Tag: العدالة

سنوات من الانتظار.. جعلت تحقيق العدالة لشهداء الثورة أكثر ضبابية

حتى بعد مرور 4 سنوات على مقتل ابنها الطبيب، بابكر عبد الحميد، الذي اقتنصه رصاص قوات الأمن في يناير 2019م بمنطقة بري شرق العاصمة السودانية الخرطوم، ما تزال شريفة عوض تبحث عن العدالة، حيث شاركت في وقفة احتجاجية أمام مقر السلطة القضائية، بوسط الخرطوم، رفضاً لقرار إلغاء محكمة الشهداء في 15 من شهر ديسمبر الماضي. بعدما كان يحدوها الأمل بإدخال ملفه إلى محكمة خاصة بالشهداء.

جاءت وقفة ذوي الشهداء أمام مقر السلطة القضائية بالخرطوم، احتجاجاً على إصدار رئيس القضاء في حكومة الأمر الواقع، عبد العزيز فتح الرحمن عابدين، قراراً بإلغاء المحاكم الخاصة بالشهداء، بعدما كانت نيابة الشهداء قد تقدمت بدعاوى البلاغات إلى المحكمة.

وتمت الوقفة بعد دعوة من أسرة الشهيد الفاتح النمير التي تقاسم أسرة شريفة عوض وجع اغتيال فلذة أكبادهم في موكب 9 يناير ببري على يد نفس المتهمين في نفس اليوم، وتأخر المحكمة الخاصة بالشهداء في إدخال الملفين للمحكمة.

ومع ذلك، ليست أسر الشهداء وحدها من رفضت قرار رئيس القضاء الذي وجد اعتراضات عديدة، حيث حذرت لجنة أطباء السودان المركزية من التعامل مع قضايا الشهداء بهذا الاستسهال، مؤكدة أنها ستقف مع قوى الثورة للتصدي لهذا الانحراف، عبر التصعيد الإعلامي والوقفات الاحتجاجية ووسائل الضغط الأخرى المجربة. كما طالبت السلطات المختصة بتكملة إجراءات تسليم المتهمين واستجواب الشهود في قضايا وملفات دعاوي الشهداء والانتهاكات ما بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021م.

كذلك تفاعلت مع الدعوة منظمة أسر شهداء ديسمبر التي نشرت بيان مناشدة للمشاركة في الوقفة، وبالإضافة إلى لجان مقاومة وكيانات نقابية وحقوقية عبرت عن غضبها من القرار، فيما استنكرت لجنة أطباء السودان المركزية القرار قائلة إنه “أمر خطير يكرس لحالة الإفلات من العقاب ويهدد العدالة”.

في السياق نفسه مضت مجموعة محامو الطوارئ التي تنشط في رصد الانتهاكات، والتي اعتبرت تبرئة المتهمين بقتل الشهداء مخططا متكاملاً للإفلات من العقاب وضوءاً أخضر للأجهزة الأمنية بالمزيد من التنكيل فی حق الثوار.

وأشار محامو الطوارئ في تصريح صحفي، إلى عدم إلغاء المنشور 3/2021 الذي منح الحصانة لأفراد الأجهزة الأمنية، فيما استنكرت تحول النيابة العامة إلى أداة في يد السلطة وأجهزتها الأمنية.

وتأسست محكمة الشهداء، بقرار من رئيسة القضاء السابقة، نعمات عبد الله، التي تم اعفاؤها بتاريخ 18 مايو 2021م بعد سبعة أشهر من تعيينها بالتزامن مع استقالة النائب العام تاج السر الحبر ليصبح بعدها منصب رئيس القضاء فارغاً حتى تاريخ انقلاب 25 من أكتوبر، بالإضافة إلى استمرار غياب تشكيل المجلس الأعلى للقضاء في السودان.

ودخلت على إثر القرار قضايا الشهداء: “حنفي عبد الشكور، ومحجوب التاج ، والأستاذ أحمد الخير، بينما رفضت نيابة الشهداء استلام قضيتي الشهيدين  بابكر والفاتح النمير.

وبعد تنفيذ الوقفة الاحتجاجية، ردت السلطة القضائية بتأكيد عدم صدور قرار بإلغاء المحاكمات الخاصة، فيما أوضحت منظمة أسر الشهداء لاحقاً صدور قرار بتاريخ 16 /12/ 2022 بتوقيف قرار الإلغاء.

“الدستور والإتفاق الذي يتبنى قتلة الشهداء ويستند على وضعنا أيدينا في أيدي قتلة أبناءنا، مرفوض لدينا تماماً تقول شريفة لـ( بيم ريبورتس) تأكيداً على عدم قبولها وغالبية أسر شهداء ديسمبر بالمستجدات السياسية في البلاد وآخرها توقيع العسكر والمدنيين على الاتفاق الإطاري الأخير.

وكانت منظمة أسر الشهداء تمسكت في بيان لها في نوفمبر الماضي بموقفها الرافض لأي تفاوض بالنيابة عنها، مشددة على أن أسر الشهداء هم أصحاب المصلحة، كما أكدت على تمسكها بالعدالة ومحاسبة مرتكبي الجرائم.

شهداء ما قبل السقوط

وطريق الإطاحة بالرئيس المخلوع، عمر البشير، منذ ديسمبر 2018م، وحتى تاريخ سقوطه في أبريل 2019م، روته دماء مئات الضحايا الذين سقطوا أثناء مواجهات مع الأجهزة الشرطية والأمنية وكتائب ظل النظام السابق، حتى أن يوم عزل البشير من السلطة وحده شهد سقوط 19 شهيداً بالقيادة العامة بالخرطوم وخارجها في مدينتي زالنجي وعطبرة.

وأحصت لجنة أطباء السودان المركزية حتى تاريخ سقوط البشير أكثر من 80 قتيلاً بينهم 51 بالخرطوم و9 في احتجاجات القضارف و8 في مدينة زالنجي بولاية وسط دارفور، بينهم 4 نساء و12 طفلاً.

وبلغ عدد القتلى منذ اعتصام القيادة العامة وحتى 19 ديسمبر 2019م، ما يزيد عن 150 قتيلاً.

شهداء فض اعتصام القيادة العامة

نشرت منظمة أسر شهداء ديسمبر إحصائية لعدد 180 شخصاً تم قتلهم أثناء فض قوات المجلس العسكري لاعتصام القيادة العامة، بينما قالت وزارة الصحة إن العدد 64 وهو الأمر الذي دحضته تقارير لمنظمات حقوقية وشهود عيان.

لجنة تحقيق ولكن

بعد وصول المكون المدني والعسكري لاتفاق ثنائي والتوقيع على وثيقة دستورية لحكم المرحلة الانتقالية في 17 أغسطس 2019م ، تم الإعلان عن إنشاء لجنة تحقيق وطنية في 21 سبتمبر للتحقيق في أحداث فض الاعتصام من سبعة أعضاء أبرزهم قاضي المحكمة العليا وممثل من وزارات الدفاع والعدل والداخلية ومحامون مستقلون، وتمت تسمية المحامي نبيل أديب رئيساً للجنة في 20 أكتوبر 2019م بتعيين رسمي من مجلس الوزراء.

ولكن اللجنة التي منحت صلاحيات واسعة في التحقيق واستدعاء المسؤولين والأفراد، رغم استجوابها لما يزيد عن 3000 شاهد، إلا أنها لم تعلن عن أي نتائج للتحقيق الذي يفترض أن تكون مدته 3 أشهر فقط، وظل رئيس اللجنة يعزو تأخر النتائج إلى عدم قدرة الأدلة الجنائية السودانية على التعامل مع الأدلة المادية، إضافة إلى بعض الصعوبات المتعلقة بالدعم اللوجستي.

تعليق عمل اللجنة

ظلت اللجنة تباشر أعمالها حتى بعد انقلاب 25 أكتوبر واستقالة رئيس الوزراء، عبدالله حمدوك، لكنها أعلنت بشكل مفاجئ تعليق عملها بعد 5 أشهر من الانقلاب لجهة استيلاء قوة أمنية عسكرية على مقرها بالخرطوم وحذرت من احتمال إدخال معدات وأدوات يمكن استخدامها في كشف أسرار التحقيق المستمر منذ نحو 3 أعوام، ولم تزاول اللجنة أعمالها من وقتها وحتى اليوم. 

شهداء انقلاب 25 أكتوبر

منذ تنفيذ القائد العام للجيش، عبد الفتاح البرهان، انقلابه العسكري ضد الحكومة الانتقالية بلغت حصيلة إصاباته حتى ديسمبر 2022م حوالي 3200 مصاب بينها 34 حالة إصابة بالشلل الكامل و8 في حالة غيبوبة، بينما خلف الانقلاب ما يزيد عن 130 شهيداً وهو عدد سيصعب التحقيق حول تفاصيل مقتلهم، بالإضافة إلى عدم استقرار البلاد سياسياً ورفض مكونات كثيرة للاتفاق الجديد، بما في ذلك  أسر شهداء ديسمبر، بعد تأجيل ملف العدالة في الاتفاق حتى موعد الاتفاق النهائي.

لجنة تحقيق الانقلاب

بعد شهرين من الانقلاب، أصدر النائب العام بالإنابة خليفة أحمد خليفة في 13/12/2021 قرار رقم 69 قضى بتشكيل لجنة برئاسة وكيل أعلى نيابة الطاهر عبد الرحمن و8 أعضاء نيابة آخرون، للتحري والتحقيق حول وقائع ما أسماه ملابسات الأحداث والانتهاكات التي حدثت بعد 25 أكتوبر، وقتها بلغت أعداد قتلى ما بعد الإنقلاب 43 شخصاً قتلوا خلال المواكب الاحتجاجية، لكن اللجنة لم تجد قبولا من الشارع بسبب تكوينها بتوجيه من قائد الانقلاب المتهم في نفس القضية.

رؤية أسر الشهداء للعدالة

تقول مديرة الإدارة القانونية بمنظمة أسر شهداء ثورة ديسمبر، سعدية سيف لـ(بيم ريبورتس)، إن المنظمة أعدت رؤية قانونية فيما يخص ملف العدالة تشمل شروطها للموافقة على منظور العدالة في الاتفاق الإطاري، وكشفت عن عرض الرؤية في مؤتمر صحفي يوم الاثنين المقبل وتسليم نسخة منها للآلية الثلاثية ومسؤولي التفاوض الحالي ومنظمات المجتمع المدني.

