Tag: ثورة ديسمبر

مؤتمر لتجديد عمله.. كيف أصبح «تفكيك التمكين» قضية مركزية في أجندة الثورة السودانية؟

أية السماني

أية السماني

"لقد ساد المؤتمر أجواء من النقاش البناء والحوار الديمقراطي والروح الوطنية والرغبة الأكيدة في بناء عقد اجتماعي جديد وإرساء دعائم الحكم الديمقراطي القائم على مبادئ الحوكمة الرشيدة والتنمية المتوازنة ومدخلها تفكيك التمكين ومحاربة الفساد وتعزيز الشفافية"، يقول الناطق الرسمي باسم (العملية السياسية)، خالد عمر.

وجاء حديث عمر خلال كلمته بـ(مؤتمر خارطة طريق تجديد عملية تفكيك نظام الـ30 من يونيو)، الذي عقد بين يومي 9-11 يناير الحالي، بمشاركة خبراء سودانيين وأجانب، حيث من المنتظر أن تُضمن توصياته في الاتفاق النهائي، حسبما أعلن منظموه.

إذ، ما تزال قضية تفكيك تمكين نظام الثلاثين من يونيو 1989م، حتى بعد مرور 4 أعوام على إسقاطه، وأكثر من عام على انقلاب 25 أكتوبر 2021م، تشكل أولوية بالنسبة للفاعلين السياسيين السودانيين، رغم تجميدها من قبل القائد العام للجيش، عبد الفتاح البرهان، غداة الانقلاب.

ولعبت اللجنة، خلال فترة الحكومة الانتقالية السابقة، دوراً بارزاً، في تفكيك تمكين حزب المؤتمر الوطني المحلول وواجهاته، حيث نجحت في استرداد أصول وأموال تقدر بمليارات الدولارات، وفق ما أعلنت.

وظلت قضية تفكيك (نظام الحزب الواحد)، تحتل حيزاً كبيراً في مواثيق المعارضة السودانية، خلال حقبة حكم النظام المخلوع، ومع وصولها إلى السلطة في 2019م، عقب إطاحته، سرعان ما ضمنتها في الوثيقة الدستورية التي حكمت الفترة الانتقالية.

في المقابل، أوضح انقضاض البرهان، على لجنة إزالة التمكين، عقب انقلابه، مركزية اللجنة، ضمن مؤسسات الحكومة الانتقالية السابقة، قبل أن يزج بقادتها في السجون، تحت تهم عديدة.

وشيئاً فشيئاً، مع مرور أيام انقلاب 25 أكتوبر 2021م، بدأ النظام المخلوع، في استعادة واجهاته ومؤسساته والأصول المالية التي كانت لجنة إزالة التمكين قد استردتها.

ومع تصدع قوة انقلاب 25 أكتوبر، تحت الضغط الجماهيري، وبدئه مفاوضات مع قوى الحرية والتغيير، ووصولهم إلى محطة الاتفاق الإطاري في الخامس من ديسمبر الماضي، أجلت قضية تفكيك التمكين، ضمن 5 قضايا أخرى إلى حين الوصول إلى الاتفاق النهائي.

ومنذ استيلائه على السلطة عبر انقلاب عسكري في 30 يونيو 1989م، تمكن النظام المخلوع في جميع أجهزة الدولة العسكرية والمدنية، بالإضافة إلى إنشائه مئات الواجهات والشركات التي كانت تعمل لتحقيق مصالحه خارج إطار الدولة المؤسسي. كما شمل تمكين النظام المخلوع، فصل مئات الآلاف من موظفي الخدمة المدنية والعسكريين، وإبدالهم بموظفين موالين له.

ميلاد اللجنة

في ديسمبر 2019م، وفي أعقاب تشكيل الحكومة الانتقالية، أجيز القانون الخاص بتفكيك تمكين نظام الـ30 من يونيو، وقضى القانون المجاز بحل حزب المؤتمر الوطني وحجز والأموال والأصول التابعة له لتتم إعادتها لصالح الخزينة العامة، قبل أن يتم تكوين اللجنة، برئاسة عضو مجلس السيادة الانتقالي، ياسر العطا، لتنفيذ المهام التي ينص عليها القانون.

باشرت اللجنة عملها وسط قبول شعبي كبير، وأصدرت عدداً من القرارات بمصادرة أموال وأصول وواجهات من أفراد النظام المخلوع وموالين له. كما حجزت على حسابات مالية تعود لعدد من رموزه وفصلت عددا من الموظفين بالخدمة المدنية، قالت اللجنة إن تعيينهم تم على أساس ولائهم وانتمائهم للنظام السابق، وليس على أساس الكفاءة.

أيضاً، طالت إجراءات الفصل موظفين بمناصب رفيعة من قضاة وسفراء. لكن مع ذلك، لم تمس اللجنة الموالين للنظام السابق بالقوات العسكرية، حيث تركت مهمة فحصهم وقرار فصلهم لتتم من داخل المؤسسة العسكرية، وفق ما تراه يصب في مصلحة “الإصلاح العسكري المنشود”.

عوائق مبكرة

أظهر المكون العسكري، انزعاجاً واضحاً، من عمل لجنة تفكيك التمكين، وتمظهر ذلك، في استقالة رئيسها، ياسر العطا، بشكل مفاجئ لم يوضح فيها الأسباب، إلا أنه أشار إلى أخطاء  قال إنها صاحبت عمل اللجنة دون أن يفصلها.

ومع ذلك، لم يتوقف عمل اللجنة، وتواصلت مؤتمراتها التي كانت تبث على القنوات الرسمية، واستمرت في إصدار القرارات بفصل أشخاص واسترداد شركات ومصانع وأراض، في وقت كان الهجوم على اللجنة وطريقة عملها، يتنامى يوماً بعد يوم.

لاحقاً، بدأت الآراء تتباين، حول لجنة تفكيك التمكين، من داخل الحكومة الانتقالية بشقيها المدني والعسكري، حيث كان لوزير المالية، جبريل إبراهيم، رأي مناهض، عندما قال “إن جمع سلطات النيابة والشرطة والقضاء والاستئناف والأمن في يد لجنة التفكيك، سلطة مطلقة تقود إلى فساد مطلق”، على حد تعبيره.

بينما كانت لجنة التمكين ترد بإصدار مزيد من القرارات، وكانت ترى أن عمل اللجنة مهدد بـ“كثير من المتربصين”، مشيرة إلى أن العداء نحوها متوقع من أفراد النظام السابق و”الدولة العميقة”.

في هذا السياق، يقول الرئيس المناوب السابق، للجنة إزالة التمكين في الفترة الانتقالية، محمد الفكي، لـ(بيم ريبورتس):

"لم تنجز اللجنة كثير من الملفات ونتج ذلك عن المقاومة من مناطق قوى متفرقة في الحكومة الانتقالية السابقة، ومكنت هذه التقاطعات الدولة القديمة الموجودة في مفاصل السلطة من المراوغة وإيقاف عمل اللجنة وتأخيرها والدخول معها في مواجهات صغيرة".

وأضاف الفكي: “بدأت الخلافات في الظهور على السطح، في الوقت الذي استمرت فيه اللجنة في ممارسة عملها بشكل طبيعي وهي تواجه أزمات سياسية ومالية عدة، كان لها الأثر الجلي على أداء وعمل اللجنة”. وحسب الفكي، فقد كان للميزانية المخصصة للجنة الأثر العظيم في اختيار الموظفين بها، ومدى كفاءتهم لتأدية مهام اللجنة، وقال:

"كان لدى اللجنة 200 موظف بميزانية مليوني جنيه، كنا نستخدمها في الأشياء الضرورية للعمل وقد تمر فترات طويلة دون أن نعطي الموظفين رواتبهم ما أثر بدوره على أداء اللجنة".

وحول عمل اللجنة المقبلة، يقول الفكي: “أتمنى أن تعمل اللجنة القادمة في ظروف أفضل وسندعمها من الخارج بخطاب سياسي وإعلامي لتأخذ حقها ونصيبها من الأموال التي تتيح لها أن تعمل بكفاءة وفق العبء الملقى على عاتقها”.

وبالعودة إلى الصراع حول اللجنة في الفترة الانتقالية، أبدت اللجنة استيائها من وزارة المالية، واعتبرت، أنها تحاول إفشال عملها، وقال مقررها، وجدي صالح، إن “وزارة المالية لم تُدر الأصول والأموال المستردة لإفشال لجنة التفكيك”.

أيضاً، مثل غياب الاستئناف ضغطا مضاعفا على اللجنة حيث بدت وهي تصدر أحكاماً مطلقة في ظل غياب الحق الأساسي للأفراد في الدفاع عن ممتلكاتهم أو وظائفهم الحكومية، ويرى الفكي في هذه النقطة، أن تأخير هذه اللجنة لم يتح العدالة الكافية، ويضيف:

"كانت هناك مماحكات مستمرة من داخل السلطة لإيقاف عمل لجنة الاستئنافات، وقد شكل هذا ضغطا قانونيا وسياسيا وأخلاقيا على لجنة إزالة التمكين".

أحكام قضائية وتجميد اللجنة

في تطور لافت، في مطلع أكتوبر 2021م، وقبيل أيام معدودة من الانقلاب، أصدرت دائرة الطعون بالمحكمة العليا، حكماً بإلغاء 11 قراراً أصدرتهم لجنة إزالة التمكين بفصل موظفين من مناصبهم. فيما أبدت لجنة التمكين انزعاجها من قرار المحكمة، إلا أنها أكدت في تصريحات صحفية بأنها ماضية في مشروعها لتفكيك تمكين النظام المخلوع.

مع تنفيذ القائد العام للجيش، عبد الفتاح البرهان، انقلابه في 25 أكتوبر 2021م، أصدر قراراً بتجميد عمل لجنة إزالة التمكين، ضمن عدد من القرارات التي تضمنها بيان انقلابه. وطالت اعتقالات السلطة العسكرية في يوم الانقلاب الأول، قيادات اللجنة، على رأسهم الرئيس المناوب لها، وعضو مجلس السيادة الانتقالي، محمد الفكي، لاحقاً شكل البرهان لجنة مختصة لمراجعة قراراتها في الفترة الانتقالية.

وعلى الفور، باشرت اللجنة التي شكلها البرهان عملها، وسرعان ما أعادت عدداً كبيراً من الموظفين المفصولين في الفترة الانتقالية، بالإضافة للأصول والأموال، كانت قد استردتها لجنة إزالة التمكين المجمدة بقرار البرهان. ولم تمثل قرارات لجنة الاستئناف سوى إعادة ترسيخ لمفاصل النظام السابق، كما أنها بددت  المجهود الذي بذلته لجنة إزالة التمكين طوال فترتها.

جلسات وتوصيات المؤتمر

بالنسبة لمؤتمر خارطة طريق تجديد عملية تفكيك نظام الـ30 من يونيو 1989م، الذي انعقدت أولى جلساته في التاسع من يناير الحالي واستمرت لمدة أربعة أيام، حيث شارك في المؤتمر (350) شخصاً، مثلت القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري نسبة 40%، بينما شكل القوام الأكبر للمؤتمر ومجموعات العمل المتخصصة، مشاركون ومشاركات، من خارج القوى السياسية الموقعة، بنسبة 60%، من مختلف الأطراف، ممن وصفوا بأصحاب المصلحة.

