بعد عام من حكم الجيش.. هل أصبح الاقتصاد السوداني على حافة الانهيار؟

من تحت رماد الأزمة الاقتصادية والمالية، انطلقت شرارة ثورة ديسمبر 2018م، التي أطاحت بنظام الرئيس المخلوع عمر البشير في أبريل 2019م.

والأزمة الاقتصادية التي يمر بها السودان حالياً، تعد في الأصل امتداداً لتركة الخسائر التي خلفها نظام البشير، تضافرت مع فقدان البلاد لأكثر من ثلثي عائداتها الاقتصادية من النفط عقب انقسام جنوب السودان في يوليو 2011م.

لم يكن فقدان عائدات النفط كل شيء، إذ صاحبه سوء في إدارة الموارد واستشراء الفساد، بالإضافة إلى تسارع وتيرة التدهور الاقتصادي والصرف الأمني العالي، للنظام المخلوع، أثناء محاولته قمع الثورة.

كان “البرنامج الإسعافي” خطة المعارضة الرئيسية لمعالجة الوضع الاقتصادي في البلاد، قبل سقوط نظام الرئيس المخلوع، عمر البشير. لكن، مع وصول الحكومة الانتقالية للسلطة في أغسطس 2019م، بدا أن لديها خطة مختلفة في إدارة الملف الاقتصادي عن حاضنتها السياسية، في خضم عقوبات غربية وديون مليارية وسيطرة القطاع العسكري على الاقتصاد، اختارت إعادة هيكلة الاقتصاد عن طريق الدعم الخارجي المرتبط بمؤسسات التمويل الدولية.

لتبدأ الحكومة الانتقالية تعاطيها مع الأزمة الاقتصادية، من خلال العمل على إعادة علاقات البلاد مع المجتمع الدولي، قبل أن تنخرط في اتفاقات وتفاهمات، على أمل إعفاء الديون وإيجاد تمويل من المؤسسات الدولية، في محاولة لإعادة هيكلة الاقتصاد وإنعاشه.

وأثمر حراك الحكومة الانتقالية في هذا الاتجاه، عن وصول السودان في التاسع والعشرين من يونيو 2021م إلى نقطة القرار التي قضت بتخفيف أعباء الديون، بعد قرار المجلسين التنفيذيين للمؤسسة الدولية للتنمية بالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، إذ تعد هذه العملية هي الأكبر في تاريخ مبادرة دعم الدول الفقيرة المثقلة بالديون (الهيبيك).

لكن، بعد عام واحد فقط من انقلاب الجيش في 25 أكتوبر 2021م، تم تعليق عملية إعفاء الديون، وأصبحت حتى تلك المكتسبات القليلة والتي كانت في طور البداية في مهب الريح، ولم يعد الاقتصاد السوداني، يعاني من حالة تدهور وحسب، وإنما بات أقرب إلى حالة السقوط الحر.

تلقائياً تعمقت أزمة الاقتصاد السوداني، كون الحكومة الانتقالية كانت تعول على الدعم الخارجي المرتبط بعملية إعفاء الديون والاستمرار في تطبيق سياسات البنك الدولي.

ومع ذلك، أعلنت سلطة الأمر الواقع، أنها ستعتمد على الموارد الذاتية، لكن بعد عام من خطتها المعلنة، انزلقت البلاد إلى حالة حادة من الركود الاقتصادي، تجلت مظاهرها في انخفاض كبير للطلب، وخروج قطاعات عديدة وحيوية من خط الإنتاج، بجانب احتجاجات مستمرة للتجار والشركات والمنتجين، بما في ذلك الإضرابات والعصيان المدني، خلال الأشهر الأخيرة.

ويعرف المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية، وهو مجموعة من الاقتصاديين، الركود بأنه: “انخفاض كبير في النشاط الاقتصادي، ينتشر في جميع أنحاء الاقتصاد ويستمر لأشهر عديدة”.

في مسار الاقتصاد قبل الانقلاب، أشار المجلسين التنفيذيين للمؤسسة الدولية للتنمية بالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وقتها، إلى أنه من شأن تخفيف أعباء الديون دعم جهود السودان في تنفيذ إصلاحاته المرجوة، بموجب هذا التخفيف وفق مبادرة (هيبيك) وغيرها من المبادرات، سينخفض الدين الخارجي العام للسودان بأكثر من 50 مليار دولار، أي ما يمثل أكثر من 90% من مجمل الدين الخارجي إذا تمكن السودان من الوصول لنقطة الإنجاز وفق هيبيك في غضون 3 أعوام تقريباً. في خطوة وصفها رئيس الوزراء آنذاك، عبد الله حمدوك، بأنها “علامة فارقة ومهمة تدعم جدول أعمال السودان للإصلاح والتنمية وتشجع رفع المستويات المعيشية لبلادنا”.

كما اعتبر وصول السودان رسمياً الى نقطة قرار مبادرة الهيبيك بأنه “إنجاز هائل”، بعدما أصبح مؤهلاً للاستفادة من هذه المبادرة.

ونتيجة لهذه الخطوات التي تصب “في مصلحة الإصلاحات الاقتصادية” اقترب السودان من تحقيق استقرار اقتصادي في الفترة التي سبقت انقلاب الجيش في 25 أكتوبر 2021م، حيث انخفض معدل التضخم بمقدار 35 نقطة لأول مرة منذ ما يزيد عن عام، نتيجة لذلك أيضاً انخفض العجز المزمن في الميزان التجاري بنسبة 25%.

علاوة على ذلك، بلغت حصيلة الضرائب غير المباشرة ما يقارب 48 مليار جنيه في أغسطس 2021م مما ساعد وزارة المالية على تغطية التزاماتها، لكن لم يستمر الحال طويلا حيث تأثر الاقتصاد بإغلاق الشرق وميناء بورتسودان ضمن سلسلة الأحداث التي سبقت الانقلاب.

غير أن انقلاب القائد العام للجيش، عبد الفتاح البرهان، في 25 أكتوبر 2021م، مثل نقطة تراجع كبيرة بالنسبة إلى التقدم المحرز، وأفشل خطط الحكومة الانتقالية التي سعت حثيثا من أجل الوصول إليها.

عقب إطاحته بالحكومة الانتقالية، أصدر البرهان عدداً من القرارات تبنى فيها التزام السودان بالمضي في نفس مساره الاقتصادي، لكن لم تمر ساعات حتى تتالت ردود الفعل الدولية الحاسمة إزاء الانقلاب، كان أولها إعلان “واشنطن الصارم” إنها “مستعدة للجوء إلى كل الإجراءات المناسبة لمحاسبة من يحاولون تعطيل إنفاذ إرادة الشعب السوداني “مؤكدة قيامها بقطع المساعدات المالية”.

في وقت وجيز، علّق المجتمع الدولي مساعداته وخططه تجاه السودان، وأصبحت سلطة الأمر الواقع في مواجهة داخلية وخارجية، جعلت الاقتصاد يتراجع سريعاً إلى الخلف، بناء على ما خلفته التغييرات السياسية.

جزء من هذه التراجعات التي شهدها الاقتصاد السوداني، كشفها نائب محافظ بنك السودان المركزي السابق، فاروق كمبريسي، والذي قال إن السودان خسر حوالي 4.6 مليار دولار أمريكي من المساعدات التنموية الضرورية، من بينها حوالي 2.6 مليار دولار من مؤسسة التنمية الدولية التابعة للبنك الدولي، كانت مخصصة لتطوير مشاريع حيوية في الزراعة والري والطاقة والصحة، بالإضافة إلى حوالي 580 مليون دولار خصصها المانحون الأجانب لبرنامج دعم الأسر السودانية (ثمرات). كما قامت الولايات بتعليق 700 مليون دولار من المساعدات التي تمت الموافقة عليها بعد إلغاء تصنيف السودان كدولة راعية للإرهاب.

تجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة كانت قد بدأت في تسليم السودان 350 ألف طن متري من القمح بقيمة 125 مليون دولار لتخصص للخبز المدعوم في البلاد، قبل أن توقفها. واستمرت التداعيات عندما أعلنت مجموعة دول نادي باريس، في يونيو 2022م، تعليق إعفاء مديونيتها المستحقة على السودان، إلى حين قيام حكومة ديمقراطية بقيادة مدنية.

كل تلك الخسائر الاقتصادية، لم توقف البرهان من مواصلة ما سماه “إجراءات تصحيحية” غداة انقلابه حيث أعد وزير المالية في سلطة الأمر الواقع، جبريل إبراهيم موازنة في مطلع العام 2022م، قال إنها تعتمد على موارد البلاد الذاتية. غير أن خبراء، رأوا أنها موازنة فاشلة وغير منطقية، بل وشككوا في مقدرة الدولة على الالتزام بها، بالنظر للتحديات التي يواجهها السودان في مشهده السياسي الحالي.

في هذا السياق، يقول الباحث والمحلل الاقتصادي، فتحي هيثم لـ(بيم ريبورتس)، "إن غياب الدعم الخارجي، أدى إلى صعوبات بالغة في موزانة العام 2022م، مضيفاً أن هذه الصعوبات سوف تمتد حتى موازنة العام 2023م، إذ أن هناك بنوداً لا تستطيع الدولة القيام بها دون مساعدات خارجية، أهمها بنود استحقاقات اتفاق سلام جوبا والمشاريع التنموية في مناطق النزاعات".

خلال عام من الانقلاب، فرضت سلطة الأمر الواقع، سلسلة من الزيادات على أسعار الخدمات والرسوم والضرائب لتغطية العجز الكبير في الموازنة بسبب المشكلات المتنامية التي يعاني منها الاقتصاد في الوقت الراهن، بالإضافة للعزلة الاقتصادية التي يعانيها السودان بعد انقطاع وإيقاف المساعدات الدولية.

ساهمت هذه العوامل مجتمعة في تدهور كبير في أوضاع الموظفين والعاملين، وتمثل ذلك في ضعف الأجور في ظل ارتفاع هائل في أسعار السلع الاستهلاكية والخدمات الأساسية. بالإضافة إلى زيادات جمركية أثرت على التجار والمنتجين الذين يواجهون تحدياً مزدوجاً في مواجهة ارتفاع تكاليف السلع المحلية والمستوردة والتراجع المهول في القدرة الشرائية، ما اضطر التجار والمنتجين إلى وقف البيع خوفاً من الآثار الكارثية المرتبطة بارتفاع الضرائب والرسوم وتكاليف النقل والشحن وغيرها.

وينطبق هذا الأمر على المنتجين الذين يواجهون عقبات كثيرة، للاستفادة من إنتاجهم مما جعلهم في نفس موقف التجار.

يقول الخبير الاقتصادي معتصم أقرع لـ(بيم ريبورتس) “على الرغم من أنه لا توجد إحصاءات دقيقة، لكن المؤشرات تقول إن النمو الاقتصادي ضعيف للغاية، إذ يقدر بين 1%-2%، أو يعتبر نمواً سلبياً.”

ويشتكي التجار من أن بضائعهم لا تباع والغرف الصناعية تحتج على الضرائب الباهظة، بالإضافة لعدم استقرار الكهرباء التي أدت لتوقف عملها كلياً أو جزئياً، وحاليا يعمل القطاع الصناعي بطاقة أقل من 20 %”.

في ظل هذه الظروف الطاحنة، اضطر الموظفون والعاملون في القطاعات الحكومية للاحتجاج وذلك باللجوء للإضرابات التي نظمتها نقابات وأجسام مهنية من أجل زيادة الأجور. شملت الإضرابات والاحتجاجات، مختلف القطاعات المهنية مثل أطباء الامتياز والعاملين في الكهرباء وأساتذة جامعات ومدارس حكومية وغيرها من مؤسسات إنتاجية وخدمية لها تأثيرها المباشر على الوضع في السودان، كما طالت الأزمة عدداً من الأسواق في مدن مختلفة حيث أقفلت أبوابها احتجاجاً، على سياسات سلطة الأمر الواقع.

استمرت تداعيات الركود الاقتصادي في التنامي مع تطور الأزمة السياسية في السودان، ومنذ الخامس والعشرين من أكتوبر 2021م، دخلت سلطة الأمر الواقع في معركة متواصلة لتهدئة الوضع السياسي لكنها لم تفلح في ذلك، حيث تواصلت الاحتجاجات منذ اليوم الأول للانقلاب بالتزامن مع موجة من الإضرابات المتواصلة والتي تزداد رقعتها يوماً بعد يوم.

يعتقد خبراء، أن لهذه الظروف مجتمعة آثارها على الاقتصاد والذي يضع سلطة الأمر الواقع في خيارات ضيقة، اختارت فيها حتى الآن، صرف أموال الدولة على القطاع الأمني باعتباره أولويتها ضد المعارضة.

يعود أقرع ويقول: “إن تأزم الوضع والاحتقان السياسي الخارجي والداخلي، جعل موارد الدولة موجهة تجاه السيطرة الأمنية واحتواء التظاهرات من أدوات للقمع ورواتب للموارد البشرية التي أصبحت تعمل لوقت إضافي، مشيراً إلى أنه كان بالإمكان صرف تلك الموارد والأموال لدعم الاقتصاد، لكنها اليوم تذهب لتمويل الأجهزة الأمنية.”

طوال هذه الفترة المتأزمة كانت التقارير الصادرة من الجهاز المركزي للإحصاء السوداني تشير إلى انخفاض هائل ومستمر في معدل التضخم الاقتصادي، حتى وصل في سبتمبر الماضي إلى (107%)، لكن تلك الأرقام التي تظهر في التقارير لم تنعكس على أسعار السلع الاستهلاكية الأمر الذي يراه محللون وخبراء اقتصاديون انخفاضاً سلبياً.

السودان - معدل التضخم

يقول المحلل الاقتصادي (فتحي هيثم) لبيم ريبورتس: “إن الاقتصاد السوداني الآن في أوج ضعفه وهناك عرض كبير للسلع مقابل انخفاض في الطلب.

ويضيف “ما حدث من انخفاض في التضخم جاء نتيجة ارتفاع معدل الركود في الأسواق قياسا بأسعار الدولار إلى جانب انخفاض دخل الأسر السودانية، ما أدى إلى خفض استهلاكها اليومي من السلع الضرورية”.

في حين يصف أقرع تقارير الجهاز المركزي للإحصاء، بأنها “أرقام مسيسة”، قائلاً “إن هذه الإحصاءات مشكوك في مصداقيتها، لأن الجهاز المركزي لا يوضح منهجيته في حساب المعدل ولا يوضح ماهية سلة السلع التي بنى عليها الإحصائية، بالإضافة لضعف قدرات وإمكانيات الجهاز المادية”.

حديث الخبراء الاقتصاديين عن ارتفاع معدل الركود وانخفاض الطلب مقابل العرض يعضده تجار يعملون في قطاع المواد الغذائية.

"القوة الشرائية منخفضة للغاية، كان متجري السابق بمنطقة الطائف بالخرطوم مكتظاً طوال الوقت، خاصة في بداية الشهر، أما الآن لا يوجد زبائن على الإطلاق"، يقول محمد بلة صاحب محل لبيع المواد الغذائية.

ويضيف “يظهر الفرق أيضاً في نوعية المشتريات، يشتري الزبائن الآن الضروريات الاستهلاكية فقط، معظم المشتريات؛ إما سكر، بصل أو زيت، أما بالنسبة للمعلبات والبضائع المستوردة وأي سلعة غير ضرورية فهي غالباً ما تنتهي بالتلف داخل الرفوف، نتيجة لذلك صافي الربح من المتجر أصبح لا يغطي معي تكاليف المعيشة، مع أني أعمل فيه بدوامين صباحي ومسائي”.

ويتابع بلة قائلًا “حتى الشركات أصبحت غير مستقرة. فالأسعار ليست ثابتة وكل شهر له أسعاره المختلفة وبعض الشركات تُوقِف إنتاجها لأشهر ثم تعاود التوزيع بعد مدة بأسعار عالية”.

الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعيشها البلاد، حذرت من تداعياتها الأمم المتحدة والتي أعلنت في آخر تقرير لها في أغسطس بخصوص الوضع في السودان، عن استمرار ارتفاع أسعار المحاصيل المحلية الاستهلاكية، حيث ارتفعت بنسبة 10-35%. وكشف التقرير عن تأثر المحاصيل التي سيتم حصادها في الشهر الحالي سلبيا نتيجة ارتفاع أسعار المدخلات الزراعية كالوقود وتكاليف النقل وغيرها.

كل تلك الأزمات الطاحنة إلى جانب انخفاض احتياطيات العملات الأجنبية والذهب واستمرار انخفاض قيمة الجنيه السوداني، تمثل مصدراً إضافياً للقلق بشأن قدرة البلاد في السيطرة على الاقتصاد في ظل وضع سياسي محتدم ونزاعات أهلية في مناطق متفرقة بالبلاد، علاوة على اعتماد الدولة على جيب المواطن بشكل كبير لتغطية الموازنة الموضوعة.

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع