيرًا ما يحدث ذلك تحت ستار المساعدات الإنسانية.

الوجهة الثانية روسيا:

في سياق متصل، كانت هناك علاقات وثيقة بين قوات الدعم السريع وجماعة فاغنر الروسية السابقة، التي لعبت دورًا أساسيًا في تهريب الذهب السوداني مقابل تقديم الإمدادات العسكرية لقوات الدعم السريع في المراحل الأولى من الحرب.

ومن خلال الشركات الوهمية والشبكات المالية المعقدة، يتم تهريب الذهب السوداني، وفي بعض الأحيان بمساعدة شبكة فاغنر الروسية من  دارفور ويُعتقد أن مجموعة فاغنر، المرتبطة الكرملين الروسي، ساعدت في السابق في تأمين المعابر الحدودية واستخراج الذهب، كما ساهمتفي تدريب وتزويد قوات الدعم السريع بالمعدات العسكرية. 

وذكرت بعض تقارير الأمم المتحدة أن شحنات من الأسلحة الثقيلة، كصواريخ أرض-جو محمولة تُعرف بمنظومات الدفاع الجوي المحمولة تم إرسالها عبر ليبيا بفضل فاغنر والمشير خليفة حفتر، لقوات الدعم السريع.

ومن هنا يتضح جليًا كيف ساعدت ظاهرة تهريب الذهب خصيصًا من دارفور إلى تشاد ومن ثم الإمارات وتهريب الذهب عبر جماعة فاغنر الروسية في  استمرارية الصراع الراهن حيث استعمل الذهب كخام يهرب في مقابل الأسلحة والعتاد والدعم العسكري المستخدم في الصراع الراهن.

مناجم نشطة على مدار عامين من الحرب

يحدد مسؤول سابق في الشركة السودانية للموارد المعدنية لـ«بيم ريبورتس» المناطق التي تنشط فيها أعمال التعدين حاليًا في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السودانية في شمال وشرق جنوب السودان والجماعات المسلحة في غرب السودان. 

وتشمل المناطق النشطة في شمال وشرق السودان: (الانصاري، جبال النمر، نورايا، العبيدية، ابوحمد وحلفا). 

كما تشمل أكبر مناجم الذهب النشطة حاليًا مناجم أرياب وقبقبا ومناجم المغربية والعلاقي ودلقو والدويشات واورشاب ومناجم رضا وكوش في وادي العشار، في شمال وشرق السودان، بينما مناجم سنقو تعد الأبرز في أقصى جنوب غرب السودان. 

ورأى المصدر أن أبرز الأسباب التي تؤدي إلى تهريب الذهب في السودان بما في ذلك سياسات الدولة، عدم الثقة في الحكومة نفسها، والأسعار وفرق تصفية الذهب، بالإضافة إلى انهيار العملة والوضع الداخلي والحصار وسياسات البنوك، بالإضافة إلى استخدامه في عمليات شراء الأسلحة وبعد المسافة من مناطق الإنتاج للمركز عامل مهم ايضا. 

وردًا على سؤال حول جهود الحكومة السودانية في مكافحة تهريب الذهب وأبرز الخطوات التي اتخذتها خلال الفترات المختلفة، قال إن الحكومة تشتري الذهب حاليًا بأعلى من سعر البورصة وفق سعر تحفيزي، مضيفًا “للأسف الحكومة نفسها أكبر مهرب للذهب”.

مسارات تهريب ذهب نشطة في دارفور

بعد اندلاع الحرب في السودان سيطرت قوات الدعم السريع على معظم مناطق إقليم دارفور ما مكنها من السيطرة على إنتاج الذهب وتهريبه والتحكم في تجارته بالكامل.

وتتركز عمليات إنتاج الذهب في مناطق سيطرة الدعم السريع، في مناجم جبل عامر بشمال دارفور ومناجم منتشرة في منطقة سنقو في أقصى جنوب ولاية جنوب دارفور حيث يتم تهريبه عبر مسارات محلية، ثم إلى خارج البلاد، وصولًا إلى محطته النهائية في دولة الإمارات. 

تبدأ مسارات تهريب الذهب من جبل عامر في شمال دارفور مرورًا بعدة مناطق صغيرة وصولًا إلى مدينة الطينة السودانية ومنها إلى مدينة الطينة التشادية حيث يتولى استلام الذهب المهرب من السودان شركات وتجار والذين يعملون على تصديره على أنه ذهب منتج في تشاد، وبعد إيصاله إلى العاصمة أنجمينا يتم تصديره إلى محطته النهائية من مطار انجمينا إلى مطار دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة حيث مستقرة النهائي.

جبل عامر

وقال تاجر الذهب (محمد) إن الإنتاج في مناجم عامر يتم على مرحلتين؛ مشيرًا إلى أن المرحلة الأولى؛ تتم عن طريق المواطنين بشكل تقليدي، ثم بعد معالجة الذهب في المحاجر، تبدأ السيطرة عليه من شركة الجنيد المملوكة للدعم السريع حيث تتم معالجة الذهب عبر مادة السيانيد.

وقال إن الدعم السريع تقوم بتهريب الذهب عن طريق ليبيا بشكل محدود فيما يذهب معظمه حاليًا إلى تشاد، أما قبل الحرب كانت قوات الدعم السريع، تقوم بتهريبه عن طريق العاصمة السودانية الخرطوم. 

وأوضح أن المسار المفضل للتهريب عن طريق شمال دارفور هو الطريق البري عبر منطقة كورنوي بشمال دارفور ومنها إلى مدينة الطينة السودانية ثم إلى مدينة الطينة التشادية ومنها إلى مدينتي أبشي وأنجمينا التشاديتين.

وأكد أن كل هذه المسارات لا تذهب بطرق منتظمة، وفي كل مرة يتم تغيير التوقيت عبر الذهاب بمكان معين آخر وسط تأمين عال جدًا. وفي مرات كثيرة جدًا يتم تجاوز أو تغيير الطرق والمسارات المعتادة. 

«يتجنب المهربون دخول المدن أو المناطق الكبيرة، فقط يمرون عبرها أو حولها حيث يستخدم المهربون المسلحون الدراجات النارية ويتحركون في الليل، وبعد دخولهم إلى  تشاد لا يواجهون مشاكل تتعلق بالحصول على أوراق رسمية، حيث يحصلون على أوراق رسمية عبر شركات ذهب داخل تشاد، كما تساهم الحكومة نفسها في بقاء الوضع كما هو عليه لمصلحتها، عبر غض الطرف عن كل ذلك»، يقول (محمد).

وتقع منطقة جبل عامر غرب مدينة كبكابية بشمال دارفور وشرق مدينة الجنينة عاصمة غرب دارفور حيث تنتشر فيها مناجم عديدة، حيث تمر عملية الإنتاج باستخراج المواطنين الذهب من الآبار ومن ثم يذهب إلى الطواحين التقليدية ويغسل بمادة الزئبق.

“أما مرحلة استخلاص السيانيد تسيطر عليها الدعم السريع حيث يعتمدون عليها كما يقومون بمصادرة {لكرتة}  وهي (الذهب المستخلص) من المعدنين”، يضيف.

وتوجد أكبر مناجم الذهب في ولاية جنوب دارفور في أقصى جنوب الولاية في منطقة سنقو ومنطقة كفيا كنجي الحدودية مع جنوب السودان، وتقع هذه المناجم تحت سيطرة قوات الدعم السريع بالكامل.

في منطقة سنقو يوجد عدد من المناجم أكبرها منجم أغبش والذي يتم منه تهريب الذهب إلى دولتي تشاد وجنوب السودان عن طريق عدد من المحليات في جنوب دارفور وصولًا إلى الجنينة ومنها إلى أدري في تشاد وعدد من المناطق الحدودية الأخرى، مرورًا بمنطقة أم لباسة بجنوب دارفور، يوضح التاجر. 

ومسارات تهريب الذهب تتم عن طريق منطقة أم لباسة، وهي منطقة رئيسية في  أقصى جنوب دارفور وصولًا إلى الأراضي التشادية. 

وتتخذ الجهات المهربة مسارات سرية، حيث لا يكشف التجار مساراتهم، إذ أن بعض المهربين يذهبون عبر الطريق الرئيسي الرابط بين مدن: نيالا-نيرتتي-زالنجي وصولًا إلى الجنينة، ثم منها يعبرون إلى الأراضي التشادية عبر منطقة أدري، وحتى هناك توجد عدة طرق للوصول إلى أدري.

وفيما يتعلق بمسار جنوب السودان، يتم دخول الذهب من منطقة كفيا كنجي إلى داخل أراضي جنوب السودان، رغم أنه ليس بكميات كبيرة مثل الذهب المهرب إلى تشاد. 

وبحسب (محمد)، بالنسبة لجنوب السودان فإن بعض التجار الصوماليين يقومون بشراء الذهب المهرب وتجميعه حيث يتم إرساله بطرق عديدة إلى كينيا ومن هناك يتم إرساله إلى دولة الإمارات العربية عبر وسطاء في نيروبي ومومباسا الكينية كمحطة نهائية. 

كما يتم تهريب ذهب السودان من جنوب السودان عبر مسار أوغندا عبر الحدود البرية بشكل مستمر لكن ليس بكميات كبيرة في عملية التهريب الواحدة التي لا تتجاوز أكثر من كيلوجرام واحد.

وعبر مسار مناطق كفيا كنجي وسنقو بولاية جنوب دارفور، حيث توجد فيها عدة مناجم بينها مناجم: أغبش وتريسة ومناطق أخرى صغيرة وهم أكثر من 10 مناجم وأقل من 20.

«في وقت سابق إنه كانت توجد قوات النائب الأول لرئيس الجمهورية في جنوب السودان، رياك مشار، بالقرب من منطقة كفيا كنجي حيث توجد مناجم متداخلة حتى داخل الحدود مع جنوب السودان وما تزال تعمل»، يقول (محمد). 

وأشار إلى أن الذهب المنتج في منطقة بورو في جنوب السودان يعاد تسويقه في منطقة كفيا كنجي.

منجم شمال كفيا كنجي

منجم جديد شمال شرق كفيا كنجي

وضعف مسار جنوب السودان، مقارنة بمسار تشاد يعود إلى الفساد والهشاشة الأمنية العالية في البلاد، بحسب (محمد) والذي قال إنه أجرى اتصالات في بداية اندلاع الحرب في السودان مع الوزراء لمناقشة إمكانية جني فائدة من الذهب بالنسبة للحكومة بتأمين التجار والمسارات لتحجيم تهريب الذهب.

وأضاف (محمد) «في جنوب السودان، إذا خرجت من منطقة كفيا كنجي، وحتى تصل بأمان ستضطر إلى دفع مبالغ كبيرة جدًا، وذلك إذا لم تتعرض إلى عملية احتيال»، مشيرًا إلى أن هذا يصعب حمل كميات كبيرة من الذهب نسبة للتفلت الأمني، حتى لو كنت تحمل أوراقًا فإن رجال أمن آخرين في الغالب لن يعترفوا بتلك الأوراق، موضحًا أن جميع هذه العوامل، بالإضافة إلى الضريبة العالية، يجعل عملية التهريب صعبة.

ويتابع «هذا ما يجعل مسار تشاد في تهريب الذهب أفضل، وأن العائد من مناطق التعدين إلى مناطق البيع في تشاد عملية كبيرة نسبة لإمكانية استبدال الذهب بسلع أخرى».

لكن هذا الأمر بالنسبة لجنوب السودان ينتفي لعدم وجود مواد تموينية جيدة يمكن أن يتم تصديرها، كما أن تبادل السلع مع أوغندا عملية طويلة وقد يأخد حوالي شهر، وهذا غير مجزٍ للتاجر، لذا مسارات تهريب الذهب إلى تشاد هي الأفضل بالنسبة للتجار، فهي لا تأخذ أكثر من 4-5 أيام، يضيف.

لكن ثلاثة مصادر في شركة الجنيد التابعة لقوات الدعم السريع كشفوا عن مسار نشط لتهريب الذهب من ولاية جنوب دارفور عبر مدينة راجا في جنوب السودان والحدودية مع السودان، عبر الطائرات. 

وقال أحد المصادر الثلاثة لوكالة فرانس برس في مارس الماضي إن المنطقة الحدودية الجنوبية لدارفور وحدها تنتج ما لا يقل عن 150 كيلوجرامًا من الذهب شهريًا.

ووفقًا للمصدر يُرسل الذهب أولًا إلى مطار في مدينة راجا بجنوب السودان، “ثم يُنقل جوًا إلى أوغندا وكينيا، ثم إلى الإمارات”، والذي شارك بنفسه في الرحلة”.  

كما قدّر المصادر الثلاثة وهم مهندسون سابقون في شركة الجنيد أن أرباحها خلال الحرب لا تقل عن مليار دولار سنويًا، بناءً على الإنتاج والأسعار التقريبية للذهب.

وفي جنوب دارفور أيضًا أصبحت مدينة نيالا سوقًا كبيرًا جدا للذهب حيث تتم عمليات البيع والشراء في مناطق غير معلنة، ومن ثم يتم تجميع الذهب في السوق وبعد ذلك يتم تهريبه عن طريق نفس المسارات.
ليس الضرر في عامة مناجم الذهب السودانية اقتصاديًا، وحسب، وإنما لديه تبعاته البيئية المدمرة من استخدم مواد خطرة في استخلاص الذهب. لكن هذا الخطر يتضاعف في مناجم الذهب بولاية جنوب دارفور، حيث تجري وتتم هذه العمليات، في ومحيط، محمية الردوم الطبيعة.

جنوب كردفان

توجد عدد من المناجم في ولاية جنوب كردفان، جنوب غربي السودان، تتوزع السيطرة عليها بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية-شمال بقيادة عبدالعزيز الحلو، حيث يوجد مسار لتهريب الذهب المنتج هناك عبر التعدين العشوائي إلى دول خارجية.

تسيطر الحركة الشعبية-شمال والتي تقاتل الحكومة السودانية منذ عام 2011 على عدة مناجم لتعدين الذهب أشهرها وأكبرها في منطقة الليري حيث يتم استخراج الذهب بواسطة المعدنين تحت سيطرة الحركة الشعبية.

منجم أبو اصيبع شرق تلودي - الصورة مأخوذة في أكتوبر 2023

ويقول (محمد) إن مناطق الإنتاج في (جبال النوبة) في جنوب كردفان يسيطر عليها رئيس الحركة الشعبية-شمال عبدالعزيز الحلو.  

وأشار إلى أن الإنتاج في جنوب كردفان يتم بشكل تقليدي جدًا، كما لا توجد آليات كثيرة لزيادة الإنتاج. ومع ذلك، يعمل المواطنون بالطرق التقليدية حتى يتحصلوا على الذهب حيث أنها منطقة غنية بالذهب، فيما يقوم الحلو بشراء الذهب حيث يحتكر تجارته.

ومع ذلك، يسمح الحلو لبعض المواطنين في الفترات التي لا يوجد فيها اشتباكات مسلحة مثل موسم الأمطار أن ينقبوا عن الذهب و يستثمروا فيه. كما يعمل الحلو على تسريح الجنود للتنقيب عن الذهب في الأوقات التي لا توجد فيها اشتباكات.

وتابع: «تقوم الحركة الشعبية بتسويق ذهبها في كينيا»، موضحًا أن طريقة الإنتاج لم تتأثر بالحرب لأنها لا تعتمد على آليات كبيرة.

ويتم تهريب الذهب عبر الطائرات التي تهبط في المنطقة حيث يذهب معظم الذهب المنتج إلى دولة كينيا، فيما يذهب القليل منه عبر الحدود إلى دولة جنوب السودان، وفقًا لـ(محمد).

منجم شمال محلية أم دورين - الصورة مأخوذة في مارس 2025

شمال وشرق السودان

توجد عدد من المناجم في شمال وشرق السودان في ولايات البحر الأحمر ونهر النيل والشمالية، حيث تقع جميع هذه المناجم تحت سيطرة الحكومة السودانية لكن ومع ذلك يستمر تهريب الذهب بعد اندلاع الحرب إلى الجارة الشمالية للسودان جمهورية مصر العربية.

كما توجد مطاحن معالجة الذهب في منطقة أبوحمد بولاية نهر النيل والتي تُعد المركز الرئيسي لعمليات تهريب الذهب عبر الحدود البرية والنيلية إلى مصر كوجهة نهائية.

في الأصل مسار تهريب الذهب عبر صحراء منطقة أبو حمد، إلى مصر هو مسار تهريب للبشر، أو للهجرة غير القانونية إلى مصر التي تزايدت وتيرتها بعد اندلاع الحرب في السودان.

وتعج المنطقة بمهربين محترفين ولديهم خبرة قديمة في دروب الصحراء بما في تهريب البشر وتهريب السلاح وغيرهما من المواد غير القانونية في فترات سابقة حيث يستخدمون السيارات اليابانية في عمليات التهريب جميعها.

يبدأ مسار التهريب من أبو حمد عبر الصحراء القاحلة إلى أن يصل إلى قرب الحدود مع مصر حيث يتوقف المهربون السودانيون عند تلك النقاط قرب الحدود ثم يأتي المهربون المصريون لأخذ الذهب المهرب. وينخرط في هذه العملية في السودان تجار ومهربون وسط بعض الشبكات المرتبطة بالحكومة لكن ليس بشكل كبير.

ويقول التاجر (محمد) إن تهريب الذهب عبر شمال السودان إلى مصر تهريب بشري عبر مناطق شلاتين وبالقرب من معبر أرقين الحدودي بين السودان ومصر حيث يذهبون إلى المحافظات القريبة ومنها يذهبون إلى داخل مصر، مشيرًا إلى أن هذه المسارات أكثر ترتيبًا حيث يتم ترتيب اتصالات مع الجهات الحكومية والمخابرات الحدودية في السودان ومصر حيث يكونون على علم.

وفيما يتعلق بمركز التهريب في منطقة أبو حمد وأكبر الأسواق بولاية نهر النيل حيث توجد طواحين الذهب، أشار إلى أن بداية التهريب تكون منها حيث يشتري المهربون الذهب ويعبرون بعدة مناطق إلى حدود مصر، موضحًا أن مسارات التهريب غير منظمة حتى لا يتم اكتشافها، وأنه بعد الوصول إلى الحدود مع مصر يترجل المهربون من سياراتهم ويذهبون مسافة على الأرجل، ومن ثم يأخذون سيارات أجرة حيث ينتظرهم المهربون في الجانب الآخر الذين يكونون جاهزين.

ويؤكد أن مسارات تهريب الذهب إلى مصر هي نفس مسارات تهريب البشر، لكنه يقول إنها أكثر تنظيمًا مع وجود ترتيبات رسمية للتسهيلات وهي نفس سيارات الأجرة على الحدود. كما أشار إلى أن بعض التجار يتسلمون الذهب في سوق بورتسودان السوق الشعبي، حيث يقومون بإرسال ذهبهم من هناك إلى مدينة أسوان المصرية، موضحًا أنهم يذهبون إلى مصر ويجدون أن ذهبهم قد وصل إلى أسوان، وذلك اعتمادًا على الثقة المتبادلة، عكس ما يحدث بين التجار في دارفور.

وقال إن كميات الذهب القادم من الشمالية التي تدخل إلى مصر كبيرة جدا عند مقارنتها بمسارات التهريب الأخرى في غرب البلاد، موضحًا أنها تدخل بسهولة نسبة لوجود تنظيم عال حيث توفر الجهات الرسمية حماية لهم حتى وصولهم إلى القاهرة، عكس طرق دارفور حيث توجد مشاكل ولا يتوافر الأمن بشكل كبير.

أما بالنسبة لتدخل الجهات الرسمية في عمليات التهريب يقول إن هناك قسمين: جزء منهم يتلقى التعليمات من مسؤولين أعلى ويعمل على تنفيذها، وجزء آخر يأخذ رشى من التجار لتسهيل العملية، مشددًا على أن المسؤولين لا يدخلون في هذه العملية بأنفسهم.

ومع ذلك، يستمر الصراع في شمال وشرق السودان عبر طرق تهريب البشر بين السلطات الأمنية ومهربي الذهب.

يقول شاهد عيان سافر إلى مصر عبر طرق التهريب انطلاقًا من عطبرة، مرورًا بالصحراء وصولًا إلى مصر عن طريق مثلث حلايب المحتل، لبيم ريبورتس إن سائق العربة وشخصًا آخر معه كانا مسلحين ويحملان معهما ذهبًا ونحاسًا وأسلحة مهربة. 

وأكد المصدر أنه قد جرى تبديل فريق المهربين بكامله بعد دخول السيارة إلى الأراضي المصرية.  

في المقابل، أكد المصدر إحباط السلطات محاولة تهريب أكثر من 100 كيلو جرام من الذهب محملة على متن سيارة في مدينة عطبرة شمالي البلاد كانت في طريقها إلى مصر. 

وكشف تحقيقان لميدل آيست آي نُشرا في نوفمبر 2024 ويناير 2025 عن استمرار تهريب الذهب من السودان إلى مصر خلال الحرب الدائرة في البلاد.

مشترو الذهب

يقول التاجر (محمد) إن مسألة بيع وشراء الذهب تخضع لسيطرة رأس المال التجاري، مؤكدًا أنه لا حكومة السودان أو تشاد تشرف على ذلك، ولا توجد أي جهات منظمة في هذا الأمر.

وأضاف «هم تجار لديهم رأس مال يشترون الذهب سواء من  نيالا أو الفاشر أو الضعين أو كفيا كنجي يحملون الذهب بأنفسهم ويذهبون به إلى تشاد عبر وسطاء في تشاد مثل الشركات المسجلة والتي تقوم بدفع الضرائب لهم ومن ثم تستلم الذهب وتأخد الذهب إلى الإمارات».

وأكد أن لدى الإمارات شركات في تشاد تقوم بشراء الذهب ويتحصلون على ورق باعتباره ذهبًا تشاديًا، موضحًا عدم تدخل أي جهات في عمل هذه الشركات عند تجميع الذهب على الحدود خصوصًا في مناطق التماس بين السودان وتشاد.

ولفت إلى أن التجار يقومون بتأمين الذهب بطرقهم الخاصة، وفي حالات يستأجرون جماعات في الدعم السريع. فيما يمتلك بعضهم الأسلحة وسيارات الدفع الرباعي، حيث يصلون بطريقة منظمة ومرتبة ومؤمنة، ومن ثم يدخلون إلى تشاد إما يبيعون الذهب إلى وسطاء تشاديين، أو عادوا إلى الحدود لاستبدال أموالهم ومن ثم يعودون إلى داخل السودان مرة أخرى. 

ويصل الذهب السوداني المهرب إلى الإمارات بأوراق تشادية وإنتاج تشادي، وكذلك ينطبق الأمر على مصر، حيث تصبح بلد المنشأ وكذلك ليبيا وكينيا وجنوب السودان، حيث لا يرد اسم السودان إطلاقًا.

وأكد أن الجهات الرقابية في الدول التي يصلها ذهب السودان المهرب يستطيعون عن طريق الشفرات في الذهب أن يعلموا أنه ذهب سوداني أو قادم من السودان، حتى عند دخوله إلى آليات الفحص في دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة يتم التعرف عليه بسهولة كونه ذهبًا سودانيًا وإن أتى بأوراق تشادية.

أما في جنوب السودان يسيطر تجار صوماليون على شراء الذهب من سوق النعام وجوبا بكميات بسيطة، حيث يتم إرساله إلى كينيا لكثرة الصوماليين هناك ووجود سوق مواز كبير تتم فيه عملية البيع والشراء ويجري تصديره إلى أوروبا وشرق آسيا وكندا وأسعاره أعلى من دبي والمنفذ من هناك. 

ومعظم مشتري الذهب سودانيون أو صوماليون (تجار من الدرجة الثالثة)، حيث يوجد تجار أكبر منهم في رأس المال في جوبا حيث يقومون بشراء الذهب منهم، وهؤلاء يعيدون بيعه مرة أخرى إلى صوماليين في نيروبي أو مومباسا.

وأوضح التاجر (محمد) أن جزءًا منهم يبيع الذهب في دبي لتعامله مع شركات هناك، لكن ليس بكميات كبيرة، مقدرًا الكميات بأنها لا تتجاوز 2-3 كيلوغرام للشخص الواحد في اليوم، أما المتبقى من الذهب يباع إلى تجار أكبر في كينيا. وقال إن هؤلاء لديهم طرق خاصة للتصدير خارج البلاد (أيضًا صوماليين).

فيما يصل الذهب المهرب إلى شرق إفريقيا عبر مسار طويل جدًا، بالذات المسار البري من شمال السودان، حيث توجد صعوبات كبيرة فيه. 

ومع بداية الحرب كانت توجد مجموعات لديها ارتباطات بالدوائر الحكومية في أوغندا وجزء منهم أفراد بارزين في نظام الرئيس السابق عمر البشير، بالإضافة إلى دبلوماسيين، حيث يتم تهريب كميات مقدرة عبر مطار بورتسودان.

ولا يوجد في أوغندا سوق مركزي للذهب كما أنه سوق ضعيف، لكن يوجد فيها مصفى للذهب يتبع لشركات تنتج في الكونغو وإفريقيا الوسطى.

ومع ذلك، تصل كميات من الذهب السوداني إلى أوغندا، رغم أنها كميات بسيطة ويعرفها بأنها أقل من كيلوغرام واحد، موضحًا أن الكميات الكبيرة عادة ما تكون منظمة.

كما أن هناك منتجين للذهب في شمال السودان أو جبال النوبة ومناطق كفيا كنجي، لديهم أبنائهم في أوغندا فيحملون كميات بسيطة بين 100-300 جرام يتم تمريرها في البوابات وتباع في أوغندا.

وفي مقابلة مع الزميل الباحث في ائتلاف دعاة التنمية والبيئة (ACODE) في أوغندا، بول تويبازي أوضح أنه بعد إجراء دراسات لتقييم العائدات من المعادن – وخاصة الذهب، إذا ركزنا على الذهب فقط، لوحظ أن صادرات الذهب من خلال أوغندا استمرت في الارتفاع منذ عام 2019. إذ أننا في السنة المالية 2019/2020، حصلنا على 19 مليار من صادرات الذهب، ومن ثم شهدنا قفزة كبيرة جداً في العام التالي، حيث ارتفعت العائدات إلى 202 مليار.

وأضاف “لا تزال الصادرات في ازدياد، لكن المشكلة أن حجم التصدير يرتفع بينما الإنتاج ينخفض بحسب المصادر الرسمية. وهنا يبرز السؤال: من أين يأتي هذا الذهب الإضافي؟ لأننا ننتج أقل ولكننا نصدر أكثر وأضاف عندما يصل الذهب إلى أوغندا، يتم تكريره هنا في مصافينا، ثم يُرسل إلى دبي ليُباع في السوق هناك.

تمويل الحرب عبر تهريب الذهب

تهريب الذهب رافق السودان لسنوات عديدة ولكن عقب اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023 بين الجيش والدعم السريع تفاقمت ظاهرة تهريب الذهب لعدة عوامل كان أبرزها: الإنفاق العسكري والسيولة الأمنية والأطماع الخارجية الناتجة عن الوضع في السودان والتفكك الأمني الناتج عن الحرب.

ونسبة لتلك العوامل تفاقمت ظاهرة التهريب للتمويل الحربي بالنسبة للحكومة والسودانية والجماعات المسلحة، على رأسها قوات الدعم السريع.

وذكرت مؤسسة Global Witness في تحقيق مفصل حول كيفية تمويل قوات الدعم السريع، التي يقودها محمد حمدان دقلو (حميدتي)، والروابط المالية والاقتصادية التي تدعمها.

وسلط التحقيق الضوء على الطرق التي تستخدمها هذه القوات لتأمين المال والتوسع في العمليات العسكرية، وكيف تؤثر هذه الشبكات المالية على الاستقرار السياسي في السودان.

ومن طرق التمويل التي استحوذت عليها الدعم السريع لدعم نشاطها العسكري كان الذهب، حيث تقع مناطق تعدين الذهب في ولاية دارفور، خصيصًا منطقة جبل عامر، تحت سيطرة قوات الدعم السريع.

وتقوم قوات الدعم السريع بتهريب الذهب من مناطق الإنتاج إلى تشاد ومن ثم تواصل تلك الشحنات من الذهب المهرب رحلتها إلى الإمارات.

ومن المرجح، بحسب التحقيق أن يكون جزءًا كبيرًا من إنتاج المناطق الخاضعة لسيطرة القوات المسلحة السودانية قد هرب إلى مصر ولا تتوفر بيانات دقيقة عن كمية الذهب التي تصل من السودان إلى مصر.

وتشير أرقام بنك السودان المركزي إلى أن البلاد صدّرت ذهبًا بقيمة 16 مليون دولار فقط إلى جارتها الشمالية في عام 2024، ومع ذلك، تشير التقديرات في الواقع إلى أن صادرات الذهب غير الرسمية والمهربة إلى مصر تُمثل حوالي 60% من إنتاج ولايات الشمالية ونهر النيل والبحر الأحمر والتي عملت على زيادة إنتاجها عقب الحرب لتغطية التمويل الحربي.

ويلعب الذهب دورًا محوريًا في تمويل الصراع في السودان حيث يهرب الذهب عبر مسارات محددة في شمال وغرب وجنوب البلاد، ومن هناك يجد ذلك الذهب المهرب طريقه إلى دول مثل الإمارات وروسيا وغيرها، التي ثبت تورطها في الحرب الراهنة الآن في السودان.  

وقد عرض مقال للأمم المتحدة بعنوان (الذهب المهرب يؤجج حرب السودان) التأثيرات الخطيرة التي يخلفها تهريب الذهب على الصراع في السودان. يبرز التقرير الدور الكبير الذي يلعبه الذهب في تمويل الحرب المستمرة في البلاد، خاصة من خلال قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) وكان المقال قد ركز على وجهتين أساسيتين لتهريب الذهب يمكن أن يكون لهما دور في تمويل الحرب الراهنة. 

تم دعم هذه القصة من قبل كود فور أفريكا (Code for Africa) وتم تمويلها من قبل الوكالة الألمانية للتعاون الدولي (GIZ).

السودان: حاضر ممزق ومستقبل غامض بعد عامين من الحرب

أكملت الحرب عامين للتو، أكلت خلال أيامها الأكثر سوءًا في تاريخ السودان الحديث، الأخضر واليابس، وحولت البلد العريق إلى مرقد للموتى وساحة للتدخل الخارجي والنفوذ الأجنبي الذي زاد من أوار الحرب وحول الشعب وبلاده القديمة إلى أجندة روتينية في الأروقة البيروقراطية للمنظمات الإقليمية والدولية والأممية، وملف مختوم بالدم في الأدراج المخابراتية، وسط اتفاق سوداني-سوداني غير مكتوب: لن نتفق. 

كان السودانيون في العاصمة السودانية الخرطوم في ليلة الجمعة التي سبقت إطلاق الرصاصة الأولى التي أعلنت عن بداية أكثر حروب البلاد مأساوية، منغمسون في فعالياتهم الرمضانية ومتجاوزين توترات تصريحات قادة الجيش والدعم السريع والتصعيد العسكري في شمال البلاد غافلين عن أن تلك الليلة ستكون آخر ليلة آمنة في منازلهم وعاصمتهم التي مزقتها الحرب على غفلة منهم لتصبح عاصمة للخراب والدمار.

حيث لم تكن أصداء غناء السودانيين في وسط الخرطوم على أنغام آخر حفل لفريق بيت العود قد توقفت بعد، لتخلف وراءها صمتًا قاتمًا يخيم على أرجاء العاصمة، بينما اندلعت الانفجارات وتناثر الرصاص هنا وهناك معلنةً بداية مرحلة من الدمار والفوضى مع حلول الصباح.

ومع ارتفاع أصوات الرصاص والاشتباكات في اليوم الأول للحرب أعلنت قوات الدعم السريع سيطرتها على مواقع استراتيجية رئيسية غير أن الجيش نفى صحة ذلك.

بدأت آثار الصراع تظهر منذ اليومين الأوائل بتعليق المنظمات عملها وانسحاب الدبلوماسيين والرعايا الأجانب إذ أعلن برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة عن تعليق عملياته مؤقتاً في السودان بعد مقتل ثلاثة من موظفيه منذ بدء المعارك كما بدء اخلاء الفرق الدبلوماسية منذ 21 أبريل 2023.

وفي الشهر الثاني من الحرب قال إعلام مجلس السيادة السوداني إن رئيسه عبد الفتاح البرهان أعفى قائد الدعم السريع ونائبه السابق. 

وبتاريخ 11 مايو 2023 انطلقت أولى وساطة برعاية سعودية-أمريكية (اتفاق جدة) بشأن وقف إطلاق النار لمدة سبعة أيام إضافة إلى إجراء ترتيبات لوصول المساعدات الإنسانية لكن القتال لم يتوقف ولم تفلح أي مبادرات إقليمية ودولية أخرى بعدها في توجيه الأطراف المتصارعة لوقف القتال حتى اللحظة.

صحيًا، تقدر وزارة الصحة الإتحادية بالسودان التكلفة المالية لإعادة تأهيل القطاع الصحي الذي تدمر من الحرب بـ(2.2) مليار دولار خلال العام الأول فيما أبدت عدد من الدول رغبتها في المساهمة في الخراب الذي أحدثته الحرب خاصة في مجال الصحة.

إنسانيًا، نزح ما يقرب من 12 مليون شخص، عبر أكثر من 3.8 مليون منهم الحدود إلى الدول المجاورة فيما يحتاج أكثر من 30 مليون شخص إلى الدعم الإنساني، ويعاني أكثر من نصف عدد السكان- أي نحو 25 مليون شخص من الجوع الحاد، بحسب الأمين العام للأمم المتحدة الذي دعا في تصريح صحفي بمناسبة مرور عامين علي الحرب إلى إنهاء الصراع ـ العبثي ـ كما وصفه قائلاً إنه بعد مرور عامين من الحرب المدمرة، لا يزال السودان عالقا في أزمة ذات أبعاد مذهلة يدفع فيها المدنيون الثمن الأعلى”.

كما قال المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين،فيليبو غراندي أن الحرب المستمرة منذ عامين أدت إلى ما هو الآن أسوأ أزمة إنسانية وأزمة نزوح في العالم، وقد تفاقمت بسبب الخفض الحاد في المساعدات الدولية.

محليًا، طالبت عدد من القوى السياسية بتوقف الحرب والوصول إلى حل تفاوضي وتجنيب السودانين مآسي الحرب.

وتمسك تحالف القوى الديمقراطية المدنية (صمود) بتشديده على ضرورة وقف الحرب إذ قال رئيسه عبد الله حمدوك اليوم إنه من المؤسف والمحزن أن التعنت والإصرار على الحسم العسكري ولو على حساب الوطن ومعاناة شعبنا المنكوب يقفان حجر عثرة أمام كل مبادرات المخلصين من أبناء السودان وجهود الإقليم والمجتمع الدولين.

وأضاف «أقول لطرفي القتال لا توجد حلول عسكرية مهما تطاول الأمد، وكفى معاناة شعبنا ودمار بلادنا. أمام المهددات التي تواجه الوطن لم يعد أمامنا اليوم وقت للمناورات وشراء الوقت، ولابد من خطوات عاجلة».

واعتبر أن إيقاف الحرب ممكن عبر مبادرة (نداء سلام السودان) التي أطلقها التحالف في شهر رمضان لإنهاء الحرب عبر خطوات عملية وواقعية وذات مصداقية تضم الأطراف الوطنية والإقليمية والدولية في عملية واحدة تضع حدًا للجمود الحالي.

وفي الأثناء، قال رئيس حزب المؤتمر السوداني، عمر الدقير، في خطاب مصور بمناسبة مرور عامين على اندلاع الحرب، إنه وسط هذا الركام الحراب بقي شيء لم يتحطم وهو إرادة الشعب للحياة الكريمة، وتمسكه بالفضائل التي طالما ميزته.

وتوجه برسائل للسودانيين بتصويب أبصارهم إلى المستقبل وتحويل الآلام إلى طاقة نحو السلام والمحبة لا الكراهية والبناء لا الخراب وتقليب البصيرة السديدة لإعادة للبلاد عافيتها، وإلى أطراف الحرب للدعوة لوضع السلاح.

ورأى الدقير أن الانتصار الحقيقي للوطن وشعبه هو إيقاف الحرب وقطع دابر فتنتها والإصغاء لصوت العقل والحكمة للوصول إلى وقف اطلاق للنار وبناء دولة كريمة توفر الحياة لأهلها دون تمييز. 

كما أرسل رسالة إلى القوى المدنية بإتخاذ موقف يليق بحجم المآساة قائلاً إن الجميع مطالبون بأن يكونوا على قدر التحدي والمسؤولية وتجاوز الخلافات الصغيرة وانجاز توافق وطني واسع يفتح الطريق نحو سلام مستدام وانتقال ديمقراطي حقيقي واهداف ثورة 19 ديسمبر. كذلك وجه رسالة للمجتمع الدولي والإقليمي بأن حرب السودان مأساة انسانية تتطلب تجاوز الخطب الكلامية لسد الفجوة وتنسيق الجهود الدولية للمساعدة في إيقاف الحرب  متأملاً أن يتم ذلك عبر مؤتمر لندن.

وفي بيان له، تمسك حزب التجمع الإتحادي بأنه لا يوجد حل عسكري ينهي هذه الحرب، لطبيعة أطرافها وطبيعة أسبابها وجذورها وامتداداتها التاريخية والجغرافية والأمنية والجيوسياسية.

وشدد على أن الأولوية في الوقت الحالي هي حماية المدنيين ورفع الكارثة الإنسانية التي خلقتها الحرب على مدى عامين وهذا يتطلب تضافر كل الجهود المحلية والاقليمية والدولية لتوفير الغوث الانساني الضروري لإنقاذ حياة السودانيين ولإدخال المساعدات. 

أما حزب الامة القومي قال في بيان إن حرب 15 أبريل تمثل وصمة عار في جبين مشعليها وداعميها، وهي جريمة مكتملة الأركان، تُخالف تعاليم الأديان، وقيم الشعب السوداني، والأعراف الأخلاقية والإنسانية، لما شهدته من فظائع وإنتهاكات بشعة بحق المدنيين الأبرياء.

وأكد على أنه لا حل عسكرياً لهذه الأزمة الوطنية العميقة، وأن الواجب الوطني والتاريخي يفرض على جميع أبناء الوطن اغتنام هذه اللحظة المفصلية، لإيجاد معادلة وطنية عادلة تُشارك فيها القوى السياسية والمدنية والمجتمعية الرافضة للحرب، والداعمة لخيار السلام.

صراع غير نظامي

ورأى محللون سياسيون في حديث لـ«بيم ريبورتس» أن الحرب في السودان تحولت إلى صراع غير نظامي معقد تغذّيه تدخلات خارجية وانقسامات داخلية، وفشلت في تحقيق أهدافها السياسية، مع اقتراب سيناريو التقسيم والتشظي إلى كانتونات مسلحة. 

وأجمعوا على أن نهاية الحرب لن تتحقق إلا عبر حل سياسي شامل يبدأ بالاستجابة للأزمة الإنسانية ويضمن وحدة البلاد، وسط غياب مؤشرات قريبة للتسوية، وتفاقم الكارثة الإنسانية والمجتمعية

المحلل السياسي عبد الرحمن الغالي قال لـ«بيم ريبورتس» إن الحرب بدأت كحرب شبه نظامية وانتهت كحرب غير نظامية استخدمت الدعم السريع فيها  التكتيكات الثلاثة للحروب غير النظامية وهي التمرد بهدف إسقاط النظام والحلول محله، وحرب العصابات متمثلة في الضرب والهرب، وثالثاً الإرهاب بغرض ترويع المواطنين ونزع الثقة في الجيش وإظهار عدم مقدرته على حمايتهم ودفعهم للاستسلام لمطالبه.