وعقدت خلال المؤتمر 8 جلسات عمل عامة، ترأسها وعقب عليها، خبراء سودانيين ودوليين، حيث ناقشت 8 أوراق؛ وهي: الفساد والتمكين خلال 3 عقود، الأبعاد السياسية لعملية تفكيك نظام 30 من يونيو 1989م، تجربة تفكيك التمكين في الفترة الانتقالية، الإعلام والاتصال ومشاركة المواطنين في عملية التفكيك، الإطار القانوني الحاكم لعملية التفكيك، المعايير الدولية والمبادئ الحاكمة والخيارات في عملية التفكيك، التجارب الأفريقية، التعامل مع الفساد واسترداد الأصول والأموال المنهوبة.  

وأفضى المؤتمر لعدد من التوصيات أهمها؛ إلغاء الأحكام القضائية الصادرة من دائرة الاستئناف بالمحكمة العليا، وأهمية إخضاع قضاة الدرجات الأدنى لعملية فحص وتدقيق. وشملت التوصيات كذلك، الواجهات الدينية للنظام المخلوع، حيث شددت على تصفيتها ومحاسبة منسوبيها، أيضاً شملت التوصيات الخطوات المعنية بمعالجة إخفاقات لجنة إزالة التمكين في الفترة الانتقالية.

وحول إدراج التوصيات في الاتفاق النهائي، يعود الفكي ويقول:

"الآن جميع التوصيات لدى السكرتارية ويعكف عليها قانونيون لتوضع بصيغة قانونية لا تتقاطع مع قوانين الدولة وتمكن اللجنة من تأدية مهامها".

وفيما يخص هيكلة لجنة إزالة التمكين، فقد أوصت الورشة بالإبقاء على اللجنة كهيكل حكومي مستقل بصلاحيات عديدة وتوفير حصانات إجرائية وقانونية لأعضائها. كما أوصت باستبعاد وزارة العدل وممثلي الأجهزة النظامية من عضوية لجنتها العليا، على أن تتبع اللجنة في كل قرارتها المعايير الدولية والقانونية في عملية تفكيك بنية النظام المخلوع، لضمان حدوث التحول الديمقراطي.

غير أن خبراء قانونين لديهم وجهة نظر مختلفة، حول طريقة عمل لجنة إزالة التمكين، وما ينبغي أن تكون عليه.

يقول الخبير القانوني، نبيل أديب: “أعتقد أن التمكين تمثل في إخضاع سلطة الدولة ومواردها لإرادة العصبة الحاكمة، وهذا يتطلب أمرين؛ إبعاد الأشخاص المتورطين في عمليات فساد إداري من أجهزة الدولة، بعد التوصل عبر تحقيق إداري بواسطة أجهزة الدولة التابع لها الشخص المعني لإدانته بالفعل المنسوب له، ويجوز له استئناف القرار الإداري للقضاء”.

ويضيف أديب في حديثه لـ(بيم ريبورتس) "بالنسبة للأجهزة العدلية، يجب أن يتم ذلك عبر مفوضية الأجهزة العدلية". وتابع قائلاً: "المسائل التي تحمل معاملة فاسدة تحال للقضاء بواسطة نيابة الفساد".

ورأى أديب، أن يقتصر عمل لجنة إزالة التمكين على الاقتراحات الخاصة بتعديل القوانين التي سمحت بالتمكين، موضحاً أن إزالة تمكين نظام الـ30 من يونيو 1989م، تبدأ بعدم اتباع أساليبه في الحكم.

وتشغل قضية تفكيك تمكين نظام الثلاثين من يونيو 1989م، حيزاً كبيراً من النقاش والجدل الذي يدور حول الاتفاق النهائي الجاري، ويعد من قضايا الخلاف بين شقي الحكومة الانتقالية السابقة وأطراف أخرى. لكن عدداً مقدراً من الأطراف الموقعة على الاتفاق الإطاري، يرى أن مسألة تفكيك التمكين ضرورة لا يمكن التغاضي عنها.

ورغم المشاكل التي واجهت وصاحبت عمل اللجنة السابقة، إلا أن الأطراف تعتقد أنها تجربة يمكن الاستفادة منها وتطويرها لتشكيل لجنة جديدة تعمل وفق صورة قانونية ومؤسسية مثلى.

من البريق إلى النسيان.. كيف تراجع دور تجمع المهنيين السودانيين على مدى سنوات الثورة؟

“نستطيع معاً أن نعيد بناء كل شيء، والذي يقف أمام ذلك، هو هذا النظام الذي يجب أن نعمل جميعاً على أن يرحل فوراً”، أطلق تجمع المهنيين السودانيين هذه الكلمات المشحونة بالتحدي، في وجه النظام المخلوع في قمة سطوة قمعه، لم تتغير وجهة التجمع من كونه جسماً يمارس نشاطاً نقابياً وحسب، وإنما تحول إلى أحد أبرز الكيانات الاحتجاجية التي قادت حراكاً سياسياً سلمياً في تاريخ السودان الحديث.

وهكذا بدأت رحلة تجمع المهنيين السودانيين، في قيادة ثورة ديسمبر، فبدلاً من التوجه إلى مقر البرلمان بمدينة أمدرمان للمطالبة بتعديل الأجور حسبما كان أعلن مسبقاً، دعا السودانيين للتوجه إلى القصر الرئاسي بالعاصمة الخرطوم في 25 ديسمبر 2018م لتسليم مذكرة تطالب بتنحي الرئيس المخلوع عمر البشير.

وسرعان ما التف ملايين السودانيين، حول التجمع، بما شكله من أمل، مقابل حرب بدأ النظام المخلوع شنها ضده. ومع ذلك، مكّن التأييد الواسع الذي حظي به التجمع من مواجهة الهجمة الأمنية والإعلامية ضده، وفي الجانب الآخر، منحه الفرصة في لم شتات الأحزاب المعارضة، بتوقيع إعلان الحرية والتغيير.

ورغم الاعتقالات التي طالت قياداته وحملات التشكيك المستمرة ضده من منسوبي الإنقاذ وقتها، توجت مجهودات التجمع في قيادة الثورة، بإطاحة نظام الرئيس المخلوع، عمر البشير، في أبريل 2019م. 

غير أنه، وبعد أشهر معدودة من ذلك، بدأت الخلافات تدب في جسم التجمع وسط مشهد سياسي مليء بالاستقطاب. والآن، بعد مرور أكثر من أربعة أعوام، على خطوته التاريخية تلك، يغيب التجمع عن موقع القيادة، كأنه لم يكن، بعدما عصفت به الخلافات وشقته إلى جناحين.

العمل النقابي في ظل التضييق

بدأ النظام المخلوع، حربه على العمل النقابي مبكراً، بدايةً من استيلائه على السلطة، فشرع مباشرة في حل النقابات المهنية والعمالية واعتقال وفصل القيادات النقابية. كما استبدل عدداً من النقابات الفئوية بنقابات المنشأة التي تضم العاملين في مؤسسة واحدة.

في هذا السياق، يوضح الأكاديمي والسياسي، الواثق كمير، أن قانون النقابات الذي فرضته الإنقاذ انحرف بشكل جذري عن تاريخ الحركة العمالية السودانية. وقال “عمل القانون على فرض قيود على النشاط النقابي، خاصة عدم التمييز بين نقابات العمال والمهنيين والفنيين، وبدلاً من ذلك أصبحت النقابة تُعرّف بالمنشأة التي تخلط كل هذه المهن، وبهذا تم تغييب المصالح المشتركة للعاملين في مهنة واحدة“. 

لا يذهب عضو مبادرة استعادة نقابة المهندسين، كمال عمر، بعيداً عن حديث الواثق كمير ويشير في إفادته لـ(بيم ريبورتس)، إلى تبعات إلغاء نقابة المهندسين، وكيف أفقدهم ذلك وجود جسم يعتني بقضايا المهنة. ولفت عمر، إلى أن غياب النقابة شكل خصماً على مقدرة المجلس الهندسي في أداء مهام تنظيم المهنة، وقال “كانت نقابة المهندسين هي الجهة التي بادرت بتكوين مجلس تنظيم مهنة الهندسة الذي كان يتبع لمجلس الوزراء، وصاغت قوانينه وظلّت ممثلة به حتى الغائها”.

ميلاد التجمع

لم تكن حالة المهندسين في ظل الإنقاذ منفردة، فقد عانت النقابات جميعها، إما من الحل، أو تفريغ ما بقي منها من أدوارها وتجنيدها لخدمة أجندة النظام، وهو الأمر الذي عملت القطاعات المهنية على التصدي له منذ البداية؛ فقاطعت عدة فئات مهنية النقابات التي كونتها الحكومة، وشرعت في خلق أجسام موازية مارست من خلالها نشاطها النقابي ونسقت عبرها احتجاجاتها الفئوية. كما نشطت هذه الأجسام في دعم الحراك السياسي والحقوقي في البلاد ضد سياسات النظام المخلوع الذي مارس التضييق والعنف للحفاظ على مصالحه التي تتعارض – بالضرورة –  مع مصالح العاملين وجميع فئات المواطنين بشكل عام. 

ومن رحم هذه الأجسام، ولدت الأجسام الثلاثة التي كونت نواة تجمع المهنيين في 2016م؛ وهي شبكة الصحفيين السودانيين، والتحالف الديمقراطي للمحامين، ولجنة أطباء السودان المركزية. وعندما كانت البلاد في ذلك العام تشهد موجة احتجاجات بسبب تراكم الأزمات الاقتصادية، صدر البيان الأول من تجمع المهنيين الذي أعلن فيه شروع قطاعات المهنيين في ترتيب صفوفهم لخلق أكبر جبهة ممكنة لإسقاط النظام.

وبعد عامين من العمل غير المعلن والتنظيم الداخلي، صدر ميثاق تجمع المهنيين في يوليو 2018م يحمل توقيعات 8 أجسام مهنية، ضمت الأجسام الثلاثة السابقة، بالإضافة إلى لجنة المعلمين، ورابطة الأطباء البيطريين الديموقراطيين، وتجمع أساتذة الجامعات، ونقابة أطباء السودان الشرعية.

تطرق الميثاق إلى ضرورة العمل على محاربة حالة التردي التي أصابت النقابات في ظل النظام المخلوع، والتي تسببت في سلب حقوق المهنيين، وضياع مكتسباتهم التاريخية، فوضع استرداد استقلالية العمل النقابي من ضمن أهداف تكوين التجمع الأساسية، بالإضافة للتفاعل مع القضايا العامة التي تهم جموع الشعب السوداني. وعن ذلك، يعود كمال عمر ويقول “التقت هذه الأجسام حول الحاجة للدفاع عن قضاياها الفئوية، عن طريق تنظيم القواعد المهنية النقابية، حيث أن هنالك إرث نقابي زاخر بنجاح تجارب كيانات نقابية مشابهة، والتي – بالإضافة إلى قضاياها الفئوية – ساهمت في إسقاط الأنظمة الديكتاتورية”.

الحد الأدنى للأجور

كانت البلاد تعاني من ضائقة اقتصادية أحكمت خناقها على المواطن، عندما بادر تجمع المهنيين في نوفمبر 2018م بعقد مؤتمر صحافي استعرض فيه دراسة أعدها عن وضع الأجور في السودان، أوضح فيها عدم واقعيتها أمام التضخم الذي تجاوز الـ 68% في ذلك العام، وأفضت دراسة التجمع؛ إلى أن الأجور – في حدها الأدنى الذي يلبي الاحتياجات الأساسية – يجب ألا تقل عن (8864) جنيه سوداني.

