على مدى عام كامل من الحرب الميدانية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تدور في المقابل حرب إعلامية ليست أقل شراسة مما يدور على الأرض، على جميع وسائل الإعلام، خاصة وسائل التواصل الاجتماعي، تتولى فيها جيوش إلكترونية موالية للطرفين، الدعاية الحربية.
وفي أعقاب اندلاع الصراع في السودان قبل عام بين الجيش وقوات الدعم السريع، بدأ الطرفان في إغراق وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بسيل من المعلومات الكاذبة والمضللة، حيث يعملان على تعزيز خطابهم الإعلامي المتعلق بالدعاية الحربية أو الدعاية السياسية المصاحبة لها، أو لصناعة معلومات مضللة للتهرب من انتهاكات حقوق الإنسان التي نتجت عن الحرب المستعرة بينهما.
بعد عام من اندلاع الحرب في السودان، نستعرض في هذا التقرير محاولات الطرفين وداعميهم الخارجيين والداخليين لتوجيه الرأي العام السوداني، ومدى تأثير حملات المعلومات المضللة الممنهجة التي أنتجها الطرفان على الرأي العام السوداني والدولي.
بدأت محاولات التأثير على الرأي العام السوداني منذ لحظة إطلاق الرصاصة الأولى حيث تبادل الطرفان الاتهامات بشأن مسؤولية بدء القتال، وامتد تبادل الاتهامات من مسؤولية بدء المعارك إلى السيطرة على الأرض. فنشرت المنصات الرسمية لطرفي الحرب معلومات كاذبة ومضللة تعود إلى موقفها الميداني، لتتطور في هذا العام إلى جيوش إلكترونية تتولى الدعاية الحربية عنهما.
هذا التضارب، مثل قاعدة صلبة لعمليات التضليل اللاحقة التي شهدها الفضاء الرقمي السوداني على مدى عام من الحرب في ميادين الحرب الإعلامية، منتجًا معه خطاب الطرفين الإعلامي والدعائي.
الدعاية الحربية
لكل حرب خطابها الإعلامي الذي يهدف عادةً إلى رفع الروح المعنوية للجنود ومخاطبة مخاوف المناصرين، وفي سبيل تحقيق هذه الغاية يمتلك طرفي الحرب جيوشًا إلكترونية تتولى الدعاية الحربية عنهما. ولتعزيز موقفهما يصنع الطرفان معلومات مزيفة ومضللة لا تعكس حقيقة ما يجري على الأرض.
على سبيل المثال، في اليوم الأول من القتال في 15 أبريل العام الماضي، نشرت المنصات الرسمية للجيش السوداني وقوات الدعم السريع، روايات متضاربة ومعلومات مضللة عن حقيقة السيطرة على الأرض، حيث مثلت تلك البداية، المناخ الأكثر خصوبة لنشاط شبكات التضليل المناصرة لهما لاحقاً.
في اليوم نفسه، تداولت مجموعة حسابات مناصرة للجيش السوداني على منصات التواصل الاجتماعي، مقاطع فيديو تشيد بالجيش “لشنّه ضربات جوية على مقرات لقوات الدعم السريع، والاستيلاء على كميات ضخمة من النقود من منزل دقلو، وشنّ غارات جوية في شمال البلاد”. لكن اتضح أن اللقطات قديمة وتعود الى اليمن وليبيا، كما أن بعضها كان ألعاب الفيديو.
وبالمثل، تداولت حسابات مناصرة للدعم السريع مقاطع فيديو لإسقاط طائرات حربية مقاتلة مدعية أنها تتبع للجيش السوداني تم إسقاطها من قبل الدعم السريع في المعارك، وبعد التحقق منها اتضح أنها قديمة حيث تعود إلى عمليات القتال في سوريا.
