كيف شاركت النساء في ثورات السودان السلمية؟

تتسابق وسائل الإعلام المحلية والدولية في الظفر بتوثيق مواقف البسالة والإقدام للنساء السودانيات في الخطوط الأمامية للتظاهرات والاحتجاجات والمقاومة المنظمة والتعبئة، والتي تعكسها تلك الوسائل كظاهرة بارزة في خضم المقاومة الشعبية التي انتظمت السودان منذ أواخر العام 2018م وحتى سقوط نظام البشير في أبريل 2019م.

إزاء هذا التسابق الإعلامي في عكس وتوثيق مشاركة النساء السودانيات في طليعة المقاومة الثورية، وتقديمه كـ(ظاهرة) بارزة في بلد عانى من الحكم الشمولي، وفي ظل تصاعد الاهتمام العالمي بقضايا النساء، غاب عن أذهان البعض، أن ظهور النساء في طليعة المقاومة هو نتاج طبيعي لتاريخ الحركة النسائية في السودان وتأثيرها العميق والجذري في المجتمع، الذي ساندت طليعته قضية المرأة منذ وقت مبكر، في الإضراب الذي قادته الطالبة – وقتها – فاطمة أحمد إبراهيم، في العام 1949م، ولاقى اهتمام الرأي العام حينها.

 
تظاهرات في الخرطوم - ابريل 2019 - تصوير: علاء خير
نظرة في تاريخ الحركة النسائية السودانية

ما قبل الاستقلال:

شاركت النساء السودانيات منذ أزمان موغلة في القِدم، بكافة أشكال مقاومة الاستبداد، ودونت كتب التاريخ القديم سِيَر الكنداكات السودانيات. وفي التاريخ الحديث كان لهن باع طويل في مقاومة الاحتلال الأجنبي، ففي الربع الأول من القرن التاسع عشر، اشتهرت (مهيرة بت عبود) بأشعارها التي حفزت المقاتلين السودانيين لمحاربة الاحتلال التركي-المصري، وتحديداً في معركة كورتي عام 1820م، وبجانب أشعار الحماسة، فقد شاركت مهيرة بنفسها في المعارك مع الجيش الذي تصدى للحملة التركية على السودان.

وفي مطلع القرن العشرين، برز اسم الأميرة مندي بنت السلطان عجبنا، التي قاتلت إلى جانب فرسان جبال النوبة، وساهمت في تنظيم صفوف الجيش في تلك المناطق بعدما أعدمت القوات الغازية والدها السلطان عجبنا، في العام 1917م.

وخلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، شهدت البلاد نشوء حركات التحرر الوطني، وبرز حينها إسم العازة محمد عبدالله، خلال ثورة 1924م، طليعة مقاومة الاحتلال.

وخلال تكوين الاتحادات والتنظيمات كأدوات لمقاومة الاحتلال الأجنبي، برزت وقتها الطبيبة خالدة زاهر التي كانت أول طبيبة سودانية مارست المهنة، وكانت أيضاً ناشطة سياسية مهتمة بقضية المرأة، مما أدى إلى اعتقالها عام 1946م من نظام الحكم البريطاني لمعارضتها الحكم الأجنبي. كانت خالدة أيضا إحدى مؤسسات الاتحاد النسائي السوداني الذي يعتبر أهم التنظيمات النسائية في تاريخ السودان الحديث. 

د. خالدة زاهر

نبعت فكرة الاتحاد، كمحاولة لتكوين نقابة تختص بقضية المرأة، وتوحيد الاتحادات التي كانت قد نشأت من نساء عاملات في بعض المهن، فتكونت أولاً “رابطة النساء الثقافية”، في الفترة بين 1946-1949م لكنها لم تستمر، ثم انعقد أول اجتماع تأسيسي للاتحاد النسائي في يناير 1952م ومن ثم تكونت اللجنة التمهيدية من خالدة زاهر، ونفيسة أحمد إبراهيم، وعزيزة مكي، وحاجة كاشف، وفاطمة أحمد إبراهيم، ونفيسة المليك، وفاطمة طالب. بعض الأسماء الإضافية لهذه اللجنة لم يتم توثيقها في ذلك الوقت، بحسب كتاب (شاهدة على مسيرة الاتحاد النسائي السوداني خلال نصف قرن من الزمان)، للكاتبة فاطمة القدال.