من البرلمان إلى القصر

أثناء تحركات المهنيين في قضية الأجور، تفجرت احتجاجات في عدد من ولايات السودان خلال الأسبوع الأول من ديسمبر 2018م، بعدما ضاق المواطنون ذرعاً من الغلاء وتواتر أزمات: الوقود والخبز، والسيولة النقدية والتي لم يستطيعوا معها حتى الحصول على أرصدتهم بالبنوك لمجابهتها. لم يمض وقت طويل حتى انتقل الهتاف في الشارع من الاحتجاج على سوء الأوضاع المعيشية، إلى المطالبة برحيل النظام، فانعكست هذه النقلة أيضاً على خطاب التجمع الذي أصدر بياناً في 23 ديسمبر أعلن فيه تغيير دعوته من المطالبة برفع الحد الأدنى للأجور إلى دعوة جموع السودانيين والسودانيات للتجمع بوسط الخرطوم في 25 ديسمبر، للتوجه نحو القصر الجمهوري للمطالبة بتنحي رأس النظام المخلوع عن السلطة، وذلك “استجابة لرغبة الشعب السوداني وحقناً لدمائنا جميعاً، على أن تتشكل حكومة انتقالية ذات كفاءات بمهام محددة، ذات صبغة توافقية بين جميع أطياف المجتمع السوداني”،  كما جاء في البيان.

في صباح ذلك الثلاثاء، ملأت القوات الأمنية شوارع وسط الخرطوم لتحول دون وصول المتظاهرين إلى نقطة التجمع في ميدان أبو جنزير. ومع ذلك، انطلقت التظاهرات من نقاط عديدة في الشوارع المحيطة بشارع القصر، واستمرت مطاردات القوات الأمنية للمتظاهرين حتى الساعات الأخيرة من نهار ذلك اليوم، الذي سجلت اللجان الطبية فيه أعداداً كبيرة من الإصابات بالرصاص الحي والهراوات والغاز المسيل للدموع.

وفي اليوم التالي، أصدر التجمع دعوة جديدة لمواصلة التظاهر اليومي إلى حين إسقاط النظام، كما أعلن الصحفيون والأطباء إضرابهم عن العمل عبر أجسامهم المنضوية داخل التجمع. ولم ينقطع تنسيق التجمع للتظاهرات، حيث دعا التجمع  لموكب في 31 ديسمبر 2018م حدد وجهته صوب القصر مرةً أخرى.

وبالرغم من حملات الاعتقال الكثيفة و الممنهجة للناشطين السياسيين وأعضاء تجمع المهنيين التي بدأت في ديسمبر 2018م، إلا أن النظام المخلوع، فشل في السيطرة على ما أسماه بعض قيادات النظام المخلوع في تصريحاتهم آنذاك بـ “شبح المهنيين” الذي اجتاحت بياناته وسائل التواصل الاجتماعي، وكان المتحدثون باسمه يظهرون على القنوات الإخبارية العالمية من داخل وخارج السودان، حيث نجح التجمع في التكيف مع موقعه من الأحداث بالشكل الذي أحبط كل محاولات النظام في إجهاض نشاطه.

إعلان قوى الحرية والتغيير

"نحييكم بالاستقلال المجيد، نحييكم ونحن جميعاً كشعب سوداني نعمل على تحقيق استقلال جديد من مستعمر جديد يسمى نظام المؤتمر الوطني".

John Doe

بهذه الكلمات، افتتح عضو سكرتارية تجمع المهنيين، محمد ناجي الأصم حديثه عبر بث مباشر على صفحة تجمع المهنيين في الأول من يناير 2019م ليعرف بإعلان الحرية والتغيير. وبعد أن أكد الإعلان في بنده الأول على استمرارية جميع أشكال النضال السلمي حتى رحيل النظام، تناول مهام الفترة الانتقالية، التي حددها بأربعة أعوام، وتضمنت وقف الحرب، ومعالجة التدهور الاقتصادي، وعمل ترتيبات متممة لاتفاق سلام شامل، وإعادة هيكلة الخدمة المدنية والعسكرية، وإلغاء القوانين المقّيدة للحريات، وضمت قائمة الموقعين على إعلان الحرية والتغيير عند صدوره تجمع المهنيين السودانيين، وقوى الإجماع الوطني، وقوى نداء السودان، والتجمع الاتحادي المعارض. 

في وقت تواصل الزخم الثوري في ولايات البلاد المختلفة، وفقاً للجداول التي يصدرها التجمع حيث كانت محل ترقب أسبوعياً، وذلك بالتوازي مع انضمام قطاعات مهنية إلى تجمع المهنيين وتوقيع قوى سياسية وقوى مجتمع مدني على إعلان الحرية والتغيير، حتى بلغ الحراك أوجه في 6 أبريل 2019م، عندما فشلت جميع محاولات القوات الأمنية، في منع وصول مئات آلاف المتظاهرين إلى مقر القيادة العامة للجيش بالخرطوم.

حيث بدأوا اعتصاماً شهدوا خلاله إطاحة البشير في  11 أبريل، واستمر من يومها وحتى 3 يونيو، عندما فضته قوات المجلس العسكري المحلول الذي استولى على السلطة،  في أعقاب عزل البشير، بالقوة، الأمر الذي أسفر عن مقتل أكثر من 130 شخصاً وإصابة المئات وفقدان العشرات، بالإضافة إلى حالات اغتصاب وثقتها عدد من المنظمات الحقوقية المحلية والدولية.

 لم تكن تجربة تجمع المهنيين في قيادة العملية السياسية، ومبادرته بميثاق إعلان الحرية والتغيير مستحدثة تماماً. فبالرغم من وجود اختلافات سياقية بين التجارب المختلفة، إلا أن القطاعات المهنية والعمالية في السودان درجت على إنشاء تحالفات بين القطاعات المختلفة ومع القوى السياسية.

ولعبت هذه التحالفات، أدواراً محورية في الحراك السياسي والمطلبي على مر التاريخ، مثل الاتحاد العام لنقابات السودان، الذي نشط في مناهضة الاستعمار، و جبهة الهيئات التي أنتجتها ثورة أكتوبر 1964م، والتي كانت بدايتها من أساتذة جامعة الخرطوم ونقابة المحامين عقب استشهاد الطالب أحمد القرشي طه، والتجمع النقابي الذي كان المنظم الرئيس للإضراب السياسي ودعا لتظاهرات الشعب باتجاه القصر حتى سقوط نظام جعفر نميري في انتفاضة مارس/أبريل 1985م.

تصاعد الخلافات

بالرغم من انخراط تجمع المهنيين في تحالف أوسع مع أحزاب سياسية وقوى مدنية ومسلحة، إلا أنه ظل الجسم الذي التف حوله السودانيون وعلقوا آمالهم عليه، الأمر الذي لم يدم طويلاً، عقب نجاح الثورة في الإطاحة بالنظام المخلوع، حيث ظهرت للسطح خلافات داخل التجمع، أدت إلى انشقاق عدد من الأجسام بعد انتخاب هياكل جديدة له في 10 يوليو 2020م. 

تلك الخلافات التي ضربت التجمع، وصفها المحلل السياسي، بكري الجاك، بالمتوقعة؛ حيث رأى أنه بالرغم من أن دور تجمع المهنيين القيادي قبل سقوط النظام كان ضرورياً، بسبب تشوه الحياة السياسية وتخريب سمعة أحزاب المعارضة في فترة الإنقاذ، إلا أن وجود التجمع في العملية السياسية انتفت مبرراته بعد سقوط النظام، وبقائه داخل العملية السياسية كان لا بد أن يضر بأي انتقال وأي ممارسة ديمقراطية على المدى الطويل.

وقال الجاك في إفادته لـ(بيم ريبورتس): “من الضروري أن تلعب منظمات المجتمع المدني أدوارها وفقا لموقعها. الحزب هو من عليه أن يعمل على تطوير برامج سياسية يدعو الجماهير إلى الاصطفاف خلفها للوصول للسلطة، أما النقابة واتحادات أصحاب العمل وغيرها فعليها أن تعرف مصالح المجموعات التي تمثلها” 

و بشأن الخلافات حول مجريات انتخابات هياكل التجمع، أضاف الجاك “من المثير للسخرية أن يحدث خلاف حول انتخاب هياكل قيادية لأجسام هي في الأصل غير منتخبة”، موضحاً أن عملية الانتخاب في هذا السياق، تعكس ما وصفه بالتناقض البنيوي، مشيراً إلى أن ما حدث، ليس إلا صراع سياسي تمظهر داخل هذه الأجسام.

والآن والبلاد تشهد مجهودات في تصحيح مسار العمل النقابي واستعادة ما اقتلع منها في ظل النظام المخلوع، يظل تجمع المهنيين ـ بشقيه المتنازعين – بعيداً عن هذا المشهد، وتستدعي محورية المجتمع المدني الفاعل في صناعة أي تجربة ديمقراطية الوقوف على تجربة تجمع المهنيين والنقد الجاد في ما نجحت فيه، وما أثارته إخفاقاتها.

فجرها طلاب المدارس.. كيف انطلقت شرارة ثورة ديسمبر من الولايات إلى الخرطوم؟

تخلقت الثورة في مدينة مايرنو على مر السنوات الأخيرة، وكانت كبركان محموم، أوقده الحراك الطلابي المستمر والتنظيمات العمالية والسياسية، غير أن “لحظة” 6 ديسمبر 2018م، التي شقّت فيها هتافات تلاميذ مرحلة الأساس عنان السماء، عندما خرجوا في تظاهرات حاشدة، مثلت انفجار ذلك البركان في وجه النظام المخلوع، وانجرف إلى كل أرجاء البلاد.

 

 كانت تظاهرة من أجل الحياة؛ حيث ردد الطلاب والشباب والذين سرعان ما انضم إليهم المواطنون، هتافات تندد بالوضع المعيشي والغلاء، لكن قوات الشرطة لم تدخر وقتاً؛ حيث هاجمت التظاهرات باستخدام العنف المفرط، واستبسل المتظاهرون في صده. 

 

يسترجع عضو لجنة مقاومة مايرنو، رعد شهاب، تلك اللحظات المفصلية في تاريخ البلاد، قائلاً: إن احتجاجات طلاب ومواطني مايرنو في ذلك اليوم خلقت صدمة لدى إدارتها الأهلية الموالية للنظام وحكومة الولاية لاعتقادهم أنها تحت سيطرة النظام. 

ويضيف شهاب لـ(بيم ريبورتس): “دخلنا في مواجهة مفتوحة مع الشرطة وقدنا الموكب لمنطقة نائية غرب المدينة بعيداً عن المباني السكنية والأراضي الزراعية. لكن الشرطة لاحقتنا بالغاز المسيل للدموع إلى الأحياء مرة أخرى، حيث ألقته في المنازل ومسجد “السلطان” الشهير، ويضيف: كما شهد الموكب محاولات دهس، واعتقل مواطن وضرب بسبب تصويره للتظاهرات. ويواصل رعد عن المعتقل: “كان المواطن من أنصار النظام قبل أن يخلع ثوبه وينضم إلى صفوف المتظاهرين والناشطين في المدينة بعد حادثة الاعتقال”.

 

ربما انتبه الناس لمايرنو مع ثورة ديسمبر، إلا أن للمدينة تاريخاً ممتداً في مقاومة نظام الإنقاذ، في السنوات الأخيرة. على سبيل المثال، شهدت المدينة في العام 2010م حراكاً مهماً رافضاً لتزوير الانتخابات الرئاسية، الذي توج بتكوين حركة مقاومة باسم “عدنا” وهي بدأت كجسم صغير ومن ثم توسع إلى “شباب مايرنو الثوري التقدمي” حيث ضمت شباباً ثورياً من المنطقة، والذي قاد تظاهرات مناهضة للوالي حينها، أحمد عباس في العام 2012م. واستخدم النظام الرصاص الحي في فض تظاهرة نظمتها الحركة.