وأضاف «غني عن القول وضوح وسفور العامل الأجنبي في الحرب لا سيما العامل الإماراتي وتوابعه من دول الجوار والاقليم»، معتبرًا أن كل هذه التطورات والتعقيدات حدثت في العامين السابقين وأوصلت البلاد لوضعها الحالي. 

في المقابل، يرى الصحفي والمحلل السياسي، شوقي عبد العظيم، في إفادته لـ«بيم ريبورتس» إنه يمكن أن نرى بوضوح فشل مشروع الحرب السياسي الذي كان يسعى إلى تمكين الإسلاميين وقوى سياسية وحركات مسلحة متحالفة معهم منذ انقلاب 25 أكتوبر 2021 .

 واعتبر عبد العظيم أن عوامل فشل المشروع الحرب ـ السياسي ـ أنه كان يعتمد على أن تكون الحرب سريعة وخاطفة في أسبوع أو أسبوعين يفرض بعدها الجيش سيطرته على البلاد والإسلاميين من خلفه ليفرضوا واقع جديد شبيه بما حدث في 1989 عند انقلابهم على السلطة مستخدمين الجيش نفسه، مضيفًا «لكن فشل خطة الحرب الخاطفة أفشل المشروع السياسي الذي دفعهم لإشعال الحرب».

سيناريوهات مزعجة

الغالي قال إنه بعد مرور عامين من اندلاع الحرب، فإن كل عوامل وفرص السيناريوهات المزعجة قائمة لا سيما مع وجود مصالح إقليمية ودولية وسهولة تأجيج الصراع وإذكائه.

وأضاف أن هناك تطور آخر خلال العامين هو تحول الحرب من حرب صراع على السلطة إلى استخدام شعارات سياسية قد تحول طبيعة الحرب، موضحًا أن ذلك بدأ باستخدام الدعم السريع لشعار استعادة الديمقراطية ثم محاربة الإسلاميين (الكيزان) ثم محاربة دولة 56 واستبطان أنها تمثل مكوناً اجتماعياً واحداً وانتهاءً بالتبشير بالسودان الجديد العلماني.

وحول احتمالية تقسيم السودان في ظل استمرار الحرب استبعد الغالي اتجاه البلاد للتقسيم على غرار النموذج الليبي إذا كان المعني بالتقسيم تكوين سلطة في دارفور في استقلال عن بقية السودان.

 وتابع «ما يمنع ذلك الانقسام المجتمعي الحاد في دارفور لا سيما بعد استهداف الدعم السريع للمساليت في الجنينة وأردماتا وبعد حصاره للفاشر واعتبار سكان الفاشر لا سيما قبيلة الزغاوة أن الحرب صارت حرب وجود» .

 وأشار إلى أنه حتى ولو سقطت الفاشر فلن يكون بمقدور الدعم السريع تكوين سلطة على غرار سلطة خليفة حفتر في ليبيا، لافتًا إلى ذلك الانقسام المجتمعي ينطبق أيضًا على جنوب كردفان وجبال النوبة حيث تنعدم كذلك فرص الانفصال. 

ومع ذلك رأى الغالي أن هناك سيناريوهات أسوأ من التقسيم وهي التشظي وقيام كانتونات معزولة تحت لوردات حرب أو حتى تحت سيطرة الدعم السريع والحركات المسلحة الأخرى ( كحركة الحلو وعبد الواحد)، أو الفوضى وإزعاج الأمن حتى ولو انحسرت قوة الدعم السريع وذلك باستهداف المدن بالتدوين والمسيرات والعمليات الخاطفة، لا سيما إذا لم يتم تحييد المجتمعات من الانخراط في الحرب.

نهاية الحرب ليست وشيكة

استبعد الغالي أن تكون نهاية الحرب وشيكة، معتبرًا أن عوامل استمرارها متوفرة بشدة  مثل الغبن الاجتماعي وتفكك النسيج وارتفاع النعرات القبلية والجهوية والثأرات بعد الموت الفظيع والانتهاكات وانتشار السلاح وتراجع الحس المدني لدى قطاعات عريضة من الشعب السوداني بالإضافة إلى ضعف القوى المدنية والسياسية في نفسها تنظيمياً وفكرياً وعجزها عن تقديم رؤى تحاصر الحرب، وضعف تأثيرها مع شحنات التجييش والعسكرة إضافة لعجزها عن فهم طبيعة الحرب والغرق في توصيفات خاطئة إما بسبب ضيق أفقها وغرقها في الصراع السياسي أو بسبب ارتباطات خارجية وداخلية جعلتها في غير صف الجماهير أو على الأقل باعدت تلك المواقف بينها وبين الشعب الذي رآها في غير صفه أو لا تهتم بمآسيه وفق ما يرى الغالي.

وتابع الغالي «لا ننسى الأجندة الإقليمية والدولية المتضاربة الطامع منها والمستفيد من استمرار الحرب بعضها طامع في موارد السودان أو بعض أرضه، وبعضها يستفيد من إضعاف السودان لضرورات أمنه القومي كما يرى، وبعضها يريد اضعاف السودان لأسباب أيديولوجية وبعضها ربما يتكسب من بيع السلاح».

ولفت الغالي إلى أن الحرب بغرض استيلاء الدعم السريع على السلطة قد فشلت لحد بعيد، منبهًا إلى أن الجهات الداعمة لها ستسعى لتبديل استراتيجيتها بتقوية الحركات المتمردة الأخرى، والضغط السياسي الدولي بفرض تسوية تُبقي على وضع التنازع الداخلي وتمنع تحقيق انتصار حاسم للجيش كما حدث عندما تغير ميزان القوى لصالح نظام الإنقاذ في حربه ضد الحركة الشعبية (حركة قرنق) بدخول عامل استخراج البترول.

وأردف «الآن يقوم تحالف (ALPS)  بدور منبر شركاء الايقاد (IPF)  السابق في سلام نيفاشا ويقترح التحالف نفس الخطوات السابقة البدء بعملية انسانية تعقبها عملية سياسية».

أربع مراحل لإنهاء الحرب

رأى الغالي في حديثه أن إجراءات إنهاء الحرب يمكن أن تمر بأربعة مراحل الأولى المسألة الانسانية وهي مرحلة تتطلب رؤية شاملة وليست مثل الرؤية الجزئية بفتح معابر محددة لإغاثة مناطق معينة وإنما رؤية شاملة وفق خطة تتفق عليها جميع الأطراف: الوسطاء وأطراف الحرب وفق معايير موضوعية بحسب ما أوضح.

والمرحلة الثانية هي وقف العدائيات لتمكين تنفيذ الخطة الإنسانية والتشاور على شروط وقف إطلاق النار بينما المرحلة الثالثة وقف إطلاق النار والذي ذكر أن الوصول إليه يحتاج لاتفاق إطاري (أو إعلان مبادئ) يتضمن  ضمان وحدة السودان والجيش القومي المحتكر للسلاح ودمج كل المليشيات عبر برنامج DDR وفق المناسب للبلاد بعد تجربة الحرب، ومعرفة مصير الدعم السريع حتى لا يصير وقف إطلاق النار مجرد هدنة يتم فيها التقاط الأنفاس وتعويض نقص الأفراد والسلاح.

أما المرحلة الرابعة والأخيرة فهي مرحلة الحل السياسي عبر التفاوض ويتم فيها إكمال الحل السياسي وإنهاء الحرب والدخول لمرحلة انتقالية وأشار إلى أن هذه المرحلة لا ينبغي أن تُترك لأجندة الدول الراعية للعملية السياسية ولا أطماع القوى المقاتلة ولا مخاوف الحكومة، بل يجب أن يتوحد العقل السياسي السوداني حول مصلحة السودان القومية ومطالبه والثوابت الوطنية التي ترسم الخطوط الحمراء التي لا ينبغي أن يتم تجاوزها.

وأوضح الغالي أنه إذا تم الوصول لنهاية الحرب وفق التصور أعلاه يمكن أن تكون هناك حكومة قومية من كفاءات مدنية تنبثق من الحوار السوداني السوداني يقتصر دورها على إعادة الإعمار وهي عملية ضخمة للغاية، في شراكة مع الجيش كضامن للفترة الانتقالية وحامي من المهددات الأمنية الداخلية والخارجية. بينما تتجه الأحزاب لترميم وتجديد وتنظيم نفسها استعداداً للانتخابات بعد نهاية الفترة الانتقالية حسب ما يتفق على مدتها في الحوار السوداني الجامع.

وشدد على أنه ليس هناك شرعية إلا شرعية التراضي الوطني القومي الناتج عن الحوار السوداني السوداني الجامع قبل الانتخابات والشرعية الديمقراطية الشعبية الانتخابية بعد الفترة الانتقالية.

التقسيم أقرب للتحقق من أي وقت مضى

المحلل شوقي عبد العظيم قال إنه لا يستبعد تقسيم السودان إلى أكثر من دولة، مضيفاً وربما هو أقرب للتحقق أكثر من أي وقت مضى والمؤكد أن هناك جهات تشجع هذا التوجه وفي مقدمة هذه الجهات الجيش نفسه في إدارته السياسية التي تسيطر عليها الحركة الإسلامية ولا تمانع دول كبرى في مساندة خطة التقسيم في حال تحقق استقرار وإن كان مؤقتا.

وتابع «من بين هذه الدول الولايات المتحدة الأمريكية والتقسيم سيكون بين الإسلاميين المتحكمين في الجيش والإسلاميين في الدعم السريع وبين من يسعون إلى حصاد ثمار الحرب بالسياسية في الدعم السريع والجيش».

وزاد «من بين المؤشرات توجه الدعم السريع نحو تأسيس حكومة في مناطق سيطرته في دارفور وانسحابه غربا وكذلك إهمال الجيش للمناطق في دارفور وما نشهده هذه الأيام من احتجاج مكتوم من قيادات الحركات المسلحة واتهامهم المبطن للجيش بتلكؤ في الدفاع عن الفاشر وفي مقدمتهم حاكم الإقليم مناوي».

لن تنتهي إلا بالاتفاق

وعن توقعاته لإنهاء الحرب يرى أن هذه الحرب لن تنتهي إلا بالاتفاق مستبعدًا أن تكون هناك نهاية عبر السلاح، مضيفًا للأسف سيناريو التقسيم يمكن أن يكون أحد الاتفاقات. وقال لا يمكن إن تقف إلا بزيادة الوعي الداخلي بعبثيتها وأنها لن تحقق مكسب للسودانيين وكذلك بتدخل دولي واقليمي قوي مسنودًا بالإرادة الشعبية والجماهيرية. 

وتابع: يكفي أن البلاد الآن مدمرة ولا تستطيع حكومة الأمر الواقع الإجابة على أبسط الأسئلة المتعلقة باليوم التالي للحرب ويكفي فقط سؤال الاقتصاد.

ورأى إن الطريقة التي ستتوقف بها الحرب ستحدد مستقبل التحول المدني الديمقراطي في حال ذهبنا إلى سيناريو تقسيم البلاد بين المتحاربين سيتعقد مستقبل الديمقراطية والتحول المدني لحد بعيد ولكن في حال الحل التفاوضي السياسي الدبلوماسي لا بد من فرض شروط ثورة ديسمبر المتمثلة في الديمقراطية والحرية والعدالة والجيش المهني الواحد.

الحرب في أسوأ حالاتها

المتحدث بإسم تحالف القوى المدنية الديمقراطية صمود بكري الجاك يرى في حديثه لـ«بيم ريبورتس» أن الواقع معقد للغاية في ظل إصابة التفاوض بحالة شلل واستمرار الحرب في حالة من اللانهاية.

ويعتقد الجاك أن الحرب في أسوأ حالاتها حالياً وليس هناك ما يشير إلى اتجاهها للخمود والتراجع، مضيفًا «الانقسام الإجتماعي واضح للعيان والحقيقة أصبحت واضحة أن استمرار الحرب له تبعات تنموية وكارثية على وحدة البلاد».

وفيما يتعلق باتجاه البلاد نحو التقسيم يعتقد الجاك أن السودان عملياً تقسم وأصبح ذلك واقعاً على حد قوله.

ولفت إلى أنه مع ذلك هناك فرق بين التقسيم الرسمي لدول، وأن السؤال هو: هل ستتحول إلى مشروع مستقبلي يأخذ شكل من أشكال الشرعية والقبول الدولي وغيره؟، مشيرًا إلى أن المؤشرات توضح أن الأمر يمكن أن يقود إلى تفتت وتقسيم وحالة من عدم الاحترام لمدى طويل.

ويشير إلى أن السودان مقسم لأربع مناطق حاليًا منطقة تحت سيطرة عبد العزيز الحلو ومنطقة تابعة للجيش ومنطقة الدعم السريع ومنطقة قائد جيش تحرير السودان عبد الواحد محمد نور مع اختلاف الأوضاع الأمنية والخدمية فيها.

ويرى الجاك أنه لا يمكن أن نحكم حالياً بأن نهاية الحرب أصبحت وشيكة أم لا خاصة في ظل عدم وجود مؤشرات للتفاوض ولا عملية سياسية واضحة توضح متى سيتم وقف إطلاق النار، لكنه يشير إلى أن ذلك لا يمنع حدوث اختراقات عما قريب تأتي بنتائج.

كما يرى أنه لا يمكن الحديث عن الانتخابات والديمقراطية ما لم يتم وقف إطلاق النار واستقرار المواطنين وعودة النازحين واللاجئين ونظافة المدن ودفن الجثث واستعادة الخدمات الدولة من كهرباء ومياه وفتح المدارس واستعادة الحياة المدنية حتى بعدها يمكن الحديث عن ترتيبات سياسية لقانون الانتخابات والدستور وإلى ذلك تبقى الاولوية للجانب الإنساني.

السودان: مساعٍ لاستعادة قطاع صحي مدمر بعد عامين من الحرب

لم يكن قد مر يومان على اندلاع الحرب في العاصمة السودانية الخرطوم حتى أعلنت اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان عن تعرض أربع مستشفيات للقصف وخروج ثلاثة عن الخدمة وتعرض مستشفى للاعتداء واخلاء المستشفيات بما في ذلك مركز دكتورة سلمى لأمراض الكلى القريب من رئاسة قيادة الجيش بوسط الخرطوم.

وامتد الضرر حتى مستشفيات أخرى خارج الخرطوم إذ قالت اللجنة في تصريح صحفي بتاريخ 17 أبريل 2023 إنه تم اقتحام مستشفى الضمان التخصصي بمدينة الأبيض عاصمة ولاية شمال كردفان مما أدى إلى خروجه عن الخدمة، مضيفةً كما خرج مستشفى الجنينة بولاية غرب دارفور ومستشفى الضمان ومشفى مروي العسكري عن الخدمة.

وسرعان ما ظهرت نتائج هذه الأضرار في الأيام الأولى حيث حبس مئات المرضى الذين كانوا يتلقون العناية في هذه المستشفيات والمرافقين لهم والكوادر الطبية العاملة بها كما اقتحمت الدعم السريع بعض هذه المستشفيات وشنت عددًا من الهجمات.

بتاريخ 15 أبريل قبل عامين اندلعت شرارة نزاع عسكري دامي في أعقاب التوترات العسكرية التي تصاعدت لأيام بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع معلنة بداية أكبر أزمة انسانية في العالم وفق ما وصفتها منظمات عالمية مخلفة آثارًا كارثية تضررت منها جميع القطاعات والخدمات خاصة الصحية في البلد المهترئ منذ ما قبل الحرب واستشرت خراباً ودراماً هائلاً وقتل وأصيب فيها مئات الآلاف.

في أول تصريح لمنظمة الصحية العالمية على الوضع في السودان أدان مديرها الإقليمي وقتها، أحمد المنظري، بشدة الهجمات المبلَّغ عنها على الموظفين الصحيين والمرافق الصحية وسيارات الإسعاف معتبرًا أنها آخذة في الازدياد. وأعرب عن قلقه البالغ إثر هذه البلاغات والتقارير وشدد على أن الهجمات على مرافق الرعاية الصحية انتهاك صارخ للقانون الدولي والحق في الصحة. مطالباً بإيقافها على الفور. 

بمرور الشهر الأول للحرب أعلن الجيش السوداني في تصريح صحفي بتاريخ 17 مايو 2023 عن استمرار سيطرة الدعم السريع على 22 مستشفى ومرفق صحي وحولت بعضها إلى قواعد عسكرية. كما قالت اللجنة التمهيدية إن 66 بالمائة من مستشفيات البلاد الخاصة في المناطق القريبة من الإشتباكات توقفت عن الخدمة وتابعت : فمن أصل 89 مستشفى أساسياً في الخرطوم والولايات توقف عن الخدمة 59 مستشفى، و30 مستشفى فقط تعمل بشكل كامل أو جزئي.

وفيما يخص الأطباء قالت وزارة الصحة إن 11 طبيبًا قتلوا قضي بعضهم داخل المستشفيات التي تعرضت للقصف وآخرون أثناء ذهابهم إلى أماكن عملهم أو عودتهم منها.

وفي بادرة انسانية تجلت فيها معاناة الشعب في الوصول إلى العلاج وتخفيف الأطباء على المحاصرين في النزاع نشر أطباء متطوعون أرقام هواتفهم على منصات التواصل الاجتماعي، معلنين عن استعدادهم لتقديم الإستشارات الطبية للمرضى، وأكدوا أنه لا مانع لديهم من زيارتهم إذا كانوا بالقرب من مناطق سكنهم، كما أن آخرين حولوا أجزاء من منازلهم إلى عيادات يرتادها سكان الحي كما أنشأ بعضهم مجموعات على موقع التواصل واتس آب حولوها إلى عيادة عبر الأثير.

أيضًا تعرض الأطباء إلى المضايقات والإعتقال منذ بدايات الحرب وحتى اللحظة في مناطق سيطرة الدعم السريع، وذكرت منظمة أطباء السودان من أجل حقوق الإنسان في  تقرير لها صدر في أبريل الحالي قامت فيه بتوثيق وتحليل أنماط اعتقال الأطباء خلال الفترة من أبريل 2023 وحتى مارس 2025 ـ ذكرت أنها سجلت اعتقال 10 أطباء في 2023 وارتفعت إلى 15 حالة مضيفةً وفي 2025 سُجلت 11 حالة اعتقال جديدة حتى مارس.

وبحسب التوزيع الجغرافي الذي نشرته المنظمة، فإن الإعتقالات تركزت في أحياء أم درمان، شرق النيل، جبل أولياء، الرياض، الكلاكلة، المنشية، والحاج يوسف. وفي ولاية الجزيرة خصوصاً عاصمتها مدينة ود مدني، بالإضافة إلى حالات متفرقة في شمال كردفان، الدمازين، ربك، والدويم. 

ولفتت إلى أن العديد من هذه الاعتقالات تمت داخل المستشفيات أو العيادات الخاصة ،وأخرى من منازل الأطباءً أو حتى من المساجد ،منبهة إلى أن ذلك يعكس الطبيعة التعسفية والاستهداف الشخصي للكوادر الطبية.

بمرور 100 يوم على الحرب في السودان أعلنت اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان في 23 يوليو 2023  أن 70% من المستشفيات في مناطق الاشتباكات بالخرطوم والولايات الأخرى متوقفة عن الخدمة من أصل 89 مستشفى أساسية في العاصمة والولايات.

ولفت البيان إلى أن هناك 62 مستشفى متوقفة عن الخدمة، و27 مستشفى تعمل بشكل كامل أو جزئي.وقبلها بأيام وثقت منظمة الصحة العالمية 82 هجوماً على مرافق الرعاية الصحية منها 17 هجوم خلال ستة أسابيع فقط.

توقف المراكز المتخصصة

مع دخول الحرب شهرها الثاني دق ناقوس الخطر في المراكز المتخصصة مثل القلب والأورام والكلى ففي يوليو 2023 أشار تقرير للإدارة العامة للطب العلاجي، إلى خروج مراكز قسطرة وجراحة القلب عن الخدمة البالغة ست مراكز منها  خمس مراكز بولاية الخرطوم، ومركز واحد بولاية الجزيرة جراء الحرب والتي تعتبر من أهم المراكز، بينما أُجريت 280 عملية قسطرة علاجية، وتشخيصية وناظمات في المراكز العاملة وأشارت الإدارة إلى توقف مراكز المخ والأعصاب بالخرطوم، ود مدني ونيالا، فيما نوهت إلى أن 44 مركزا للكلى تعمل حاليًا من جملة 102مركزًا.وأضافت أنّ المركز القومي لأمراض وجراحة الكلى وفر7 ماكينات للغسيل مع توزيع 38 ماكينة مقدمة من صندوق المرضى السعودي لبعض الولايات.

غير أن أزمة مراكز الكلى عادت بشكل أكبر وتضاعفت في أغسطس 2023 إذ  أصبحت غالب مراكز الغسيل في الولايات الآمنة مهددة بالإغلاق بسبب تزايد الضغط عليها جراء توافد أعداد كبيرة من النازحين لتلقي العلاج وإجراء الفحوص الطبية.

وإزاء هذا الوضع، أطلقت شبكة أطباء السودان نداءً عاجلاً إلى السلطات الصحية ومنظمة الصحة العالمية والمنظمات الإقليمية والمحلية العاملة في المجال، للإسهام في توفير معينات مرضى الكلى وإعادة صيانة الماكينات لفتت شبكة أطباء السودان إلى توقف المراكز في الأقاليم التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع.

بالنسبة لمراكز علاج الأورام والعلاج الإشعاعي التي كانت شحيحة في الأصل بالبلاد فقد السودان بسبب الحرب خمسة أجهزة للعلاج الإشعاعي كانت موجودة في ولايتي الخرطوم والجزيرة، ولم يتبق إلا جهاز واحد في مستشفى مروي شمالي السودان.

وكانت منظمة الصحة العالمية قد قالت إن السودان كدولة نامية يحتاج إلى 42 جهاز علاج إشعاعي وذلك بناء على توصيات صدرت عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

وقال مدير المراكز القومية لعلاج الأورام في السودان دفع الله عمر أبو إدريس في تصريح يوليو 2023 :”للأسف هذا هو الواقع، لا يتوفر علاج إشعاعي الآن في السودان، فقدنا كل آلات العلاج الإشعاعي في مدني والخرطوم، لدينا آلة واحدة بمستشفي مروي، وهذه الآلة توفر نحو 5 بالمائة فقط من حاجتنا للعلاج الإشعاعي”.

وقبل يومين وقعت وزارة الصحة الإتحادية اتفاقية مع مدينة الملك حسن الطبية ومركز الحسين للسرطان في المملكة الأردنية الهاشمية بغرض تعزيز التعاون الطبي لعلاج مرضى السرطان خاصة سرطان الأطفال والعلاج الإشعاعيّ وتوفير فرص تدريب للكوادر السودانية.

الفاشر قصة الصمود

طالت الحرب اقليم دارفور منذ الأيام الأولى غرباً وشمالاً وتعرضت مدينة الفاشر عاصمة شمال دارفور لعدد من الهجمات التي استهدفت المستشفيات بدايات الحرب وازدادت عنفاً يوماً عن يوم حتى انهار القطاع بالكامل في المدينة ومعسكرات النزوح بها.

وطالت الهجمات التي وصفت بالممنهجة من قبل الدعم السريع جميع مستشفيات الفاشر وأبرزها: (المستشفى التعليمي، مستشفى النساء والتوليد التخصصي، المستشفى العسكري، مستشفى الشرطة، مستشفى الفاشر الجنوبي)، وأغلقت بعضها أكثر من مرة ابتداءً من يونيو 2023  إلى أن توقفت بالكامل.

تمسك بالنجاة في الفاشر

ورغم استمرار الهجمات لم يستسلم المواطنين الموجودين في الفاشر من تشديد الدعم السريع حصارها عليها منذ مايو 2024 حيث افتتح المواطنون بمجهودات أهلية بعض المراكز بالإضافة إلى المستشفى السعودي للولادة لكن الدعم السريع استمرت في استهدافه عبر هجمات مستمرة لاقت انتقادًا دولياً واقليمياً حتى أغلق أكثر من مرة أخرها في ديسمبر 2024.

برز صمود أهل الفاشر في الحفاظ علي حقهم في العلاج عبر تصمميهم  ملاجئ تحت الأرض تحت إشراف إدارة المستشفى التخصصي للنساء والتوليد (السعودي) بهدف توفير الحماية اللازمة للأطباء والمدنيين، ولضمان استمرارية الخدمات الصحية الحيوية، حيث عُدت هذه الملاجئ خطًا دفاعيًا أساسيًا لضمان وصول الخدمات الصحية إلى الأشخاص الأكثر احتياجًا  وهي من حاويات (سعة 20 قدم)، تم دفنها في باطن الأرض وتغطيتها بأكياس من التراب.

وداخل هذه الهياكل، توجد غرفة مكتب للأطباء والطاقم الطبي، بالإضافة إلى غرفة للعمليات الطبية الطارئة في حالة اشتداد القصف أو الاشتباكات، ولكي يتمكن الأطباء والطاقم الطبي من مباشرة المهام الطبية والإسعافية بأمان.

أيضًا في يناير الماضي خطفت صورة تظهر اجراء أطباء المستشفى السعودي في الفاشر عملية جراحية بأضواء الهواتف المحمولة أثناء تعرضه للقصف وانقطاع الكهرباء قلوب السودانيين وعكست أقصى درجات الصمود والصبر من الكوادر الطبية . 

اعتراف بالانهيار

استمر الوضع الصحي في البلاد في التدهور حتى انهار القطاع بشكل شبه كامل إذ أعلن وزير الصحة السوداني هيثم محمد إبراهيم في مؤتمر صحفي أواخر ديسمبر الماضي توثيق وزارة الصحة وفاة 12 ألف مدني في مستشفيات البلاد، وهو ما يمثل 10% فقط من إجمالي عدد القتلى في الحرب. 

واسترسل إبراهيم قائلاً إن الخسائر التي تكبدها القطاع الصحي نتيجة الحرب وصلت إلى نحو 11 مليار دولار. وأشار إلى أن 250 مستشفى من أصل 750 مستشفى خرجت عن الخدمة بسبب الدمار الذي لحق بها، مما حرم الملايين من الرعاية الصحية الأساسية.ووصف وزير الصحة الوضع الإنساني في السودان بأنه الأسوأ في تاريخ البلاد.

الأوبئة تفاقم الأزمة

 لم تتوقف مأسي الحرب حيث تفاقمت الأزمة الصحية مع تفشي الأمراض الناجمة عن تلوث المياه إذ أكد وزير الصحة، تسجيل  1258 حالة وفاة بالكوليرا وأكثر من 48 ألف إصابة و8450 حالة بحمى الضنك،نتيجة انهيار البنية التحتية لمحطات المياه في عدة مناطق،  و870 حالة وفاة أمهات حوامل بسبب غياب الخدمات الصحية بمناطق سيطرة الدعم السريع، وأشار إلى فقد 60 كادراً صحيا أرواحهم أثناء تأدية عملهم.

80 مليون دولار لإصلاح النظام الصحي

مع تقدم الجيش السوداني في عدد من المحاور القتالية في العاصمة الخرطوم وبعض الولايات وعدت عدد من الدول بينها السعودية ومصر بالمساهمة في إعادة إعمار دمار الحرب وصحياً أطلقت وزارة الصحة السودانية مشروع المساعدة الصحية والاستجابة للطوارئ في السودان، الذي يستهدف 8 ملايين مواطن في عشر ولايات كمرحلة أولى.وقالت إن الولايات المستهدفة بالمشروع هي الشمالية، كسلا، نهر النيل، البحر الأحمر، الخرطوم، النيل الأزرق، سنار، شمال كردفان، جنوب دارفور، وغرب دارفور.

وبحسب تصريح صادر عن وزير الصحة يناير الماضي فإن المشروع مدعوم بمبلغ 20 مليون دولار من البنك الدولي، كجزء من ميزانية إجمالية تبلغ 80 مليون دولار مخصصة لإصلاح النظام الصحي، منها 20 مليونًا لتطوير المستشفيات عبر منظمة الصحة العالمية، و62 مليونًا للرعاية الصحية الأساسية عبر اليونيسف.

واعتبر وزير الصحة المُكلف هيثم محمد إبراهيم، أن المشروع يمثل خطوة رئيسية نحو إعادة بناء النظام الصحي في السودان، مشيرًا إلى الحاجة الملحّة لدعم 6 آلاف مؤسسة صحية في البلاد.

وأمس الأحد قدر الوزير المكلف في تصريح صحفي حوجة إعادة تأهيل القطاع الصحي المالية بـ(2.2) مليار دولار خلال العام الأول مضيفاً :”نعمل على توفيرها مع الدولة والمانحين”.

ميلاد جديد للخرطوم بعد نحو عامين من انزلاقها في أتون حرب مدن مدمرة

كأن العالم ولد لتوه اليوم في الخرطوم عاصمة السودان بالنسبة لملايين السودانيين، بعد نحو عامين، من حرب مدن دامية بين الجيش والدعم السريع فقد فيها الآلاف أرواحهم ودُمرت أجزاء كبيرة من المدينة التاريخية والتي بنيت على مدى مئتي عام في نسختها الحديثة.  

كان على الملايين من سكان الخرطوم بدايةً من صباح السبت الخامس عشر من أبريل 2023 إحدى أكثر اللحظات قسوة في تاريخها الحديث، الانتظار حتى 26 مارس 2025 ليضع ذلك اليوم حدًا لأبشع كوابيسهم غير المنتظرة على الإطلاق.

منذ ذلك السبت البعيد وقد تغيرت الحياة في الخرطوم تحت وطأة الصراع والذي استخدمت فيه كافة أنواع الأسلحة الثقيلة والطائرات الحربية، يومًا بعد يوم، ليفر معظم سكانها وتبقى قلة من أولئك الملايين الذين كانوا شهودًا على حربٍ أحرقت القلوب قبل غاباتها الإسمنتية.

في 26 سبتمبر 2024  بدأت إرهاصات تغُّير المعادلة العسكرية لصالح الجيش عوضًا عن الدعم السريع عندما عبرت قوات الأول الجسور النيلية إلى مدينتي الخرطوم وبحري قادمة من أم درمان، قبل أن تصل إلى أوجها في الصباح الباكر من يوم الأربعاء 26 مارس 2025 بإعلان الجيش سيطرته على كامل المدينة عبر اجتياح بري من داخلها وخارجها. لا لتصبح الخرطوم وحدها خالية من الدعم السريع، وإنما ولايتي النيل الأبيض والجزيرة، أيضًا، ما عدا بعض الجيوب للدعم السريع في أم درمان والخرطوم. 

ومنذ مساء الثلاثاء بدأ الجيش في إعلان بدء سيطرته على مناطق استراتيجية في شرق الخرطوم لتكتمل عمليته العسكرية البرية واسعة النطاق بالسيطرة على كامل أحياء المدينة، وسط هروب جماعي لقوات الدعم السريع نحو جسر خزان جبل الأولياء في أقصى الجنوب الغربي للخرطوم. 

لكنه بطبيعة الحال لم يكن منفذًا منجيًا لقوات الدعم السريع حيث كانت قوات درع السودان المتحالفة مع الجيش، بالإضافة إلى قوات من جهاز المخابرات العامة في طريقها إلى اقتحام الخرطوم من تلك الجهة. وبالفعل، تمكنت خلال من الوصول إلى جبل الأولياء والسيطرة على معسكر طيبة التابع لقوات الدعم السريع وكامل منطقة جبل الأولياء العسكرية بما في ذلك قاعدة النجومي الجوية، بالإضافة إلى استعادة معسكر الاحتياطي المركزي، والتصنيع الحربي جنوب الخرطوم. 

وبث الجيش السوداني مقطعًا مصورًا في حساباته الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي يُظهر المئات من جنود الدعم السريع وهم يعبرون جسر خزان جبل الأولياء سيرًا على أقدامهم، بالإضافة إلى بعض المركبات، كما تظهر آثار حريق على الضفة الغربية  للجسر. 

كذلك أظهرت صور ومقاطع فيديو فرار قوات الدعم السريع وترك عشرات المركبات مصطفة على مقربة من الجسر محملة بأغراض مدنية.

وفي يوم تغيّرت فيه موازين القِوى العسكرية، لم ينتظر قائد الجيش السوداني، عبدالفتاح البرهان، كثيرًا، حيث هبطت طائرته في مدرج مطار الخرطوم للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب ليتوجه من المطار على عجالة إلى القصر الرئاسي معلنًا «تحرير الخرطوم». 

وقال الناطق الرسمي باسم الجيش، نبيل عبدالله، في بيان إن البرهان تفقد قواته في مطار الخرطوم قبل أن يزور القصر الجمهوري، مشيرًا إلى أن طائرته هي أول رحلة يستقبلها المطار منذ اندلاع الحرب.

ومع كل هذا التراجع العسكري لها، لم تعلق الدعم السريع من جهتها، على هروب قواتها من الخرطوم تحت ضغط نيران الجيش على الفور، لكنها اليوم قالت في بيان إن قواتها لم تخسر أي معركة – دون أن تشير إلى الخرطوم – وإنما أعادت تموضعها وانفتاحها على جبهات القتال بما يضمن تحقيق أهدافها العسكرية. 

وفي أقصى الجنوب الغربي، أعلنت قوات درع السودان عن سيطرتها على معسكر طيبة أكبر معسكرات الدعم السريع بالخرطوم، ونشرت مقطع فيديو لقائدها، أبو عاقلة كيكل، وهو  يتجول في محيط المعسكر. وقال كيكل: «طيبة الكلاكلة جبل أولياء جميعها تحت سيطرة الجيش».

من جانبه، قال قائد الجيش من داخل القصر الرئاسي «الخرطوم الآن حرة.. انتهت.. الخرطوم حرة».

استقبال عاطفي من سكان الخرطوم للجيش

في المقابل، كان استقبال سكان أحياء الخرطوم للجيش بعد نحو عامين، عاطفيًا للغاية، تصدرته الزغاريد والدموع  والهتافات.  

وبدايةً من صباح يوم الجمعة الماضي بدأ الجيش في فرض سيطرته على وسط العاصمة السودانية الخرطوم بما في ذلك القصر الرئاسي ومركز المدينة الحيوي، قبل أن يكملها اليوم بالسيطرة على كامل الخرطوم بما في مطار الخرطوم الدولي.

والأربعاء ظهر مواطنون في أحياء بري والجريف غرب والصحافة والنزهة والكلاكلة شرقي وجنوبي الخرطوم في مقاطع فيديو مصورة وهم يحتفلون بسيطرة الجيش على المنطقة.

«مافي بيان كلو في الميدان»

لجان المقاومة في أحياء الخرطوم المختلفة أعلنت عن سيطرة الجيش على مناطقها، وقالت لجان أحياء البراري الأربعاء إن القوات المسلحة السودانية داخل أراضي البراري والزغاريد تملأ الشوارع، بينما قالت لجان مقاومة الديوم الشرقية: «مافي بيان كلو في الميدان».

بينما قال تجمع ثوار الصحافة إن المنطقة خرجت عن بكرة أبيها لاستقبال قائد سلاح المدرعات، اللواء نصر الدين عبدالفتاح الذي كان حضورًا مع القوات التي مشطت شوارع الصحافة.

وفي الكلاكلة جنوبي الخرطوم قالت لجان مقاومة الكلاكلة القبة إنها «تحيي كل الذين لم يستطيعوا مغادرة ديارهم وصمدوا واستبسلوا في ظل طغيان ـ الجنجويد ـ وجبروتهم وكل من كان ينادي من قبل 4 سنين بـ (الجنجويد ينحل ومافي ميليشيا بتحكم دولة)».

 وأضافت: «ونحيي كل الذين شاركوا من أبنائنا بمعسكرات القوات المسلحة لحماية البلاد من العدوان الخارجي والداخلي».

أيضاً في جنوب العاصمة بث أفراد من الجيش مقاطع فيديو من كوبري الصينية المركزي وهي من أكبر مراكز الثقل العسكري للدعم السريع.

توترات سبقت اندلاع الحرب

وفي 15 أبريل 2023 اندلعت الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع وذلك بعد توترات بين الطرفين استمرت لأسابيع أبرزها فشل الاتفاق على دمج الدعم السريع خلال ورشة الإصلاح الأمني والعكسري والتي عقدت في قاعة الصداقة بالخرطوم في مارس 2023. 

كما كان وصول مئات المركبات العسكرية التابعة للدعم السريع إلى محيط مطار مروي وقاعدة مروي الجوية في يوم الأربعاء 12 أبريل 2023 العلامة الأبرز لتصاعد التوترات إلى درجة غير مسبوقة، أكدها بيان للجيش في اليوم التالي، محذرًا من احتمالية اندلاع حرب. 

وفي يوم الخميس نفسه وصلت عشرت المدرعات التابعة للدعم السريع إلى الخرطوم قادمة من قاعدة الزرق بولاية شمال دارفور، بينما مثل يوم الجمعة اللحظة قبل الأخيرة لاندلاع الحرب في صباح السبت 15 أبريل في قلب العاصمة السودانية الخرطوم والتي تغيرت منذها. 

وفي صباح 15 أبريل 2023 سيطرت الدعم السريع على مطار الخرطوم الدولي والقصر الرئاسي وكافة الوزارات والمرافق الاستراتيجية بوسط العاصمة.

وباستعادة الجيش السوداني الخرطوم ما عدا بعض الجيوب في أم درمان وفي الخرطوم نفسها التي يجري فيها الجيش عمليات تمشيط واسعة، يكون قد تبقى للدعم السريع إقليم دارفور ما عدا أجزاء من شمال دارفور بما في ذلك عاصمتها الفاشر وأجزاء كذلك من شمال وجنوب وغرب كردفان والنيل الأزرق. 

توقف حكايات نيالا وصافرات قطارها وميلاد أزمنة حربها المدمرة

22 مارس 2025 – على مدى نحو عامين لم يطلق قطار نيالا صافرته التي بدأت انطلاقتها الأولى في بدايات ستينات القرن الماضي، ليمثل انقطاع الصافرة، مؤشرًا لانقطاع الحياة والحكايات التي تدور في مسافة تتجاوز الألف كيلومتر مربع، في مواطن كثيرة يمر بها القطار في رحلته إلى العاصمة السودانية الخرطوم. 

كان كل ذلك، على رأسه ذاكرة القطار المنقطعة، نذيرًا، بأن نيالا البحير خلف الجبيل، لن تعود كما كانت، لتدخل في دورة حرب مدمرة في الفترة من أبريل إلى أكتوبر 2023 لتفرض قوات الدعم السريع سيطرتها عليها بعد استيلائها على قيادة الجيش في المدينة.

منذها حاولت قوات الدعم السريع إدارة المدينة الاستراتيجية بما في ذلك إنشاء إدارة مدينة لتطبيع الحياة فيها، لكن لغة السلاح والفوضى كانت أكثر قوة لتنزلق في أتون عالم فوضوي شيدته العصابات المسلحة والسيولة الأمنية على عجل، ما حول المدينة والتي تعد من أكبر مدن البلاد، إلى منطقة غير تلك التي عرفها أهلها على مدى عقود من الزمن. 

لتصبح خريطة الحياة فيها تتمثل في نهب المواطنين في الطرقات والأسواق وسط أحياء مهجورة وسلاح في كل مكان، وبخلاف ذلك تشهد نيالا مشاكل معقدة في القطاعات الخدمية على رأسها القطاع الصحي. كما تعاني المدينة من ضربات سلاح الجو التابع للجيش السوداني.

 

«الوضع الصحي في نيالا قاس.. ارتفعت رسوم الخدمات الصحية المقدمة، مثل عمليات الولادة والعمليات القيصرية والتي وصلت من 350 ألف جنيه سوداني إلى 600 ألف جنيه سوداني»، يقول مصدر من نيالا لـ«بيم ريبورتس».

ويضيف «أما مقابلة الطبيب تكلف 15 ألف جنيه في المستشفيات الخاصة، بينما تكلف 5 آلاف جنيه في المستشفى التعليمي». 

ويشير إلى أن كل المستشفيات العاملة في هي مستشفيات خاصة، موضحًا أن المستشفى الوحيد الذي يعمل بصورة عمومية هو مستشفى نيالا العام، والذي بدأ عمله قبل سنة، عبر رعاية منظمة أطباء بلا حدود، بالإضافة إلى تسيير عمل المرافق الصحية من خلال الرسوم المحصلة من الخدمات.

معيشيًا، يقول المصدر أن الوضع المعيشي في المدينة يشهد استقرارًا وصفه بـ النسبي  في أسعار السلع الأساسية، بعد ارتفاعها بشكلٍ كبير في فترة الخريف الماضي نسبة لصعوبة الحركة وتدفق السلع والبضائع. لكن من جانب آخر، أشار أحد مواطني نيالا، إلى أن السلع شهدت ارتفاعًا خلال الأيام القليلة السابقة لشهر رمضان.

 بيانات تُوضح آخر تحديثات أسعار السلع:

 

البند

السعر بالجنيه السوداني

جوال السكر زنة 50 كيلو

175 ألف

ملوة البصل

4 ألف

ملوة التبلدي

10 ألف

كيلو العدس

6 ألف

كيلو لحم البقر

7.5 ألف

كيلو لحم الضأن

11 ألف

كيلو لبن البدرة

15 ألف

جوال الفحم

12 ألف

برميل المياه

3 ألف

 

أوضاع مأساوية في مخيم كلمة 

تشهد مخيمات النازحين في ولاية جنوب دارفور وعلى رأسها مخيم كلمة شرقس مدينة نيالا أوضاعًا إنسانية كارثية، حيث يواجه النازحون خطر الموت جوعًا بسبب نقص حاد في الغذاء وانهيار سبل العيش.

 وأدت الحرب المستمرة إلى توقف توزيع حصص الغذاء التي كان يقدمها برنامج الأغذية العالمي، كما توقفت مهن القطاع غير الرسمي التي كانت تشكل مصدر دخل أساسي للنازحين لتغطية احتياجاتهم اليومية. 

 ويُعتبر مخيم “كلمة” من أكبر مخيمات النزوح في المنطقة، حيث تزايدت أعداد النازحين بشكل كبير منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023. ومع سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة نيالا في أكتوبر 2023، أصبحت المدينة والمخيمات المحيطة بها تعاني من عزلة شبه كاملة، مما حال دون وصول المساعدات الإنسانية الضرورية.

الوضع خارج العاصمة نيالا 

يقول الصحفي مصعب محمد، إن الأوضاع المعيشية في نيالا أفضل من الأوضاع الأمنية والصحية بكثير. لكن الوضع خارج نيالا وفي أريافها ومخيمات النزوح يبدو أكثر صعوبة وقسوة، فمع التوغل من مدينة نيالا شمالاً، يختلف الوضع بالكامل في محلية ميرشنج وقراها التي تشكلت إثر موجات النزوح الكبيرة إبان الحرب في دارفور في العام 2003.

وتعاني المنطقة من تدهورٍ حاد في القطاع الصحي من قبل الحرب الجارية، ليزيد الوضع من صعوبة الحال ويضاعف ما تعيشه المنطقة. ومع استمرار النزاع المسلح وتفاقم الأوضاع الاقتصادية، أصبحت الظروف الصحية أكثر صعوبة، مما ينذر بكارثة صحية وبيئية قد تهدد حياة المئات من المواطنين.

وتسببت الحرب في انقطاع الإمداد الدوائي عن المنطقة، مما ترك معظم الصيدليات والمرافق الصحية فارغة، بدون أدوية أو مستلزمات طبية. حتى القليل المتبقي من الأدوية المتوفرة أصبح باهظ الثمن، بحيث لم يعد في إمكان معظم سكان المنطقة شراؤه. 

 وقال مواطن تحدث لـ”بيم ريبورتس” من محلية مرشنج إن ” الأزمة الصحية جاءت في وقت حرج، حيث تزامنت مع موسم الخريف، الذي يشهد انتشار الأمراض الطفيلية والمعدية مثل الملاريا والإسهالات المائية، مما عقد الوضع الصحي الهش في المنطقة”. 

وأثرت الحرب على قرى شمال ولاية جنوب دارفور بشكلٍ كبير، خاصةً فيما يتعلق بالأوضاع الاقتصادية والأمنية. فمع اعتماد القرى على الزراعة بشكلٍ أساسي، إلا أن الوضع الأمني حد بصورة كبيرة من حركة الناس في الأراضي الزراعية.

 ويوضح  المواطن أن الانتهاكات التي يتعرض لها مواطنو القرى تتفاوت من الضرب والنهب، إلى اغتصاب النساء، الأمر الذي جعل من المنطقة فضاء معزولًا، وأصبح الناس غير قادرين على ممارسة أنشطتهم الاقتصادية اليومية.

سيطرة الدعم السريع وتصاعد العنف

شهدت ولاية جنوب دارفور، وخاصة مدينة نيالا، تصاعدًا حادًا في العنف منذ أن سيطرت قوات الدعم السريع على المدينة في أكتوبر 2023، وذلك بعد انسحاب الجيش السوداني من  المدينة. 

وقد سبق ذلك اشتباكات عنيفة دارت بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أغسطس 2023، أسفرت عن مقتل 137 شخصًا، بينهم 54 طفلًا و47 امرأة، ونزوح آلاف الأهالي نحو محليات تلس، قريضة، ورهيد البردي، بالإضافة إلى ولاية شمال دارفور.

وفي ديسمبر 2023، عادت نيالا إلى صدارة الأحداث العسكرية بعد أن شن الطيران الحربي التابع للجيش السوداني غارات جوية مكثفة استهدفت مقر قيادة الفرقة 16 مشاة وعددًا من الأحياء الشرقية للمدينة. أدى القصف إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى بين المدنيين، وتدمير أجزاء كبيرة من البنية التحتية، مما تسبب في حالة من الهلع الجماعي وتهجير آلاف الأسر.

أما في المناطق الريفية شمال ولاية جنوب دارفور، فقد أثرت الحرب بشكل كبير على الحياة اليومية للسكان الذين يعتمدون بشكل أساسي على الزراعة. إلا أن تدهور الأوضاع الأمنية حد من حركة المواطنين في الأراضي الزراعية، وتعرض الكثيرون لانتهاكات خطيرة تتراوح بين الضرب والنهب وصولًا إلى الاغتصاب، مما جعل المنطقة معزولة وغير قادرة على ممارسة أنشطتها الاقتصادية المعتادة.

هذه التطورات جعلت جنوب دارفور واحدة من أكثر المناطق تأثرًا بالصراع الدائر، حيث يعاني السكان من ويلات الحرب التي طالت كل جوانب حياتهم، بدءًا من انهيار الخدمات الصحية والتعليمية، وصولًا إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية والأمنية، مما يضع المنطقة على حافة كارثة إنسانية كبرى.

الصراع في السودان يدخل إلى جيوب العاملين في الدولة بتهمة التعاون مع «الدعم السريع» 

بيم ريبورتس

بيم ريبورتس

 

يتشعب الصراع المسلح في السودان منذ اندلاعه في 15 أبريل 2023 يومًا بعد يوم، حتى وصل إلى رواتب موظفي وعمال الخدمة العامة، بناء على الموقف السياسي من قوات الدعم السريع، أو الاتهام بموالاتها أو التعاون معها، حسبما قررت وزارة الحكم الاتحادي.  

 

قرار وزارة الحكم الاتحادي الصادر في نوفمبر الماضي الذي يحرم عددًا كبيرًا من العاملين في الخدمة العامة من رواتبهم، وجد انتقادات من نقابيين وحقوقيين وسط فقدان ملايين السودانيين مصدر دخلهم بسبب الحرب. 

 

وكانت وزارة الحكم الاتحادي قد أصدرت في نوفمبر العام الماضي قرارًا وجهت فيه حكام الإقاليم وولاة الولايات بإيقاف العاملين بالخدمة المدنية من المتعاونين مع قوات الدعم السريع، بالإضافة إلى إعفاء رؤساء وقيادات الإدارة الأهلية الذين انحازوا إلى الدعم السريع.

 

من جهته، علق قطاع النقابات في تنسيقية تقدم على القرار بتاريخ 7 ديسمبر 2024  منتقدًا إيقاف موظفين عن العمل بناءً على اتهامات فضفاضة وغير مدعومة بأدلة قاطعة، ومعتبرًا أن ذلك يُعد تجاوزًا خطيرًا لمبادئ العدالة وسيادة القانون.

 

وأضاف في بيان «هذا التصرف يشكل اعتداءً مباشرًا على حق الإنسان في العمل، وهو حق أساسي معترف به في الاتفاقية رقم 111 لمنظمة العمل الدولية، المتعلقة بالتمييز في الاستخدام والمهنة، والتي صادقت عليها السودان».

 

وأردف «كما أن هذا القرار التعسفي يتعارض مع الالتزامات القانونية الدولية التي تحظر أي شكل من أشكال العقوبات الإدارية التي تفتقر إلى ضمانات المحاكمة العادلة أو التي تُتخذ بناءً على دوافع سياسية أو انتقامية».

 

وحذرت ـ سلطات الأمر الواقع ـ في بورتسودان من التمادي في اتخاذ إجراءات تعسفية تهدف إلى إسكات أصوات الموظفين أو تصفية حسابات سياسية تحت غطاء قانوني زائف، بحسب البيان. 

 

 بعد ثلاثة أسابيع بدأت تداعيات القرار الذي لاقى انتقادا كبيرًا خاصة بين نقابيين وجهات سياسية، خوفًا من أن يتم استغلاله في تصفية حسابات لموظفين أو استخدامه بشكل يضر مواطنين في معاشهم، بدأت في الظهور وتأثر منها بعض العاملين.

 

 برز هذا التأثير في 11 ديسمبر الماضي حين أوقفت وزارة الصحة السودانية، موظفًا عن العمل وأحالته للتحقيق، على خلفية مشاركته في اجتماعات الهيئة القيادية لتنسيقية «تقدم» في عنتيبي بيوغندا، مطلع الشهر.

 

وقالت وزارة الصحة الاتحادية  في بيان بتاريخ 11 ديسمبر الماضي، إن مدير إدارة الإعلام والعلاقات العامة للصندوق القومي للإمدادات الطبية، عز الدين دهب، شارك في اجتماعات «تقدم» بمدينة عنتيبي بدون إذن، أو تواصل مع إدارة الصندوق القومي للإمدادات الطبية، أو حتى علمها.

 

وبررت الوزارة الخطوة بـ«أن ظاهر ذلك يعتبر دعمًا لقوات الدعم السريع». لكن الموظف  عز الدين علي دهب، بدوره رد على البيان باستنكار، معتبرًا أن الوزير وقع تحت تأثير ابتزاز من أسماهم بعض دعاة الحرب وأوضح أنه شارك في المؤتمر كصحفي وليس كعضو في الهيئة السياسية المناهضة للسلطة الحاكمة في البلاد.

تخبط إداري وقانوني

اعتبر خبراء نقابيون قرار وزارة الحكم الاتحادي بأنه مجحف ولا يستند على أي قانون ويدل على تخبط إداري وقانوني من الجهات التي قامت بإصداره.

 

وقال الخبير النقابي، محجوب كناري، لـ«بيم ريبورتس» إن هذا القرار مجحف ولا يستند على أي قانون، موضحًا أن المواد المذكورة في مذكرة وزارة الحكم المحلي قد يكون لها تأثير على مسألة الإدارة الأهلية، لكن ليس هناك مواد في القانون تتحدث عن تعاون مع مليشيات أو عدو في الخدمة المدنية تحديدًا، مضيفًا “وهذه مسألة كبيرة”.

 

ولفت إلى أن المشكلة في القرار أنه لم يذكر شكل إثبات الاشتباه، عبر التحقيق، أو محاكمة، أم يتم الفصل لمجرد الاشتباه فقط، منوهاً إلى أن هذا ضد روح القانون والعدالة وسيتحمل تبعاته عمال وموظفين قد يكون ليس لديهم أي علاقة بالدعم السريع، وفق ما قال.

 

وأضاف معروف أنه توجد في أي وحدات حكومية خلافات ويمكن أن يُستغل هذا القرار في تصفية الحسابات، بإطلاق اتهامات جزافية ضد بعض العاملين وفصلهم والتشهير بهم أنهم متعاونين بالمليشيا وغيره.

 

وشدد على أنه قرار أُصدر بعجلة دون الرجوع إلى أي مرجع قانوني أو استشارة سواء كان في القانون نفسه أو من يمارسون القانون، مردفًا «هذا يدل على الآثار الكارثية لهذه الحرب على المواطن السوداني».

 

وأكد على أن القرار مرفوض جملة وتفصيلاً ولا يمكن مناقشته حتى ويدل على تخبط إداري وقانوني من الجهات التي قامت بإصداره.

 

من جانبه قال  المحامي، أزهري الحاج موسى، إن  العمال السودانين يواجهون العديد من الانتهاكات في ظل حرب 15 أبريل من كل النواحي لم تقتصر على تلك التي وقعت بسبب القتال، بل تعدت ذلك إلى انتهاك في حقوق العمال من حيث الاتفاقيات والمعاهدات الدولية والقوانين الوطنية التي تنظم حقوق العمال وتحفظ حقوقهم. 

 

وأضاف في الوقت الذي يجب أن تقوم السلطات بسد حاجات العمال في الظروف التي تمر بهم وخسروا فيها مدخراتهم عن طريق الضمان الاجتماعي ولكن زادت الصعوبات عليهم بإصدار القرارات المخالفة للقوانين واللوائح بمنع بعض العمال لحقوقهم وفقدان وظائفهم عن طريق الفصل التعسفي وذلك وفقا للاختلاف السياسي.

 

 وحول حرب 15 أبريل الدائرة الآن بتهم التعاون مع الدعم السريع، قال إن القانون الجنائي السوداني نص على جريمة التعاون في ارتكاب جرم ما ولكن وضع شروطًا وإجراءات محددة يجب اتباعها لإثبات ذلك. 

 

وأوضح أن معظم القرارات والإجراءات التي يتم اتخاذها ضد العمال من السلطات في مناطق سيطرة الجيش وسلطة الأمر الواقع تفتقر للأساس القانوني السليم والانصاف والعدالة ومن ضمن هذه الإجراءات فصل موظف وزراة الصحة لأحد منسوبيها بتهمة الوجود من ضمن نشاط سياسي وهذا يعتبر مخالف للقانون وانتهاك صريح لحقوق الإنسان والعمال بصفة خاصة لأن لا القانون الوطني يسمح بذلك ولا المواثيق الدولية.

 

تعتبر هذه الانتهاكات التي تقع على العمال بهذه التصرفات غير القانونية وغير الأخلاقية قد تزيد حياة العمال تعقيدًا ويجب التصدي لها وعلى السلطات ألا تتستغل ذلك في تصفيت حسابات سياسية مع العمال وتعتبر الوظيفه العامه حق لكل السودانين بمختلف تياراتهم والوانهم السياسية وندعوها للتراجع عن هذه الإجراءات والقرارت المخالفة للقوانين.

تنظيم الأجسام المهنية والنقابية

من جهته، طالب قطاع النقابات في تنسيقية تقدم الحكومة بالتراجع الفوري عن قرار إيقاف الموظفين دون قيد أو شرط،والالتزام بمعايير منظمة العمل الدولية والاتفاقيات ذات الصلة التي تضمن العدالة والإنصاف في بيئة العمل.

 

ودعا القطاع جميع العاملين والعاملات في السودان إلى تنظيم صفوفهم والوقوف بحزم ضد ما وصفه بالظلم في مواجهة القرارات التعسفية التي تستهدف الأرزاق والحياة، مضيفًا «لا يمكننا السكوت عن سياسات تعصف بحقوق العاملين دون سند قانوني أو مبرر أخلاقي».

 

وحث البيان العاملين على التكاتف والتضامن، وتنظيم أجسامهم المهنية والنقابية والإلتفاف حولها، والعمل معًا لمناهضة هذه الهجمة الشرسة على الكرامة والمستقبل وحقوق العمال.

 

والسبت الماضي خرج قائد الجيش السوداني في خطاب أعلن فيه عن تراجعه عن قرارات حظر تجديد جوازات السفر التي كان قد شكا منها أفراد مرتبطين بقوى سياسية مناهضة للحرب، فيما قال في خطابه إن الباب مفتوح أمام كل شخص يرفع يده عن المعتدين – يقصد الدعم السريع – ويقف موقفًا وطنيًا خالصًا، غير أنه لم يشر بشكل مباشر لإلغاء قرار وزارة الحكم الاتحادي الخاص بالعمال المتهمين بالتعاون مع الدعم السريع.



«الدالي» أرض غنية ومنسية في جغرافيا شاسعة مزقتها سيطرة «الدعم السريع»

مجاهد حلالي - Freelancer

مجاهد حلالي - Freelancer

تمثل بداية شهر يونيو من كل عام إعلان قدوم موسم الأمطار في منطقة الدالي والمزموم، الواقعة جنوب ولاية سنار وتمتد حدودها مع ولاية النيل الأبيض والأزرق وتصل حتى جنوب السودان.

 والدالي هي أرض هادئة ومنسية، في جغرافيا السودان الشاسعة والمترامية الأطراف لم يعرف أهلها المتنوعون الحرب أو رائحة الموت من قبل، ويبقى جل همهم حرث أرضهم مع قدوم موسم الزراعة الجديد والأرض حبلى بالخير الوفير فهم يتبعون أغنامهم إلى الغابات وأماكن توفر الكلأ حتى يلين الضرع. كما أن الدالي تعد سودانًا مصغرًا، في ثرائها وتنوعها القبلي، إذ تحتضن جميع قوميات المجتمع السوداني.

وتعتبر الدالي والمزموم من أعلى المناطق إنتاجا في الزراعة المطرية، خاصة محاصيل الذرة والسمسم وعباد الشمس والصمغ العربي كما إنها تمتلك ثروة حيوانية كبيرة.

لكن نهاية يونيو 2024 كانت غير متوقعة بالنسبة لهم، حيث حملت لهم مفاجأة كبرى وجرح عميق ربما لن يندمل أبدا، وقد يحتاجون لعشرات المواسم وربما مئة حول حتى ينسى الناس ما حدث.

 في مساء يوم السبت التاسع والعشرون من يونيو 2024، حينما تناقلت الأخبار سقوط مدينة سنجة، عاصمة ولاية سنار، في يد قوات الدعم السريع. وكان أهل الدالي والمزموم من قبل أيام من هذا التاريخ يدب فيهم الخوف والرعب بسبب وجود عربات الدفع الرباعي التي تتبع لقوات الدعم السريع، والتي تحمل على متنها مدافع ثقيلة وآلات الموت والتشريد والاغتصاب والنزوح إلى المجهول، التي قد تدمر حياتهم، وهذا ما قد حدث بالفعل. 