لاحظ فريق مرصد بيم أن نشاط المعلومات المضللة المتعلق بالسيطرة والتقدم على الميدان، يتزامن في التوقيت مع المعارك التي تدور بين الطرفين، وبالتزامن مع ذلك تتولى مجموعة من الحسابات المناصرة للطرفين مسؤولية نشر هذه المعلومات على أوسع نطاق.
على سبيل المثال، شهدت مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور معارك دامية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع استمرت لأشهر انتهت بسيطرة الدعم السريع على المدينة في أكتوبر الماضي.
بالتزامن مع تلك المعارك، نشرت مجموعة من الحسابات المناصرة للجيش السوداني، صورة مضللة مدعية أنها لجنود من الدعم السريع يهربون من نيالا. كما نشرت الحسابات الموالية للجيش في اليوم نفسه قبل سيطرة الدعم السريع على مقر (الفرقة 16) التابعة للجيش السوداني بمدينة نيالا، محتوى مفبركًا يتعلق بمحادثات جدة التي تدور بين الطرفين يفيد بأن الجيش انسحب من المفاوضات نتيجة لهجوم الدعم السريع على نيالا.
وبالتحقق من تلك الادعاءات، توصلنا إلى أن الصورة قديمة وهي لم تكن في السودان ولا علاقة لها بالأحداث الجارية فيه.
بالبحث في الادعاء القائل بأن الجيش ينسحب من مفاوضات (جدة)، وجدنا أن المفاوضات كانت ما تزال جارية في ذلك الوقت ولم ينسحب الجيش منها.

حملة المعلومات المضللة التي صاحبت المعارك في نيالا، تنطبق كذلك على معارك ولاية الجزيرة ود مدني، حيث بالتزامن مع القتال نشطت مجموعة كبيرة من الحسابات والصفحات المناصرة للطرفين في بث دعاية حربية، ومعلومات مزيفة ومضللة، جميعها تتعلق بالمعارك في ولاية الجزيرة.

الرواية السياسية للحرب
مثلما سرد الطرفين روايتهما عن الحرب، أدلت القوى السياسية بدلوها، حيث اتهمت قوى الحرية والتغيير حزب المؤتمر الوطني المحلول والحركة الإسلامية بإشعال الحرب، بينما نفت الحركة الإسلامية السودانية في بيانها المعنون بـ(ادعاءات الفتنة) تورطها في إشعال الحرب وحملت مسؤولية قيامها لقوى الاتفاق الإطاري، وأعلنت أنها تقف مساندة للجيش وأنها لن تتوانى في تلبية نداء القتال بجانب الجيش متى ما طلب منها ذلك.
ومثّل تباين روايات القوى السياسية حول حقيقة الحرب لاحقاً مناخًا خصبًا للتضليل السياسي، نشطت فيه كل الأطراف السياسية والعسكرية عبر صناعة معلومات مضللة تعزز من سردياتهم وتهاجم خصومهم السياسيين.
عمل فريق مرصد بيم منذ اندلاع القتال قبل عام على عدد من التقارير التي صنفناها بين (مفبرك ومضلل) استهدفت القادة السياسيين والعسكريين على حدٍ سواء.
على سبيل المثال، رصد فريق مرصد بيم محاولة تلاعب بالرأي العام عبر صناعة معلومات مفبركة تستهدف القوات المسلحة وداعميها السياسيين وتستثني قوات الدعم السريع. كما رصد فريقنا عددًا من المعلومات المضللة والمفبركة التي تقوم بنشرها منصات تناصر الدعم السريع وتهاجم القوات المسلحة وداعميها.
في المقابل، رصد فريقنا منذ اندلاع القتال عشرات الحسابات والصفحات بعضها تقول إنها مؤسسات إعلامية. جميع هذه المنصات تناصر الجيش السوداني وتعمل على صناعة معلومات مضللة تستهدف قادة من الدعم السريع وقادة القوى المدنية الديمقراطية (تقدم).
التضليل وسيلة للتغطية على انتهاكات حقوق الإنسان
لم تقتصر عمليات التضليل على الوضع الميداني أو الجانب السياسي للحرب فحسب، بل عمل طرفي الحرب على بث معلومات مضللة بالتزامن مع أحداث على الأرض تمثل إنتهاكات لحقوق الإنسان في مسعى منها للتهرب من المسؤولية عن تلك الانتهاكات عبر إغراق الفضاء الرقمي بمعلومات مضللة.
على سبيل المثال قصف الجيش السوداني في يناير الماضي مدينة نيالا، وقالت وسائل إعلام إن القصف طال أحياء مدنية حيث تركز على «حي المطار، وحي تكساس»، كما شمل مركز المناعة ومستشفى شفاكير وميز الأطباء الواقع في منطقة السوق الكبير في المدينة، وقد أسفر القصف عن سقوط عدد من الضحايا وسط المدنيين وإصابة آخرين بجروح متفاوتة.
بالتزامن مع عملية القصف نشرت مجموعة من المواقع الإلكترونية والحسابات والصفحات على منصات التواصل الاجتماعي المناصرة للجيش السوداني ادعاء قالت فيه إن الجيش قام بتدمير طائرة شحن إماراتية كانت تحمل إمدادًا للدعم السريع بالقرب من نيالا.
تحقق فريقنا من صحة الادعاء وتوصلنا إلى أنه مضلل، حيث أن الجيش قام بقصف المدينة في صباح ذات اليوم ولكنه لم يقصف طائرة شحن إماراتية بل قصف مرافق صحية وأحياء سكنية راح ضحية ذلك مدنيين وأصيب أخرين بجروح.
يبدو أن الحسابات التي قامت بنشر الادعاء ربما تٌريد التغطية على هذه الانتهاكات، حيث تمت عملية النشر على نطاق واسع بالتزامن مع حدوث تلك الانتهاكات.

بالمقابل، تتخذ الدعم السريع ذات الأساليب لتحميل مسؤولية قصف المرافق المدنية للجيش السوداني.
على سبيل المثال، سيطرت الدعم السريع على ولاية الجزيرة وسط السودان في ديسمبر الماضي، وفي الأشهر التالية تحرك الجيش السوداني لاستعادة المدينة حيث جرت معارك بينه وبين الدعم السريع في تخوم الجزيرة وفي بعض قراها، ولا تزال مستمرة. وقالت لجان مقاومة مدني ومنظمات حقوقية أخرى إن الدعم السريع ارتكبت انتهاكات ضد المدنيين.
وفي هذا السياق، نشرت مجموعة من الحسابات والمنصات المناصرة للدعم السريع في السادس من أبريل الجاري صورة تظهر مبنى محترق ادعت بأنه يتبع لجامعة الجزيرة وأن طيران الجيش هو من قام بتدميره.
تحقق فريقنا من صحة الصورة تبين لنا أنها مفبركة حيث تم تخليقها عبر الذكاء الاصطناعي، بيد أن هذه المعلومة جاءت بالتزامن مع استمرار المواجهات في ولاية الجزيرة التي يتهم الدعم السريع بارتكاب مجموعة من الانتهاكات فيها بحق السكان المدنيين.
ويبدو أن مجموعة الحسابات التي تداولت الادعاء المفبرك تعمل بصورة منظمة لإدانة الجيش السوداني بقصف مرافق مدنية، أو للتهرب من الانتهاكات التي ارتكبتها ومحاولة تحميل الجرم إلى الخصم.

أساليب قديمة متجددة لصناعة المعلومات المضللة
عرف الفضاء الرقمي السوداني عمليات التضليل منذ وقت مبكر في عهد حكم الرئيس المخلوع، عمر البشير حيث أسس جهاز المخابرات العامة (جهاز الأمن والمخابرات الوطني) سابقًا، ما يعرف بـ(وحدة الجهاد الإلكتروني) كانت مهمتها جمع المعلومات عن الناشطين السياسيين المعارضين للنظام واستهداف الرأي العام السوداني.
ومع تطور الأحداث السياسية والتغيرات التي جرت على البلاد، تشير قاعدة بيانات تقارير مرصد بيم إلى أن جهات داخلية من بينها الجيش السوداني والدعم السريع وجهاز المخابرات العامة وجهات ذات توجه إسلامي وجهات مناهضة للحكم العسكري تنشط في الفضاء الرقمي السوداني وتنشر معلومات كاذبة ومضللة.
تتبع الجهات المشار إليها في سابق الأمر أساليب تقليدة وتكتيكات قديمة، منها فبركة تصريحات وإعادة تصميمها في صور إطارية لقنوات عالمية مثل الجزيرة والعربية وغيرها ثم نسبها إلى قادة سياسيين ومدنيين، أيضًا من تلك الأساليب هو إعادة نشر مقاطع فيديو قديمة على إنها بتاريخ حديث، كذلك نشر صور ومقاطع فيديو جرت أحداثها في دول أخرى مع الادعاء بأنها من السودان.
ومع تطور التكنولوجيا ودخول حقبة الذكاء الاصطناعي، لجأ طرفي الصراع إلى أساليب جديدة عبر استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لاستنساخ أصوات بشرية حقيقة لقادة عسكريين وسياسيين وفبركة محتوى يخدم رواية الأطراف المتحاربة.
حيث أشار تقرير أعده مرصد بيم أن مجموعة من الحسابات المناصرة للدعم السريع على منصة إكس نشرت محتوى صوتيًا مزيفًا تم تخليقه عبر الذكاء الاصطناعي يستهدف قائد الجيش السوداني. الملاحظ في الأمر أن هذه المحتوى أول من قام بنشره حسابات لصحفيين بريطانيين على منصة إكس تدعم إسرائيل والتطبيع بين إسرائيل والإمارات. كما أن المحتوى تناقله سياسيون سودانيون ومنصات موالية للدعم السريع.
وفي السياق نفسه، نشر حساب في تويتر محتوى أكد بأنه مفبرك، وبعد عملية الفحص تبين لنا أنه تم تخليقه عبر الذكاء الاصطناعي بنسبة أكثر من 97%. يفيد محتوى المقطع الصوتي بأنه مكالمة تجمع قادة من (تقدم) مع قائد الدعم السريع، نشر المحتوى المزيف تلفزيون السودان القومي ومجموعة أخرى من المواقع والصفحات والحسابات المناصرة للجيش السوداني مدعين أنه مكالمة تجمع (حميدتي) ووزير شؤون مجلس الوزراء السابق خالد عمر يوسف ورئيس الحركة الشعبية التيار الديمقراطي ياسر عرمان وهم يخططون للاستيلاء على السلطة بالقوة في 15 أبريل من العام الماضي.
بناء على ما سبق ذكره يتضح أن طرفي الحرب في السودان، بالتوازي مع معاركهما في الميدان، يخوضان حربًا أخرى على منصات التواصل الاجتماعي، تستخدم فيها مختلف أسلحة التضليل لتعزيز دعايتهم الحربية، أو لمهاجمة خصومهم السياسيين والعسكرين، متبعين أساليب أكثر تطورًا مما سبق، في مسعى لكسب التأييد الداخلي والخارجي أو للتأثير على الرأي العام المحلي والدولي أو للتهرب من مسؤوليتهما في انتهاكات حقوق الإنسان الناتجة عن الحرب المستمرة بينهما.
ومع بلوغ الصراع عامه الأول ما تزال تلك الجهات تنشط بصورة عالية داخل الفضاء الرقمي السوداني، في محاولة لتوجيه الرأي العام والتأثير على المعلومات الحقيقية المتعلقة باستمرار الحرب أو سبل إيقافها.