النيل الأزرق

سرعان ما انتقلت شرارة الثورة من مايرنو إلى مدينة الدمازين (إقليم النيل الأزرق) في  13 ديسمبر 2018، وخرج طلاب المدرسة الفنية الثانوية بالدمازين احتجاجاً على انعدام الخبز، ولاحقاً انتقلت حالة الغضب إلى ثانويات البنات في رفيدة التجارية وذات النطاقين وبنت وهب، ومدارس القطاع الجنوبي، وأدى تعامل السلطات العنيف مع الطلاب إلى انخراط أهالي المدينة في الحركة الاحتجاجية حتى أصدرت لجنة أمن الولاية قراراً بإغلاق المدارس.

 

“سبقت أحداث 13 ديسمبر حالة من الضغط المعيشي نتيجة التدهور الاقتصادي العام، بالإضافة إلى حراك المعدنيين في منطقة بلقوة بمحلية ود الماحي بسبب فرض الحكومة وقتها نسبة ربح 10% على كل جوال ذهب”، يقول عضو لجان مقاومة الدمازين، معاذ عيسى لـ(بيم ريبورتس).

ويضيف “رفض العمال الزيادة، خاصة وأن توقيتها جاء في نهاية العام، بالإضافة إلى مطالبتهم الشركة السودانية للمعادن بمنشور رسمي للزيادة، وتعبيراً عن احتجاجهم قام المعدنيون بحرق آليات تتبع للشركة السودانية للمعادن”. 

 

لم يقف الحراك في النيل الأزرق يوم 13 ديسمبر، ولكنه شهد تصعيداً في أماكن عدة داخل الإقليم في الأيام التالية، خاصة وسط الحركة الطلابية التي كانت جزءاً أصيلاً منه، حيث رفع طلاب كلية الهندسة بجامعة الروصيرص لافتات تحمل مطالب سياسية واضحة يومي 14 و 15 ديسمبر2018؛ ويوضح عيسى “توج حراك طلاب المدارس والجامعات بإنضمام المواطنين للحراك على مدى الثلاث أيام اللاحقة، وتراجع الحراك في الدمازين في 18 ديسمبر بعد قمع الشرطة العسكرية المفرط للمحتجين وإغلاق المدارس”. 

 

 

كان هذا الوضع في النيل الأزرق، يعبر عن أوضاع ولايات البلاد الـ18، فانتقلت شرارة التظاهرات غرباً، حيث خرج طلاب المدارس بمدينة الفاشر بولاية شمال دارفور، في موكب احتجاجي يوم 16 ديسمبر تنديداً بفرض تسعيرة تجارية لشراء الخبز رفعت قيمته بنسبة 300%، واستخدمت الشرطة الهراوات وعبوات الغاز المسيل للدموع لتفريق الطلاب وجرى إغلاق سوق المدينة الرئيسي للحد من حركة الاحتجاجات.

 

وفي صبيحة 17 ديسمبر تسببت عبوات غاز مسيل للدموع أطلقتها الشرطة لفض اعتصام محدود لطالبات داخلية الزهراء في مدن تابعة لولاية الجزيرة احتجاجاً على انعدام الخبز، في حالات اختناق في أوساط الطالبات. وفي الولاية نفسها تظاهر أهالي قرية فداسي ليل 18 ديسمبر احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتردية.

نهر النيل

“توقفت سيارتي بمحطة الوقود لما يقارب الأسبوعين لكي أحصل على البنزين”. هكذا بدأ الشيخ محمد علي (32 عاماً) حديثه لـ(بيم ريبورتس) عن الأوضاع بمدينة عطبرة (ولاية نهر النيل) في الأسابيع التي سبقت اندلاع الثورة، وقال إن المدينة في تلك الفترة كانت تمر بـ”أزمة طاحنة في الوقود والدقيق”.

 

تحدّث الشيخ عن انعدام الدقيق تماماً بمخابز عطبرة منذ التاسع من ديسمبر، “احتدّت حالة الغضب بين المواطنين بسبب توقف عمل المخابز، وتزامن ذلك مع تداول معلومات بين المواطنين بأن حصّة ولاية نهر النيل من الدقيق أرسلت إلى الخرطوم لتغطية العجز هناك”، كما ذكر أن مجهودات الحكومة الولائية كانت منصبّة في تغطية حاجة الوجبة المدرسية للطلاب، إلى أن عجزت عن ذلك.

 

وفي صباح الأربعاء، 19 ديسمبر 2018م، خرجت تظاهرة طلّاب مدرسة عطبرة الصناعية، بعدما أخبرهم المدير بعجزه في توفير حصّة الخبز للمدرسة، وانضم للتظاهرة المتجهة نحو سوق عطبرة أعداد كبيرة من مختلف فئات المواطنين، وأصحاب المحال التجارية، وبعض كوادر الأحزاب السياسية. 

وفي عصر اليوم نفسه، ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بصور تُظهر دار المؤتمر الوطني مشتعلاً بالنيران، حيث أضرم متظاهرون النيران في المبنى عند وصولهم إليه بعدما أغلقوا الشوارع المحيطة به.

 

تجددت التظاهرات في اليوم التالي (الخميس 20 ديسمبر) بالرغم من إعلان الحكومة حالة الطوارىء وإغلاقها سوق المدينة. حاول متظاهرون عبور الجسر الواصل بين عطبرة والدامر للوصول إلى أمانة حكومة ولاية نهر النيل بالدامر، إلّا أن قوات الجيش حالت دون ذلك.

 

ومع خروج طلاب عطبرة شمالي البلاد في 18 و 19 ديسمبر للسبب نفسه أخذت الثورة زخمها فسرعان ما انخرط أهالي المدينة النقابية العريقة في الحراك، إذ رفعت عطبرة لأول مرة شعارات سياسية تنادي برحيل النظام، هذا غير هتافات “شرقت شرقت عطبرة مرقت التي حثت بقية المدن للخروج، ومن ثم جاءت لحظة إحراق دار المؤتمر الوطني لتشكل منظرا رمزيا لسقوط النظام سياسياً.

 

 وفي الـ20 من ديسمبر فضت الشرطة تظاهرة لطلاب جامعة الخرطوم فقد فيها 2 من الطلاب المشاركين أطرافهم جراء محاولتهم إعادة عبوات الغاز المسيل للدموع، فيما تواصلت احتجاجات عطبرة في تحدٍ لحالة الطوارئ التي أعلنها الوالي المكلف حاتم الوسيلة وامتدت لتشمل بقية مدن الولاية مثل الدامر والعبيدية وبربر فقدمت الأخيرة أول شهداء الثورة “محمد عيسى ماكور”. ومن ثم دخلت ولاية القضارف في مواجهات عنيفة مع الشرطة انتهت بسقوط 8 ضحايا، وانضمت مدينة بورتسودان إلى خط الاحتجاجات، بينما أضرم مواطنو كريمة في الولاية الشمالية النيران في مقر الحزب بعد تظاهرات بها مما أدى لسقوط قتيلين، وفي ولاية شمال كردفان، فيما أحرق محتجون في 21 ديسمبر مقر الحزب الحاكم في مدينة الرهد بعد تظاهرات حاشدة.

 

ومنذ انطلاق الثورة في 6 ديسمبر 2018م في مايرنو وتوسعها لمدن وقرى السودان المختلفة؛ شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً؛ إلى الدمازين والفاشر وعطبرة حيث اشتعلت النيران في مقر الحزب الحاكم، ها هي أربعة أعوامٍ تمضي وما يزال حراك الشارع الذي توج بالإطاحة بنظام الرئيس المخلوع، والذي ظن كثيرون انه سينتهي بسقوط عمر البشير، في 11 أبريل 2019م مستمرا،في سعيه الحثيث والدائم لإنهاء الحكم العسكري في السودان، إذ أن الحراك لم يقف هناك،ويواصل مدّه  اليوم في مقاومة انقلاب 25 أكتوبر، ولا يزال كثيرون يعبرون عن عدم تراجعهم عن مطالب الثورة حتى لو تطلب الأمر عقوداً من الزمان لتحقيقها.

أربعة أعوام من الثورة.. هل يجيب الاتفاق الثالث مع الجيش على قضايا التحول الديمقراطي؟

صباح الاثنين، عاودت خطى قادة قوى الحرية والتغيير، السير في ردهات القصر الرئاسي بالعاصمة السودانية الخرطوم للمرة الأولى، منذ أن أطاح قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان بالحكومة الانتقالية، عبر انقلاب عسكري نفذه في 25 أكتوبر 2021. 

توقيع الاتفاق السياسي الإطاري، والذي سبقته جولات تفاوضية معلنة وغير معلنة بين الطرفين، هو ما جمع قادة الحرية والتغيير والجيش، بجانب الجبهة الثورية ومجموعات حزبية وكيانات نقابية أخرى، على صعيد القصر الرئاسي، صباحها.


وبحسب بنوده، فإن الاتفاق الإطاري الذي تم توقيعه، وسط حضور إقليمي ودولي واسعين، من المفترض أن يؤدي إلى تكوين حكومة انتقالية بقيادة مدنية كاملة تتمتع بصلاحيات واسعة، من بينها إدارة الشرطة والمخابرات العامة، عقب توقيع اتفاق نهائي في الأسابيع المقبلة.

ومع ذلك، لم يدخل الاتفاق الإطاري في تفاصيل موضوعات تركت للنقاش حتى التوقيع النهائي الذي سيجري التفاوض حوله خلال الأسبوعين المقبلين، وهي: (العدالة والعدالة الانتقالية، وتفاصيل الإصلاح الأمني والعسكري، وقضية إزالة تمكين النظام السابق، وإمكانية إجراء تعديلات على اتفاق سلام جوبا)

خطابات متباينة

صاحب اتفاق قادة الحرية والتغيير والعسكريين، بعد أكثر من عام على الانقلاب، ردود فعل متباينة من كل من البرهان وحميدتي، خلال كلمتيهما بمناسبة توقيع الاتفاق. فبينما قال البرهان إنهم يسعون إلى تحويل الجيش إلى مؤسسة دستورية تخضع للدستور ومنع تسيسه أو تحيزه إلى جماعة أو أيدلوجية، واعترافه بالقيادة السياسية. وأضاف قائلاً: “نحن بصدد وضع اللبنات لهذا النظام. ووضع هذه الغايات نصب أعيننا، يستوجب من السلطة المدنية عدم التدخل في الشؤون الفنية العسكرية لإنفاذ غايات الأمن القومي”. 

 

فإن حميدتي أقر، في كلمته، بأن ما حدث في 25 أكتوبر 2021م، كان خطأ سياسياً، وقال إنه فتح الباب لعودة قوى الثورة المضادة حسب تعبيره. مضيفاً أن بناء جيش قومي، مهني، ومستقل عن السياسة، يتطلب إجراء إصلاحات عميقة في المؤسسة العسكرية تؤدي إلى جيش واحد، يعكس تنوع السودان، ويحمي النظام الديمقراطي.

 

بالمقابل، أشار ممثلون لقوى الحرية والتغيير في كلماتهم أثناء الاحتفال، بأن الاتفاق غايته توحيد الشعب وبناء دولة الحكم المدني.