نال الاتحاد اهتماماً واسعاً بسبب عضويته التي تكونت من نساء فاعلات في الحياة العامة والمهنية وتطرقه لقضايا مهمة منذ التأسيس، حيث كانت أبرز القضايا التي تصدى لها الاتحاد في الفترة من 1952 – 1958م هي قضايا التعليم ومحو الأمية، وحق المرأة في العمل كمدخل للمساواة بين الجنسين. وسعى الاتحاد لتحسين أوضاع النساء في المعيشة والأجور، وكان يبث برامجَ توعوية عبر الإذاعة، وقدم مذكرات للمجالس المحلية تطالب بحقوق الطفل وصحة البيئة، واهتم الاتحاد كذلك، بمحاربة العادات والتقاليد الضارة، والتوعية بمخاطر ختان البنات، وسعى لتوعية النساء بهذه القضايا عبر مختلف الوسائل.

وكان لقائدات الاتحاد النسائي أدوار مهمة في لفت انتباه المجتمع لقضية المرأة منذ وقت مبكر، ففي عام 1949م قادت الطالبة -وقتها – فاطمة أحمد إبراهيم أول إضراب يتعلق بقضية المرأة في السودان، عندما كانت تدرس في ثانوية أمدرمان العليا، بعدما قررت مديرة المدرسة البريطانية استبدال جميع العلوم الطبيعية بالعلوم الأسرية بحجة أن السودانيات غير مؤهلات ذهنياً. نجح الإضراب وأثار جدلاً بسبب عدم ممارسة الإضراب وقتها – وتحديدا للنساء – كوسيلة ضغط مما أدى إلى تراجع المديرة عن قرارها.

ما بعد الاستقلال

أفرزت سياسة المناطق المقفولة التي انتهجها الاحتلال الأجنبي للتفريق بين أبناء البلاد، واقعاً متبايناً بين أجزاء الوطن الواحد من ناحية التنمية غير المتوازنة وتطور التعليم، وبالتالي بنية المجتمع المدني والتنظيمات الحديثة. لذلك تركز أغلب التوثيق حول نشاط المرأة السياسي (المنظم) في فترة ما بعد الاستقلال على دور النساء في المناطق الحضرية ومشاركتهن في الثورات السلمية. 

مع إعلان استقلال السودان رسمياً في 1 يناير 1956م، سرعان ما واجهت الأحزاب السودانية تحديات في الاتفاق على صيغة توفيقية حول نظام الحكم والدستور، وفي ظل تفاقم التحديات حول نظام الحكم، استولى الفريق إبراهيم عبود على السلطة عبر انقلاب عسكري في 17 نوفمبر 1958م.

عدم الاتفاق على دستور دائم، بالإضافة لتردي الأحوال الاقتصادية، واشتداد وتيرة الصراعات السياسية بين الأحزاب، كل هذه العوامل اتخذها الجيش حجة للتدخل في العمل السياسي، وإقصاء الأحزاب من الحكم. 

عقب انقلابه، حل نظام عبود العسكري (1958 – 1965م) جميع الأحزاب السياسية ومنع التجمعات والمواكب والتظاهرات فى جميع أنحاء البلاد، كان الاتحاد النسائي من ضمن تلك التنظيمات، لكنه واصل نشاطه بشكل سري عبر مواصلة إصدار مجلة (صوت المرأة)، بالتزامن مع محاولات للعمل العلني رغم قيود السلطة العسكرية.

دور النساء في ثورة أكتوبر 1964م
تشييع الشهيد احمدالقرشي في ثورة اكتوبر 1964م - المصدر: The New York Times
تشييع الشهيد احمد القرشي في ثورة اكتوبر 1964م - المصدر: The New York Times

كان للنساء السودانيات مشاركات لافتة في مناهضة الحكم العسكري الأول، وقد لعب الاتحاد النسائي دوراً بارزاً في ثورة أكتوبر 1964م، فحشد القواعد النسائية للمشاركة في الاحتجاجات التي كانت تتقدمها رئيسة الاتحاد النسائي وقتها، المناضلة البارزة، فاطمة أحمد إبراهيم

عقب انتصار الثورة، وسقوط نظام عبود، واستعادة المسار الدستوري، تحققت للنساء السودانيات الكثير من المكاسب، كان أهمها هو انتزاع حق النساء في التصويت والترشح للانتخابات، فقدمت نساء السودان، في أول انتخابات بعد ثورة أكتوبر، المناضلة فاطمة أحمد إبراهيم كأول برلمانية في السودان والشرق الأوسط. 