وحسب مديرة الإدارة القانونية بالمنظمة، فإن الرؤية تتمسك بعدم إفلات المتهمين من العقاب، ورفع الحصانات وتنفيذ الأحكام وإصلاح القوانين، مشيرة إلى أنها تستند في ذلك على تجارب دول تعاملت مع قضية العدالة. ووصفت القضية بالمتمرحلة خاصة وأن وضع شهداء ما قبل الاعتصام يختلف عن ما بعده وعن وضع شهداء ما بعد انقلاب 25 أكتوبر بحسب المحامية.

عدد من المتهمين في القضايا أعضاء بمجلس السيادة

وترى سعدية، أن أي رؤية لملف العدالة لن تنجح مع وجود العسكر في السلطة، خاصة وأن عدداً من المتهمين في القضية أعضاء بمجلس السيادة.

وتؤكد أن موافقتهم على الاتفاق الإطاري مبنية على قبول الأطراف الموقعة والشارع السوداني على رؤية المنظمة تجاه قضية العدالة والتي ترتكز بشكل أساسي على إلغاء الحصانة.

وكشفت عن تصور ستقدمه المنظمة يطالب تكوين لجنة مستقلة مختلطة تتكون من عضوية محامين محليين ودوليين مع تصور للميزانية التي ستحتاجها اللجنة.

وترى سعدية، أن قضية محاكمة شهداء ثورة ديسمبر يمكن أن تصل لمبتغاها بتعيين كفاءات وطنية مستقلة وإصلاح المنظومة العدلية والقضائية ووزارة العدل في ظل وجود حكومة مدنية.

وفيما يخص شهداء 25 أكتوبر، أشارت سعدية لوجود رؤية متعلقة بملفاتهم في النيابات قبل أن تشير لعدم وصولها للمحاكم، وأضافت “تحريك قضايا الشهداء يتطلب معالجة مشاكل متعلقة بحماية الشهود وبالأدلة ورفع الحصانات وتحتاج لتغيير القوانين والمنظومة العدلية”.

وأوضحت عن إدخال ملف الشهيدين “بابكر عبدالحميد والفاتح النمير” لمحكمة خاصة خلال الأسبوع المقبل، وأضافت هنالك متهمين في القضية هربوا إلى مصر ومطلوبين من الانتربول. فيما كشفت عن شروعهم في إجراءات لاستئناف قرار المحكمة الدستورية بإطلاق سراح متهم رئيسي في قضيته وسيتم الرد على طلب الاستئناف الأسبوع المقبل أيضاً.

6 قضايا فقط رفعت للمحاكم

ورغم كم الشهداء الذين سقطوا خلال مسيرة الثورة، بواسطة القوات الأمنية، إلا أن ملفات 85 شهيداً فقط وصلت النيابة، لشهداء ما بعد انقلاب 25 أكتوبر، بينما تمت محاكمات في 6 قضايا فقط لشهداء ما قبل فض اعتصام القيادة العامة، ولا يزال الغموض يكتنف مصير تحقيق لجنة أديب في قضية شهداء فض الاعتصام.

ويصطدم التحقيق في هذه القضايا بوضع البلاد الأمني والقانوني، إذ شهدت محاكمات الشهداء التي وصلت المحكمة تراجعاً كبيراً بعد انقلاب 25 أكتوبر حيث تمت تبرئة أحد قتلة الشهيد حنفي عبد الشكور في سبتمبر 2022م، بعد إصدار محكمة أم درمان في 24 مايو 2021م حكما بإعدام الضابط المنتدب من جهاز الأمن إلى قوات الدعم السريع يوسف محي الدين بعد إدانته بقتل الشهيد دهسا بسيارته بعد ساعات من مجزرة فض اعتصام القيادة العامة.

بينما برأت محكمة عطبرة في الثالث من أكتوبر 3/10/2022 المتهمين بقتل الشهداء (طارق علي، مختار عبد الله وعصام علي حسين) بسبب عدم كفاية الأدلة ورغم صدور حكم الإعدام بحق قتلة الشهيد أحمد الخير وشهداء مجزرة الأبيض لم يتم تنفيذ الحكم حتى اليوم.

ومؤخرا صدر حكم بالإعدام على قاتل الشهيد حسن محمد عمر الثلاثاء الماضي بينما لا تزال جلسات الشهيد محجوب التاج مستمرة حتى اليوم.

ما بعد توقيع الاتفاق الإطاري

بتوقيع المكون العسكري اتفاقا سياسيا جديدا سمي بالاتفاق الإطاري بتاريخ 4/12/2022 اخذت الاحداث في البلاد منعطفا جديدا بعد عام من الإنقلاب ،لكن الإتفاق السياسي أجل النقاش في 5 قضايا مصيرية لحين البت فيها منها العدالة والعدالة الانتقالية. واصطدم الإتفاق ببيانات رفض له من أجسام ثورية ومن أسر شهداء ثورة ديسمبر.

يقول عضو اللجنة القانونية لقوى الحرية والتغيير محمد صلاح لـ(بيم ريبورتس)، إن ملف العدالة في الاتفاق لا يزال محل نقاش، حيث تم تقسيمه لـ3 محاور هي (إصلاح الأجهزة العدلية، و العدالة الجنائية و العدالة الانتقالية). ويرى صلاح أنه ليس بالضرورة أن توافق أسر شهداء الثورة على الإتفاق الإطاري أو توقع عليه لأنها ليست جهة سياسية.