وقال القيادي بالحرية والتغيير، الواثق البرير، إن التوقيع يأتي في إطار إنهاء ظواهر الحكم الشمولي للأبد وتأسيس مسار انتقالي جديد أكثر فاعلية يقود البلاد لانتخابات تحقق السلام المستدام. 

 

ومع ذلك، تُثار أسئلة وسط السودانيين، حول جدوى الاتفاق الثالث بين المدنيين والعسكر منذ إطاحة نظام الرئيس المخلوع، عمر البشير في أبريل 2019م. بالإضافة إلى تساؤلات أخرى متعلقة بضمانات وآليات تنفيذ الاتفاق، خاصة أنه سكت عن مصير البرهان وحميدتي وبقية أعضاء السلطة العسكرية الحاكمة الذين يطالب المحتجون بمحاكمتهم وإبعادهم من المشهد السياسي.

 

وفي خضم هذه المخاوف التي يطرحها السودانيون، تطل أسئلة أخرى حول قدرة الاتفاق على إنهاء الانقلاب واستعادة مسار التحول المدني الديمقراطي، وهو الأمر الذي يعتقد محللون أنه قد يتحقق وإن كان وفق سياقات محددة.  

 

 يقول المحلل السياسي، بكري الجاك، لـ(بيم ريبورتس)، إن الاتفاق الإطاري، حسم النقاش في بعض القضايا من حيث المبدأ، غير أنه شدد على أن ذلك لا يعني اتفاق الطرفين. ويشير الجاك، إلى أن الحرية والتغيير، عبر الاتفاق الإطاري، اتجهت في مسار تحقيق رؤيتها لإنهاء الانقلاب، لكنه أكد أن إنهاء الانقلاب لن يتحقق إلا بعد التوقيع النهائي وتنفيذ بنود الاتفاق، خاصة تلك المتعلقة بخروج المؤسسة العسكرية من السياسة والاقتصاد، وتحويل السلطة لحكومة مدنية كاملة برئاسة رئيس وزراء ومجلس سيادة يرأسه مدني.

 

 وحول موقف المؤسسة العسكرية المحتمل بعيداً عن البرهان، يعتقد الجاك أنه من الصعب أن يكون للجيش رؤية مستقلة من الاتفاق الذي وقعه قائده العام، مضيفاً “يجب أن نتعامل مع المؤسسة العسكرية من منظور اقتصاد سياسي، ونقيم موقفها من تطبيق الاتفاق وتأثيره على مصالحها واستثماراتها”.

 

ويرى المتحدث الرسمي بقوى الحرية والتغيير المجلس المركزي، شهاب الدين إبراهيم، في إفادته لـ(بيم ريبورتس) أن الاتفاق حدد الإطار العام للقضايا التي يمكن أن تستجيب لرغبات السودانيات والسودانيين في تحقيق شروط التحول المدني الديمقراطي، وأن الاتفاق منسجم مع الرؤية التي تقدمت بها قوى الحرية والتغيير وهي مرجعية للاتفاق الاطاري أيضاً.

ويضيف إبراهيم، أن الضمان لتنفيذ الاتفاق والالتزام به يتمثل في ” وجود جبهة مدنية تضغط في اتجاه التوصل لاتفاق نهائي”.

مواقف رافضة

وفي لحظة توقيع الاتفاق نهار أمس الاثنين، كانت شوارع الخرطوم تضج بهتافات آلاف المتظاهرين الذين قاوموا انقلاب 25 أكتوبر منذ يومه الأول، ورفعت شعارات رافضة للاتفاق الإطاري خلال المواكب، ومتمسكة بشعار أن “لا تفاوض، لا شراكة، لا شرعية”. وليس الشارع ولجان المقاومة هما الرافضان الوحيدان للاتفاق من قوى الثورة، بل هناك كيانات وأجسام سياسية ونقابية أخرى رافضة. 

 

فالحزب الشيوعي، اعتبر الاتفاق مواصلة لما وصفها بؤامرات القوى المعادية لقطع الطريق على الثورة، وإنتاج النظام المباد في واجهة جديدة. وفي هذا السياق، يقول  السكرتير الإعلامي للحزب الشيوعي بالعاصمة القومية الخرطوم، عبد الخالق بابكر، في إفادته لـ(بيم ريبورتس): “الاتفاق لن يصمد طويلاً، وسينهار إما  بالانقسامات الداخلية للتنظيمات المكونة له، أو بحدوث انقلاب جديد ناتج من كون  تركيبته لا تقوم على مصالح حقيقية أساسية  تعبر عن الجماهير التي  تحمي السلطة، بل تقوم على مصالح مؤقتة وثانوية تفتقر لمن يحميها”. 

 

وفي السياق نفسه، يعتقد مسؤولون رفيعون بالحكومة الانتقالية السابقة، أن الاتفاق الإطاري لا يمثل مدخلاً لحل الأزمة السياسية التي تسبب فيها انقلاب 25 أكتوبر. حيث يرى عضو مجلس السيادة السابق، صديق تاور، أن الانقلاب ما زال قائماً ومتمكناً تحت سلطة قائد الجيش عبد الفتاح البرهان. وقال تاور في تصريح لـ(بيم ريبورتس)، إن الاتفاق الإطاري، هو مجرد عموميات لا يمكن الاعتماد عليها في تحقيق مطالب الشعب السوداني ولن يفضي للسلطة المدنية التي يحلمون بها. 

 

ويعتقد تاور، أن فرص نجاح الاتفاق تبدو ضئيلة جدًا بل تكاد تكون منعدمة، وقال “العبرة ليست في المضمون وحده وإنما فى الإرادة الصادقة لتحقيق ذلك، وهذا ما لا يتوافر في طرف أساسى من أطراف هذا الاتفاق، وأقصد به المكون العسكري”. 

“بموجب هذا الاتفاق ليس هناك ما يشير لرجوع عن الانقلاب، فالانقلاب لا يزال قائمًا ومتمكنًا وكل السلطات والقرارات في الدولة بيد فرد واحد أحد اسمه عبد الفتاح البرهان، بلا شرعية و بلا مرجعيات مؤسسية”، يقول تاور.

 

ويضيف قائلاً “بهذه الخطوة الحرية والتغيير شرعنت الانقلاب وحققت له حلم ظل يحلم به منذ يومه الأول، و منحته صك براءة من صفة الانقلاب دون أن تضمن أي شيء، أو دون أن تؤمن الخطوة الضرورية لجعل ميزان القوى لصالح قوى الثورة، مجرد وعود لا يوجد ضمان لانتكاستها في أي وقت”.

“لا ضمانات ولا التزامات جادة أو واضحة ولا أي شيء، مجرد وعود في الهواء، هذا ما لم يجب عليه رفاقنا في الحرية والتغيير”، يتساءل عضو مجلس السيادة السابق، صديق تاور عن الاتفاق الإطاري الموقع مع الجيش.

مواقف أطراف السلام

بالنسبة لمواقف الحركات الموقعة على اتفاق سلام جوبا، من الاتفاق الإطاري، فقد جاءت متباينة، إذ وقعت كلا من الحركة الشعبية لتحرير السودان (فصيل مالك عقار) وتجمع قوى تحرير السودان (قيادة الطاهر حجر) وحركة جيش تحرير السودان المجلس الانتقالي (الهادي إدريس) على الاتفاق الإطاري، بينما أعلنت حركة جيش تحرير السودان (مني أركو مناوي) والعدل والمساواة (جبريل إبراهيم) رفضهما التوقيع. 

 

بينما أشاد حجر وإدريس بالاتفاق الإطاري، وصف جبريل ومناوي الاتفاق “بالإقصائي” حيث يرى جبريل، أن الاتفاق لا يفضي لانتخابات حرة ونزيهة، ويشير مناوي متفقا مع الأول في رفضه، أن الاتفاق فُرض من الخارج على المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير والمكون العسكري.

 

ومع ذلك يقول مصدر بحركة جيش تحرير السودان لـ(بيم ريبورتس)، إنه يجب على الحركة أن تنظر للقضية من باب الوعي بقضاياها، بجانب الحاجة الملحة لتنفيذ اتفاق السلام.

أبرز بنود الاتفاق

تكون الاتفاق من 5 بنود رئيسية هي: المبادئ العامة، وقضايا ومهام الانتقال، وهياكل السلطة الانتقالية، والأجهزة النظامية، وقضايا الاتفاق النهائي. وحدد الاتفاق الفترة الانتقالية بعامين منذ لحظة تعيين رئيس الوزراء، على أن تجرى بنهاية الفترة الانتقالية انتخابات عامة في البلاد. 

وأكد الاتفاق أيضاً، على احترام إرادة الشعب في حكومة مدنية، إضافة إلى العمل على وقف التدهور الاقتصادي وفق “منهج تنموي شامل يراعي الفقراء والمهمشين”.

 

وفيما يخص المؤسسة العسكرية؛ فإن الاتفاق نص على دمج قوات الدعم السريع في الجيش خلال جداول زمنية محددة، وحظر تكوين المليشيات والمجموعات الخارجة على القانون، وأن تخضع جميع الشركات العسكرية لرئيس الوزراء وولاية وزارة المالية، إلى جانب تنفيذ السياسات المتعلقة بإصلاح المنظومة العسكرية.

 

ونص الاتفاق أيضاً على استقلالية ومهنية مؤسسات الدولة، مثل القضاء والتعليم والقوات النظامية والتخصصية والخدمة المدنية، إضافة إلى مكافحة الفساد وإرساء مبادئ الشفافية والمحاسبة.

وجاء فيه أن “يحدد الدستور مهام المجلس التشريعي القومي، وعدد مقاعده ونسب ومعايير الاختيار، بما يضمن مشاركة النساء بنسبة 40%، إضافة إلى الشباب ولجان المقاومة وذوي الإعاقة”.

 

ويندرج داخل الاتفاق وجود مجلس عدلي مؤقت من 11 عضواً، يتم تعيينه من قبل رئيس الوزراء بترشيح من الأطراف المدنية الموقعة على الاتفاق، لاختيار رئيس القضاء ونوابه، والنائب العام ومساعديه، ورئيس وأعضاء المحكمة الدستورية، ويتم حله بانتهاء مهمته. وشدد الاتفاق على أن لا تكون هناك سلطة اعتقال أو احتجاز لجهاز المخابرات، وأن يتبع لرئيس الوزراء مباشرة، كما يحظر على قوات الشرطة ممارسة أي أعمال تجارية أو استثمارية وأن تقتصر مهمتها على إنفاذ القانون وحماية المدنيين. 

 

 

منذ ظهيرة سقوط رأس النظام البائد، عمر البشير، في 11 أبريل 2019م  والشعب السوداني يتطلع إلى ديمقراطية مستدامة، بعد تاريخ حافل بالانقلابات والحكومات العسكرية. وخلال مسار الثورة التي أوشكت على الأربع سنوات، فإن البلاد شهدت توقيع ثلاثة اتفاقات لإدارة الفترة الانتقالية، وثيقة دستورية، واتفاق إطاري آخر بين رئيس وزراء السابق عبد الله حمدوك و قائد الجيش بعد انقلابه في 25 أكتوبر 2021م.

 

وبعد مرور أكثر من عام على انقلاب 25 أكتوبر، وفشل وتخبط حكومة الأمر الواقع، ها هي تعود لتجلس على طاولة التفاوض من جديد، في عملية سياسية ذات شقين أولها الاتفاق الإطاري، آملة على حد اتفاقها أن تشمل العملية في شقها الأخير مشاركة أوسع لتطوير الاتفاق الاطاري الحالي، الذي وجد من يومه الأول رفضاً واسعاً من قوى سياسية ومدنية وما زال الجدل يثار حول شرعيته من الأساس.