محاولة استباق الفاجعة

مع سقوط مدينة سنجة في يد قوات الدعم السريع، شعر الناس بالهلع الحقيقي ولأول مره فكروا في ترك أرضهم وأغنامهم التي كانت بمثابة الأوكسجين بالنسبة لهم، وذلك مخافة أن تنتهك أعراضهم وينكل بأجسادهم، لذا لم يكن لهم خيار سوى الفرار من الموت. فاختار بعضهم النزوح لاتجاهات مختلفة، والبعض الآخر قرر أن يبقى في أرضه ويموت في طينها، ليبقى ملح دمه مهرًا لحب هذه البلدة التي منحته معنى للحياة، معلنًا حبه غير المشروط، وإن كان ثمنه دمه الحي.

ومع ذلك ستظل ذكرى ذلك اليوم المشؤوم ذاكرة مأساوية خالدة وسط النساء والأطفال وكبار السن، وواحدة من أصعب تجارب وحكايات الموت التي مرت على الآلاف من سكان تلك المناطق. لن ينسى الناس كيف حرموا من أرضهم وهربوا من الموت ورائحة الدماء.

نذر الفاجعة وهلع النزوح

في مساء التاسع والعشرين من شهر يونيو 2024، حسم الجميع أمرهم في بداية رحلة نزوح للمجهول، هربًا من آلة الموت التي قد تصلهم في أي لحظة، وازدادت الفجيعة مع سماع الناس دوي الأسلحة الثقيلة في وسط المدينة، أصوات لم يسمعوها طيلة حياتهم. ثم انقطع التيار الكهربائي وشبكة الاتصالات والإنترنت، ولم يكن يعرف الناس ماذا يحدث؛ هل اجتاحت الدعم السريع المدينة أم هذه اشتباكات. لم يمتلك أحد إجابهً، فقط تسمع صراخ الأطفال ونومهم تحت السرائر في “قطاطي” القش البسيطة أملاً أن تحميهم من سيل الموت الذي ينتظرهم، والذي أضحى أقرب إلى الحقيقة، خاصة بعد ازدياد شدة أصوات السلاح هنا وهناك.

 بدأت الطرق تمتلئ بالأسر في منتصف الليل، والسحاب الأسود غطى السماء مع برق خاطف وأبيض وأصوات الرعد معلنة عن بداية هطول الأمطار، والتي لم يكن هناك شيء يحمي الناس منها.

سار بعض الناس راجلين، واستقل البعض الآخر السيارات والوابورات، وكان محظوظاً من وجد (حمارًا) يمتطيه. خرج الناس بجلدهم حفاة وبلا أغراضهم واحتياجاتهم من ملابس أو غذاء، بعض الناس تركوا وجبة العشاء في النار، لم تكن لهم رفاهية الوقت الكافي حتى يسدوا رمقهم، ونسي الأطفال في هذا المساء كل شيء، ويبدو أنه من مدة طويلة لم يسمعوا فيها أحاجي عن الغابة والعصافير والمرفعين، وستكون هناك أيام طوال تنتظرهم.

صباح جديد برائحة الترقب والخراب

طالت المدينة، في صبيحة اليوم التالي، 30 يونيو حالات نهب واسعة. حُرقت جميع المؤسسات الحكومية؛ المحلية ومؤسسات الشرطة والنيابة العامة، ونهب السوق. كانت المدينة تدخل في حالة صمت مهيب لأول مرة في تاريخها الممتد؛ الطرق فارغة إلى من مشاهد بعض الناس الذين لم يستطيعوا مغادرة المدينة بسبب عدم توفر وسيلة للنزوح والهرب من الموت. وكان الخوف والترقب هو سيد المشهد، طال الخراب المستشفيات والمراكز الصحية، إذ نُهبت وكسّرِت ما تبقت من أجهزة المعامل، وحرقت الأدوية الطبية ونثرت في الطرقات. كان كل شئ يدل على رائحة الخراب والموت وفناء المدينة.

النزوح إلى المجهول

الرحلة إلى المجهول كانت هي عنوان الحكاية لآلاف النازحين هربًا من آلة الموت على أيادي جنود الدعم السريع، سلك الناس جميع الاتجاهات وزحفوا في الطرقات.

 سيل من الجماعات يركضون غربًا وجنوبًا وشرقًا، نساءً ورجالًا وأطفالًا وكبار سن يشقون الأرض التي خبرتهم وعرفتهم وارتوت بعرقهم. ولأول مرة يودعونها وتودعهم تاركين ورائهم حزن كبير مثل جبل الدالي الذي يسكن أرواحهم ولن ينسى أبدًا.

لم يجد الناس شئ يحميهم من المطر والبرد

امتدت الرحلة لأكثر من أسبوع في طرقٍ وعرةٍ وماطرة، ونهش الجوع والبرد أجساد الناس وأرواحهم التي تثقلها الحيرة والخوف من الغد المجهول. 

 وصل العديد من النازحين من الدالي إلى مناطق تقع في شرق محلية الجبلين، ولاية النيل الأبيض، تحديدًا إلى أم القرى “أم كويكا” سابقًا، وأبو ضلوع والمجابي وأبو الدخيره وحي الصفا وجوده، وبعضهم اتجه جنوبًا نحو القرى المجاورة؛ أبو عريف بوزي المزموم، لكن لم يحالفهم الحظ، إذ بعد سويعات فقط من مكوثهم طالتهم يد جنود الدعم السريع فلم يكن لهم خيار إلا أن يبحثوا جميعهم مع أهل تلك القرى التي استضافتهم عن أماكن جديدة لعلهم يجدون فيها الأمان.

مناورة بناء حياة جديدة

طفلة تجلب الحطب من أجل توفير الغذاء وأساسيات الحياة

وصل قرية أم القرى، في بداية الأسبوع الأول من النزوح، حوالي 950 أسرة، أي بما يعادل حوالي 5000 نسمة وفقًا للإحصاءات المبدئية للجنة داخل معسكر أم القرى.

 وقدّم المجتمع المستضيف في القرية مثالًا عظيمًا في التكافل والتضامن، وهو جزء من الإرث الثقافي للمجتمع السوداني.  فقدموا للناس الطعام واقتسموا معهم منازلهم ووجباتهم. لكن الحوجة كانت ضخمة للغاية، مما ترك فجوة كبرى وجعل المئات من الأسر تسكن في العراء تمامًا، حيث افترشوا الأرض والتحفوا السماء، مع هطول الأمطار ومواجهة لدغات الثعابين والعقارب وغيرها من الحشرات الضارة التي تسببت في انتشار الأمراض الجلدية.

صعوبة في تقديم الرعاية الصحية مع قلة الأدوية

ظهرت، بعد الأسبوع الأول، مشكلات صحية كبيرة نتيجة نقص الغذاء الحاد، وعدم توفر الإيواء المناسب، حيث انتشرت الإسهالات المائية والملاريا الحادة ونقص السوائل، ووصل الوضع إلى مستوى الكارثة الإنسانية، وظهرت الوفيات وسط الأطفال، وتوفت امرأة حامل في شهرها الأخير بسبب رحلة نزوح طويلة على الأرجل. ليشهد هذا العام، تحول الدالي إلى أرضٍ جدباء وبور، وكتب على مدينة كاملة النسيان، وعلى أهلها الموت والنزوح والمرض.

الحصول على لجوء إلى كندا ينقذ أربعة صحفيين سودانيين من وطأة السجون المصرية والترحيل القسري

بيم ريبورتس

بيم ريبورتس

ربما لم يكن يخطر على بال أربعة صحفيين سودانيين يعملون لصالح قناة سودان بكرة، وهم يفرون من الحرب الطاحنة في البلاد إلى الجارة الشمالية مصر، أن ينتهي بهم المطاف مبعدين من سلطاتها، إلى كندا بأمريكا الشمالية. 

بدأت قصة الصحفيين الأربعة الذين يعملون لصالح قناة سودان بكرة في 23 سبتمبر 2023 عندما اعتقلتهم السلطات المصرية، وهم: علي فارساب، ونفيسة بكري ويوسف حمد النيل وحفصة بكري.

يقول فارساب لـ«بيم ريبورتس» من ملجئه الجديد في كندا، بعد قضائه أكثر من شهرين في السجون المصرية، إن سبب اعتقالهم كان بلاغًا من شخص اتهمهم بالعمل مع قوات الدعم السريع لتداهمهم بعدها قوة مكونة من مباحث المصنفات في مقر عملهم بالقاهرة.

بعد قضائهم 65 يومًا في ثلاثة سجون مصرية متنقلين بين زنازين العاصمة القاهرة ومحافظة أسوان، كان يوم 29 نوفمبر الماضي، يمثل مرحلة جديدة في حياتهم، عندما حطت طائرة تقلهم بمدينة ويندزور الكندية في محافظة أونتاريو، في أعقاب حصولهم على فرصة نادرة للجوء إلى كندا، جراء تعرضهم لأقسى أنواع التعذيب والتحقيق.

موسم اللجوء إلى الشمال

بعد اندلاع حرب 15 أبريل 2023، لجأ مئات الآلاف من السودانيين إلى الجارة الشمالية مصر، بمن في ذلك عشرات الصحفيين ومدافعين عن حقوق الإنسان وسياسيين.

وكان الصحفيون المبعدون قد حصلوا على فرصة اللجوء إلى كندا بعدما تعرضوا للتعذيب والسرقة، وفق ما أكدوا لـ«بيم ريبورتس».

استهداف الصحفيين في مصر

خلال نوفمبر الماضي طالبت نقابة الصحفيين المصريين بالإفراج عن 23 صحفيًا معتقلاً معبرة عن قلقها الشديد إزاء تصاعد الممارسات القمعية التي تقيد حرية الإعلام.

 وكانت منظمة مراسلون بلا حدود قد أطلقت تحذيرًا  في 24 أكتوبر الماضي من المخاطر المحتملة لترحيل الصحفيين السودانيين الأربعة أثناء احتجازهم  في مركز للاجئين بمدينة أسوان جنوبي مصر.

 وقالت المنظمة في بيان «إن إعادة هؤلاء الإعلاميين المحترفين إلى السودان سيشكل ليس فقط انتهاكًا صارخًا لحقهم في الأمان، بل أيضًا خطرًا كبيرًا على سلامتهم الجسدية، نظرًا للانتقام الذي قد يتعرضون له. ندعو السلطات المصرية إلى وقف هذا الإجراء الخاص بالترحيل. يجب الإفراج عن هؤلاء الصحفيين وضمان حمايتهم».

قصة التحقيق والاعتقال والسجون

يقول فارساب إنه تم التحقيق معهم  ليوم واحد والتحفظ عليهم لمدة ثلاثة أيام دون بلاغ وإجراءات قانونية.

«بعدها تم فتح بلاغ مخالفات شركة، وأصدرت النيابة قرار براءة لصالحنا.. كان هناك إجراءات تعسفية للأجانب، فبعد أن يتم الإفراج عنك لا بد من عرضك على الأمن الوطني الذي يصدر قرارًا بترحيلك في الغالب وتأكد الجوازات على ذلك»، يضيف.

 ويتابع «خلال هذه الفترة تم منع الزيارة عنا والاتصالات.. كما تم إخفاء كروت اللجوء عن قصد لنصبح بدون أوراق إقامة، حتى أمام النيابة».

 ويوضح أن أشرس هذه السجون وأصعبها والأخطر، كان قسم قصر النيل بوسط البلد، حيث تم احتجازهم فيه لأكثر من أربعين يومًا تعرضوا فيها للسرقة ولم يغمض لهم فيها جفن لمدة عشرة أيام متواصلة بسبب خطورة الوضع داخله.

أما السجن الثاني، والحديث لفارساب، فهو قسم 15 مايو ويصفه بأنه سجن كبير تجميعي به كل السودانيين المقرر ترحيلهم إلى أسوان ومنها تم نقلهم إلى سجن قوات الأمن التابع للأمن الوطني فيه عنابر كثيرة ومليئة بالسودانيين، مشيرًا إلى أن ما لا يقل عن 10 سودانيين يوميًا يصلون إلى السجن.

يتابع «بعدها كان يفترض أن يصلوا إلى منطقة أبو سمبل بأسوان لكن تم إرجاعهم قبل الوصول وإخطارهم من قبل المفوضية السامية للاجئين أنها بدأت إجراءات التوطين لهم».

ويردف «بقينا مدة أسبوعين في سجن أسوان ورجعنا بعدها إلى القاهرة، وتم عمل  الفحص الطبي اللازم لنا وإخطارنا بأن كندا قبلت ملفنا».

سجون فظيعة وإعادة قسرية إلى السودان

«السودانيون المحتجزون في السجون المصرية ممنوعين من الزيارات وكذلك الاتصالات ممنوعة عنهم»، يقول فارساب، لافتًا إلى أن الغالبية منهم يصدر بحقهم قرار ترحيل رغم امتلاكهم إقامات وكروت لجوء سارية.

ويضيف «يوميًا تأتي بصات محملة بالسودانيين من أسوان.. ما لا يقل عن 50 شخصًا وممكن يصلوا حتى 150 في اليوم الواحد».

ضرب فارساب مثلًا بشباب إثيوبيين كانوا في السودان وقدموا إلى مصر بالطريق الصحراوي الشمالي (تهريب)، لكن تم القبض عليهم بواسطة السلطات المصرية التي قال إنها ظلت تحبسهم لأكثر من عام وتمنع عنهم الزيارات والتواصل مع أسرهم حتى الآن، في ظل رفض السفارة الإثيوبية التفاعل مع قصتهم.

أسوأ أنواع التعامل وأقسام الشرطة تنكر وجودهم

قسم شرطة قصر النيل

تقول المحامية، إقبال أحمد علي لـ«بيم ريبورتس» إن الصحفيين احتجزوا لـ شهرين وخمسة أيام، وفي أول 15 يومًا صدر قرار بالإفراج عنهم من النيابة، لكن باقي الفترة ظلوا موضوعين «كأمانات إلى أن تم إجلاؤهم».

وتشير إلى أنهم تعرضوا لأسوأ أنواع التعامل في السجون، موضحةً أن قسم قصر النيل، كان ينكر أي وجود لهم داخله في أول ثمانية أيام من لحظة حبسهم، لكننا كنا على دراية بأنهم في الداخل رغم إنكار القسم ذلك، تقول إقبال.

وتواصل قائلة «لم يتم فتح بلاغ في مواجهتهم لدى النيابة ولم يكن لها علم بحالتهم.. الحراسة التي كانوا بها في الفترة الأولى كانت عبارة عن متر في مترين وعدد المحتجزين بها  لا يقل عن 30 شخصًا سواء كانوا للشباب أو النساء».

وتضيف «كان الصحفيون المحتجزون يتم إعطاؤهم وجبة واحدة في اليوم (جبنة قريش)،  لم يتمكنوا من تناولها لعدم استساغتهم لها.. أما المياه فكان يتم جلبها لهم دون تنقية مما سبب لهم مشاكل صحية ممثلة في تورم أجسادهم بسبب المياه الملوثة وحبس البول في وقت لم يتم عرضهم لطبيب».

وتتابع «عاشوا تفاصيل صعبة حيث تعرضوا للضرب من المساجين وتم اقتلاع حاجياتهم وسرقتهم». 

ووفقًا لإقبال، فإنه بعد 15 يومًا من الحبس أصدرت النيابة قرارًا بالإفراج عنهم وترحيلهم إلى العباسية للتأكد ما إذا كانوا مطلوبين في شيء آخر، لكنها عادت وأشارت إلى صدور قرار بأن يتم التحفظ عليهم وترحيلهم إلى السودان رغم أنه لم يكن عليهم شيء آخر.

قانون اللجوء

وتلفت إقبال إلى أن قانون اللجوء ينص على أن أي شخص يتم القبض عليه يفترض أن يتم إخطار المفوضية بذلك لتوفر محام له لمتابعة إذا كان لديه جناية أم لا، لتتدخل، مشيرة إلى أن السلطات المصرية لم تخاطب المفوضية ولم يكن لها علم بحالة الصحفيين.

وتوضح أنه وفقًا لقانون المفوضية، فإنهم في الأصل لا يفترض أن يكونوا في الحبس. وتواصل «أيضًا القانون يحمي كل من يحمل كرت لجوء من الترحيل، والقرار صدر ببرءاتهم من التهمة المنسوبة لهم لكن بعدها جاء قرار بالترحيل.. قانون المفوضية يحميهم من الترحيل»

وأكدت أن محامين مصريين أشاروا إلى أن السلطات المصرية لا تستجيب للطلبات التي تقدم بإلغاء قرارات الترحيل وأن قرار الإبعاد تم مرة واحدة إلغاؤه بموجب أمر قضائي  ولم تتكرر في أي حالة أخرى.

وذكرت أنها توجهت بمعية عدد من الحقوقيين السودانيين إلى مكتب الحماية وهو أحد المكاتب القانونية للمفوضية، مشيرةً إلى أنه لم يتحرك في الوقت المناسب لإيقاف الإجراءات المتعلقة بهم.

وأوضحت أن 3 صحفيين بينهم كانوا يحملون بطاقات المفوضية أما الصحفي الرابعة، كان مسجلًا لكنه لم يتسلم بطاقته لأن مواعيد استلامها كان بعد يومين من تاريخ حبسه.

واستنكرت إقبال غياب دور السفارة السودانية تمامًا عن وضع السودانيين في الحراسات المصرية، مشيرةً إلى أن السلطات المصرية كانت تعيد السودانيين على مرأى ومسمع السفارة السودانية وأن الأخيرة تقوم بإصدار وثيقة سفر اضطرارية لكل من لا يحمل مستندات لتعيده إلى السودان.

قانون جديد للاجئين

وفي 29 نوفمبر الماضي أقرّ مجلس النواب المصري مشروع قانون جديد خاص باللاجئين الأجانب وصدق عليه الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، لكنه أثار قبيل إقراره رسميًا جدلًا على منصات التواصل الاجتماعي، وسط مخاوف من أن يؤدي إلى «توطين اللاجئين» خاصة السودانيين والسوريين، وتساؤلات عن جدواه في ظل ما يقدمه من امتيازات للأجانب. 

وتأتي الموافقة عليه في إطار مساعٍ مصرية لتنظيم وضع اللاجئين وفق ما تقول القاهرة والذين يزيد عددهم عن 9 ملايين وفق بيانات صادرة عن الحكومة ، حيث ازداد عددهم أخيراً مع اندلاع الصراعات في المنطقة.

وفي الصدد تقول إقبال عن تأثير القانون الجديد على اللاجئين السودانيين إن القانون المصري الجديد تراجع تراجعًا وصفته بالمريع عن الوضع القائم بالنسبة للاجئين وعصف بالحماية القانونية لهم، مشيرة إلى إنه إذا أُعتمد فسيصبح ليس هناك حماية قانونية تماماً للاجئين.

وتشير إلى أنه خلق فراغًا انتقاليًا في الفترة من إعلان القانون حتى صدور الإجراءات، لأنه لم يحدد موعد تشكيل اللجنة التنفيذية، موضحةً أنه وفي هذه الفترة ما بين صدور القانون وتشكيلها، سيكون القانون هو النافذ والمفوضية لن يكون لديها حق في ممارسة أي شيء.

وتلفت إقبال إلى أنه وخلال هذه الفترة ستصبح حقوق المسجلين في المفوضية والواجبات لهم وتفاصيل المفوضية على اللاجئين موقوفة، وتنوه إلى أن القانون الجديد سيطر على جميع أموال اللاجئين وأدخلها تحت عباءة وزارة المالية المصرية، ما يعني أنه، وفق القانون، فإن تمويل اللاجئين الذي يأتي من الدول المانحة سيصبح تحت تصرف الحكومة المصرية.

وتوضح إقبال أن القانون الجديد توسع في اكتساب صفة اللجوء للاجئ، حيث أعطى اللجنة الحق في إطلاق صفة اللاجئ على الأشخاص أو غير لاجئ، كما منحها الحق في اعطاء صفة اللجوء أو لا. وتواصل و«فرزت بين القادم بطريقة رسمية أو غير رسمية في حين ان المفوضية تقول أن أي شخص فر من بلده لدولة أخرى ووصل الحدود يعتبر لاجئ».

