أولئك الذين أرسلتهم الحرب إلى «عطبرة» يحاولون ضبط إيقاعهم على وقع مائة عام من موسيقى القطارات

 عطبرة، 4 مايو 2024  – لم تتهيأ تلك القرى المتناثرة قبل أكثر من قرن، على ضفاف الاتبراوي ونهر النيل، والتي حولها من بعد ذلك البريطانيون إلى مدينة عطبرة، أكثر مناطق شمالي السودان عمرانًا وحداثة بتأثير السكة الحديد، أن تتغير في غضون عام واحد، ويجد مجتمعها الذي وحده إيقاع هدير القطارات التي لم تكف عن إطلاق صافرتها منذ أكثر من مائة عام، وجهًا لوجه أمام آلاف القادمين على غير موعد – مع أولئك الذين أرسلتهم الحرب إليها نازحين في مدارسها و هائمين في طرقاتها، لا يلوون على شيء، وهم من فقدوا أصولهم وأموالهم وديارهم في عاصمة الحرب السودانية الخرطوم، ومدن أخرى. 

كان العطبراويون، وهم الذين قدموا إلى مدينتهم في هجرات متواترة على مدى عقود من كل أنحاء البلاد، قبل اندلاع الحرب في العاصمة السودانية الخرطوم في منتصف أبريل 2023، يعيشون حيواتهم كما ألفوها، صباحًا في القهاوي لتناول الشاي والقهوة، وتضج سودنتهم وحصايتهم وداخلتهم وغيرها من الأحياء، وأنديتهم وأسواقهم، وسكتهم الحديد وهناك على ضفة النهر جلساتهم وأمسياتهم، يعرفون بعضهم البعض، فيما الغرباء، هم من يرسلهم الميناء البري أو القطار لأي غرض كان على مدار اليوم، أو من ترسلهم القرى القريبة في سيارات قديمة الطراز إلى سوقها ولكونداتها العريقة، ثم أتت الحرب، وتغير كل شيء هناك، إما للأبد أو لوهلة الحرب الطويلة التي يمكن أن تكون أبدًا.        

إذن؛ تغيرت عاصمة السكة الحديد والمدينة العمالية وبلد الهجرات الواقعة على ضفاف نهري النيل وعطبرة والتي تبعد حوالي 360 كيلو مترًا شمالي العاصمة الخرطوم، ذات الأسماء والألقاب العديدة والتاريخ السياسي الكبير والمرتبطة بالثورات السودانية والنضال السياسي ضد السلطات الاستعمارية البريطانية السابقة. 

وإذ لم يكن أمام قاطرة المدن- كما يطلق عليها أحيانًا، إلا أن تصبح ملاذًا للنازحين، غير أن السلطات، ترى أن الدور الحكومية التي لجأ إليها الفارون من الحرب، أغلى ثمنًا من الإنسان، وهكذا أصبح حضن اتبرا، وهو أحد أسمائها، حانيًا من مجتمعها وقاسيًا من سلطتها. 

ميلاد عطبرة

عندما نقلت السلطات الاستعمارية البريطانية إدارة السكة الحديد من وادي حلفا في العام 1906 إلى مدينة عطبرة ووضعت ونفذت الخارطة المعمارية للمدينة لخدمة مصالحها في المنطقة الجديدة، لم يتوقع أحد أن تنهض -اتبرا- التي كانت تعرف وقتها بقرية الداخلة، قبل أن تحولها السكة الحديد لواحدة من أهم المدن السودانية. 

 

بمرور السنوات نمت المدينة وتطورت لتصبح أهم مدينة عمالية في السودان وأكبر مركز عمراني في شمال البلاد، يضاف إلى ذلك الأدوار المركزية التي لعبتها المدينة على الصعيد القومي اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا وسرعان ما أصبحت بمثابة النافذة التي أطلت منها البلاد بأسرها على إنجازات غير مسبوقة في كافة المجالات حتى أسماها البعض – المدينة القاطرة -.

قبل السكة الحديد كان المكان الذي تقوم فيه المدينة الآن «شرق نهر النيل وشمال نهر اتبرا» فضاءً شاسعًا ومنطقة غابية قوامها أشجار الدوم والسدر والطلح والسيال والعشر وغيرها وكثير من الحشائش التي اشتهرت بها في الشريط الممتد من قرية السيالة شمال المنطقة وحتى نقطة اقتران نهر اتبرا بنهر النيل جنوبًا.

وكانت تسكنها مجموعات سكانية صغيرة من الرباطاب والجعليين الذين شكلوا النواة التركيبية للمنطقة وتوزعوا في ثلاث قرى، السيالة والكريماب والداخلة، والأخيرة ظلت ردحًا من الزمن اسماً لما يعرف حاليًا بعطبرة.

منذ عهد الممالك السودانية التي سبقت الغزو التركي للسودان، حملت عطبرة اسم «الداخلة» وظلت ترد على ألسنة العسكريين في تقاريرهم كاسم للمنطقة بينهم رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل إبان الحرب العالمية الثانية في كتابه «حرب النهر» والذي تحدث فيه عن معركة النخيلة التي جرت بين جيش المستعمر وجيش المهدية عند نهر اتبرا.