ويشير صلاح إلى أن إصلاح الأجهزة العدلية سيشمل تغيير رؤوس الأجهزة العدلية الحالية من رئيس القضاء ونوابه والنائب العام ومساعديه وتعيين آخرين عبر مجلس عدلي متخصص به قانونيين معروفين.

والأجهزة يتم شغلها عبر المجلس العدلي بواسطة مفوضية إصلاح الأجهزة العدلية والحقوقية، وهي مفوضية تعمل على ترتيب وعمل إصلاح حقوقي داخل المؤسسات العدلية وهيكلتها ولوائحها، وشكل الإدارة الداخلية للأجهزة العدلية وهي التي تكون مجلس القضاء العالي والمجلس الأعلى للنيابة.

وثانيها تفعيل العدالة الجنائية بتحديد الجناة المسؤولين عن الانتهاكات منذ عام 1989م وحتى جرائم ما بعد 25 أكتوبر وبتشكيل لجان تحقيق خاصة مدعومة دوليا ومحليا وفنيا ولديها سلطات النائب العام.

وأضاف صلاح، أن المحور الثالث يستند على العدالة الانتقالية عبر تشكيل مفوضية العدالة الانتقالية لجان خاصة بالمصالحة الوطنية ولجان خاصة بقضايا شهداء وانتهاكات ما قبل وبعد 25 أكتوبر للوصول لمرتكبي الجرائم.

وأشار إلى أن اللجان الخاصة مثل لجنة نبيل أديب سيتم إعادة تشكيلها وتعيين محاكم خاصة بالشهداء وبانتهاكات 25 أكتوبر بواسطة رئيس القضاء ،وتفعيل قرارات المحكمة الدستورية،وأكد صلاح على أن الاتفاق السياسي لن يمنح أي حصانة لمرتكبي الجرائم.

ومع مرور 4 أعوام على الثورة لم تنطفئ النيران المشتعلة في قلب شريفة وأهالي شهداء الثورة على فقد أبنائهم، وعلى الرغم من تمسك الشارع بدماء الشهداء واستمرار مواكب العدالة والقصاص  للتذكير بحق الشهداء وتسليم عشرات المذكرات تؤكد شريفة أن غليلها لن يشفيه إلا الاقتصاص من قاتل ابنها الطبيب الشاب.

كيف يلعب التوثيق دوراً مهماً في فضح انتهاكات قوات الأمن وعمليات تحقيق العدالة؟

أية السماني

أية السماني

مع تصاعد وتيرة الاحتجاجات المناهضة لحكمه، للشهر الثاني على التوالي، بأنحاء السودان المختلفة، في يناير 2019م، اتهم الرئيس المخلوع، عمر البشير، من وصفهم بـ”المندسين” بقتل المتظاهرين.

لكن ادعاءات البشير، باستخدام فزّاعة الطرف الثالث، لم تصمد كثيراً، بفضل مقطع فيديو تداوله نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي أظهر لحظة اعتداء قوات أمنية على الشهيد محجوب التاج، بالضرب حتى الموت في 24 يناير 2019م.

مثلت عملية التوثيق تلك، لاحقاً، أهمية كبرى عندما استعانت هيئة الاتهام بمحكمة الشهيد محجوب التاج بتلك الوثائق كمستندات تدين أفراد من جهاز المخابرات العامة.

بعد ذلك، أصبحت عملية التوثيق فيصلاً فيما يخص نتائج هذه المحاكمات، وعاملاً رئيسياً في تحديد المتهمين وهوياتهم، وبعد التحقق منها اعتبرت كدليل إدانة بالقتل وانتهاك حقوق الإنسان والذي بدوره يشير إلى نهج الأجهزة الأمنية والفظائع التي ارتكبتها حتى تلك التي تستند على أقوال وشهادات الضحايا أو ذويهم.

مع انطلاق شرارة ثورة ديسمبر 2018م، في مدن: مايرنو، الدمازين وعطبرة ووصولها إلى أقاليم البلاد المختلفة، مثّل التوثيق جزءاً جوهرياً، من الحراك، حتى في تلك المناطق التي لا تحظى بتغطية إعلامية كافية.

عقب كل تظاهرة، ينشر المتظاهرون سيلاً من الوثائق المصورة والشهادات على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن مع دخول التظاهرات يومها الثالث، بدا واضحاً أن النظام المخلوع، كان يعي جيدا دور التوثيق ونتائجه على تنامي الحراك، لذا سرعان ما بدأ معركته ضد المتظاهرين بحجب مواقع التواصل الاجتماعي التي يستخدمها السودانيون لتداول الوثائق. ومع ذلك، سرعان ما استخدم النشطاء الشبكات الافتراضية الخاصة (VPN) وعادت المواقع لتعمل بفعالية مجدداً.

محاولة تغييب الحقائق وحجب الانتهاكات عن الرأي العام بقطع خدمة الانترنت بشكل كامل، تمت بواسطة المجلس العسكري الانتقالي المحلول، بالتزامن مع الفض الدموي لإعتصام القيادة العامة بالعاصمة الخرطوم ومدن أخرى في 3 يونيو 2019م.