أكدت أن القانون اتخذ لغة فضفاضة تعتمد على تفسير الطرف الثاني، لذلك فهو سيسبب مشاكل جمة ويحرم الأشخاص من أهم حقوق، وهي حق الإنتماء للنقابات وممارسة العمل السياسي، رغم أن أغلب الموجودين في مصر هم لاجئين سياسيين ومدافعين عن حقوق الانسان وصحفيين. كذلك منع اللاجئين من التكلم عن أي دولة أو معارضة نظام أي دولة، حتى لو لم تكن دولتك طالما مصر لديها مصالح معها.

وتواصل «القانون الجديد أعطى الدولة المصرية حق الاعتقال ومميزات الجنسية والمحاكم مربوطة بالقوانين القديمة وهي غير معدلة».

وتوضح أنه وفق للقانون الجديد سيتم التقديم للجنة للحصول على حق اللجوء حتى للأشخاص القادمين بطريقة رسمية ومن الممكن أن ترفض لهم، وتشير إلى أنه أيضاً بالنسبة للقادمين بطريقة رسمية لمدة سنة، فإنه وفي خلال ستة أشهر خلال السنة يحق لهذه الجهات الإدارية اتخاذ ما تراه مناسبًا، وتواصل «من الممكن أن يتم الاعتقال أو فرض غرامة على أي يوم تكون فيه في البلد في خلال فترة العام وستة أشهر».

وتقول «هذه كلها أشياء مبهمة وخطرة، والأهم منها فسيما يتعلق بقرار الإبعاد غير معروف بالنسبة للدولة القادم منها وطالب اللجوء أم لدولة أخرى، وهل يقوم اللاجئ بالتقديم للدول الأخرى، أم ستكون اللجنة وكيف سيصلها، واين سيكون خلال هذه الفترة، في السجون أم خارجها».

إعادة 40 شابًا احتفلوا بانتصار عسكري للجيش

وقالت إقبال إن السلطات المصرية أعادت 40 شابًأ تم القبض عليهم في أعقاب احتفالات السودانيين بخبر كان قد انتشر عن انتصار الجيش على قوات الدعم السريع في مصفاة الخرطوم للبترول (الجيلي).

وأضافت بعدها ترحيلهم إلى السودان بينهم شباب أقل من 18 عامًا، وبعضهم من المقرر أن يجلس لامتحانات الشهادة الثانوية ومسجلين في جمهورية مصر العربية، كما أن من بينهم شباب ليس لهم علاقة بالاحتفال، موضحة أن طريقة الاعتقال كانت مهينة. 

«بيم ريبورتس» ترصد أبرز أحداث سنة طويلة من الصراع المدمر في السودان

مع نهاية عام 2024 تقدم بيم ريبورتس رصدًا موجزًا لأبرز الأحداث السياسية والإنسانية والعسكرية التي وقعت على مدار الـ12 شهرًا الماضية ونقلت الصراع المسلح في السودان إلى مستويات غير مسبوقة، بما في ذلك إعلان المجاعة في خمس مناطق وإجراء امتحانات الشهادة الثانوية وإعلان مجموعات في تنسيقية القوى الديمقراطية تقدم اعتزامهم تشكيل (حكومة سلام) في مناطق سيطرة الدعم السريع.

أيضًا شهد عام 2024 انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان ضد المدنيين بما في ذلك عمليات اغتصاب وقتل جماعي وتهجير قسري للسكان من قوات الدعم السريع وسقوط مئات الضحايا في قصف للطيران الحربي التابع للجيش. كذلك فرضت دول غربية عقوبات على قادة عسكريين في الجيش والدعم السريع. كما فرضت الأمم المتحدة عقوبات على قائدين بالدعم السريع للمرة الأولى منذ اندلاع الصراع.

أبرز الأحداث السياسية في 2024

سياسيًا، شهد الثاني من يناير 2024 توقيع تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية تقدم إعلانًا سياسيًا مع قوات الدعم السريع لحماية المدنيين في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا. وقع عن تقدم رئيسها عبد الله حمدوك والجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي) عن قوات الدعم السريع.

 ومن ضمن أبرز الأحداث السياسية أيضًا تجميد السودان عضويته في الهيئة الحكومية للتنمية (ايغاد).

وفي ولاية الجزيرة أعلنت الدعم السريع عن تأسيسها إدارة مدنية في أواخر مارس وفي نوفمبر دعت إلى حكم لا مركزي وتأسيس جيش جديد.

أيضاً أقامت تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية (تقدم) مؤتمرها التأسيسي  في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا لمناقشة النظام الأساسي وإجازة الرؤية السياسية والهيكل التنظيمي.

وفي ديسمبر 2024 أقامت التنسيقية المدنية اجتماعات الهيئة القيادية التي وقفت على العمل التنظيمي الداخلي بمدينة عنتيبي الأوغندية. 

كذلك من الأحداث دعوة واشنطن للجيش السوداني وقوات الدعم السريع إلى محادثات سلام جديدة في العاصمة السويسرية جنيف بهدف إنهاء النزاع في السودان، وانطلاقها في منتصف أغسطس في ظل غياب وفد الجيش السوداني.

واختتمت مفاوضات جنيف بفشلها في التوصل لوقف إطلاق النار مع أخذها ضمانات من الطرفين بفتح ممرات آمنة لمرور المساعدات الإنسانية.

وفي ديسمبر 2024 عرض الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وساطة بلاده لحل الخلاف بين السودان ودولة الإمارات العربية المتحدة.

أبرز الأحداث العسكرية في 2024

عسكرياً أعلنت حركة جيش تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي رسميا انخراطها في قتال قوات الدعم السريع.

أيضاً أعلن الجيش السوداني بسط سيطرته على أحياء أبوروف وبيت المال بوسط أم درمان وتطويق قوة الدعم السريع المتمركزة داخل مباني الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون.

ليعلن الجيش رسمياً بتاريخ 12 مارس في تطور ميداني لافت سيطرته على مقر الإذاعة والتلفزيون الرسمي للبلاد في منطقة أم درمان وربطه قواته في شمال وجنوب أم درمان.

وفي شهر أبريل برزت حرب المسيرات على المدن التي يسيطر عليها الجيش حيث تمت مهاجمة إفطار نظمته مجموعة لواء البراء بن مالك المحسوبة على الإسلاميين بواسطة طائرة مسيرة في مدينة عطبرة خلف قتلى ومصابين.

لكنها لم تقف على ذلك بل تواصلت في عطبرة حتى نوفمبر 2024 وفي مناطق أخرى بولاية النيل الأبيض والولاية الشمالية وفي الفاشر بشكل دائم ومستمر.

أما الدعم السريع فقد سيطرت على عدد من المدن ابتداءً من محلية مليط بولاية شمال دارفور في أبريل ومدينة الفولة عاصمة ولاية غرب كردفان في يونيو. وفي ولاية سنار تمكنت من السيطرة على منطقة جبل موية الاستراتيجية بعد معارك مع الجيش بولاية سنار لتسقط مدينة سنجة عاصمة الولاية تحت يدها كذلك دون قتال.

وفي يوليو سيطرت الدعم السريع كذلك على مدينتي الدندر والسوكي بولاية سنار بالإضافة إلى مدينة الميرم الحدودية مع جنوب السودان، بعد معركة عنيفة مع قوات الجيش السوداني المتمركزة، في مقر اللواء 92 مشاة التابع للفرقة 22 بابنوسة.

 الجيش السوداني من جانبه بدأ تنفيذ عملية عسكرية واسعة في مدن ولاية الخرطوم الثلاث (الخرطوم، أم درمان، الخرطوم بحري)، في 26 سبتمبر شاركت فيها قوات برية وجوية وبحرية تقدم خلالها عبر 3 جسور تربط مدن العاصمة، نحو أهداف قوات الدعم السريع على مواقع مهمة بوسط الخرطوم وسيطر على مدينة الحلفايا ببحري.

وفي أكتوبر استعاد الجيش السوداني منطقة جبل موية الاستراتيجية وأعقبها باستعادة مدينتي الدندر والسوكي في تمدد جديد بولاية سنار وأتبعها باستعادة السيطرة على مدينة سنجة عاصمة ولاية سنار في نوفمبر.

في 20 أكتوبر وفي أعقاب انضمام قائد الدعم السريع بولاية الجزيرة أبوعاقلة كيكل، للجيش شنت قوات الدعم السريع عمليات عنف واسعة ضد المدنيين في مدينة الهلالية ومحليات أخرى بشرق الجزيرة ما أدى مقتل وجرح المئات وتشريد عشرات الآلاف.

أبرز الأحداث الإنسانية في 2024

إنسانياً، ظلت قضية المساعدات الإنسانية وفتح المعابر مثار جدل طوال العام من قبل المنظمات الحقوقية المحلية والخارجية وداخل أروقة الأمم المتحدة بشأن السودان، حيث أغلق السودان معبر أدري الحدودي في فبراير بسبب اتهامه لدولتي الإمارات وتشاد ليفتح تحت الضغط الأممي في أغسطس لمدة 3 أشهر قبل أن يعلن تمديد الفترة توجت بإيصال مساعدات انسانية إلى معسكر زمزم للنازحين بولاية شمال دارفور بعد إعلان المجاعة فيه بالإضافة إلى مناطق أخرى في جنوب كردفان وفي ولايتي وسط وجنوب دارفور.

وكان تقرير عالمي للجنة مراجعة المجاعة في التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي قد كشف عن تفشي المجاعة في مخيم زمزم للنازحين، وفي ديسمبر أصدرت نفس اللجنة تقريرًا جديدًا يتحدث عن اتساع المجاعة إلى خمس مناطق أخرى بحلول مايو 2025.

لكن الحكومة السودانية ظلت تنفي بشكل مستمر صحة هذه التقارير وأعلنت خروجها من المرصد العالمي على خلفية هذه التقارير.

وفي ديسمبر 2024 استقبلت العاصمة الخرطوم أول مساعدات إنسانية بعد 20 شهرًا من الحرب.

أبرز الأحداث الصحية في 2024

صحياً زار مدير منظمة الصحة العالمية  السودان وتوقع أن يواجه 25.6 مليون شخص في السودان أي أكثر من نصف عدد السكان مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد.فيما كشف عن وضع صحي متردي في البلاد في ظل اهمال أممي.وتدمر القطاع الصحي خاصة في الخرطوم ومدينة الفاشر ولاية الجزيرة.

أيضاً تفشت الوبائيات والأمراض بينها الكوليرا وحمى الضنك خاصة في شرق السودان.

أبرز الأحداث الثقافية في 2024

في الثقافة شيع السودان عددًا من الشعراء والفنانين أبرزهم الشاعر والدبلوماسي السوداني، محمد المكي إبراهيم، والأديب والمفكر السوداني القانوني كمال الجزولي، والشاعر والكاتب المسرحي هاشم صديق.

أبرز العقوبات الدولية المتعلقة بالسودان في 2024

دولياً صدرت عدد من العقوبات على قادة في قوات الدعم السريع وأفراد في الجيش وشركات تابعة لهم.حيث قام مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) التابع لوزارة الخزانة الأمريكية بفرض عقوبات على قائدين عسكريين بالدعم السريع هما علي يعقوب جبريل وعثمان محمد حامد محمد (عثمان عمليات).

أيضاً فرض الإتحاد الأوروبي عقوبات على ستة كيانات ضالعة في الحرب في السودان قال إنها مسؤولة عن دعم الأنشطة التي تقوض الاستقرار والانتقال السياسي في السودان.

أيضاً فرضت واشنطن عقوبات على شقيق حميدتي القوني حمدان دقلو  لدوره في تأجيج الحرب.

كذلك فرض مجلس الأمن الدولي لأول مرة أول عقوبات على قادة في الدعم السريع وهما (عبد الرحمن جمعة بارك الله القائد بغرب دارفور و قائد عمليات الدعم السريع عثمان محمد حامد محمد)  لتورطهما في أعمال عنف بغرب دارفور.

كما فرضت واشنطن عقوبات على مدير شركة الصناعات الدفاعية التابعة للجيش السوداني على خلفية إبرام 8 صفقات سلاح مع إيران وروسيا.

أبرز الأحداث الدبلوماسية في 2024

دبلوماسياً تواصل التوتر بين السودان ودولة الإمارات على خلفية اتهام الحكومة السودانية أبو ظبي بدعم قوات الدعم السريع ومدها بالسلاح والعتاد، في وقت أثبتت عدد من التقارير الصحفية والأممية ذلك غير أن أبو ظبي ظلت تنفي حتى أمام مجلس الأمن تورطها في أي عمل غير الأعمال الإنسانية في السودان.

وشاركت الإمارات في مباحثات جنيف بشأن السودان كما أصدرت عدد من البيانات بخصوص قلقها من الوضع في السودان.

أما دولة تشاد فقد برز الإحتجاج السوداني على دورها في الحرب وفق ما يقول الجيش بإبعاد السودان قادة دبلوماسيين واتهامها بشكل مباشر في بيانات من الخارجية السودانية بدعم الدعم السريع لكنها ظلت تنفي ذلك ط، وتأثر من التصعيد بين البلدين 13 ألف سوداني كان من المقرر أن يجلسوا لامتحانات الشهادة الثانوية في منطقة ابشي.

أما جمهورية مصر العربية فظلت مشددة على موقفها بدعم الجيش السودان واعترافها به وتسمية الدعم السريع بالمليشيات فيما خرج قائد قوات الدعم السريع حميدتي واتهمها بدعم الجيش في معركة جبل موية.

أما إثيوبيا أعلنت عن دخول اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل “عنتيبي” حيز التنفيذ رغم اعتراضات السودان ومصر.

بينما الجارة جنوب السودان ظلت تجري مباحثات مع الطرفين بشأن حقول البترول في السودان بينما يتهم الجيش مقاتلين جنوب سودانيين بالمشاركة مع الدعم السريع في القتال.

كما برزت دولة كولومبيا بمشاركة أفراد منها في القتال مع الدعم السريع وفق ما أعلنت القوة المشتركة في دارفور بنشر هوياتهم وجوازات سفرهم فيما قالت الحكومة السودانية إن الحكومة الكولومبية قدمت اعتذارًا لها على مشاركتهم. 

أبرز الأحداث الاقتصادية في 2024

اقتصادياً أعلنت شركة حكومية عن أن قيمة تصدير الذهب خلال الفترة من يناير إلى أكتوبر 2024 بلغت 1.5 مليار دولار.

أيضاً  أعلن مجلس الوزراء السوداني عن اجازته أهداف وسمات الموازنة الطارئة للعام 2025 وموجهات إعدادها.

كما برزت قضية استبدال العملية بإعلان بنك السودان المركزي عن طرح ورقة نقدية جديدة من فئة 1000 وسحب القديمة تدريجياً وسط اعتراضات من القرار وتأثيراته على وحدة السودان.

وكان تقرير عالمي للجنة مراجعة المجاعة في التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي قد كشف عن تفشي المجاعة في مخيم زمزم للنازحين، وفي ديسمبر أصدرت نفس اللجنة تقريرًا جديدًا يتحدث عن اتساع المجاعة إلى خمس مناطق أخرى بحلول مايو 2025.

لكن الحكومة السودانية ظلت تنفي بشكل مستمر صحة هذه التقارير وأعلنت خروجها من المرصد العالمي على خلفية هذه التقارير.

وفي ديسمبر 2024 استقبلت العاصمة الخرطوم أول مساعدات إنسانية بعد 20 شهرًا من الحرب.

وسط نيران الحرب وجحيم المنافي.. انطلاق امتحانات الشهادة السودانية المؤجلة في جغرافيا منقسمة عسكريًا 

عمر الفاروق وملاذ حسن

عمر الفاروق وملاذ حسن

في يوم 22 ديسمبر الحالي استقل اللاجئ السودان (م.أ) حافلة ركاب من مدينة كيغالي عاصمة رواندا برفقة ابنته التي من المنتظر أن تجلس لامتحانات الشهادة الثانوية في المساق العلمي، متوجهًا إلى العاصمة الأوغندية، كمبالا، في رحلة استغرقت أكثر من 10 ساعات. 

على (م.أ) أن يبقى هناك في كمبالا حتى نهاية الامتحانات ودفع تكلفة إضافية قد لا تغطيها أعماله التجارية المحدودة في كيغالي، لكنه اختار أن يجد سكنًا قرب مركز الامتحانات لتقليل التكلفة إلى أقصى حد.

لم تكن ابنته ترتاد المدرسة، وإنما كانت تتلقى دروسها إلكترونيًا، وهذه عقبة أخرى، تواجه الآلاف من زملائها، بالإضافة إلى الظروف الاستثنائية التي يعيشها السودانيون الذين تغيرت بيئتهم في وقت وجيز.

كانت ابنة (م.أ) ضمن نحو 513 ألف طالبة وطالب في السودان يستعدون للجلوس لامتحانات الشهادة الثانوية في يونيو 2023، عندما تغير كل شيء في هذا البلد المترامي الأطراف والمثقل بالفقر والنزاعات، في صباح السبت 15 أبريل، في العاصمة الخرطوم ومناطق أخرى من البلاد، إذ حمل ذلك الصباح المشؤوم رسالة مضمخة بالدماء، ليس لأولئك الطلبة وحدهم، وإنما لنحو 50 مليون سوداني، مفادها أنه قد تم تأجيل وتحطيم الحياة مرةً أخرى، ريثما تنتهي دورة جديدة من الحرب. 

وهكذا تمزق الحاضر وبدأ المستقبل يتسرب من بين يدي مئات آلاف الطلبة الذين كانوا على موعد مع امتحانات الشهادة السودانية، ومع استمرار ضراوة الحرب، وتحطم أجهزة الدولة ومؤسساتها، لم يعد أحد، يفكر في مثل هكذا رفاهية، إذ أن الجميع كانوا يبحثون عن النجاة، نزوحًا ولجوءًا، وبقاء تحت نيران المحرقة لعل نيرانها تخبو، أو تنظفئ. 

هذا السياق الحربي، أعلن أنه لا امتحانات لطلبة الشهادة السودانية 2023 الذين تفرقوا وتشتتوا مع الحرب، لينتهي العام وسط لغة واحدة لغة الرصاص، قبل أن يأتي العام 2024 والذي على وشك النهاية، وهو يحمل معه خبر إقامة الامتحانات، والذي أصبح واقعًا، حيث من المنتظر أن يجلس غدًا السبت نحو 370 ألف طالبة وطالب لامتحانات الشهادة السودانية في الولايات الخاضعة لسلطة الحكومة السودانية، ممثلة في الجيش بالإضافة إلى مراكز خارجية في عدة دول، حسبما أكدت وزارة التربية والتعليم الاتحادية.

لن يقرع جرس الامتحانات في ثماني ولايات

لن يعرف كامل إقليم دارفور والذي تسيطر قوات الدعم السريع على معظمه امتحانات الشهادة السودانية لهذا العام، بالإضافة إلى أجزاء واسعة من ولايات كردفان الثلاث التي يتشارك فيها الجيش وقوات الدعم السريع، بالإضافة إلى الحركة الشعبية – شمال السيطرة عليها. كذلك لن يقرع جرس الامتحانات بالعاصمة ممثلة في مدينتي الخرطوم وبحري، بينما ستكون مدينة أم درمان ثالث مدنها والتي يسيطر الجيش على معظمها، مركزًا رئيسيًا للامتحانات. 

وكان قرار إقامة امتحانات الشهادة السودانية، لهذا العام، في ولايات الوسط، الشمال، الشرق والجنوب، واستثنائه ولايات دارفور أثار الجدل في البلاد، وحوّل العملية، إلى عملية سياسية بالغة التعقيد، يُسمع فيها مفردات التقسيم، ساحبة إليها لغة الحرب.

وفي ولاية جنوب كردفان تجلت رغبة الطلاب الكبيرة في الجلوس للامتحانات بخروجهم في مدينة الدلنج في تظاهرة عارمة مطالبين بجلوسهم للامتحانات بعد ورود أنباء عن عدم تمكن الحكومة من إيصال أوراق الامتحانات للمدينة.