ومن مقعدها في البرلمان، واصلت فاطمة نضالاتها في الدفاع عن حقوق المرأة، حيث نالت النساء السودانيات كثير من الحقوق التي كافحن من أجلها، ولكن لم يتحقق البعض الآخر.

بعض الحقوق التي تحققت:

  • حق الدخول في كل مجالات العمل، في حين كان عمل المرأة من قبل محصورا في التعليم والتمريض فقط. وتحقق ذلك، من خلال دخول المرأة السودانية غالبية ميادين العمل باستثناء تلك المجالات التي حرمتها الأمم المتحدة وقتها؛ وهي: القضاء والقضاء الشرعي والسلك الدبلوماسي.
  • الأجر المتساوي والمساواة في العلاوات والمكافآت والبدلات، وفي كل شروط العمل، وفي حق الترقي لأعلى الدرجات الوظيفية، وحق المعاش.
  • عطلة الولادة مدفوعة الأجر – حسب ما نصت عليه منظمة العمل الدولية.
  • إلغاء قانون المشاهرة، الذي يفرض على المرأة العاملة تقديم استقالتها بعد الزواج لتعمل بموجب عقد عمل مؤقت شهراً بشهر.
  • إدخال خريجات الثانوي والمعاهد العليا تحت بند الخدمة المستديمة أسوة بزملائهن.

بعض الحقوق التي لم تتحقق:

  • توفير دور الحضانة ورياض الأطفال لتسهيل مهمة الأم العاملة.
  • توفير الضمانات الاجتماعية لحماية الأسرة في حالة عجز أو موت رب الأسرة.

لكن، في الفترة بين عامي 1966-1969م، عاشت الحكومة الائتلافية حالة من الشقاقات والصراعات، نتج عنها تشكيل العديد من الحكومات، كلها فشلت في الاتفاق على كتابة دستور دائم، أو التعامل مع مشاكل الركود الاقتصادي والانقسامات السياسية والعرقية.

في خضم حمى تلك الصراعات السياسية، وارتفاع وتيرة الحرب الأهلية في جنوب السودان عقب فشل مؤتمر المائدة المستديرة، وطرد نواب الحزب الشيوعي المنتخبين من البرلمان، ومحاولة بعض الأحزاب فرض دستور إسلامي، انقلب الجيش على الحكومة المنتخبة في 25 مايو 1969م، بقيادة جعفر نميري.

فاطمة احمد ابراهيم - المصدر: Middle East Monitor
ما بعد الحكم العسكري الثاني 1969م

حل نظام نميري البرلمان وحظر جميع الأحزاب السياسية مقيماً دولة الحزب الواحد – الاتحاد الاشتراكي السوداني – باعتباره الكيان السياسي القانوني الوحيد في البلاد، وحل الاتحاد النسائي، واستبدله بـ(اتحاد نساء السودان) الجناح النسائي للاتحاد الاشتراكي بقيادة فاطمة عبدالمحمود.

شدد نميري أدوات القمع والحد من حرية النشاط السياسي والاجتماعي، ووضع النقابات تحت سلطته. ومع بداية الثمانينات، ساءت الأحوال السياسية والأمنية والاقتصادية، واندلعت الحرب مرة أخرى فى جنوب السودان عام 1983م بشكل أكثر ضراوة، بعدما ألغى نميري اتفاق أديس أبابا للسلام، وإعلانه قوانين سبتمبر، وحالة الطوارئ، التي اندلعت على إثرها انتفاضة مارس-أبريل 1985م.

دور النساء في انتفاضة مارس-أبريل 1985م

في خضم تنامي المقاومة الشعبية السلمية لحكم نميري، بقيادة النقابات والاتحادات المهنية وبعض الأحزاب السياسية، التي مثلت النواة لانتفاضة مارس-أبريل 1985م، لعبت النساء السودانيات أدواراً مهمة في الانتفاضة،  ساهم في ذلك تقدمهن في التعليم والعمل في مختلف المهن، مما أدى إلى زيادة نسبة مشاركتهن وانتظامهن تحت مظلة الأجسام النقابية والمهنية التي كانت السبب الرئيسي والأهم في نجاح الإضراب السياسي العام في ثورة ابريل التي أطاحت بنظام نميري العسكري.

