
ملاذ حسن وعمر الفاروق
خلال الأسابيع الماضية تصاعد الجدل في السودان بشأن الدعوات لإنشاء مناطق آمنة ونشر قوة دولية لحماية المدنيين وفرض حظر طيران فوق سماء البلاد، وبينما كان للسودان تجارب سابقة وحالية في نشر قوات ضمن بعثات أممية مثل (يونسيفا) في منطقة أبيي المتنازع عليها مع جنوب السودان، ليس لديه سابق تجربة، بشأن إنشاء مناطق آمنة، رغم الصراعات المسلحة المستمرة فيه منذ الاستقلال.
وجاءت الدعوات لإنشاء مناطق آمنة لحماية المدنيين في السودان، وفرض حظر طيران من قادة تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية «تقدم» بشكل مطرد، على اعتبار أنها الحل المتاح في ظل استمرار القتال وتباعد فرص التفاوض بين الأطراف المتقاتلة.
أيضًا تبنت منظمات دولية مثل منظمة العفو الدولية، تمديد حظر الأسلحة في السودان من دارفور ليشمل جميع أنحاء البلاد، وهي الدعوة التي كانت قد سبقتها إليها بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق والتي دعت أيضًا إلى نشر قوة مستقلة لحماية المدنيين.
الجيش السوداني الذي يقود مجلس السيادة -الهيئة الحاكمة في البلاد- لم يرد بشكل مباشر على الدعوات، لكن قائده عبدالفتاح البرهان، أكد في يوم 19 نوفمبر الحالي على رفض الحلول الخارجية وقال من يريد حلًا «الحل في الداخل».
«الدعم السريع» من جهتها، لم توضح موقفها من إنشاء مناطق آمنة في السودان، لكن بشكل مستمر تشكو من الطيران الحربي التابع للجيش وكثيرًا ما دعت إلى فرض حظر عليه.
«بيم ريبورتس» تحدثت إلى خبراء سودانيين لاستجلاء آرائهم حول هذه الدعوات ومدى واقعيتها وآليات تنفيذها ونجاحها في هذه الحالة. أيضًا، كانت التجارب السابقة في السودان لنشر قوات أممية في والتجارب العامة حول العالم في هذا الخصوص، محور نقاشاتنا معهم.
تمثلت الأسئلة التي طرحانها عليهم حول: ماذا يعني مصطلح المناطق الآمنة لحماية المدنيين؟ خاصة وأنه يترافق مع دعوة لحظر الطيران، وهل يمكن أن يسهم في حماية المدنيين؟ وهل توجد تجارب ناجحة في هذا الصدد؟. أيضًا لماذا جاءت هذه الدعوة في هذا التوقيت، وهل لا يوجد أمل في حل سلمي تفاوضي بين الأطراف؟ وما إمكانية تحقق هذا الأمر وعلى ماذا يمكن أن يستند؟ هل بموجب الفصل السابع مثلاً؟، بالإضافة إلى تاريخ التدخل الدولي في السودان وكيف تم وإلى ماذا أدى؟ وكيف إذا لم توافق الحكومة السودانية على هذا الأمر؟.

فيصل محمد صالح: مصطلح المناطق الآمنة موجود في السياسة الدولية للنزاعات
وزير الإعلام والثقافة السابق، والمحلل السياسي، فيصل محمد صالح يقول لـ«بيم ريبورتس» إن مصطلح المناطق الآمنة موجود في السياسة الدولية للنزاعات، ويقصد به عندما يكون المدنيون تعرضوا للمخاطر في الحروب بها أطراف متحاربة، حيث يتم التوافق على مناطق بعيدة عن النزاع.
وأضاف توجد مناطق في العالم تم فيها إصدار قرار حظر طيران مثلما حدث في العراق وفي مناطق أخرى، وهو يجنب القصف الجوي لتصبح المنطقة نسبيًا آمنة للمدنيين.
وفي حالات أخرى هناك مناطق يتم اعتبارها مناطق منزوعة السلاح حتى لو كان سلاح أرضي وليس طيران، وبالتالي تصبح منطقة أمن وسلام للمدنيين، يقول صالح.
ويمضي قائلًا إن هناك تجارب عالمية مختلفة، في المصطلح، بعضها ناجح وبعضها فاشل. لكن الواضح في السودان أن الحلول التفاوضية توقفت بعد مباحثات جنيف والحكومة لم تذهب إلى جنيف، بل ذهبت الدعم السريع والوسطاء.