كيف شاركت النساء في ثورات السودان السلمية؟

تتسابق وسائل الإعلام المحلية والدولية في الظفر بتوثيق مواقف البسالة والإقدام للنساء السودانيات في الخطوط الأمامية للتظاهرات والاحتجاجات والمقاومة المنظمة والتعبئة، والتي تعكسها تلك الوسائل كظاهرة بارزة في خضم المقاومة الشعبية التي انتظمت السودان منذ أواخر العام 2018م وحتى سقوط نظام البشير في أبريل 2019م.

إزاء هذا التسابق الإعلامي في عكس وتوثيق مشاركة النساء السودانيات في طليعة المقاومة الثورية، وتقديمه كـ(ظاهرة) بارزة في بلد عانى من الحكم الشمولي، وفي ظل تصاعد الاهتمام العالمي بقضايا النساء، غاب عن أذهان البعض، أن ظهور النساء في طليعة المقاومة هو نتاج طبيعي لتاريخ الحركة النسائية في السودان وتأثيرها العميق والجذري في المجتمع، الذي ساندت طليعته قضية المرأة منذ وقت مبكر، في الإضراب الذي قادته الطالبة – وقتها – فاطمة أحمد إبراهيم، في العام 1949م، ولاقى اهتمام الرأي العام حينها.

 
تظاهرات في الخرطوم - ابريل 2019 - تصوير: علاء خير
نظرة في تاريخ الحركة النسائية السودانية

ما قبل الاستقلال:

شاركت النساء السودانيات منذ أزمان موغلة في القِدم، بكافة أشكال مقاومة الاستبداد، ودونت كتب التاريخ القديم سِيَر الكنداكات السودانيات. وفي التاريخ الحديث كان لهن باع طويل في مقاومة الاحتلال الأجنبي، ففي الربع الأول من القرن التاسع عشر، اشتهرت (مهيرة بت عبود) بأشعارها التي حفزت المقاتلين السودانيين لمحاربة الاحتلال التركي-المصري، وتحديداً في معركة كورتي عام 1820م، وبجانب أشعار الحماسة، فقد شاركت مهيرة بنفسها في المعارك مع الجيش الذي تصدى للحملة التركية على السودان.

وفي مطلع القرن العشرين، برز اسم الأميرة مندي بنت السلطان عجبنا، التي قاتلت إلى جانب فرسان جبال النوبة، وساهمت في تنظيم صفوف الجيش في تلك المناطق بعدما أعدمت القوات الغازية والدها السلطان عجبنا، في العام 1917م.

وخلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، شهدت البلاد نشوء حركات التحرر الوطني، وبرز حينها إسم العازة محمد عبدالله، خلال ثورة 1924م، طليعة مقاومة الاحتلال.

وخلال تكوين الاتحادات والتنظيمات كأدوات لمقاومة الاحتلال الأجنبي، برزت وقتها الطبيبة خالدة زاهر التي كانت أول طبيبة سودانية مارست المهنة، وكانت أيضاً ناشطة سياسية مهتمة بقضية المرأة، مما أدى إلى اعتقالها عام 1946م من نظام الحكم البريطاني لمعارضتها الحكم الأجنبي. كانت خالدة أيضا إحدى مؤسسات الاتحاد النسائي السوداني الذي يعتبر أهم التنظيمات النسائية في تاريخ السودان الحديث. 

د. خالدة زاهر

نبعت فكرة الاتحاد، كمحاولة لتكوين نقابة تختص بقضية المرأة، وتوحيد الاتحادات التي كانت قد نشأت من نساء عاملات في بعض المهن، فتكونت أولاً “رابطة النساء الثقافية”، في الفترة بين 1946-1949م لكنها لم تستمر، ثم انعقد أول اجتماع تأسيسي للاتحاد النسائي في يناير 1952م ومن ثم تكونت اللجنة التمهيدية من خالدة زاهر، ونفيسة أحمد إبراهيم، وعزيزة مكي، وحاجة كاشف، وفاطمة أحمد إبراهيم، ونفيسة المليك، وفاطمة طالب. بعض الأسماء الإضافية لهذه اللجنة لم يتم توثيقها في ذلك الوقت، بحسب كتاب (شاهدة على مسيرة الاتحاد النسائي السوداني خلال نصف قرن من الزمان)، للكاتبة فاطمة القدال.

نال الاتحاد اهتماماً واسعاً بسبب عضويته التي تكونت من نساء فاعلات في الحياة العامة والمهنية وتطرقه لقضايا مهمة منذ التأسيس، حيث كانت أبرز القضايا التي تصدى لها الاتحاد في الفترة من 1952 – 1958م هي قضايا التعليم ومحو الأمية، وحق المرأة في العمل كمدخل للمساواة بين الجنسين. وسعى الاتحاد لتحسين أوضاع النساء في المعيشة والأجور، وكان يبث برامجَ توعوية عبر الإذاعة، وقدم مذكرات للمجالس المحلية تطالب بحقوق الطفل وصحة البيئة، واهتم الاتحاد كذلك، بمحاربة العادات والتقاليد الضارة، والتوعية بمخاطر ختان البنات، وسعى لتوعية النساء بهذه القضايا عبر مختلف الوسائل.

وكان لقائدات الاتحاد النسائي أدوار مهمة في لفت انتباه المجتمع لقضية المرأة منذ وقت مبكر، ففي عام 1949م قادت الطالبة -وقتها – فاطمة أحمد إبراهيم أول إضراب يتعلق بقضية المرأة في السودان، عندما كانت تدرس في ثانوية أمدرمان العليا، بعدما قررت مديرة المدرسة البريطانية استبدال جميع العلوم الطبيعية بالعلوم الأسرية بحجة أن السودانيات غير مؤهلات ذهنياً. نجح الإضراب وأثار جدلاً بسبب عدم ممارسة الإضراب وقتها – وتحديدا للنساء – كوسيلة ضغط مما أدى إلى تراجع المديرة عن قرارها.

ما بعد الاستقلال

أفرزت سياسة المناطق المقفولة التي انتهجها الاحتلال الأجنبي للتفريق بين أبناء البلاد، واقعاً متبايناً بين أجزاء الوطن الواحد من ناحية التنمية غير المتوازنة وتطور التعليم، وبالتالي بنية المجتمع المدني والتنظيمات الحديثة. لذلك تركز أغلب التوثيق حول نشاط المرأة السياسي (المنظم) في فترة ما بعد الاستقلال على دور النساء في المناطق الحضرية ومشاركتهن في الثورات السلمية. 

مع إعلان استقلال السودان رسمياً في 1 يناير 1956م، سرعان ما واجهت الأحزاب السودانية تحديات في الاتفاق على صيغة توفيقية حول نظام الحكم والدستور، وفي ظل تفاقم التحديات حول نظام الحكم، استولى الفريق إبراهيم عبود على السلطة عبر انقلاب عسكري في 17 نوفمبر 1958م.

عدم الاتفاق على دستور دائم، بالإضافة لتردي الأحوال الاقتصادية، واشتداد وتيرة الصراعات السياسية بين الأحزاب، كل هذه العوامل اتخذها الجيش حجة للتدخل في العمل السياسي، وإقصاء الأحزاب من الحكم. 

عقب انقلابه، حل نظام عبود العسكري (1958 – 1965م) جميع الأحزاب السياسية ومنع التجمعات والمواكب والتظاهرات فى جميع أنحاء البلاد، كان الاتحاد النسائي من ضمن تلك التنظيمات، لكنه واصل نشاطه بشكل سري عبر مواصلة إصدار مجلة (صوت المرأة)، بالتزامن مع محاولات للعمل العلني رغم قيود السلطة العسكرية.

دور النساء في ثورة أكتوبر 1964م
تشييع الشهيد احمدالقرشي في ثورة اكتوبر 1964م - المصدر: The New York Times
تشييع الشهيد احمد القرشي في ثورة اكتوبر 1964م - المصدر: The New York Times

كان للنساء السودانيات مشاركات لافتة في مناهضة الحكم العسكري الأول، وقد لعب الاتحاد النسائي دوراً بارزاً في ثورة أكتوبر 1964م، فحشد القواعد النسائية للمشاركة في الاحتجاجات التي كانت تتقدمها رئيسة الاتحاد النسائي وقتها، المناضلة البارزة، فاطمة أحمد إبراهيم

عقب انتصار الثورة، وسقوط نظام عبود، واستعادة المسار الدستوري، تحققت للنساء السودانيات الكثير من المكاسب، كان أهمها هو انتزاع حق النساء في التصويت والترشح للانتخابات، فقدمت نساء السودان، في أول انتخابات بعد ثورة أكتوبر، المناضلة فاطمة أحمد إبراهيم كأول برلمانية في السودان والشرق الأوسط. 

ومن مقعدها في البرلمان، واصلت فاطمة نضالاتها في الدفاع عن حقوق المرأة، حيث نالت النساء السودانيات كثير من الحقوق التي كافحن من أجلها، ولكن لم يتحقق البعض الآخر.

بعض الحقوق التي تحققت:

  • حق الدخول في كل مجالات العمل، في حين كان عمل المرأة من قبل محصورا في التعليم والتمريض فقط. وتحقق ذلك، من خلال دخول المرأة السودانية غالبية ميادين العمل باستثناء تلك المجالات التي حرمتها الأمم المتحدة وقتها؛ وهي: القضاء والقضاء الشرعي والسلك الدبلوماسي.
  • الأجر المتساوي والمساواة في العلاوات والمكافآت والبدلات، وفي كل شروط العمل، وفي حق الترقي لأعلى الدرجات الوظيفية، وحق المعاش.
  • عطلة الولادة مدفوعة الأجر – حسب ما نصت عليه منظمة العمل الدولية.
  • إلغاء قانون المشاهرة، الذي يفرض على المرأة العاملة تقديم استقالتها بعد الزواج لتعمل بموجب عقد عمل مؤقت شهراً بشهر.
  • إدخال خريجات الثانوي والمعاهد العليا تحت بند الخدمة المستديمة أسوة بزملائهن.

بعض الحقوق التي لم تتحقق:

  • توفير دور الحضانة ورياض الأطفال لتسهيل مهمة الأم العاملة.
  • توفير الضمانات الاجتماعية لحماية الأسرة في حالة عجز أو موت رب الأسرة.

لكن، في الفترة بين عامي 1966-1969م، عاشت الحكومة الائتلافية حالة من الشقاقات والصراعات، نتج عنها تشكيل العديد من الحكومات، كلها فشلت في الاتفاق على كتابة دستور دائم، أو التعامل مع مشاكل الركود الاقتصادي والانقسامات السياسية والعرقية.

في خضم حمى تلك الصراعات السياسية، وارتفاع وتيرة الحرب الأهلية في جنوب السودان عقب فشل مؤتمر المائدة المستديرة، وطرد نواب الحزب الشيوعي المنتخبين من البرلمان، ومحاولة بعض الأحزاب فرض دستور إسلامي، انقلب الجيش على الحكومة المنتخبة في 25 مايو 1969م، بقيادة جعفر نميري.

فاطمة احمد ابراهيم - المصدر: Middle East Monitor
ما بعد الحكم العسكري الثاني 1969م

حل نظام نميري البرلمان وحظر جميع الأحزاب السياسية مقيماً دولة الحزب الواحد – الاتحاد الاشتراكي السوداني – باعتباره الكيان السياسي القانوني الوحيد في البلاد، وحل الاتحاد النسائي، واستبدله بـ(اتحاد نساء السودان) الجناح النسائي للاتحاد الاشتراكي بقيادة فاطمة عبدالمحمود.