في يونيو 1986م، شكل الصادق المهدي حكومة ائتلافية بين حزب الأمة، والحزب الاتحادي الديمقراطي، والجبهة الإسلامية الوطنية، وأربعة أحزاب جنوبية. ولكن اتسمت فترة حكم الصادق المهدي بعدم الاستقرار السياسي. وبعد ثلاث سنوات في 30 يونيو 1989م، انقلب الجيش بالتحالف مع الإسلاميين، على الحكومة المنتخبة، ليستمر حكمهم نحو 30 عاماً.

ما بعد انقلاب 30 يونيو 1989م

عمد نظام الإنقاذ، على إجراء تغييرات عميقة داخل البنية الاجتماعية والسياسية في السودان، من خلال فرض آيدلوجيته السياسية ذات الطابع المتشدد. حيث أنهى التعددية السياسية الفكرية والثقافية والدينية وحرية التعبير بشكل ممنهج وطبق قوانين الشريعة والقوانين المقيدة للحريات، لمدة 3 عقود.  

وبالرغم من أن المناطق الحضرية في السودان كانت إلى حد كبير غير متأثرة بالصراع المسلح الذي اندلع في دارفور وجبال النوبة والنيل الازرق (المنطقتين)، مع ذلك تأثرت المدن الكبيرة باستراتيجيات الحركة الإسلامية لتمكين كوادرها ومنتسبيها.

 تداخلت عمليات فرض نظام الحكم لايديولجيته مع النظام التعليمي والحريات الشخصية والسياسية والصحفية، وولّدت أدوات للقمع من خلال شرطة النظام العام والأجهزة الأمنية المختلفة، ناهيك عن تهجير أعداد كبيرة (أكثر من 3 مليون نازح ونازحة) من سكان المناطق التي مزقتها الحرب في البلاد. يعيش هؤلاء النازحين في أحياء فقيرة حول ولاية الخرطوم والمدن الكبرى ويواجهون تحديات أكبر في التوظيف والصحة والتعليم مقارنة بالسكان الأقدم للمدينة.

خلال تلك الفترة، فقدت الأحزاب السياسية والنقابات والاتحادات المهنية قدرتها على مواصلة العمل العام والسياسي بسبب القبضة الأمنية الرادعة، وتطورت الجهات المعارضة للنظام لتشمل أيضاً مجتمعات وأجيال تأثرت بصورة مباشرة من الحرب وتواجه ظروفاً اقتصادية قاسية، مما أدخل أبعاد جديدة في الدعوة إلى تغيير النظام مثل الأبعاد الجهوية والمناطقية والظلم الاجتماعي.

اضطهد نظام الإنقاذ البائد المرأة بطرق مختلفة، أولها منعهن من العمل في مهن معينة مثل محطات الوقود، ومضايقة بائعات الأطعمة والمشروبات عبر حملات (كشات) لمصادرة ممتلكاتهن وأدواتهن. ووفرت منظومة النظام العام غطاء قانوني مهد لقوات الأمن اعتقال النساء بصورة تعسفية والاعتداء عليهن حسب ما ينظر إليه كسلوك “غير لائق” أو ملابس “غير محتشمة”.

وفرت هذه القوانين أيضاً مخرجًا للجناة والمجرمين، حيث أن الأحكام المتعلقة بالاغتصاب والعنف الجنسي غير مجدية، بما في ذلك عدم وجود جريمة جنائية لختان الإناث في تلك الفترة، والفشل في قمع العنف القائم على النوع الاجتماعي بشكل فعال. 

وبالرغم من ذلك، فإن القانون كان يعترف بسلسلة من العقوبات الجسدية، مثل (الرجم) و(بتر الأطراف) و(الجلد) مما يتعارض مع تحريم التعذيب والعقوبات القاسية  في القانون الدولي، على النحو الذي قررته لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة واللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب.

في عام 2009م على سبيل المثال، حُكم على الصحفية لبنى الحسين، وهي منتقدة صريحة للنظام، بالجلد 40 جلدة لارتدائها بنطالاً في أماكن عامة لكنها قاومت التهم الموجهة إليها في المحكمة. في العام نفسه، تعرضت سيلفا كاشف البالغة من العمر 16 عامًا، وهي شابة مسيحية من جنوب السودان تعيش في الخرطوم، للجلد 50 جلدة لارتدائها تنورة تحت ركبتيها، بعد حرمانها من الحق في المحاكمة.