ويبدو لي، والحديث لصالح، أنه في الوقت الحالي ليس لدى الطرفين نية للذهاب إلى التفاوض، حيث لا توجد مؤشرات حالية على رغبة في عودة إلى مائدة التفاوض من الطرفين، وبالتالي أعتقد أن الدعوة لديها مبررات معقولة من الناحية الإنسانية والأخلاقية والسياسية، لأن المدنيين حاليًا، هم ضحايا الحروب سواء كانوا في مناطق في دارفور بسبب القصف الجوي، أو أولئك الذين يتعرضون لمآس في شرق الجزيرة، بواسطة قوات الدعم السريع.

بكري الجاك: المطالبة بمناطق آمنة هو البديل لحالة استمرار الحرب
تنسيقية «تقدم» تتوافق مع صالح في معقولية الدعوة، حيث قال المتحدث باسمها بكري الجاك لـ«بيم ريبورتس»، إن المطالبة بمنطاق آمنة هو البديل لحالة استمرار الحرب، دون التفاهم على آلية ووسيلة لضمان حماية المدنيين. مضيفًا أن مؤسسات «تقدم» ما زالت تدرس الطريق الأمثل والقابل للتطبيق فى مسألة حماية المدنيين.
غير أن الكاتب والمحلل السياسي، عبدالرحمن الغالي، يختلف مع رؤية تقدم وزميله صالح، حيث قال لـ«بيم ريبورتس» إن هذه الدعوة تأتي في ظروف منها، تغيُّر ميزان القوى وتحسن موقف الجيش وحاجة الدعم السريع لالتقاط الأنفاس بالتجنيد وإعادة التسليح.
ويعود وزير الإعلام السابق فيصل محمد صالح ويقول إنه من الواضح أن الجيش ليس لديه قدرة على مقاومة الدعم السريع في ولاية الجزيرة، بالإضافة إلى عدم وضوح وجود حل سلمي قريب.
وتابع «المناطق الآمنة في اعتقادي الشخصي لا يمكن أن تحدث إلا بقرار من مجلس الأمن، وليس عبر المنظمات الإقليمية مثل الاتحاد الإفريقي أو الجامعة العربية أو غيرها من الهيئات الإقليمية والدولية».
ورأى الوزير السابق أنه إذا تم التوافق على التدخل الدولي، فإنه يحتاج إلى قرار من مجلس الأمن، متوقعًا أن يكون تحت الفصل السابع، حيث يبيح للأمم المتحدة والدول المشاركة، بموجب قرار مجلس الأمن، استخدام القوة لفرض الأمر على الأطراف في الحرب، لأنهم لا تبدو عليهم الرغبة في حظر العمل المسلح بمناطق بعينها.
ويعتقد صالح، أن المسألة، إذا كان المقصود بها حظر الطيران فقط، تصبح كأنما مقصود بها الجانب الحكومي.
وقال هناك انتهاكات من جانب قوات الدعم السريع لا تتم بالطيران، وبالتالي إذا صدر القرار، لا بد أن يكون متوازنًا بحيث لا ينص فقط على حظر الطيران، بل على وقف العمليات المسلحة في المنطقة، وهو ما ينطبق على الطيران الحربي التابع للجيش والعمليات البرية للدعم السريع.
وشدد قائلًا إذا لم يكن يشمل الطرفين يصبح كأنما جاء لنصرة طرف على طرف آخر، وهذه مسألة خطرة جدًا، تقدح في شرعيته ومشروعيته، وقبول الأشخاص له.
عمليًا، يقول صالح إنه لا يدري ما إذا كان مجلس الأمن متحمسًا لذلك أم لا، وما إذا كان هناك توافق داخل مجلس الأمن بين القوى المختلفة (روسيا والصين من جانب) وأمريكا وبريطانيا وغيرهما من جانب آخر أم لا؟. إذا لا يوجد توافق بين الأطراف، سيصعب هذا الأمر.. لا بد من نقاش داخل المجلس والتوازن، يضيف صالح.
بخصوص الربط التاريخي للتدخلات الدولية في السودان، يقول صالح إن هناك تجارب مماثلة، الأولى كانت اتفاقية جبال النوبة ما قبل نيفاشا.
ويمضي شارحًا التجربة بقوله «كان هنالك وقف قتال داخل جبال النوبة وقوات مراقبة دولية ولجان مراقبة مشتركة بين الحكومة والحركة الشعبية في كادقلي ونجحت في تهدئة الأوضاع في جبال النوبة وجاءت بعدها اتفاقية نيفاشا حيث نشرت بموجبها بعثة (يونيماس) والتي كانت إلى حد ما محدودة جدًا»، مبررًا ذلك بأن الأمور كانت مستقرة بين الحركة الشعبية والحكومة ولم يحدث قتال.
ثم يمضي صالح إلى تجربة دارفور، قائلًا «بدأت التجربة بنشر قوات الاتحاد الإفريقي ومن ثم بعثة (يوناميد) وهي كانت قوات مختلطة بعضها أفريقية وأخرى دولية».
وتجربة بعثة يوناميد التي أنهي تفويضها في ديسمبر 2020، عليها ملاحظات كبيرة ولم تكن ناجحة بمعنى كبير لأنها لم توقف القتال تمامًا، في مناطق حسبما يقول صالح. مضيفًا «من عيوبها أنه تم صرف أموال ضخمة عليها لم تكن بقدر القوات وما قامت به.. لا أعتقد أن هناك مانحين في العالم سيدفعون مثل تلك المبالغ حاليًا، لذلك إذا أضحت هناك تجربة مماثلة ستواجه مشاكل التمويل».
ورأى صالح أنه من المؤكد جدًا أن الحكومة السودانية لن تكون متوافقة مع مثل هذا الحل، وقال «لا أعتقد أنها ستوافق عليه، لكن طبعًا إذا صدر القرار من مجلس الأمن الدولي، فلن يكون مكترثًا بانتظار موافقة أيًا من الأطراف، لأنه يمكن أن يفرض بالقوة».
واستدرك صالح قائلًا «لكن أفتكر إذا دار حوار مع الحكومة السودانية وتم إقناعها بأنها لن تتضرر منه وحدها بل سيسري على الدعم السريع لوقف العمليات البرية، من الممكن أن يلين موقفها ربما بشكل ما وتقبل هذا الأمر».

الكاتب والمحلل السياسي عبدالرحمن الغالي: تجارب حظر الطيران لم تخل من البعد السياسي المباشر
رؤية أخرى حول المسألة يطرحها الكاتب والمحلل السياسي عبد الرحمن الغالي. يقول الغالي إن مصطلح المناطق الآمنة يُستخدم لمناطق مؤقتة تهدف لتأمين وحماية المدنيين وتجنيبهم آثار العدائيات.
وأضاف «هو مصطلح، وإن لم يظهر في أدبيات القانون الدولي الإنساني أو المعاهدات الشبيهة، لكنه ظهر في القانون الدولي الإنساني حديث عن أشكال من المناطق المحمية، مثل المستشفيات والمناطق المحايدة والمناطق منزوعة السلاح، مؤكدًا أن إنشاء مثل هذه المناطق يتطلب اتفاق أطراف النزاع المسلح على ذلك، أو صدور قرار من مجلس الأمن».
وقال إن مناطق حظر الطيران هي مناطق يمنع فيها الطيران العسكري دون إذن الجهة الممنوعة من الطيران في مناطق غالبًا ما تكون خاضعة لسيطرتها وتنفذه قوة عسكرية أخرى (قوات دولية أو خارجية أخرى مفوضة) لأسباب إنسانية أو عسكرية.
وأشار الغالي إلى أن تجارب حظر الطيران عديدة وتمت في سياقات متعددة، لكنها كلها، لم تخل من البعد السياسي المباشر وليس الإنساني، ومع ذلك مُنيت العديد منها بالفشل الذريع، مثل حالة البوسنة والعراق وليبيا.
كذلك فشلت تجارب كثير من المناطق الآمنة، حيث تم ذبح المسلمين في البوسنة رغم وجود قوات الأمم المتحدة وتم خرق حظر الطيران بواسطة صربيا أكثر من 500 مرة دون رد، يوضح الغالي وهو قيادي سابق بحزب الأمة القومي ومهتم ومنقب في التاريخ السياسي.
ويتابع «كذلك لم تنجح بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان في حماية المدنيين الذين لجأوا إليها ولا في حماية نفسها.. كذلك الحال بالنسبة ليوناميد في السودان وفشلها في حماية المدنيين في دارفور».
أما بالنسبة لنجاح مثل هذه الدعوة فيتطلب توافر عددًا من الشروط وأولها، بحسب التجارب، أن تتم بموافقة أطراف النزاع ولا تأتي بقرار دون الاتفاق، وأن تتوافر لها الموارد المادية والبشرية والأسباب اللوجستية وأن تحظى بتعاون دول الإقليم المحيط بالنزاع، يقول الغالي.
ويضيف «هناك محاذير كثيرة تصعب نجاح المناطق الآمنة، منها إمكانية وصول المدنيين إليها في ظل عدم الاتفاق، وكذلك مخاطر قربها من مواقع المتقاتلين ومن البنيات التحتية».
كما أن هناك مخاطر استخدام الأطراف لها كمخازن سلاح مما يعرض المدنيين لأخطار أكبر أو استخدامها كتاكتيك سياسي لإخلاء أراض واحتلالها وتهجير المواطنين، هذا إضافة لعدم رغبة أو قدرة قوات الحماية في التصدي للهجمات وحماية المدنيين.
ورأى الغالي أن هذه الدعوة تأتي في ظروف منها، تغير ميزان القوى وتحسن موقف الجيش وحاجة الدعم السريع لالتقاط الانفاس بالتجنيد وإعادة التسليح، وفي ظل تراجع شعبية وسمعة «تقدم» والسخط الشعبي عليها وتعويلها على بقاء الدعم السريع في مستقبلها لذلك الحرص على بقائها في المعادلة.
ولفت إلى تزايد الضغوط الاعلامية والسياسية على الإمارات، وقال «لا تخفى العلاقة الوثيقة للدعم السريع وتقدم بهذا المحور» وذلك بعد تزايد انتهاكات الدعم السريع واستهدافه للمواطنين وتهجيرهم وتجويعهم وإفقارهم والرفض الشعبي الواسع للتعايش مع الدعم السريع.
وكذلك رغبة الجيش في استعادة أكبر قدر من المناطق التي فقدها وتحسين موقفه على الأقل. وكما هو معلوم، فإن اللجوء لحل فرض المناطق الآمنة يجئ بعد فقدان الأمل في حماية المدنيين بالاتفاق ووقف الحرب، يوضح الغالي.
وتابع «بناء على ما سبق، فإن فرص الحل الساسي حاليًا ليست كبيرة ولكنها في النهاية ستحدد بالموقف العسكري وتحرك الأطراف الإقليمية والدولية للوصول لحل أو فرض حل».
وأشار إلى أن السيناريوهات مفتوحة ولكن إذا تم اقتراح تسوية تخاطب المصلحة الوطنية في نظر الشعب وتعيد له الأمان وتخاطب مخاوف ومطلوبات أطراف النزاع يمكن ابتدار عملية سياسية تبدأ بالبعد الإنساني ثم وقف العدائيات ثم وقف إطلاق النار ثم عملية سياسية شاملة تزيل أسباب النزاع عامة في السودان، وفي هذا الصدد يمكن اقتراح تفاصيل تلك الخطوات وإصلاح العملية السياسية العقيمة الجارية حاليًا.
ويعتقد الغالي أن هناك ثلاثة طرق لتحقيقه، إما بتوافق طرفي القتال، وهذا غير وارد، لأن المعني به فقط تحييد سلاح الجيش وخدمة الدعم السريع. وإما عبر مجلس الأمن تحت الفصل السابع وهذا صعب جداً في ظل الفيتو وإشكاليات أخرى تتعلق بتكوين القوة والقبول بالمشاركة في وضع كهذا والتمويل، والخيار الثالث أن يتم خارج إطار القانون الدولي مثلما حدث في العراق وهذا أيضًا مستبعد جدا.
وبشأن تاريخ التدخل الدولي في السودان وكيف تم وإلى ماذا أدى، قال الغالي «في تقرير قدمته لجنة تقييم بعثة يوناميد ذكرت أن البعثة لازمها كثير من الإخفاقات، فهي فشلت في حماية المدنيين في كثير من الحالات بل وفشلت في حماية نفسها من الهجمات وفشلت الدور السياسي في الوصول لحل».
ومن خارج التقرير يقول الغالي «كلنا نعلم أنها فشلت حتى في حماية نفسها من الهجمات رغم أنها ظلت تحتمي في معسكراتها ولا تخرج لحماية المدنيين، بل وكانت تعتمد في تحركها على استصدار إذن من الحكومة، بينما من المفترض أنها جاءت لتحمي المواطنين من هجمات الحكومة».
لكن المهم أن أهم توصية في التقرير كانت «أن ضغط الرأي العام الدولي قد يكون عاملًا مساعدًا قويًا لفعل شيء لحماية المدنيين، ولكن هذا لا يجب أن يقود وحده لنشر عملية سلام إذا كانت الشروط السياسية لنجاحها غائبة».
وأوضح الغالي أنه في الغالب لن يتم نشر قوات ولا إقامة مناطق حظر طيران، لاسيما في ظل تضارب الأجندة الإقليمية والدولية.
فالبعض يريد إضعاف السودان واستمرار الحرب يخدم هذا الهدف، والبعض لا يتدخل إلا إذا كان في التدخل مصلحة استراتيجة كبيرة وعاجلة، وهذا حتى الآن غير منظور، وإن كان وارداً في مستقبل قريب، إذا تدخلت عوامل الصراع الاستراتيجي العالمي والاقليمي.
وكذلك صعوبة حدوث إجماع في مجلس الأمن يجعل التدخل خارج الشرعية ذا كلفة عالية ولا يحدث إلا لمصلحة أو خطر كبير تحسه الولايات المتحدة وكل هذا مستبعد الآن اضافة لتكلفة التدخل وعدم حماس الدول لإرسال جنود دون اتفاق ودون موافقة الحكومة.