صورة ارشيفية

وقالت لجنة المعلمين السودانيين (جسم نقابي) في بيان اليوم الجمعة إن ثماني ولايات حرمت بالكامل، وثلاث بصورة شبه كاملة، وثلاث بصورة جزئية، من جملة 18 ولاية في السودان من الامتحانات ومؤكدة أن 60 ٪ من الطلاب على الأقل سيحرمون من هذه الامتحانات.

واعتبرت في البيان أن -التخبط والعشوائية- في التجهيز للامتحانات تجلى في عدم ظهور أرقام جلوس لعدد كبير من الطلاب في محلية كرري بأم درمان، وإعلان عدم عقد الامتحانات في محلية النهود والدلنج وفي دولة تشاد في اللحظات الأخيرة.

 بينما كشفت عن محسوبية ومجاملة في اختيار كبار المراقبين لخارج السودان، وفي مراكز مصر والإمارات، مشيرةً إلى أنه يوجد بينهم من لم يعمل معلم ولو ليوم واحد.

وحملت ـ حكومة الأمر الواقع ـ كامل المسؤولية عن أي نتيجة تترتب على الإصرار على عقد الامتحانات بهذا الشكل، دون استصحاب شروط العدالة والشمول، والالتزام بإجراءات سلامة المعلمين والطلاب، لافتة إلى أن هذه الامتحانات خطر على الطلاب والمعلمين أثناء عقدها، وخطر على السودان بعد عقدها، وفق ما ذكر بيانها.

غياب الشهادة السودانية في 2023

وامتحانات الشهادة السودانية والتي بدأت منذ ما بعد الاستقلال غابت للمرة الأولى العام الماضي بشكل كامل، وتغيب هذا العام بشكل جزئي في مساحة سكانية كبيرة ممثلة في دارفور والخرطوم وأجزاء واسعة من الجزيرة وغيرها من المناطق. كما أنها تُجرى للمرة الأولى في توقيت مسائي وسط مخاوف أمنية من استهدافها.

والي الخرطوم السابق أيمن نمر يقرع جرس الامتحانات بمدرسة العبيدان بنات بمنطقة مايو جنوب الخرطوم - أرشيفية

بخصوص المخاوف الأمنية طالبت لجنة المعلمين السودانيين بوقف إطلاق نار طيلة فترة الامتحانات، لكن لم يوضح أي طرف موقفه من هذا الأمر. 

بدأت بوادر تحديات امتحانات الشهادة الثانوية من خلال أنباء عن تحقيقات واعتقالات مع الطلاب القادمين مبكرًا إلى مناطق سيطرة الجيش للاستعداد للامتحانات.

وفي نوفمبر الماضي استنكرت لجنة المعلمين السودانيين ما تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي حول اعتقال الطالب عمر أحمد عبد الهادي الذي جاء إلى الولاية الشمالية للجلوس لامتحانات الشهادة الثانوية للدفعة المؤجلة 2023، إلا أنه تم توقيفه في الطريق ومن ثم الحكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات بحجة التعاون مع الدعم السريع.

وأشارت اللجنة إلى أن هذه الأفعال لن تقود إلا إلى تمزيق الوطن، بعد أن مزقت النسيج الاجتماعي، ونشرت خطاب الكراهية البغيض تحت مرأى ومسمع من يدعون أنهم حكومة البلد بحسب ماقالت.

ومع اقتراب موعد الامتحانات منعت الدعم السريع بدورها الطلاب من الذهاب إلى مناطق الجيش للجلوس للامتحان، فيما بقي مصير الطلاب معلقاً بجغرافيا وجودهم وعوامل أخرى مما تسبب في حرمان آلاف الطلاب من استكمال عملية تخرجهم من المرحلة الثانوية.

إجراءات لتأمين الامتحانات

من جهتها، أعلنت الحكومة السودانية إجراءات أمنية لتأمين سير الامتحانات، لكن الأمر يواجه بشكوك كبيرة في ظل حرب طاحنة ومخاوف جدية من أن يدفع الطلبة ثمن ذلك.

وفي وقت لم تعلن الدعم السريع موقفًا رسميًا بشأن السماح للطلاب المقيمين في مناطق سيطرتها بالذهاب إلى الامتحانات في مناطق سيطرة الحكومة والجيش،  أدلى بعض قادتها بتصريحات أبدوا فيها رفضًا مبطنًا.

حذر القائد بقوات الدعم السريع المك أبوشتال في تصريحات نشرت في الحساب الرسمي لقوات الدعم السريع على منصة تليجرام أولياء الأمور من إرسال أبنائهم إلى الولايات الخاضعة لسيطرة الحكومة، متحدثًا عن سيناريوهات تشمل الهجوم بالمسيرات والتجنيد الإجباري، وهي ضمن أمور أخرى رآها سببًا لعدم ذهاب الطلبة للامتحانات.

أجندة سياسية وانقسامية

وكانت قوات الدعم السريع قد اعتبرت في بيان لها بتاريخ 12 ديسمبر الحالي الحكومة في بورتسودان بأنها تمضي إلى استخدام التعليم أداة لتنفيذ أجندتها السياسية الانقسامية والحربية.

وقالت إن موقفها المعلن بانطلاق امتحانات الشهادة الثانوية في مناطق بعينها دون سائر ولايات السودان لأول مرة في تاريخ السودان، ما عدا حالة سياسة المناطق المقفولة التي أقامها المستعمر، يكشف حجم التآمر واللا مسؤولية وعدم الاكتراث لمستقبل مئات الآلاف من الطلاب السودانيين في مختلف مناطق السودان.

التربية: أكثر من 350 ألف طالب يمتحنون في 2300 مركز داخل وخارج السودن

وفي 21 ديسمبر الحالي، أكدت وزارة التربية والتعليم اكتمال كافة استعدادها لامتحانات الشهادة السودانية المؤجلة، وقالت إن عدد الطلاب الممتحنين بلغ 343644 طالبة وطالب، موزعين على 2300 مركز امتحانات داخل وخارج السودان، مشيرة إلى أن 120724 طالبة وطالبة وفدوا من ولايات غير آمنة. 

وقال وزير التربية والتعليم المفوض، أحمد خليفة عمر، إن كل أرقام الجلوس وصلت للمراكز ما عدا ولاية الخرطوم، متوقعًا وصولها بأقرب وقت، وعازيًا  التأخير لازدياد عدد الطلاب.

وزير التربية والتعليم المفوض، أحمد خليفة عمر

 وأضاف أن هناك عدد من أرقام الجلوس الاحتياطي ومركزين إضافيين في عطبرة والدامر للوافدين حتى الجمعة 27 ديسمبر، مؤكدًا أن الوزارة مستعدة لأي أرقام إضافية للولايات من 100 رقم إلى 200 ليتمكن كل طالب من الحصول على رقم جلوس.

نحو 50 ألف يجلسون للامتحانات خارج السودان

وأكد الوزير أن عدد الطلاب خارج السودان بلغ 46553 بينهم 27 ألف طالبة وطالب في جمهورية مصر، بعدد 59 مركزا  كليًا منها 27 مركزا في مصر.

 وأشار إلى أن الطلاب الذين سجلوا للامتحانات في 2023 بلغت نسبتهم 83%، بينما قال إن نسبة الطلاب الوافدين بلغت 35%، موضحًا أن نسبة الطلاب الذين سجلوا قبل الحرب كان عددهم 513 ألف. 

وأكد الوزير أن الوزارة تمتلك كل معلومات الممتحنين وولاياتهم ومدارسهم داخل وخارج السودان، موضحًا أن امتحانات الشهادة السودانية للعام 2024 ستعقد بعد ثلاثة أشهر، مشيرًا إلى أنه امتحان أصيل وليس بديلًا، لالتحاق كل الطلاب الذين لم يتمكنوا من الجلوس لامتحان ديسمبر، وذلك تحقيقاً للعدالة والمساواة. 

كما أكد الوزير أن طباعة امتحانات الشهادة السودانية تمت بداخل السودان بمدينة عطبرة بولاية نهر النيل وأن عملية الطباعة استغرقت 15 يومًا فقط، حيث تمت طباعتها بصورة دقيقة ووفق ترتيبات معينة.

وشدد الوزير على أن الامتحانات مؤمنة تأمينا كاملاً وأن عملية التأمين تبدأ من المراكز وحتى المؤتمر الصحفي لإعلان النتائج.

لجنة المعلمين: وزارة التربية حددت عدد الممتحنين (زورًا وتدليسًا)

لكن لجنة المعلمين السودانيين قدمت بيانات ورؤية مختلفة بالنسبة لانعقاد امتحانات الشهادة السودانية. 

وقالت اللجنة في بيان يوم 22 ديسمبر الحالي، إن وزارة التربية والتعليم أصمت أذنيها عن النداءات والرجاءات والنصائح المبذولة لقيام امتحانات الشهادة السودانية للدفعة 2023 من قبل أهل الشأن من الحادبين على التعليم والكثير من أولياء الأمور وأعطتها لمن لا يمت للتربية والتعليم بأي صلة، مصرة على جعل التعليم مدخلًا لتقسيم السودانيين، ورافدًا من روافد الحرب، في محاولة لشرعنة الحرب ونتائجها.

وأكد البيان أنه تم تحديد عدد الممتحنين (زورًا وتدليسًا)، حيث تم اعتماد الساعة الثانية والنصف ظهرًا موعدا للامتحانات، وأن عدد الممتحنين بلغ أكثر من 330 ألف طالب وطالبة.

شعار لجنة المعلمين السودانيين

وشددت لجنة المعلمين السودانيين، أنه بناءً على التقارير الواردة من الولايات، وإفادات مديري التعليم ببعض الولايات، فإنها تؤكد على عدم صحة هذا الرقم وعدم دقة النسبة التي تم ذكرها (83 ٪).

وأردفت «فالجميع يعلم أن العدد المرصود قبل الحرب بلغ ما يقارب 580 ألف طالب وطالبة». وتابعت «نؤكد أن العدد المسجل حتى الآن لم يتجاوز الـ200 ألف، على أحسن الفروض».

وأوضح البيان قائلًا إنه دون الخوض في تفاصيل هذا الأمر، فإننا نظل على موقفنا الداعم لاستمرار العملية التعليمية لأي عدد من الطلاب، وفي الوقت نفسه نرفض تصميم عملية تعليمية تقصي عددًا مقدرًا من السودانيين بواسطة الجهة المنوط بها توفير التعليم -كحق – لكل السودانيين.

وقالت إنه اتضح من خلال المؤتمر الصحفي تبني المفوض بأعمال وزارة التربية والتعليم الاتحادية السير في ذات النهج الذي يجعل من التعليم أداة للحرب.

وأضافت «كما يتضح عدم وجود تخطيط سليم منذ البداية، أرغمه ذلك على تغيير مواعيد جلسات الامتحان، بسبب تضارب الزمن المعتاد مع التقويم المدرسي في جمهورية مصر العربية».

 وأكدت «من المعلوم أن عطلة المدارس في جمهورية مصر العربية تبدأ منتصف يناير، وهذا يؤكد على ضعف التنسيق والترتيب، وأن هذه الشهادة ليس القصد منها العملية التعليمية، بل الهدف الأساسي منها سياسي بامتياز».

وختمت لجنة المعلمين السودانيين قائلة «نظل على موقفنا الداعم للطلاب الذين سيجلسون لهذا الامتحان.. كما سنظل ندافع عن حق الطلاب الذين لن يجلسوا لهذا الامتحان ونحمل حكومة الأمر الواقع كامل المسؤولية عن أي تقصير أو أي نتائج تترتب على هذا القرار وهذه الإجراءات غير المدروسة والمتعجلة».

السلطات التشادية تمنع آلاف الطلاب السودانيين من الجلوس للامتحانات في أراضيها

وفيما يتعلق بامتحان الطلاب السودانيين، في تشاد، قال الوزير إنه سبق وأن تم إعداد كل الترتيبات لذلك، إلا أنهم فوجئوا بقرار الرئيس التشادي محمد إدريس دبي، بمنع قيام الامتحانات للطلاب السودانيين، باعتبارهم نازحين، يجب أن يمتحنوا وفق مقرارات الدولة التي يقيمون بها.

وأردف الوزير أن هناك محاولات تقوم بها سفارة السودان، إلى جانب بعض المنظمات نأمل أن تتوصل إلى حلول.

وفي السياق نفسه، أبدى حاكم إقليم دارفور، مني أركو مناوي، أسفه على منع السلطات التشادية الطلاب السودانيين من الجلوس لامتحانات الشهادة السودانية.

وشدد قائلًا «يجب ان يكون التعليم ضمن أدوات ليست لها حدود، وليست هناك جريمة تقع علي الطلاب.. إنما هم ضحايا حروب وضحايا أعمال الدعم السريع. على حكومة تشاد مراجعة هذا الأمر».

قنصلية السودان بمدينة أبشي التشادية تعتذر للطلاب

الخارجية السودانية: تشاد منعت 6 آلاف طالب من الجلوس للامتحانات

ويوم الأربعاء أعربت الحكومة السودانية عن أسفها واستنكارها لرفض السلطات التشادية السماح بإقامة امتحانات الشهادة السودانية لأكثر من ستة آلاف طالب وطالبة من اللاجئين السودانيين من ولاية غرب دارفور وغيرها.  

وأكدت وزارة الخارجية  في بيان أنها بذلت كل الجهود الممكنة عبر التواصل المباشر مع وزارة الخارجية التشادية وعبر المفوضية السامية للاجئين لإقناع السلطات التشادية بإقامة الامتحانات، حتى لا يتضرر الطلاب اللاجئون بسبب التقديرات السياسية الخاطئة للسلطات التشادية، دون جدوى.

ووفقًا للبيان، يأتي هذا الموقف امتدادًا لنهج  السلطات التشادية العدائي من السودان. 

ورأى البيان أن حرمان الطلاب الأبرياء من حق التعليم وتهديد مستقبلهم يمثل خرقا واضحا لأحد مبادئ حقوق الإنسان الأساسية التي نص عليها القانون الدولي، وتنكرا للعلاقات التاريخية الوثيقة بين الشعبين الشقيقين، وسابقة السودان في إتاحة فرص التعليم لأبناء الشعب التشادي.

وتابع البيان «سيظل حرمان أبنائنا من الجلوس لامتحانات الشهاده السودانيه نقطة سوداء في سجل السلطات التشادية وسياستها العداونية  تجاه الشعب السوداني».

تنسيقية لجان المقاومة الفاشر تنتقد قرار إقامة الامتحانات

انتقدت تنسيقية لجان المقاومة الفاشر إصرار ما أسمتها حكومة بورتسودان على اقامة امتحانات الشهادة السودانية في موعدها المحدد، مع علمها بأن هناك ألف طالب وطالبة سيحرمون من حقهم للجلوس للامتحانات.

ورأت في بيان أن ذلك محاولة لإثبات أن الدولة قادرة على تسيير دولاب العمل وأن النزاع لم يؤثر على التعليم، بدون النظر إلي المخاطر والتحديات والظروف الاقتصادية المتردية المحيطة بنا.

وأضاف البيان “نحن نراها كمحاولة للتكسب السياسي فقط..  قضية التعليم يجب أن لا تسيس، ولا يجب أن يأخذ التعليم كواحدة من أدوات الحرب”.

وشدد البيان على رفض قيام امتحانات الشهادة السودانية في هذه الظروف الحرجة، بجانب استخدام قضية التعليم كاداة للانتصار دون النظر الي المخاطر.

وتابع البيان “ومن جانب آخر المليشيات تستخدم كل الطرق من أجل أن لا تقام الامتحانات في موعدها، وذلك بمنع الطلاب في مناطق سيطرتها من الوصول إلى مراكز الامتحانات.

التعليم والحرب ضدان

قال الناطق الرسمي لجنة المعلمين السودانيين في تصريح صحفي لـ«بيم ريبورتس»، إنه حسب ما يرشح، فإن هناك تأمين لامتحانات الشهادة الثانوية.

 غير أنه عاد وأشار إلى أن الحرب والتعليم ضدان، مؤكدًا أنه لا يمكن مواصلة التعليم في ظل الحرب وصوت البنادق والمشاكل التي تنتج عن الحرب.

المتحدث الرسمي باسم لجنة المعلمين السودانيين، سامي الباقر

وأضاف الباقر «لكن رغم ذلك نتمنى أن يتم عقد هذه الامتحانات في جو من الطمأنينة وأن يتحلى الطرفان بالأخلاق وأن يتركوا هؤلاء الطلاب ليكملوا امتحاناتهم»،  متمنياً ألا تكون هناك أي مزايدة في موضوع الامتحانات وألا يحاول أي طرف التكسب من هذه القضية سياسيًا سواء كان بإقرار الامتحانات أو منعها.

حزمة من الإجراءات لشمول العملية التعليمية

وذكر الباقر أنهم طالبوا بحزمة من الإجراءات لضمان شمول العملية التعليمية والإمتحانات من ضمنها وقف إطلاق النار وإعلان مراكز الامتحانات ومراكز تجميع الأوراق ومراكز التصحيح للمعلمين، بحيث تكون مناطق آمنة.

بالإضافة إلى فتح المسارات للطلاب للوصول لأقرب نقطة يتم الاتفاق عليها من ضمنها إيقاف إطلاق النار ضمن فترة الامتحانات والتصحيح.

 وتابع «لكن لم نجد استجابة لهذا الطلب للأسف من أي من الطرفين، وبالتالي نفتكر أن المقصود من الامتحانات ليس العملية التعليمية، بل الهدف منها هو إقرار نتائج الحرب وجعل التعليم أحد وسائل إقرار النتائج التي توصلت لها الحرب حتى الآن».

وشدد على أنه يجب أن يكون التعليم أحد الروافع التي تخفض صوت البنادق، وأن لا يتم اتخاذه لاقرار أي نتيجة من نتائج الحرب .

تعليم الطوارئ

واعتبر أن مصير الطلاب في الولايات التي لن تكون بها امتحانات سيظل كما هو عليه بأن عددا كبيرا منهم  لن يجلسوا للامتحان، مشيرًا إلى أن  حكومة الأمر الواقع تتجه إلى خط عقد الامتحانات بمن حضر، في وقت تحرم الدعم السريع في المناطق التي تسيطر عليها تحرم الطلاب من الوصول إلى مراكز الامتحانات.

وواصل «التعليم يجب أن يكون متاحًا لجميع السودانين نسبة لأن التعليم في الطوارئ معمول به في كل الدول التي تكون فيها حروب.لذلك مازلنا متمسكين برؤيتنا بشمولية وعدالة التعليم».

واعتبر الباقر أن حكومة الأمر الواقع في بورتسودان تحاول أن ترسل رسالة عبر العملية التعليمية أنها مسيطرة على أجزاء كبيرة من السودان وقادرة على تسيير العملية التعليمية.

أما قوات الدعم السريع من جانبها، بحسب الباقر، ترد بمحاولة تعطيل ما تقوم به حكومة الأمر الواقع. وما بين إصرارهما، يضيع عدد كبير جدًا من الطلاب والتلاميذ، وهو ما يجعلنا نطالب دائمًا بإبعاد التعليم عن الصراع وأن يكون حق لكل طالب في السودان ولا يكون مدخل لتقسيم السودان والسودانيين.

 

ورغم كل ماسبق تتوجه أعين وقلوب آلاف السودانيين في بقاع الأرض مع الطلاب الذين سيجلسون غدًا للإمتحانات الأهم لدي الشعب السوداني على مدار الأزمان، متحدين أي ظروف أمنية ولوجستية وأي نوايا ومهددات بتحطيم أحلامهم التعليمية غير آبهين بعبث الكبار في هذه الحرب بينما ستظل تحديات امتحانات الشهادة 2023 ضمن أبرز القصص التي سترويها الأجيال في أزمان أفضل من تاريخ السودان.