وبأخذ ما ذكر في الاعتبار، كانت الكتلة النسائية من أكثر المتضررين من سياسات النظام، ولكن الاضطهاد المتكرر ضد النساء شكل وحدة جعلتهن يتحدن في مواجهة النظام والصمود ضد الترسانة الأمنية.

ظهور أشكال جديدة للمقاومة

فقدت الأحزاب السياسية قدرتها على ممارسة عملها بحرية، وتحول النشاط السياسي للشباب والنساء  ليأخذ أشكالاً غير تقليدية بالتزامن مع ظهور منظمات المجتمع المدني المهتمة بقضايا المرأة والعون الإنساني. إن تحليل هذه المنظمات وعلاقتها بالنظام الحاكم وقتها يمكن أن يؤدي إلى نتائج متناقضة، فبالرغم من أن الحكومة كانت تعتبرها تهديداً محتملاً وتحاول إبقائها تحت سيطرة مشددة، ولكن في الواقع كانت تقوم منظمات العون الإنساني والمنظمات الخيرية بتحمل بعض أعباء الدولة.

بعد فترة وجيزة من الانقلاب القمعي عام 1989م، شكلت الفاعلات السياسيات في الخرطوم منظمات تضامن متبادل بدت آمنة نسبيًا من أجهزة أمن الحكومة، بينما كن يمارسن عملهن جزئيًا لصالح النساء. تسبب ذلك في ظهور الكثير من المنظمات (المحلية والعالمية) الداعمة مع قضايا النساء السودانيات، ويمكن اعتبار ذلك شكلاً جديداً من أشكال التنظيم النسائي. ذلك لا ينفي أن النظام هاجم هذه المنظمات في عام 2009 م وفي 2012م، وذكرت د. غادة كدودة في دراسة لها بالشراكة مع الباحثة سوندرا هيل(مرجع – 1)، أن من الصعب إيجاد أرقام دقيقة من مفوضية العون الإنساني لأعداد تلك المنظمات، ولكن أفادت الأستاذة عديلة الزئبق (ناشطة رائدة في المنظمات النسائية)، أن هنالك آلاف المنظمات غير الحكومية في السودان والمئات في ولاية الخرطوم.

هذه المنظمات غير الحكومية المهتمة بقضايا النساء كانت أكثر من الأحزاب السياسية والأجنحة النسائية التابعة لها، وكانت نشطة للغاية وتشكل جزءا كبيرا من المجتمع المدني. وبما أن العمل السياسي بصورته التقليدية كان متعسر جدا، التحق الكثير من القواعد الشبابية الناشطة بحركات مدنية شبابية تركز نشاطها على مواقع التواصل الاجتماعي مثل (قرفنا) و (التغيير الآن).

بينما اتخذ الرفض لنظام البشير ودكتاتوريات أخرى أشكالًا مختلفة، على سبيل المثال التمرد المسلح والمناورات السرية، مع ذلك، أن السخط في الخرطوم (والمدن الرئيسية الأخرى مثل ود مدني) تم التعبير عنه في المقام الأول من خلال الاحتجاجات المدنية ذات الطابع السلمي.

أدى التغيير في المناخ السياسي إلى تقاطعات بين المكونات النسائية في المجتمع المدني والحركات الشبابية في عملية التعبئة، وكما ذُكر في دراسة د. كدودة و د. هيل (مرجع – 1)، يمكن أن تلخص الأسباب التي أدت إلى تلك التقاطعات في الآتي:

  1. استبعاد النساء والشباب في قيادة معظم الأحزاب السياسية.
  2. سيطرة الأحزاب على الأجنحة النسائية التابعة لها.
  3. تأثير الناشطين بالخارج (الدياسبورا) حيث كان الشباب والنساء أكثر حرية في النشاط الاسفيري حول الموضوعات المثيرة للجدل.
  4. الانتقال اللاحق لكثير من الشباب والنساء الى المنظمات غير الحكومية، مما أدى إلى نمو المجتمع المدني واعتماده الشديد على الشباب والناشطات.