عاد المجلس العسكري لممارسات قطع الانترنت، أضاف إليها هذه المرة قطع خدمة الاتصالات الهاتفية، صبيحة انقلاب 25 أكتوبر الماضي، لاحقاً فيما كنت تقطع خدمة الاتصالات الهاتفية والرسائل النصية بالتزامن مع التظاهرات، لم تعد خدمة الانترنت إلا بعد أسابيع من الانقلاب.

لم تكن عملية التوثيق محصورة على جهة محددة أو أشخاص، وإنما كانت مفتوحة للجميع بدوافع وأهداف مختلفة، فهناك من يوثق بهدف إظهار الحراك الثوري، أو بهدف توثيق انتهاكات الأجهزة الأمنية و جرائمهم ضد المتظاهرين خلال التظاهرات.

كان لتوثيق الأفراد الناشطين تأثير كبير فكشفت كثير من الوثائق وجوه الأفراد التابعين للأجهزة الأمنية التي شاركت في قمع التظاهرات، مما اضطر رجال الأمن والقوات النظامية لحجب هوياتهم وتغطية وجوههم أثناء المواكب.

توثيق الأفراد والناشطين لكثير من الانتهاكات التي ارتكبتها قوات الأمن أثناء الثورة، أصبحت فيما بعد بينات إدانة استندت عليها الجهات العدلية لتوجيه التهم ضد مرتكبيها. فقد صدر حكم بالإعدام شنقاً على المتهم أشرف الطيب -الشهير بـ(ابجيقة)- المتعاون مع جهاز الأمن، بعدما تمت إدانته بقتل الطالب حسن محمد يوم 25 ديسمبر 2019م خلال تظاهرة بوسط العاصمة السودانية الخرطوم. وثقت كذلك، العديد من المؤسسات الإعلامية جزءاً من الحراك ونقلت عدداً كبيراً من الوثائق التي تداولها الناشطون.

عندما بدأ النظر في قضايا انتهاكات ثورة ديسمبر، في الفترة التي تلت سقوط النظام، استعان رؤساء الهيئات ومحامو الطوارئ بعدد من تلك الوثائق لإدانة رؤوس النظام السابق حتى لا تخص العقوبات صغار الضباط الذين تلقوا الأوامر لقمع التظاهرات.

تقول عضوة مجموعة (محامو الطوارئ)، شيماء تاج السر لـ(بيم ريبورتس) “إنه في بلاغ قتل المتظاهرين الموجه ضد الرئيس المخلوع، عمر البشير، وقادة نظامه مثل علي عثمان محمد طه، والفاتح عز الدين اعتمدنا بشكل كبير على وثائق لمؤتمرات صحفية ولقاءات صرح فيها هؤلاء بتهديد واضح لقتل المتظاهرين السودانيين.”

وكان الرئيس المخلوع، تحدث في لقاء مع قادة الشرطة في 30/12/2018م عن القصاص، أما علي عثمان تحدث في لقاء تليفزيوني في 18/1/2019م عن وجود كتائب ظل تحمي النظام وتوعد المواطنين الذين خرجوا للشوارع، وأشار البلاغ إلى أن الفاتح عزالدين هدد في لقاء تلفزيوني في 10/1/2019م بقطع رؤوس المتظاهرين.

تأثير التوثيق في عملية سير العدالة؟

تختلف أساليب التوثيق اعتماداً على الهدف المنشود منها، سواء كان الهدف هو استخدامها من أجل تزويد الجهات العدلية بالمعلومات التي قد ترشدهم إلى الشهود أو الضحايا و المقابر الجماعية وتسهم في إثبات عناصر بعينها من الانتهاكات مثل المنطقة التي حدثت فيها أو طبيعة الانتهاكات إذا كانت في شكل نمط أو عمل ممنهج تنتهجه جهة محددة.

كما يعزز التوثيق من ثقة المواطنين بالقانون والاحتكام إليه إذا أفضى إلى محاكمات عادلة مما يسهل على الجهات العدلية والجهات الفاعلة في المجتمع المدني للوصول إلى المجتمعات التي تعاني من انتهاكات، أو الاحتفاظ بالوثائق لتنفيذ العدالة بعد إحداث التغيير المنشود.

وتعتمد الأخيرة بشكل كبير على الطرف الذي يمتلك تلك الوثائق ويحتفظ بها إذ أنه يحدد كيفية استخدامها والجهة التي ستستخدم لصالحها، بل ان هذه المسألة قد تمثل عقبة وحجة أمام إنفاذ العدالة بجانب قلة الدعم الفني للتحقق من الوثائق حتى بعد امتلاكها  كما حدث في العام 2019م، عندما اتهمت اللجنة المختصة بالتحقيق في فض اعتصام القيادة العامة الحكومة بعدم التعاون.

وأشارت اللجنة إلى أن أجهزة حكومية رفضت تسليم الوثائق المصورة بكاميرات المراقبة حول منطقة الاعتصام الى اللجنة، وقال  رئيس اللجنة،  نبيل أديب، خلال مؤتمر صحفي في وزارة الإعلام، “إن ظهور مقاطع الفيديو لأحداث فض اعتصام القيادة في الوقت الحالي يؤثر على سير العدالة”، لافتاً إلى أن الاحتفاظ بها خلال الفترة الماضية “إخلالٌ بالقانون وتقويضٌ للعدالة”. وأشار خلال المؤتمر إلى التعقيدات السياسية التي قد يحدثها نشر تلك الوثائق و اتهم الجهة التي نشرتها بان لها “اجندة سياسية”  

كما اشارت اللجنة الى عدم توفر الدعم الفني المطلوب، وقال أديب خلال المؤتمر الصحفي، إن الاتحاد الأفريقي رفض دعم اللجنة فنيا ووصف تلك الظروف بأنها كانت سببا أساسيا في تأخير الوصول لنتائج التحقيق.