شدد نميري أدوات القمع والحد من حرية النشاط السياسي والاجتماعي، ووضع النقابات تحت سلطته. ومع بداية الثمانينات، ساءت الأحوال السياسية والأمنية والاقتصادية، واندلعت الحرب مرة أخرى فى جنوب السودان عام 1983م بشكل أكثر ضراوة، بعدما ألغى نميري اتفاق أديس أبابا للسلام، وإعلانه قوانين سبتمبر، وحالة الطوارئ، التي اندلعت على إثرها انتفاضة مارس-أبريل 1985م.

دور النساء في انتفاضة مارس-أبريل 1985م

في خضم تنامي المقاومة الشعبية السلمية لحكم نميري، بقيادة النقابات والاتحادات المهنية وبعض الأحزاب السياسية، التي مثلت النواة لانتفاضة مارس-أبريل 1985م، لعبت النساء السودانيات أدواراً مهمة في الانتفاضة،  ساهم في ذلك تقدمهن في التعليم والعمل في مختلف المهن، مما أدى إلى زيادة نسبة مشاركتهن وانتظامهن تحت مظلة الأجسام النقابية والمهنية التي كانت السبب الرئيسي والأهم في نجاح الإضراب السياسي العام في ثورة ابريل التي أطاحت بنظام نميري العسكري.

في يونيو 1986م، شكل الصادق المهدي حكومة ائتلافية بين حزب الأمة، والحزب الاتحادي الديمقراطي، والجبهة الإسلامية الوطنية، وأربعة أحزاب جنوبية. ولكن اتسمت فترة حكم الصادق المهدي بعدم الاستقرار السياسي. وبعد ثلاث سنوات في 30 يونيو 1989م، انقلب الجيش بالتحالف مع الإسلاميين، على الحكومة المنتخبة، ليستمر حكمهم نحو 30 عاماً.

ما بعد انقلاب 30 يونيو 1989م

عمد نظام الإنقاذ، على إجراء تغييرات عميقة داخل البنية الاجتماعية والسياسية في السودان، من خلال فرض آيدلوجيته السياسية ذات الطابع المتشدد. حيث أنهى التعددية السياسية الفكرية والثقافية والدينية وحرية التعبير بشكل ممنهج وطبق قوانين الشريعة والقوانين المقيدة للحريات، لمدة 3 عقود.  

وبالرغم من أن المناطق الحضرية في السودان كانت إلى حد كبير غير متأثرة بالصراع المسلح الذي اندلع في دارفور وجبال النوبة والنيل الازرق (المنطقتين)، مع ذلك تأثرت المدن الكبيرة باستراتيجيات الحركة الإسلامية لتمكين كوادرها ومنتسبيها.

 تداخلت عمليات فرض نظام الحكم لايديولجيته مع النظام التعليمي والحريات الشخصية والسياسية والصحفية، وولّدت أدوات للقمع من خلال شرطة النظام العام والأجهزة الأمنية المختلفة، ناهيك عن تهجير أعداد كبيرة (أكثر من 3 مليون نازح ونازحة) من سكان المناطق التي مزقتها الحرب في البلاد. يعيش هؤلاء النازحين في أحياء فقيرة حول ولاية الخرطوم والمدن الكبرى ويواجهون تحديات أكبر في التوظيف والصحة والتعليم مقارنة بالسكان الأقدم للمدينة.

خلال تلك الفترة، فقدت الأحزاب السياسية والنقابات والاتحادات المهنية قدرتها على مواصلة العمل العام والسياسي بسبب القبضة الأمنية الرادعة، وتطورت الجهات المعارضة للنظام لتشمل أيضاً مجتمعات وأجيال تأثرت بصورة مباشرة من الحرب وتواجه ظروفاً اقتصادية قاسية، مما أدخل أبعاد جديدة في الدعوة إلى تغيير النظام مثل الأبعاد الجهوية والمناطقية والظلم الاجتماعي.

اضطهد نظام الإنقاذ البائد المرأة بطرق مختلفة، أولها منعهن من العمل في مهن معينة مثل محطات الوقود، ومضايقة بائعات الأطعمة والمشروبات عبر حملات (كشات) لمصادرة ممتلكاتهن وأدواتهن. ووفرت منظومة النظام العام غطاء قانوني مهد لقوات الأمن اعتقال النساء بصورة تعسفية والاعتداء عليهن حسب ما ينظر إليه كسلوك “غير لائق” أو ملابس “غير محتشمة”.

وفرت هذه القوانين أيضاً مخرجًا للجناة والمجرمين، حيث أن الأحكام المتعلقة بالاغتصاب والعنف الجنسي غير مجدية، بما في ذلك عدم وجود جريمة جنائية لختان الإناث في تلك الفترة، والفشل في قمع العنف القائم على النوع الاجتماعي بشكل فعال. 

وبالرغم من ذلك، فإن القانون كان يعترف بسلسلة من العقوبات الجسدية، مثل (الرجم) و(بتر الأطراف) و(الجلد) مما يتعارض مع تحريم التعذيب والعقوبات القاسية  في القانون الدولي، على النحو الذي قررته لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة واللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب.

في عام 2009م على سبيل المثال، حُكم على الصحفية لبنى الحسين، وهي منتقدة صريحة للنظام، بالجلد 40 جلدة لارتدائها بنطالاً في أماكن عامة لكنها قاومت التهم الموجهة إليها في المحكمة. في العام نفسه، تعرضت سيلفا كاشف البالغة من العمر 16 عامًا، وهي شابة مسيحية من جنوب السودان تعيش في الخرطوم، للجلد 50 جلدة لارتدائها تنورة تحت ركبتيها، بعد حرمانها من الحق في المحاكمة.

وبأخذ ما ذكر في الاعتبار، كانت الكتلة النسائية من أكثر المتضررين من سياسات النظام، ولكن الاضطهاد المتكرر ضد النساء شكل وحدة جعلتهن يتحدن في مواجهة النظام والصمود ضد الترسانة الأمنية.

ظهور أشكال جديدة للمقاومة

فقدت الأحزاب السياسية قدرتها على ممارسة عملها بحرية، وتحول النشاط السياسي للشباب والنساء  ليأخذ أشكالاً غير تقليدية بالتزامن مع ظهور منظمات المجتمع المدني المهتمة بقضايا المرأة والعون الإنساني. إن تحليل هذه المنظمات وعلاقتها بالنظام الحاكم وقتها يمكن أن يؤدي إلى نتائج متناقضة، فبالرغم من أن الحكومة كانت تعتبرها تهديداً محتملاً وتحاول إبقائها تحت سيطرة مشددة، ولكن في الواقع كانت تقوم منظمات العون الإنساني والمنظمات الخيرية بتحمل بعض أعباء الدولة.

بعد فترة وجيزة من الانقلاب القمعي عام 1989م، شكلت الفاعلات السياسيات في الخرطوم منظمات تضامن متبادل بدت آمنة نسبيًا من أجهزة أمن الحكومة، بينما كن يمارسن عملهن جزئيًا لصالح النساء. تسبب ذلك في ظهور الكثير من المنظمات (المحلية والعالمية) الداعمة مع قضايا النساء السودانيات، ويمكن اعتبار ذلك شكلاً جديداً من أشكال التنظيم النسائي. ذلك لا ينفي أن النظام هاجم هذه المنظمات في عام 2009 م وفي 2012م، وذكرت د. غادة كدودة في دراسة لها بالشراكة مع الباحثة سوندرا هيل(مرجع – 1)، أن من الصعب إيجاد أرقام دقيقة من مفوضية العون الإنساني لأعداد تلك المنظمات، ولكن أفادت الأستاذة عديلة الزئبق (ناشطة رائدة في المنظمات النسائية)، أن هنالك آلاف المنظمات غير الحكومية في السودان والمئات في ولاية الخرطوم.

هذه المنظمات غير الحكومية المهتمة بقضايا النساء كانت أكثر من الأحزاب السياسية والأجنحة النسائية التابعة لها، وكانت نشطة للغاية وتشكل جزءا كبيرا من المجتمع المدني. وبما أن العمل السياسي بصورته التقليدية كان متعسر جدا، التحق الكثير من القواعد الشبابية الناشطة بحركات مدنية شبابية تركز نشاطها على مواقع التواصل الاجتماعي مثل (قرفنا) و (التغيير الآن).

بينما اتخذ الرفض لنظام البشير ودكتاتوريات أخرى أشكالًا مختلفة، على سبيل المثال التمرد المسلح والمناورات السرية، مع ذلك، أن السخط في الخرطوم (والمدن الرئيسية الأخرى مثل ود مدني) تم التعبير عنه في المقام الأول من خلال الاحتجاجات المدنية ذات الطابع السلمي.

أدى التغيير في المناخ السياسي إلى تقاطعات بين المكونات النسائية في المجتمع المدني والحركات الشبابية في عملية التعبئة، وكما ذُكر في دراسة د. كدودة و د. هيل (مرجع – 1)، يمكن أن تلخص الأسباب التي أدت إلى تلك التقاطعات في الآتي:

  1. استبعاد النساء والشباب في قيادة معظم الأحزاب السياسية.
  2. سيطرة الأحزاب على الأجنحة النسائية التابعة لها.
  3. تأثير الناشطين بالخارج (الدياسبورا) حيث كان الشباب والنساء أكثر حرية في النشاط الاسفيري حول الموضوعات المثيرة للجدل.
  4. الانتقال اللاحق لكثير من الشباب والنساء الى المنظمات غير الحكومية، مما أدى إلى نمو المجتمع المدني واعتماده الشديد على الشباب والناشطات.

 يمكن أن يظهر شكل التعاون هذا في مثال عام 2013م عندما نظم (مركز سالمة لدراسات المرأة) بالشراكة مع مجموعات شبابية أخرى فعاليات ثقافية تعبرعن قيم الحرية والعدالة، وتم نشرها بعد احتجاجات سبتمبر من ذلك العام كجزء من حملة إعلامية على مواقع التواصل الاجتماعي. إن نشاط المركز ضمن عمليات التعبئة وتوثيق اعتداءات النظام على المتظاهرين كان سبباً في استهدافه وإغلاقه في العام 2014م ، بالإضافة إلى القيود الناتجة عن انخفاض التمويل الدولي للسودان ما بعد انفصال الجنوب.

أسفرت احتجاجات سبتمبر 2013م عن ظهور مجموعات شبابية أخرى مثل (ابينا) و (عصينا) و (مرقنا)، وكان لدى الشابات مشاركة بارزة في هذه المجموعات وتلقين نصيبهن من الاعتقالات والاعتداءات. بالاضافة الى مشاركة المجموعات النسائية الأقدم مثل الاتحاد النسائي و (مبادرة لا لقهر النساء) التي تأسست عام 2009، تشكلت أيضًا مجموعات نسائية بالكامل للتعبئة ووضع استراتيجيات ثورية وطرح قضايا المرأة، تنخرط اغلبها الان تحت مظلة المجموعات النسوية السياسية والمدنية (منسم) التي زاد نشاطها خلال انتفاضة ديسمبر 2018.

المصدر: African Feminism
دور النساء في ثورة ديسمبر 2018 - 2019م

فيما يتعلق بالأرقام، يقول البعض، إن ثورة ديسمبر شهدت مشاركة نسائية تفوق 60%. قد يشك البعض أن هذه الأرقام قد تكون مبالغ فيها وليست دقيقة للغاية، لكن حقيقة الموقف، ووفقًا لما هو ظاهر على الأرض، هو أن التساؤل حول هذا الأمر وإقامة دراسات تحليلية حوله هو في حد ذاته نقطة مثيرة للتوقف والتفكير حوله.

وبعثت ثورة ديسمبر الأمل للكثير من النساء في انتزاع حقوقهن، وتم تتويج ذلك خلال اعتصام القيادة العامة (أبريل – يونيو 2019م) حيث أن منطقة الاعتصام مثلت صورة مصغرة للمجتمع الذي يتوق الشباب إلى بنائه، والذي يصبح فيه التغيير الاجتماعي الذي يسعون إليه حقيقة سياسية. اتخذت  النساء هذه المساحة لمناقشة وتشجيع التغيير الاجتماعي وابتدار حملات توعوية ضد التحرش الجنسي في ميدان الاعتصام وأماكن الاحتجاج وطالبن الشابات اقرانهن من الثوار أن يتبنوا مواقف فاعلة ضد السلوك الذكوري، مع الإشارة إلى الانتفاضة على أنها “ثورة وعي”.

تميزت هذه الثورة عن باقي الثورات عبر تاريخ السودان باتساع رقعة المشاركة في الحراك حول مختلف ولايات السودان، والدور القوي لتحالفات الأجسام المهنية ولجان المقاومة بالأحياء في مواصلة أساليب الاحتجاج المختلفة. كان للنساء دور في هذه الاجسام تم توثيقه في العديد من التقارير والدراسات.

دور النساء في مناهضة انقلاب 25 أكتوبر

أثار الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر 2021 بقيادة قائد الجيش عبد الفتاح البرهان حراكاً واسعاً، حيث نزل السودانيون إلى الشوارع مرة أخرى لحماية حقهم في المطالبة بحكومة مدنية خالصة ورفض الانقلابات العسكرية. منذ ذلك اليوم كانت هناك حركات تعبئة نشطة من لجان مقاومة الأحياء، العمود الفقري والمحرك وراء الاحتجاجات الجماهيرية التي ما زالت تتواصل الى هذه اللحظة، مما أعاد موضوع المشاركة النسائية إلى سطح التساؤل والدراسة.

وقد تصدرت النساء الحراك مرة أخرى وكن ضمن الصفوف الأمامية في مواجهة العنف المفرط المستخدم من قبل القوات الحكومية. فكانت الشهيدة ست النفور أحمد من بين 17 شهيداً وشهيدة قتلوا في موكب 17 نوفمبر 2021م بالخرطوم بحري، عندما ارتكبت القوات الحكومية مجزرة ضد المتظاهرين السلميين الرافضين للانقلاب العسكري. وكانت ست النفور قد عُرفت بمشاركتها الفاعلة في الحراك السلمي منذ بداياته، ومواقفها المتفانية التي تداولها العديد من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي والدبلوماسيين.

المشاركة في البناء القاعدي

ظلت جذوة ثورة ديسمبر حية على مدى ثلاث سنوات، وتنوعت وسائل وأدوات الاحتجاج خاصة عقب انقلاب البرهان في 25 أكتوبر، حيث ظهرت المشاركة الواضحة للمرأة ليس فقط في المسيرات والاحتجاجات، ولكن أيضًا بأدوارها القيادية النشطة في لجان المقاومة والأجسام المهنية، على الرغم من محاولات الديكتاتوريات لاستخدام العنف القائم على النوع الاجتماعي كاستراتيجية للقمع.

كما أطلقت حركة الاحتجاج الأخيرة مبادرات وحملات تدعم المشاركة النشطة للمرأة في لجان الأحياء، مثل حملة “خشي اللجنة” التي انطلقت عبر دعوة لموكب نسوي في مليونية 19 ديسمبر، وهو اليوم الذي يصادف الذكرى الثالثة لثورة ديسمبر.

تدعو الحملة لزيادة مشاركة النساء والشابات في لجان المقاومة وعمليات البناء القاعدي، وانتشرت الحملة على وسائل التواصل الاجتماعي وتم تأييدها واعادة نشرها من قبل عدد من لجان المقاومة والصفحات الداعمة للحراك الثوري.

تواصل فريق (بيم ريبورتس) مع عدد من أعضاء لجان المقاومة في ولاية الخرطوم بخصوص مشاركة النساء والشابات في اللجان، وأفادت عضوة بإحدى اللجان التابعة لتنسيقية لجان مقاومة كرري، أن نسبة التمثيل النسائي متوسطة، وتتراوح بين شابات ونساء وربات منازل، بالإضافة إلى أن المراحل العمرية الأدنى (16-21) شبه خالية من الفتيات.

وأضافت العضوة، أن تحفيز النساء للمشاركة في اللجان مدعوم، ويشارك أعضاء اللجنة على سبيل المثال في الوقفات الداعية بوقف اضطهاد النساء، ولكن المبادرة بالمشاركة لابد أن تبدأ من النساء أنفسهن.

وفي نقاش عن التحديات التي تواجه النساء في المشاركة، وضحت عضوة اللجنة أن العقبات في الأصل هي عقبات مجتمعية مثل محدودية حركة الفتيات في حيز الحي، حيث ان اللجان عادة ما تكون مبنية على علاقات اجتماعية و ديناميات الحي. وأضافت:

في بعض اللجان تتغلغل هذه العقبات للتمظهر في حضور الاجتماعات من عضوية اللجنة المعنية، عادة ما يكون الحضور الفعلي أغلبه من الذكور من الثوار (لجنة الحارة الأولى 2020 كمثال) ويتم توصيل الإناث من الثائرات بمخرجات الاجتماع وتوكيل مهام دعم ميداني ودعائي فقط، مما يحتم تحجيم ومصادرة دورهن في صنع القرار. إن التوعية بأهمية مشاركة النساء في أي عمل ديمقراطي ضرورية لكسر تصورات متوارثة رجعية ومقيدة للنساء.

علقت عضوة أخرى أنه بالرغم من أن نسبة مشاركة الشابات في لجان المقاومة في زيادة، فإنها لا تخلو من التنميط الجندري في تقسيم المهام حيث أنه عادة ما تذهب مهام تحضير الوجبات والمشروبات إلى النساء بينما يتولى الرجال المهام القيادية مثل إدارة الاجتماعات أو تمثيل اللجنة في التنسيقيات.

يذكر أن تنميط الأدوار للنساء لا يقتصر فقط على المشاركة بعضوية لجان المقاومة، ولكن يتبين أيضاً في الحراك نفسه، كما كتبت الناشطة سارة معاوية عن تجربتها مع بعض المتظاهرين الذين لجأوا لاستخدام العنف ضدها ومحاولة ضربها، بعدما رفضت التراجع عن الصفوف الأمامية للمظاهرة في ديسمبر الماضي، وتم ذكر التجربة أيضاً على مقال صحيفة نيويورك تايمز.

هنالك أيضاً زيادة ملحوظة في مشاركة النساء في أدوار قيادية بلجان المقاومة والتنسيقيات، مثل ساجدة المبارك المتحدثة باسم تنسيقية لجان مقاومة كرري داخل السودان، ورانيا مأمون المتحدثة باسم لجان مقاومة مدني.

ضد كل أدوات القهر

تم توثيق الاستخدام الوحشي للعنف ضد المرأة كأداة لقمع المتظاهرين منذ عام 2011م خلال مظاهرات معارضة لنظام البشير، واستمر ذلك عندما استخدم أعضاء جهاز الأمن والمخابرات التابع للبشير في مظاهرات 2018-2019 م التحرش الجنسي والاعتداء والتلاعب النفسي كأدوات ليس فقط لإرهاب النساء، ولكن أيضًا عدد كبير من الأسر السودانية عبر زرع الرعب من المشاركة في هذه الاحتجاجات، مما عرض الكثير من الشابات لضغوطات من أسرهن وعدم قبول مشاركتهن في التظاهرات.

بلغ هذا النمط من الإرهاب ذروته خلال فض اعتصام القيادة العامة في 30 يونيو 2019 م حيث تم الإبلاغ عن العديد من حالات الاغتصاب من قبل قوات المجلس العسكري والتي من ضمنها قوات الدعم السريع التي تُتهم بارتكاب جرائم حرب في دارفور. هذا بالإضافة إلى تقارير عديدة عن الضرب والعنف ضد المرأة، والتي استمرت حتى بعد الانقلاب الأخير وتحديداً في القمع الذي حدث حول القصر الرئاسي خلال تظاهرات 19 ديسمبر2021م.

هذه الأدوات القمعية لم تنجح في إرهاب النساء، بل أدى ذلك إلى تظاهرات ووقفات احتجاجية في الخميس 23 ديسمبر، حيث وقف المتظاهرين والمتظاهرات في العديد من مدن السودان تنديدا بجرائم العنف والانتهاكات الجنسية التي تُتهم بها القوات الحكومية، ولدعم الناجيات والناجين من هذه الانتهاكات، وتسليم مذكرة إلى المفوضة السامية لحقوق الإنسان بالسودان.

موكب مناهضة العنف والانتهاكات الجنسية 23 ديسمبر 2021 - تصوير: (بيم ريبورتس)

إقرأ المزيد: كيف استخدمت القوات الحكومية الإغتصاب سلاحاً في السودان؟ – تقرير بيم ريبورتس عن الانتهاكات الجنسية إبان تفريق مظاهرات 19 ديسمبر.

مشاركة فاعلة أم داعمة؟

صورت الكثير من التحليلات دور المرأة على أنها أكثر دعمًا وتحفيزًا للرجال، وهي ثقافة تعود إلى التقاليد القديمة حيث كان للمرأة أدوار مهمة في تشجيع الرجال في زمن الحرب مثل ما تفعله الحكامات في بعض مناطق السودان، والتي ظهرت في قصائد تدعم سمات الشجاعة والصمود. يُنظر إلى هذه الثقافة على أنها امتدت إلى ثورة ديسمبر حيث كانت الهتافات والزغاريد النسائية مصدرًا للقوة والشجاعة لمعظم الناس في الاحتجاجات.

كان للنساء السودانيات مشاركات منذ القدم في مناهضة الاحتلال الأجنبي والديكتاتوريات العسكرية، ومشاركتهن في الثورات السودانية عبر التاريخ، التي تمظهرت منذ اندلاع ثورة ديسمبر في عام 2018م، وهذا يشمل – على سبيل المثال لا الحصر – تفانيهن في مواصلة المشاركة في الاحتجاجات والتظاهرات الجماهيرية بالرغم من القمع المتواصل، وأدوارهن في لجان المقاومة والأجسام القاعدية والمهنية.

:مراجع
  1. Gada Kadoda & Sondra Hale (2015) Contemporary youth movements and the role of social media in Sudan, Canadian Journal of African Studies / Revue canadienne des études africaines, 49:1, 215-236

  2. Hale, Sondra. “Testimonies in Exile: Sudanese Gender Politics.” Northeast African Studies, vol. 8, no. 2, Michigan State University Press, 2001, pp. 83–128, http://www.jstor.org/stable/41931294.

  3. Liv Tønnessen and Samia al-Nagar (2013) The Women’s Quota in Conflict Ridden Sudan: Ideological Battles for and against Gender Equality

  4. فاطمة القدال – كتاب (شاهدة على مسيرة الإتحاد النسائي السوداني خلال نصف قرن من الزمان).