 يمكن أن يظهر شكل التعاون هذا في مثال عام 2013م عندما نظم (مركز سالمة لدراسات المرأة) بالشراكة مع مجموعات شبابية أخرى فعاليات ثقافية تعبرعن قيم الحرية والعدالة، وتم نشرها بعد احتجاجات سبتمبر من ذلك العام كجزء من حملة إعلامية على مواقع التواصل الاجتماعي. إن نشاط المركز ضمن عمليات التعبئة وتوثيق اعتداءات النظام على المتظاهرين كان سبباً في استهدافه وإغلاقه في العام 2014م ، بالإضافة إلى القيود الناتجة عن انخفاض التمويل الدولي للسودان ما بعد انفصال الجنوب.

أسفرت احتجاجات سبتمبر 2013م عن ظهور مجموعات شبابية أخرى مثل (ابينا) و (عصينا) و (مرقنا)، وكان لدى الشابات مشاركة بارزة في هذه المجموعات وتلقين نصيبهن من الاعتقالات والاعتداءات. بالاضافة الى مشاركة المجموعات النسائية الأقدم مثل الاتحاد النسائي و (مبادرة لا لقهر النساء) التي تأسست عام 2009، تشكلت أيضًا مجموعات نسائية بالكامل للتعبئة ووضع استراتيجيات ثورية وطرح قضايا المرأة، تنخرط اغلبها الان تحت مظلة المجموعات النسوية السياسية والمدنية (منسم) التي زاد نشاطها خلال انتفاضة ديسمبر 2018.

المصدر: African Feminism
دور النساء في ثورة ديسمبر 2018 - 2019م

فيما يتعلق بالأرقام، يقول البعض، إن ثورة ديسمبر شهدت مشاركة نسائية تفوق 60%. قد يشك البعض أن هذه الأرقام قد تكون مبالغ فيها وليست دقيقة للغاية، لكن حقيقة الموقف، ووفقًا لما هو ظاهر على الأرض، هو أن التساؤل حول هذا الأمر وإقامة دراسات تحليلية حوله هو في حد ذاته نقطة مثيرة للتوقف والتفكير حوله.

وبعثت ثورة ديسمبر الأمل للكثير من النساء في انتزاع حقوقهن، وتم تتويج ذلك خلال اعتصام القيادة العامة (أبريل – يونيو 2019م) حيث أن منطقة الاعتصام مثلت صورة مصغرة للمجتمع الذي يتوق الشباب إلى بنائه، والذي يصبح فيه التغيير الاجتماعي الذي يسعون إليه حقيقة سياسية. اتخذت  النساء هذه المساحة لمناقشة وتشجيع التغيير الاجتماعي وابتدار حملات توعوية ضد التحرش الجنسي في ميدان الاعتصام وأماكن الاحتجاج وطالبن الشابات اقرانهن من الثوار أن يتبنوا مواقف فاعلة ضد السلوك الذكوري، مع الإشارة إلى الانتفاضة على أنها “ثورة وعي”.

تميزت هذه الثورة عن باقي الثورات عبر تاريخ السودان باتساع رقعة المشاركة في الحراك حول مختلف ولايات السودان، والدور القوي لتحالفات الأجسام المهنية ولجان المقاومة بالأحياء في مواصلة أساليب الاحتجاج المختلفة. كان للنساء دور في هذه الاجسام تم توثيقه في العديد من التقارير والدراسات.

دور النساء في مناهضة انقلاب 25 أكتوبر

أثار الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر 2021 بقيادة قائد الجيش عبد الفتاح البرهان حراكاً واسعاً، حيث نزل السودانيون إلى الشوارع مرة أخرى لحماية حقهم في المطالبة بحكومة مدنية خالصة ورفض الانقلابات العسكرية. منذ ذلك اليوم كانت هناك حركات تعبئة نشطة من لجان مقاومة الأحياء، العمود الفقري والمحرك وراء الاحتجاجات الجماهيرية التي ما زالت تتواصل الى هذه اللحظة، مما أعاد موضوع المشاركة النسائية إلى سطح التساؤل والدراسة.

وقد تصدرت النساء الحراك مرة أخرى وكن ضمن الصفوف الأمامية في مواجهة العنف المفرط المستخدم من قبل القوات الحكومية. فكانت الشهيدة ست النفور أحمد من بين 17 شهيداً وشهيدة قتلوا في موكب 17 نوفمبر 2021م بالخرطوم بحري، عندما ارتكبت القوات الحكومية مجزرة ضد المتظاهرين السلميين الرافضين للانقلاب العسكري. وكانت ست النفور قد عُرفت بمشاركتها الفاعلة في الحراك السلمي منذ بداياته، ومواقفها المتفانية التي تداولها العديد من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي والدبلوماسيين.