عقبات تواجه التوثيق

اتسعت رقعة الموثقين و شملت عملية التوثيق الأفراد والناشطين، والمؤسسات الإعلامية من صحف وقنوات إخبارية وإذاعات كما عملت عديد من منظمات المجتمع المدني المحلية على التوثيق.

وبمرور الوقت، واجهت الموثقين الكثير من العقبات التي إما أدت إلى حدهم من عملية التوثيق أو اضطرتهم إلى حذف الوثائق التي بحوزتهم. و لسهولة الوصول لتلك الوثائق وتداولها تعاملت الاجهزة الامنية معها بحسم.

وحسب شهادات المعتقلين إبان ثورة ديسمبر، فإن الوثائق الموجودة في هواتفهم أصبحت تمثل خطرا عليهم حين تعرضوا للاعتقال أو التفتيش فحذف الكثير من بينهم الوثائق التي بحوزتهم لحماية أنفسهم.

ولم تقتصر العوائق التي وضعتها الأجهزة الأمنية على الأفراد الموثقين فقد طالت المؤسسات الاعلامية ايضا اجراءات العنف التي تستخدمها الاجهزة الأمنية.  كما أدى اهتمام الصحفيين والمصورين بالتوثيق الى استهدافهم بالاعتقال، فقد اعتقلت السلطات المصور نقدالله ابراهيم اثناء تغطيته لمواكب 17 يوليو 2022م و تمت مصادرة كاميراته و دونت بحقه 3 بلاغات جنائية.

من جانب آخر، فإن الإدلاء بالشهادات يعتبر وسيلة من وسائل التحقق لإنفاذ العدالة، لكن عدم توفير الحماية للشهود قد يعرضهم الى الخطر.

وتوضح التجربة السودانية في التوثيق، لا سيما بعد انعقاد المحاكمات التي تسعى لتحقيق العدالة وتشكيل العديد من لجان التحقيق وعقد كثير من المحاكمات التي لعب فيها ادلاء الشهادات دورا مهماً، لكن في الفترة التي تلت انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر وعند بداية الحراك الرافض للانقلاب وعودة بطش الاجهزة الامنية اصبح استهداف الشهود و الموثقين امرا مرجحاً. بعد نحو 10 أشهر على انقلاب 25 أكتوبر، ما تزال التظاهرات المناهضة له مستمرة، فيما باتت الأجهزة الأمنية، أكثر قمعية، حيث سقط أكثر من 116 قتيل، وآلاف الجرحى.

ومع الفضح المستمر لانتهاكات الأجهزة الأمنية، أصبح استهداف الموثقين وسيلة لإخفاء الانتهاكات وضمان عدم المساءلة، لكن بالمقابل يعتبر التوثيق سلاحاً فعالاً في مواجهة محاولة الالتفاف على العدالة ومنفذا لتطبيقها.

ما الدور الذي لعبته عائلات الضحايا عالمياً من أجل تحقيق العدالة؟

تجمعت 14 من النساء الأرجنتينيات في ظهيرة 30 أبريل 1977م بساحة ميدان مايو أمام قصر الرئاسة في العاصمة بوينس آيرس، معترضات على النظام العسكري الذي مارس أشد أنواع القمع والقتل والتعذيب و تورطه في اختطاف الأطفال الرضع وإخفائهم قسرياً.  وقفت النساء هناك للمطالبة بعودة أطفالهنْ المختطفين، وكانت هذه المسيرة هي النواة التي شكلت كيان منظمة أمهات ميدان مايو حيث زاد عدد النساء المشاركات في القدوم إلى الساحة كل خميس، واضعات أغطية بيضاء على رؤسهنْ تحمل أسماء أبنائهنْ المفقودين.

منظمة أمهات ميدان مايو

مارس نظام الجنرال فيديلا القتل والاختطاف والتعذيب طوال سنوات حكمه في الفترة ما بين 1976 إلى 1983م، والتي عرفت باسم “الحرب القذرة” والتي لم تكن تهدف فقط إلى تصفية معارضي النظام اليساريين، بل كل النشطاء السياسيين وعائلاتهم والمتعاطفين معهم في كل مكان في الأرجنتين. وخلال هذه السبع سنوات اختفى ما يقارب 30 ألف أرجنتيني، مات بعضهم جراء التعذيب أو الرصاص أو رحلات الموت؛ حيث كان يتم تخدير الضحايا ومن ثم رميهم من الطائرات في المحيط الأطلسي. وجزء من هؤلاء الضحايا كنّ من النساء الحوامل تم قتلهنْ بعد أن وضعنْ أطفالهنْ وبعدها منح الأطفال لأسر تابعة للنظام العسكري حتى لا ينشأ جيل جديد من المعارضين، وحدث هذا الأمر مع 500 امرأة.

الأمهات من نحيب الفقد إلى القيادة

بعد 8 أشهر من نشاط أمهات ميدان مايو، بادر النظام في الأرجنتين باختطاف النساء المشكلات للمجموعة، حيث اختطف العديد من مؤسسات المجموعة ومنهنْ أزوسينا فيلا فلور والتي تلقت عائلتها خبراً بمقتلها ودفنها في مقبرة جماعية بعد 28 عاماً.

بالرغم من الترهيب الذي تعرضت له النساء في مجموعة أمهات ساحة مايو إلا أنهنْ نظمن أنفسهن من جديد وعدن إلى الميدان بعد فترة مع الخطر الذي ظل يداهمهنْ دائماً، وبلغ عدد النساء في المجموعة المئات. ومع الرقابة على الصحف والإعلام فإن أمهات ساحة مايو لم يجدن فرصة للتعريف بقضيتهن إلا أثناء استضافت الأرجنتين لبطولة كأس العالم في 1978م حيث استفدنْ من التغطية الإعلامية الدولية لعكس قضيتهنْ للعالم، واستمر الاحتجاج برغم من إرهاب وتهديد الدولة وإطلاق الشرطة النار على جزء من المجموعة خلال الاحتجاجات.

نوعت أمهات ساحة مايو في تكتيكات عملهن ومقاومتهنْ، والتي شملت البحث المنفرد عن الأطفال المفقودين، ونشر إعلانات في الجرائد بأسمائهم، وتوزيع المنشورات في مواصلات النقل العام من حافلات وقطارات، بالإضافة إلى الاستعانة بالشخصيات العامة في الأرجنتين لدعم قضيتهنْ؛ مثل الأديب خورخي لويس بورخيس، والمدير الفني لمنتخب كرة القدم الأرجنتيني سيزار مينوتي، كان ذلك بالتوازي مع الاستمرار في الاحتجاج والمسيرات إلى ساحة مايو كل خميس، “منظمة أمهات ساحة مايو” التي حظيت بدعم كبير.

مسيرة المقاومة واستمرار البحث عن المخفيين

ارتفع صوت حركة أمهات ميدان مايو في أوائل الثمانينيات، ومع التردي الاقتصادي وارتفاع الممارسات القمعية للنظام العسكري إنضم الآلاف من الشعب الأرجنتيني إلى الأمهات في “مسيرة المقاومة” التي استمرت 24 ساعة في 10 ديسمبر 1982م، مما أدى إلى إنهيار شرعية النظام وأجبره على التخلي عن السلطة نتيجة الضغط الشعبي والدولي، وأجريت انتخابات ديمقراطية في عام 1983م.

وبالرغم مع انتهاء الحكم الديكتاتوري فإن حركة أمهات مايو لم تتوقف عن العمل، بل ضغطت بصورة أكبر للحصول على إجابات من الحكومة حول أماكن أولادهن المختفين. وفي عام 1984م جرت محاكمة القيادات العليا في النظام العسكري السابق إلا أن ذلك لم يكن كافيًا ومرضياً. واستمرت الحركة حتى قررت المحكمة العليا في الأرجنتين في يونيو 2005م فتح الباب ومحاكمة كافة المسئولين السابقين.

كانت حركة “أمهات ساحة مايو”، ومازالت، من أهم الحركات السياسية الاحتجاجية في تاريخ أمريكا اللاتينية، وما أدى إلى نجاحها إصرار النساء على النضال المستمر رغم القمع والعنف والخوف. لقد بدأت الحركة بتجمع لأمهات يبكين أولادهن ويطالبن بعودتهم، وتحولت إلى حركة “أمهات ساحة مايو” السياسية التي تتحدى الحكومة وتطالبها بتحمل مسؤوليتها عن اختفاء الأبناء.

وبالرغم من أن معظم الأمهات لم ترين أبنائهن المختفيين أبدًا، استمرت الحركة حتى يومنا هذا، ومازالت عضوات الحركة يلتقين في الساحة كل يوم خميس ليس فقط كتعبير عن التضامن بل كتعبير احتجاجي ضد القمع في أي مكان في العالم، وكأنهن يقلن إن ما حدث في الأرجنتين يجب ألا يتكرر أبدًا، ليس هناك فقط بل وأيضًا في أي مكان آخر.

المغرب.. عدالة جزئية وتغاضي عن المحاسبة

شهدت فترة حكم الملك الحسن الثاني في المغرب (1961إلى1999م) والتي عرفت بسنوات الرصاص، انتهاكات كبيرة لحقوق الإنسان وبشكل خاص الإخفاء القسري. وأثمر ضغط عائلات الضحايا في سبيل الوصول إلى عدالة بالإضافة إلى ضغط المجتمع الدولي إلى إغلاق سجن “تازمامارت” وإطلاق سراح المخفيين فيه والذين بلغ عددهم 341 سجيناً، بالإضافة إلى الموافقة على برنامج تعويضات الضحايا.

Photo credit ABDELHAK SENNA/AFP via Getty Images

كان هدم السجن هو بادرة من نجل الملك السابق الملك محمد السادس، والذي صعد إلى الحكم بعد والده، وفي محاولته لإحداث قطيعة مع سنوات حكم والده أنشأ محمد السادس هيئة الإنصاف والمصالحة في 2003م، بعد مشاورات بين أجسام المجتمع المدني والقصر الرئاسي، ووكل للهيئة معالجة انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبت في فترة حكم الحسن الثاني.

كرست الهيئة عملها في التحقيق في حالات الإخفاء القسري والاعتقال التعسفي والتعذيب والعنف الجنسي. وتوصلت الهيئة إلى حل 742 قضية إخفاء قسري وقدمت تعويضات مادية لـ 9779 ضحية، كما عقدت خلال مدة عملها سبع جلسات استماع علنية حية على التلفاز في ستة مناطق لإقرار الحقيقة التاريخية.

وبالرغم من ذلك كانت هناك انتقادات مختلفة لهيئة الإنصاف والمصالحة من قبل الفاعلين في مجال حقوق الإنسان، ابتداءاً من الإطار الزمني الذي خصصته للقضايا؛ حيثُ حصرت الفترة الزمنية للانتهاكات من لحظة حكم الحسن الثاني وحتى وفاته بينما طالب كثيرون بضرورة التقصي في الانتهاكات التي حدثت بعد 1999م، وتمثلت الانتقادات الأخرى في أن الهيئة لا تتمتع بصلاحيات قضائية وليس بإمكانها تسمية أي من الجناة، كما أنها لم تطالب بعزل بعض المسؤولين المتورطين من مناصبهم ولم تكشف عن المتورطين في الانتهاكات والذين ثبتت صلتهم بالانتهاكات وكان كل ذلك بدافع المحافظة على استقرار الحكومة.

والانتقاد الأبرز أن تقرير الهيئة لم يأت على ذكر منطقة الصحراء الغربية التي شهدت قمعاً كبيراً في تلك الفترة، وبدلاً من ذلك زارت الهيئة المنطقة لمدة 10 أيام فقط وألغت خطة عقد جلسة استماع عامة هناك.

ويمكن فهم غياب العدالة الجنائية من خلال استدعاء السياق الذي تكونت فيه هيئة الإنصاف والمصالحة، حيث أنها تكونت تحت ظل ذات النظام الذي كان مسئولاً عن الانتهاكات قيد التحقيق. وبالرغم من أن الهيئة وصت بمكافحة الإفلات من العقاب إلا أن المحاسبة عن تلك الجرائم كانت غائبة. لكن الأمر تخطى مجرد غياب المحاسبة، بل مُنع الضحايا من تسمية الجناة أثناء الإدلاء بشهادتهم. ومن ثم، إضافة لشعورهم بالأمان من المساءلة القانونية، أولئك الذين عَذبوا وأمروا بالقتل والاعتقال الجماعي حافظوا على مناصبهم في المجال العام.

تونس.. مسيرة متواصلة طلباً للعدالة

ما تزال عائلات شهداء الثورة التونسية متمسكة بمطالبها بعدما يقارب 11 عاماً من الثورة. وتتمثل أبرز المطالب في كشف الحقيقة والمحاسبة ومحاكمة الضالعين في قتل الثوار خلال الثورة، كما أن الأسر طالبت خلال السنوات الماضية بضرورة إصدار ونشر قائمة شهداء وجرحى الثورة بالجريدة الرسمية للدولة. ونتيجة لضغط متواصل والدخول في اعتصامات واضرابات فإنه قد تم نشر القائمة في أبريل الماضي في الجريدة الرسمية والتي توثق لعدد 129 شهيداً و634 من الجرحى.

وانطلقت شرارة الثورة التونسية بإضرام الشاب محمد البوعزيزي النار في جسده احتجاجاً على مصادرة العربة التي كان يبيع فيها من قبل الشرطة، وخرج آلاف التونسيين في اليوم 18 ديسمبر 2010م رافضين أوضاع البطالة وغياب العدالة الاجتماعية والفساد داخل النظام الحاكم، وسقط العديد من القتلى والجرحى نتيجة العنف الذي استخدمته قوات الأمن ضد المتظاهرين. وأجبرت المظاهرات الرئيس زين العابدين بن علي على إقالة عدد من الوزراء، كان من بينهم وزير الداخلية، وتقديم وعود بالإصلاح، كما صرح بأنه لن يترشح لانتخابات الرئاسة 2014م لكن مدى الاحتجاجات توسع حتى وصل مباني الحكومة، وفي 14 يناير 2014م تنحى بن علي وغادر البلاد.

إن تجارب العدالة ومشاركة الضحايا وأسرهم تشهد تطوراً كبيراً والذي بدأ بأخذ أدواراً أكثر فاعلية في الثمانينات، كما أن نظام العدالة الجنائية الدولية يقر بأن الضحايا يمكن أن يسهموا في مسار عدالة أكثر وضوحاً من خلال إسماع أصواتهم وحماية مصالحهم. وتُمَكن مشاركة الضحايا من استعادة كرامتهم من خلال منحهم شعورا بالقوة والقدرة على التصرف. وبالمثل، إذا كانت المحاكمات ترمز إلى اعتراف المجتمع وإدانته لما عانى منه الناجون، فقد يشعر أولئك الذين يشاركون فيها بأنه تم الاعتراف بهم. وفي السياق السوداني فإنه يمكن الاستفادة من تجارب العدالة الانتقالية حول العالم واستلهام أدواتها وتقنياتها في سبيل تحقيق العدالة والإنصاف.