منذ بواكير نشأتها شهدت مدينة عطبرة العديد من موجات النزوح أبرزها في العام 1908 وحتى 1918، عندما ظهرت فيها جماعات من قبائل شمال السودان «شايقية، دناقلة، جعليين، ميرفاب، انقرياب، البديرية، الشكرية، الهواوير، مناصير، محس، سكوت، فدجا». وقبائل أخرى قدمت من مصر، وهي: «المغاربة، الجعافرة، العبابدة، العليقات والكنوز» بالإضافة إلى السودانيين من أصول شامية ومصرية، مسلمين ومسيحيين، كما سكنها قلة من جنود جيش الأمير محمود ود أحمد الذي قاد معركة النخيلة والذين تعود أصولهم إلى قبائل غرب السودان حيث استقروا في ضفة الاتبراوي الشمالية في منطقة العشش التي سميت بحي الموردة  في السبعينات، قبل أن تلحق بهم جماعات من الفلاتة،ولاحقاً  الهدندوة والبشاريين والرشايدة.

ومما يميز عطبرة أنه لا يمكن القول إن قبيلة بكاملها قطنتها  لكن أفراد وأسر وجماعات من مختلف القبائل والأعراق انصهرت جميعها في بوتقة واحدة وشكلت تركيبة سكانية فريدة عرفت بالمجتمع الاتبراوي.

أتبرا النهر

برزت كلمة اتبرا كاسم بعد معركة النخيلة وارتبطت بنهر اتبرا آخر روافد نهر النيل قبل مصبه في البحر الأبيض المتوسط. ومع ذلك، لم يتفق المؤرخون على أصل التسمية لكن أكثر التفسيرات تتحدث عن أن اتبرا مكونة من كلمتين أتى وبرا وترمز لفيضان النهر في موسم الخريف أي أتى دون إخطار كما ذكروا أنها من «متبر، تبرنا، وتتبيراً»، وتعني أتى محطمًا ومدمرًا لأنه كان قوي الدفع والجريان ثم تم استبدال حرف التاء لتصبح عطبرة.

عطبرة الثورة

لم تمثل عطبرة أحد مراكز المقاومة للمستعمر البريطاني وحسب، بل عرفت بصمودها التاريخي في مواجهة أنظمة الحكم الشمولية التي أعقبت الاستقلال، إذ شكلت نقطة انطلاقة لثورتي أكتوبر 1964 ضد نظام الرئيس إبراهيم عبود، وأبريل 1985 ضد نظام الرئيس جعفر النميري، إلى جانب ثورة ديسمبر 2018 ضد نظام الرئيس عمر البشير والتي لعبت المدينة دورًا حاسمًا في نجاحها بتغيير مسار حركة الاحتجاجات من مطالب معيشية إلى سياسية بعد إحراق المحتجين لمقر حزب المؤتمر الوطني – الحاكم آنذاك.

ولطالما خشيت الأنظمة الشمولية من عطبرة بسبب احتضانها مركز نقابة السكة الحديد التي كانت المحرك لأغلب التظاهرات والاحتجاجات وهي المخاوف التي دفعت نظام الإنقاذ إلى قمع حراك عمال السكة الحديد في بدايات استيلائه على السلطة بفصله ما يزيد عن 4 آلاف عامل وتشريدهم.

اجتماعيًا، قدمت المدينة للسودان شخصيات مؤثرة في تاريخ البلاد السياسي، الاجتماعي والثقافي. سياسيًا، بينهم عددًا من القادة الشيوعيين والعماليين، مثل الشفيع أحمد الشيخ وقاسم أمين والأكاديمي والسياسي البارز عبد الله علي إبراهيم. كما أن عددًا من المؤثرين السودانيين الذين لم يكونوا من مواليدها، إما تلقوا تعليمهم في مدراسها الصناعية أو عملوا في السكة الحديد وتأثروا بها، بينهم الزعيم إسماعيل الأزهري الذي عمل بالتدريس فيها، والشاعر محمد الحسن سالم حميد الذي درس الثانوية فيها بالإضافة لآخرين. 

وبسبب الوقوع في حبها، سخّر عدد من الفنانين والأدباء أشعارهم لها وتغنوا في جمالها وتاريخها كما تعتبر من أكثر المدن التي كتبت فيها الإصدارات الثرة التي توثق لتاريخها حتى كادت تنافس مدينة أم درمان في المجلدات.

عطبرة في أزمنة الحرب

 

لعقود ظلت مدينة عطبرة شمالي البلاد تمثل وجهة رئيسية تفد إليها العديد من القوميات، ومع نشوب حرب الخامس عشر من أبريل، شهدت المدينة موجات نزوح كبيرة باعتبارها من أكثر المدن قربًا من العاصمة السودانية الخرطوم.

واستقبلت ولاية نهر النيل في المجمل والتي تعتبر عطبرة أكثر مدنها حيوية، آلاف النازحين وتصدرت في كثير من الأحيان ترتيب أولى ولايات السودان من حيث أعداد النازحين داخليًا، مما جعل الضغط على الولاية لم يسبق له مثيل ووضعها أمام تحد كبير، خاصة اقتصاديًا.

ووفق مفوضية العون الإنساني فإن عطبرة تحوي  95 مركزًا موزعة بين الأحياء المختلفة وفي 52 جمعية-زاوية-و4 أندية رياضية و39 مدرسة فيما يبلغ عدد النازحين في المدينة أكثر من 15