المشاركة في البناء القاعدي

ظلت جذوة ثورة ديسمبر حية على مدى ثلاث سنوات، وتنوعت وسائل وأدوات الاحتجاج خاصة عقب انقلاب البرهان في 25 أكتوبر، حيث ظهرت المشاركة الواضحة للمرأة ليس فقط في المسيرات والاحتجاجات، ولكن أيضًا بأدوارها القيادية النشطة في لجان المقاومة والأجسام المهنية، على الرغم من محاولات الديكتاتوريات لاستخدام العنف القائم على النوع الاجتماعي كاستراتيجية للقمع.

كما أطلقت حركة الاحتجاج الأخيرة مبادرات وحملات تدعم المشاركة النشطة للمرأة في لجان الأحياء، مثل حملة “خشي اللجنة” التي انطلقت عبر دعوة لموكب نسوي في مليونية 19 ديسمبر، وهو اليوم الذي يصادف الذكرى الثالثة لثورة ديسمبر.

تدعو الحملة لزيادة مشاركة النساء والشابات في لجان المقاومة وعمليات البناء القاعدي، وانتشرت الحملة على وسائل التواصل الاجتماعي وتم تأييدها واعادة نشرها من قبل عدد من لجان المقاومة والصفحات الداعمة للحراك الثوري.

تواصل فريق (بيم ريبورتس) مع عدد من أعضاء لجان المقاومة في ولاية الخرطوم بخصوص مشاركة النساء والشابات في اللجان، وأفادت عضوة بإحدى اللجان التابعة لتنسيقية لجان مقاومة كرري، أن نسبة التمثيل النسائي متوسطة، وتتراوح بين شابات ونساء وربات منازل، بالإضافة إلى أن المراحل العمرية الأدنى (16-21) شبه خالية من الفتيات.

وأضافت العضوة، أن تحفيز النساء للمشاركة في اللجان مدعوم، ويشارك أعضاء اللجنة على سبيل المثال في الوقفات الداعية بوقف اضطهاد النساء، ولكن المبادرة بالمشاركة لابد أن تبدأ من النساء أنفسهن.

وفي نقاش عن التحديات التي تواجه النساء في المشاركة، وضحت عضوة اللجنة أن العقبات في الأصل هي عقبات مجتمعية مثل محدودية حركة الفتيات في حيز الحي، حيث ان اللجان عادة ما تكون مبنية على علاقات اجتماعية و ديناميات الحي. وأضافت:

في بعض اللجان تتغلغل هذه العقبات للتمظهر في حضور الاجتماعات من عضوية اللجنة المعنية، عادة ما يكون الحضور الفعلي أغلبه من الذكور من الثوار (لجنة الحارة الأولى 2020 كمثال) ويتم توصيل الإناث من الثائرات بمخرجات الاجتماع وتوكيل مهام دعم ميداني ودعائي فقط، مما يحتم تحجيم ومصادرة دورهن في صنع القرار. إن التوعية بأهمية مشاركة النساء في أي عمل ديمقراطي ضرورية لكسر تصورات متوارثة رجعية ومقيدة للنساء.

علقت عضوة أخرى أنه بالرغم من أن نسبة مشاركة الشابات في لجان المقاومة في زيادة، فإنها لا تخلو من التنميط الجندري في تقسيم المهام حيث أنه عادة ما تذهب مهام تحضير الوجبات والمشروبات إلى النساء بينما يتولى الرجال المهام القيادية مثل إدارة الاجتماعات أو تمثيل اللجنة في التنسيقيات.

يذكر أن تنميط الأدوار للنساء لا يقتصر فقط على المشاركة بعضوية لجان المقاومة، ولكن يتبين أيضاً في الحراك نفسه، كما كتبت الناشطة سارة معاوية عن تجربتها مع بعض المتظاهرين الذين لجأوا لاستخدام العنف ضدها ومحاولة ضربها، بعدما رفضت التراجع عن الصفوف الأمامية للمظاهرة في ديسمبر الماضي، وتم ذكر التجربة أيضاً على مقال صحيفة نيويورك تايمز.

هنالك أيضاً زيادة ملحوظة في مشاركة النساء في أدوار قيادية بلجان المقاومة والتنسيقيات، مثل ساجدة المبارك المتحدثة باسم تنسيقية لجان مقاومة كرري داخل السودان، ورانيا مأمون المتحدثة باسم لجان مقاومة مدني.

ضد كل أدوات القهر

تم توثيق الاستخدام الوحشي للعنف ضد المرأة كأداة لقمع المتظاهرين منذ عام 2011م خلال مظاهرات معارضة لنظام البشير، واستمر ذلك عندما استخدم أعضاء جهاز الأمن والمخابرات التابع للبشير في مظاهرات 2018-2019 م التحرش الجنسي والاعتداء والتلاعب النفسي كأدوات ليس فقط لإرهاب النساء، ولكن أيضًا عدد كبير من الأسر السودانية عبر زرع الرعب من المشاركة في هذه الاحتجاجات، مما عرض الكثير من الشابات لضغوطات من أسرهن وعدم قبول مشاركتهن في التظاهرات.

بلغ هذا النمط من الإرهاب ذروته خلال فض اعتصام القيادة العامة في 30 يونيو 2019 م حيث تم الإبلاغ عن العديد من حالات الاغتصاب من قبل قوات المجلس العسكري والتي من ضمنها قوات الدعم السريع التي تُتهم بارتكاب جرائم حرب في دارفور. هذا بالإضافة إلى تقارير عديدة عن الضرب والعنف ضد المرأة، والتي استمرت حتى بعد الانقلاب الأخير وتحديداً في القمع الذي حدث حول القصر الرئاسي خلال تظاهرات 19 ديسمبر2021م.

هذه الأدوات القمعية لم تنجح في إرهاب النساء، بل أدى ذلك إلى تظاهرات ووقفات احتجاجية في الخميس 23 ديسمبر، حيث وقف المتظاهرين والمتظاهرات في العديد من مدن السودان تنديدا بجرائم العنف والانتهاكات الجنسية التي تُتهم بها القوات الحكومية، ولدعم الناجيات والناجين من هذه الانتهاكات، وتسليم مذكرة إلى المفوضة السامية لحقوق الإنسان بالسودان.

موكب مناهضة العنف والانتهاكات الجنسية 23 ديسمبر 2021 - تصوير: (بيم ريبورتس)

إقرأ المزيد: كيف استخدمت القوات الحكومية الإغتصاب سلاحاً في السودان؟ – تقرير بيم ريبورتس عن الانتهاكات الجنسية إبان تفريق مظاهرات 19 ديسمبر.

مشاركة فاعلة أم داعمة؟

صورت الكثير من التحليلات دور المرأة على أنها أكثر دعمًا وتحفيزًا للرجال، وهي ثقافة تعود إلى التقاليد القديمة حيث كان للمرأة أدوار مهمة في تشجيع الرجال في زمن الحرب مثل ما تفعله الحكامات في بعض مناطق السودان، والتي ظهرت في قصائد تدعم سمات الشجاعة والصمود. يُنظر إلى هذه الثقافة على أنها امتدت إلى ثورة ديسمبر حيث كانت الهتافات والزغاريد النسائية مصدرًا للقوة والشجاعة لمعظم الناس في الاحتجاجات.

كان للنساء السودانيات مشاركات منذ القدم في مناهضة الاحتلال الأجنبي والديكتاتوريات العسكرية، ومشاركتهن في الثورات السودانية عبر التاريخ، التي تمظهرت منذ اندلاع ثورة ديسمبر في عام 2018م، وهذا يشمل – على سبيل المثال لا الحصر – تفانيهن في مواصلة المشاركة في الاحتجاجات والتظاهرات الجماهيرية بالرغم من القمع المتواصل، وأدوارهن في لجان المقاومة والأجسام القاعدية والمهنية.

:مراجع
  1. Gada Kadoda & Sondra Hale (2015) Contemporary youth movements and the role of social media in Sudan, Canadian Journal of African Studies / Revue canadienne des études africaines, 49:1, 215-236

  2. Hale, Sondra. “Testimonies in Exile: Sudanese Gender Politics.” Northeast African Studies, vol. 8, no. 2, Michigan State University Press, 2001, pp. 83–128, http://www.jstor.org/stable/41931294.

  3. Liv Tønnessen and Samia al-Nagar (2013) The Women’s Quota in Conflict Ridden Sudan: Ideological Battles for and against Gender Equality

  4. فاطمة القدال – كتاب (شاهدة على مسيرة الإتحاد النسائي السوداني خلال نصف قرن من الزمان).

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع