Category: اجتماعي

أشبه بالخصخصة.. كيف تهدد سياسات القبول الجديدة بالجامعات الحكومية السودانية مستقبل آلاف الطلاب؟

أية السماني

أية السماني

بين أسوار ثانوية (حجر الطير) الماثلة جنوب مدينة شندي شمالي البلاد، جلست رونق نصر الدين لامتحانات الشهادة السودانية، وثابرت في سبيل حجز مقعدٍ لها بكلية الطب في إحدى الجامعات الحكومية، الأمر الذي توجته بإحرازها نسبة 92% في نتيجة هذا العام. لكن، وكما تقول والدة رونق، وصال العوض “قبل أن تكتمل فرحة ابنتي بقبولها في مجال الطب البشري بجامعة بحري، لم يكن للجامعات إلا أن تعلن عن رسومها الدراسية الجديدة، وتقطع الطريق أمام ذلك الحلم، وتكشف الستار عن واقع منافسة غير عادلٍ البتة”.

قيود وأعباء إضافية

في ظل أزمة اقتصادية تشتدُ وطأتها يوماً إثر يوم، وتطال تبعاتها غالبية المواطنين السودانيين، ومؤسسات الدولة كافة، خاصة تلك التي تعتمد في تمويلها وتسيير عملها على وزارة المالية. فإن هذه المؤسسات عادةً ما تلجأ إلى فرض مزيد من الرسوم أو مضاعفة رسوم الخدمات التي تقدمها سلفاً، لتضرب بذلك قيوداً جديدة على المواطن، وهو ما تجلى في الرسوم الدراسية للعام الجديد في مؤسسات التعليم العالي الحكومية.

تضاعفت نسبة الرسوم الدراسية بصورة مهولة مقارنة بالعام الماضي، والتي كانت هي أيضاً محل رفض من قبل الطلاب. لكن ذلك لم يدفع الجامعات إلى التراجع عنها، بل استمرت في فرض زيادات جديدة هذا العام، الأمر الذي  قوبل برفض واستنكار شديدين من قبل الطلاب وأسر الطلاب المقبولين.

تعليم للمقتدرين حصراً

“ذهبت إلى الجامعة، وعلمت بشأن المقاطعة التي نظمها طلاب كلية الطب، ولم يكن هناك خيار سوى المقاطعة” تقول والدة رونق، وصال العوض، في إفادتها لـ(بيم ريبورتس).

وتضيف العوض “بالرغم من خشيتي أن تفقد ابنتي مقعدها بالجامعة، إلا أنني لن أستطيع تسديد المبلغ، خاصة وأننا فوجئنا به الآن ولم يعلن عنه قبل فترة لنتمكن من جمعه”.

لوقتٍ طويل، كانت الجامعات الحكومية ملاذاً مضموناً لجميع الطلاب السودانيين، من  مختلف الجغرافيات والأوضاع المادية، حيث تكون المنافسة سنوياً بين الطلاب على حسب نسب نجاح مرتفعة، حيث أن المستوى الأكاديمي المتميز هو الفيصل الوحيد في المنافسة للقبول بها. 

وها هي اليوم تغير سياساتها للقبول في مفاجأة لجميع الطلاب المقبولين حديثاً بفرض رسوم تعجيزية، غير آخذة في الاعتبار الأوضاع المادية لأسر الطلاب، متجاهلة كذلك الوضع الاقتصادي المتردي في البلاد.

نسب زيادة مرتفعة

شملت زيادة الرسوم الدراسية معظم الجامعات الحكومية بالبلاد، والتي يعول عليها معظم خريجي الشهادة السودانية. وعلى سبيل المثال، فإن الرسوم الدراسية في جامعة الخرطوم  تراوحت ما بين 300-500 ألف جنيه للسنة، علاوة على الزيادة في رسوم التسجيل والإجراءات المصاحبة له، مثل الكشف الطبي للطالب، بالإضافة لارتفاع تكاليف سكن الطلاب، الذي وصل إلى 60 ألف جنيه للطالب، في حين أنه لم يتجاوز الـ 5 آلاف في الأعوام السابقة.

أما في جامعة السودان، فقد قاربت زيادات رسوم الطلاب المقبولين حديثاً من النصف مليون جنيه سوداني، وأردفت بزيادة في رسوم التسجيل لدفعات مقبولة مسبقاً، حيث ارتفعت رسوم التسجيل بالنسبة لدفعة العام 2019م بنسبة 300%، كما كانت الزيادة بالنسبة لطلاب الدفعة 2020م بنسبة 1000% متجاوزة بذلك لائحة التعليم العالي بأن لا تزيد رسوم التسجيل للدفع السابقة بأكثر من 10%.

شملت الزيادة في الرسوم الدراسية معظم الجامعات الحكومية وأكثرها قبولاً للطلاب، كجامعة الجزيرة، بحري والنيلين.

دواعي زيادة الرسوم

بينما يعيش السودانيون بالأساس، في ظل ظروف اقتصادية طاحنة، فرضت الجامعات الحكومية رسوم باهظة على الطلاب بحجج مختلفة، والتي من ضمنها العجز في ميزانية الجامعات. حيث فاقمت هذه السياسات التي لم تضع الطلاب وأسرهم ضمن أولوياتها، من سوء الوضع، الأمر الذي فجر الغضب وسط طلاب الجامعات، وانخرطوا على الفور في حراك مقاوم لهذا القرارات.

في جامعة الخرطوم، نظم الطلاب حراكاً مناهضاً لهذه القرارات، ضم روابط وجمعيات الكليات المختلفة، وشرعوا في الدعوة لاجتماعات مع إدارة الجامعة بشأن قضية الرسوم الدراسية.

"قدمنا طلباً لمقابلة مدير الجامعة، لكنه رفض الجلوس معنا ثم صعدنا بمواكب حتى تقدم بدعوتنا لاجتماع، وضح فيه موقفه من قضية الرسوم، وقال إنه لن يتم تخفيض الرسوم نهائياً". يوضح رئيس رابطة كلية الآداب بجامعة الخرطوم، عمر السر، لـ(بيم ريبورتس).

بعد مقابلة الطلاب مدير الجامعة أخرجت الروابط بياناً مشتركاً وصفت فيه تصرفات إدارة الجامعة بـ”التعنت” قبل أن تدعو لمواكب طلابية متوجهة لمكتب مدير الجامعة، وأخيراً اتجه تصعيد الطلاب نحو دعوة المقبولين حديثاً بمقاطعة التسجيل حتى تخفيض الرسوم، ودعا الطلاب بالجامعة لمقاطعة المناشط المقامة من قبل عمادة شؤون الطلاب مثل الأسبوع الثقافي و بطولة الشطرنج المفتوحة إلى حين تحقيق المطالب.

لم تقتصر الاحتجاجات على ذلك القرار من قبل الطلاب فحسب، بل شاركهم ذوو الطلاب الجدد، باعتبارهم طرف أصيل متأثر بهذه الأزمة وقد تم تجاهل وضعه في الاعتبار بهذا القرار.

في هذا السياق يواصل عمر السر قائلاً: "عندما أقمنا ركناً للنقاش بالجامعة حول قضية الرسوم، قام أحد أولياء أمور الطلبة المقبولين حديثا بطلب مداخلة، قال والد الطالب إنه لا يملك حتى رسوم الكشف الطبي 20 ألف جنيه، وإن استطاع جمعها لن يكون قادراً بالتأكيد على جمع الرسوم بهذا المبلغ".

سرعان ما انضم للحراك طلاب كلية الطب بجامعة بحري، حيث أعلنت رابطة طلاب الطب رفضها القاطع لهذا القرار ووصفت الزيادة في الرسوم بـ”غير المبررة” وبعد اجتماعات مع إدارة الجامعة دعت الطلاب المقبولين حديثاً وذويهم لمقاطعة التسجيل حتى تخفيض الرسوم.

"ليس لهذا القرار شرعية، وهو متاجرة بالتعليم فقط لا غير، في حال رضينا بهذه الزيادة فسوف تصبح زيادة ثابتة سنويا في الأعوام المقبلة" يقول رئيس رابطة كلية الطب بجامعة بحري، مهدي البشير، لـ(بيم ريبورتس).

في الوقت نفسه، نظم طلاب جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا إضراباً شاملاً بالجامعة رافضين القرار الجديد بزيادة الرسوم للدفعات القديمة والرسوم الباهظة التي فرضت على الدفع المقبولة لهذا العام.

رد الجامعات

لم تختلف ردود الفعل من قبل إدارات الجامعات عن بعضها البعض كثيراً، فقد أجمعت على رفض تخفيض الرسوم الدراسية المعلن عنها. فجامعة الخرطوم، كانت قد عقدت اجتماعاً يوم الثلاثاء 20 ديسمبر برئاسة مدير الجامعة، عماد الدين عرديب، ضم الاجتماع أعضاء بإدارة الجامعة وعمداء الكليات بحضور روابط الطلاب بكل الكليات وأقرت خلال الاجتماع عدة بنود أهمها الإبقاء على الرسوم التي أقرتها الجامعة، مع النظر في حالة الطلاب غير المقتدرين.

أما جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، فقد صرحت في بيان لها، أن الزيادات المفروضة هي “نتاج طبيعي للتضخم” وأن العملية التعلمية ستتوقف “اضطرارا” إذا لم يلتزم الطلاب بدفع الرسوم الدراسية المقررة، لكن الإضراب ظل مستمراً بكليات الجامعة وكان الرد من إدارة الجامعة أن أصدرت بيانا أعلنت فيه تعليق الدراسة إلى أجل غير مسمى.

بيان تعليق الدراسة بجامعة السودان المجمع الجنوبي

نُذر الخصخصة

يرى مختصون أن هذه المرحلة هي نتيجة حتمية لارتباطها الوثيق بتردي الوضع الاقتصادي والذي من شأنه ان يضر بقطاع التعليم و ان هذه القرارات ليست إلا امتدادا للسياسة الاقتصادية الجديدة بالبلاد.

في هذا السياق يقول الخبير الاقتصادي د.معتصم أقرع لـ(بيم ريبورتس) "مثل هذه القرارات هي نتيجة لسياسات الحكومة الاقتصادية التي بدأت من موازنة العام 2020 حيث كان لهذا التوجه الاقتصادي سمات أهمها رفع الدعم و زيادة الجبايات و تعويم الجنيه، بدعوى أن أموال الدعم ستتوجه نحو التنمية وتمويل الخدمات الأساسية كالتعليم و الصحة و من الواضح أن ذلك لم يحدث، حيث أن الوضع الاقتصادي يتدهور و النمو الاقتصادي في انكماش مستمر"

ويرى أقرع أن هناك اتجاه واضح لخصخصة التعليم ورفع الدولة يدها عن مسؤوليتها الاجتماعية، باعتبار أن ذلك يقلل من فرص الترقي الاجتماعي للفرد في السودان.

ويواصل أقرع “الفقير سيظل فقيرا لأنه لن يتمكن من الحصول على تعليم مناسب لانتشال نفسه وأسرته من الفقر”.

لابد أن لكل هذه الظروف مجتمعة أثراً كبيراً على مستقبل التعليم في السودان، وفي ظل ضائقة معيشية طاحنة وأوضاع اقتصادية متردية، فإن مثل هذه القرارات تشكل عبئاً إضافيا على الفئات التي اختارت التعليم كمخرج آمن لها، ليجد المتقدم أن الجامعات الحكومية التي كانت على مسافة واحدة من جميع الطلاب في كافة أرجاء السودان، أضحت اليوم على هيئة سلعة يحصل عليها أبناء المقتدرين حصراً.

الكنائس تعاود قرع أجراسها احتفالاً بـ(الكريسماس).. كيف واجه المسيحيون السودانيون عقوداً من التضييق؟

يعاود المواطنون المسيحيون في السودان، اليوم الأحد، الاحتفال بأعياد الميلاد بالعاصمة الخرطوم بشكل اعتيادي للمرة الأولى منذ عدة سنوات، وذلك بعد إعلان تنسيقيات لجان مقاومة الولاية، تأجيل موكب 25 ديسمبر. وتقع غالبية الكنائس الرئيسية التي ستقرع أجراسها احتفالاً بأعياد الميلاد بقلب العاصمة الخرطوم.

 

وأتت خطوة لجان المقاومة على إثر ما شهدته البلاد العام الماضي خلال موكب 25 ديسمبر ضد انقلاب الجيش، حيث أغلقت الجسور الرابطة بين مدن العاصمة، وقطعت شبكتا الإنترنت والاتصالات، الأمر الذي حرم المواطنين المسيحيين من إمكانية الوصول إلى الكنائس التي يتركز أغلبها في قلب العاصمة، لأداء الصلوات والشعائر وإقامة الاحتفالات.

 

أيضاً، خطوة لجان المقاومة بتأجيل موكب يوم 25 ديسمبر، جاءت نتيجة لنقاشات ظلت تدور منذ العام الماضي، حول أهمية تأجيل التظاهرات بالتزامن مع أعياد الميلاد لتمكين المسيحيين من الاحتفال بالمناسبة بسلام.

 

و25 ديسمبر، مثل أول موكب وتظاهرة مركزية كان قد دعا لها تجمع المهنيين السودانيين قبل أربع سنوات، في ديسمبر 2018م. حيث قرر التجمع يومها تغيير فعله السياسي المتمثل في رفع عدد من المطالب التي تخص المهنيين والعمال إلى البرلمان، إلى الانخراط في التظاهرات التي انطلقت شرارتها في عدد من المدن السودانية المختلفة، ليتصدى التجمع لقيادة التظاهرات ويعلن عن تسيير موكب جماهيري إلى القصر الرئاسي بالخرطوم، من أجل المطالبة بتسليم السلطة.

تضييق مستمر ومعاناة قديمة

بدأت معاناة المسيحيين السودانيين، في عهد نظام الفريق إبراهيم عبود، الذي انتهج سياسة الأسلمة والتعريب القسريين والتي ألقت بظلالها على المسيحيين وانتهكت حقوقهم الدستورية. لكن مع فرض نظام الرئيس المخلوع، جعفر نميري (قوانين سبتمبر) في عام 1983م دخلت معاناتهم مع التمييز من قبل الدولة مرحلة فاصلة. وهو الأمر الذي عمقه نظام الإنقاذ وهي تضع نصب أعينها مشروعها الحضاري الذي سعى إلى إعادة هندسة المجتمع السوداني، ليتخذ اضطهاد المسيحيين والتضييق عليهم شكلاً ممنهجاً رعته الدولة ومؤسساتها، خاصة مع تصاعد الحرب في جنوب السودان، الأمر الذي أدخل مسألة الدين ضمن إطار سياسي وعرّف الحرب على كونها جهاد ديني.

انفراجة ولكن

لم تشهد القبضة المفروضة على المسيحيين انفراجاً إلا بعد التوقيع على اتفاق السلام الشامل وإقرار الدستور الانتقالي لسنة 2005م. لكن تلك الانفراجة والبراح الذي أتاحته الاتفاقية لم يدم لأكثر من ست سنوات، إلى لحظة انقسام السودان إلى دولتين في العام 2011م، بعدها عادت الهجمات بصورة أكثر شراسة، حيث أسقط الرئيس المخلوع، عمر البشير، كل المواد الدستورية والقوانين التي كفلت حقوق المسيحيين، وكان البشير قد صرح بأن “السودان صار دولة إسلامية-عربية خالصة عقب انفصال جنوب السودان”.

الانتهاكات

مثّلت تصريحات البشير وقتها ضوءاً أخضر أطلق أجهزة الدولة والتحريض الديني وعنفه تجاه المسيحيين؛ وبدأ تاريخ طويل من هدم الكنائس وإزالتها. 

وبعد تصريحات البشير مباشرة، أقدمت مجموعة متشددة على حرق مبنى تابع للكنيسة الإنجيلية اللوثرية بمدينة أمدرمان في يونيو 2011م. وفي مطلع العام 2012م، حرق مجموعة من الأهالي بمنطقة الجريف مجمع كنسي في المنطقة بعد تحريض علني من قبل أحد الشيوخ السلفيين، ولم تحقق الشرطة في الحادثتين.

 

لتقدم السلطات المحلية بالخرطوم بإزالة مباني الكنيسة الأسقفية بالحاج يوسف، بزعم أنها شيدت بصورة عشوائية ودون ترخيص من السلطات، وتجدر الإشارة إلى أن تلك الكنيسة أنشئت في العام 1978م وكانت تمارس فيها الشعائر الدينية منذ ذلك الحين.

وفي إفادته لـ(بيم ريبورتس) يقول أحد المنتمين للكنيسة الإنجيلية في بحري، رأفت سمير، “شهدت أعياد الميلاد ما قبل الثورة تضيقياً على المسيحيين، حيث يعتقل القساوسة ويهجم على الكنائس، علاوة على عدم منح المسيحيين عطلة العيد”.

تأثير الثورة

بعد الإطاحة برأس النظام السابق في 11 أبريل 2019م، علق مسيحيو السودان آمالاً في أن تسترجع لهم الحكومة الانتقالية حقوقهم التي تعرضت للانتهاك والسلب على مدى عقود. عملت الحكومة الانتقالية، في فترة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، على إجراء عدداً من التعديلات المتعلقة بالتشريع، بالإضافة إلى قانون الأحوال الشخصية، وقامت بإلغاء حد الردة، ووضع عقوبة جنائية على التكفير. إضافة إلى إعادة الحكومة عطلة عيد الكريسماس التي كانت لغتها حكومة الإنقاذ بعد انقسام السودان في 2011م.

جهد غير كاف

لكن الحقوقي والمحامي، ديماس مرجان، يرى في إفادته لـ(بيم ريبورتس) أن الحكومة الانتقالية شهدت تغيراً في شكل الخطاب، وكان متوازناً إلى حد كبير في التعامل مع ملفات الحريات الدينية. لكنه يعود ويقول برغم الخطاب المتزن إلا أنه لم ينعكس بصورة واضحة على مستوى التطبيق.

 

يذهب رأفت سمير في ذات اتجاه مرجان، ويقول”لم تكن للحكومة الانتقالية الرغبة الحقيقية للتعامل مع الانتهاكات التي يتعرض لها المواطنون المسيحيون، وكان تركيزها ينصب على إرضاء المجتمع الدولي ورفع العقوبات. لكنها لم تشرع في رد المظالم التاريخية والأصول التي صودرت في عهد الإنقاذ”.

 

توجت مساعي الحكومة الانتقالية بشطب السودان من قائمة المراقبة الخاصة بالحريات الدينية، وكانت الولايات المتحدة قد أدرجت السودان عام 1999م على القائمة السوداء حول الحريات الدينية ضمن مجموعة من الدول، قبل أن تنقلها في 20 كانون أول/ديسمبر 2019م، إلى قائمة المراقبة. ثم إزالتها بشكل نهائي.

 

لكن ما بعد انقلاب الجيش في 25 أكتوبر 2021م فإن الأوضاع قد شهدت تراجعاً كبيراً بالنسبة للمسيحيين في السودان، عادت الانتهاكات مرة أخرى، وليس ما شهدته ولاية القضارف (شرق السودان) من إقدام نظامي يتبع للجيش بحرق كنيسة المسيح السودانية بمنطقة الدوكة، إلا أكبر دليل على ذلك.

المسيحية في السودان القديم

للمسيحية في السودان تاريخ ضارب في القدم، وهو يعود إلى قرونٍ مبكرة من العهد المسيحي، بصورة أكثر تحديداً إلى نهاية النصف الأول من القرن السادس الميلادي، حيث شهد السودان تشكل ممالك في شمال وأواسط البلاد اتخذت من المسيحية ديانة رسمية لها. حيث قامت ثلاث ممالك مسيحية، وهي مملكة نوباتيا (543م) وعاصمتها فرس، ومملكة المقرة (569م) وعاصمتها دنقلا العجوز، ومملكة علوة(580م) وعاصمتها سوبا. ولاحقاً اندمجت مملكتي المقرة ونوباتيا في مملكة واحدة، ومع دخول المسلمين بلاد النوبة بقيادة عبد الله بن أبي السرح انتهى الأمر بعقد الصلح بين الطرفين فيما عرف باتفاقية البقط.

دولة المواطنة

مع عدم وجود تعداد دقيق في السودان، إلا أن أحدث التقديرات تشير إلى أن سكان البلاد يبلغ 45.6 مليون نسمة، يدين 91% منهم بالإسلام، بينما تتوزع على 5.4% مسيحيون، و 2.8% ديانات شعبية، والباقي يتبع ديانات أخرى أو غير منتمين لأية ديانة. علاوة على  وجود ما يزيد عن المليون لاجئ وطالب لجوء في البلاد.

وفي ظل هذه الإحصاءات، فإن سؤال المواطنة المتساوية دون تمييز على أساس الدين يظل قائماً في سبيل كفل الحقوق والواجبات الدستورية، في بلدٍ عرف بالتنوع الثقافي والديني والإثني.

أقدم بنايات الخرطوم.. كيف اختزن القصر الجمهوري حكايات السودان لنحو مائتي عام؟

يمكنك تمييز حتى ألوانه، وسرعة وبطء أرجحة الهواء له في ساريته الشامخة إلى أعلى. هكذا يبدو للناظر إلى القصر الجمهوري، عَلَم السودان، وهو يرفرف في أزمنة الخرطوم، ما قبل وبعد الاستقلال، قبل أن تتغير ألوان العلم نفسه، وتطمس المباني المتناثرة بلا هدف، هوية المدينة المعمارية القديمة، التي أعاد تخطيطها البريطانيون على شكل علم بلادهم.

 

زحف المباني الفوضوي في مدينة الخرطوم المعاصرة وصل إلى القصر الجمهوري نفسه، بعدما تم تشييد قصر جديد بجواره في عام 2015م، تضافر ذلك مع إغلاق واجهة القصر المطلة على شارع النيل بحاجز حديدي، والذي أنهى تقليداً تاريخياً، كان يتمثل في تلقي الشعب تحية شرفية من حراس القصر كلما مدّ أي مواطن عابر يده محيياً أو أطلق صافرة سيارته.

 

شيدت سرايا الحكمدار، وهو أول اسم أطلق على القصر الجمهوري، في عام 1832م. وتشكّلت في البداية، من قاعة استقبال ذات سقف مرفوع فوق عروق خشبية غير مهذبة. أما أرضها، فكانت من التراب المدكوك وكانت تُرش مرة كل ساعتين، ويحيط بثلاثة جوانب منها ديوان مقام من الطين ومُغطى بألواح الخشب، وبينما كان هذا الديوان مفروشاً بالسجاد الفاخر ومساند الحرير، كان الحصير من أوراق شجر الدوم يغطي أرض القاعة. 

 

مع استتباب الحكم التركي – المصري للبلاد، كانت عودته لتاريخ الخرطوم القديم حتمية، فاستخدم الآجر المنقول من بقايا مدينة سوبا الأثرية وبعض المباني القديمة التي ترجع للعهد المسيحي في السودان، في إعادة بناء السرايا بين عامي 1849-1851م، التي كان قد تم هدمها بالكامل.  

 

“كانت سرايا الحكمدار بعد اكتمال بنائها أعجوبة أهل الخرطوم ومشايخ العرب من زوارها، الذين كانوا لا يصدقون أنها من عمل الإنسان وحده”، يقول الباحث المصري، أحمد أحمد سيد أحمد، في كتابه “تاريخ مدينة الخرطوم”.

 

ويتكوّن مبنى القصر الجمهوري من طابقين، بالإضافة إلى جزء أرضي وهو من المعالم المعمارية الرئيسية في الخرطوم، وتطل واجهته الرئيسية على النيل الأزرق شمالاً. للقصر ملحق به مسجد وكانت فيه كنيسة، لكن الحكم الوطني، حوّل مبنى الكنيسة إلى متحف، بعدما أزيل جزءاً منها وهو برجها. 

ويطل من الناحية الجنوبية على ساحة صغيرة كانت تحمل اسمه (ساحة القصر)، قبل أن يطلق عليها اسم حدائق الشهداء أخيراً.

حتى وقت قريب كان المتحف يفتح أبوابه أمام الزوار، أيام: الجمعة والأحد والأربعاء.

 

 وتم افتتاح المتحف الواقع في حديقة القصر رسمياً فى 31 ديسمبر 1999، وهو يضم المشاهد التاريخية التي كان مسرحها القصر الجمهوري خلال الحقب التاريخية المتعاقبة من تاريخ السودان الحديث، ويضم كذلك عدة مقتنيات أثرية وتراثية مختلفة ومتعددة ومكتبة. 

 

 وجرى تصميم القصر على نمط المباني الأوربية الكبيرة التي كانت سائدة في أوروبا في القرن السابع عشر، مع لمسة شرق أوسطية تتمثل في الأبواب والنوافذ المقوسة إلى جانب النوافذ الرومانية والإغريقية والشرفات والفرندات على الطراز البحر متوسطي.

 

ومع ذلك، في عهد الحكم الثنائي “الإنجليزي – المصري” للسودان، (1898-1955م)، أجريت بعض التعديلات عليها سنة 1900م، بعدما أهملت في عهد الدولة المهدية (1885-1898م)، وهدم جزء كبير منها، وفي 1912 بنيت فيها كاتدرائية.  وأطلق عليها سرايا الحاكم العام، وعرفت أيضاً باسم القلعة، نادراً.

تاريخ مدينة الخرطوم:

ومدينة الخرطوم لا تحتضن القصر الجمهوري وحسب، وإنما ينطوي تاريخها الحديث على التغيرات السياسية والاجتماعية التي عرفها السودان وشكلت وجوده الحالي.

 

وهي عرفت الحياة ودب فيها الإنسان قبل مئات السنين من ميلاد المسيح، بينما تم تأسيسها كعاصمة من قبل الحكم التركي المصري للسودان في 1830م. في ضاحيتها الجنوبية نحو عشرين ميلا،  كانت توجد مدينة سوبا عاصمة دولة علوة المسيحية التي سقطت بيد تحالف العرب والفونج 1504. و“تعرف المنطقة بالاسم ذاته حالياً. وتعد من أعظم مدن السودان المسيحي قاطبة، وكان فيها أبنية حسان ودور واسعة وكنائس كثيرة الذهب وبساتين”، يقول صاحب كتاب تاريخ الخرطوم. 

 

ومع أن مدينة الخرطوم في نسختها الحديثة خلق استعماري، إلا أن التاجر الخرطومي، الأوروبي، برون روليت، يقول إنها قديمة، وأنها كانت حتى  قبل الحكم التركي – المصري بنصف قرن مدينة عظيمة عندما هاجمها “الشلك” إحدى قبائل أعالي النيل الأبيض، جنوب السودان، ذات ليلة من ليالي سنة 1772 وقتلوا أهلها ودمروها، فانتهى وجودها في ذلك التاريخ حتى جاء الحكم التركي المصري فأعاد تأسيسها. 

 

وتجمع غالبية المصادر، على أن الخرطوم أخذت اسمها من شكل لسان الأرض المحصور بين النيلين الأبيض والأزرق، الشبيه بخرطوم الفيل، إلا أن آخرين يربطون اسم الخرطوم وقبيلة الشلك التي تعيش في جنوب السودان، على أساس أنه يتكون عندهم من مقطعين معناهما معاً “نقطة التقاء مجريين مائيين”.

 

ويقول الباحث المصري: “إن منطقة مقرن النيلين تقع طوال العصور القديمة في وطن النيليين، وهو الأمر الذي أثبتته القرائن المادية القاطعة. يضيف: “فقد كشفت الحفائر سنة 1954م، عن موطن للنيليين في الطرف الجنوبي لمدينة الخرطوم الحالية ترجع حضارته إلى عصر ما قبل الأسرات، كما ثبت أنه كان مأهولاً في العصر النوباتي والمروي (٧٥٠ – ٣٥٠) قبل الميلاد.  نسبة لمملكتي نبتة ومروي في السودان، وقد عُثر أيضاً على أكثر من إثني عشر موضعا حول مقرن النيلين لسكنى هؤلاء النيليين.

 

بالقرب من محيط القصر الجمهوري، توجد أهم المباني الأثرية في الخرطوم، على رأس تلك المباني مبنى جامعة الخرطوم، الذي شيده أول حاكم عام للسودان في عهد الحكم الثنائي اللورد كتشنر، تخليداً لذكرى غوردون، وتم افتتاحها 1902 باسم كلية غوردون التذكارية.

وكذلك مبنى البريد والبرق، ومبنى وزارة المالية والداخلية ويقعان بشارع النيل، بالإضافة إلى مقبرة ترجع إلى الحكم التركي – المصري، وهي قباب يرقد فيها بعض حكمداري الحكم التركي – المصري، بالإضافة إلى كاتدرائية القديس متى، المشيدة على الطراز الفيكتوري. 

 

ومحيط الخرطوم الرئيسي، تم تخطيطه على شكل العلم البريطاني، وذلك يشمل شارع القصر الجمهوري، وسابقا كان يُسمى شارع فيكتوريا، ويشمل ذلك كل المدينة جنوب شارع القصر إلى جامعة الخرطوم،  وأكبر تجسيد للعلم البريطاني يظهر في تقاطع سانت جيمس الواقع بقلب الخرطوم، وكان قبل تطبيق القوانين الإسلامية في السودان، توجد بالقرب منه أشهر بارات المدينة.

أحداث شهدها القصر:

في فجر السادس والعشرين من يناير 1885م، اقتحم أنصار الثورة المهدية مبنى سرايا الحكمدار في العاصمة الخرطوم قبالة النيل الأزرق وقتلوا حاكم عام السودان وقتها، الجنرال الإنجليزي تشارلز غوردون، في درج الطابق الأول.

عندما وصلت ما عُرفت بحملة إنقاذ غوردون القادمة من بريطانيا قريباً من الخرطوم، كان أنصار المهدي قد قضوا على غوردون وسلموا رأسه للمهدي في عاصمته الجديدة بمدينة أمدرمان، على الضفة الغربية للنيل الأبيض، ونهر النيل. 

 

وتقع مدينة الخرطوم شرقي النيل الأبيض وجنوبي النيل الأزرق ويلتقي فيها النيلان الأزرق والأبيض في “مقرن النيلين” مكونان من بعد، نهر النيل، أحد أطول الأنهار في العالم.

 

 

قبيل الاستقلال بعامين، شهد القصر الجمهوري أحداثاً دموية، وذلك عشية مقدم الرئيس المصري الراحل، محمد نجيب إلى الخرطوم، في مارس 1954م إذ سقط العشرات من أنصار حزب الأمة الذي كان يرفض الوحدة مع مصر، قتلى قبالة البوابة الغربية للقصر الجمهوري، عندما حاول أنصار حزب الأمة اقتحام القصر، بوجود الرئيس المصري فيه. وسُميت تلك الأحداث في التاريخ السياسي السوداني، بأحداث الأول من مارس.

 

لم تمر أكثر من عشر سنوات على أحداث الأول من مارس 1954م، حتى عرف قصر الجمهوري أحداثاً دموية جديدة، عندما أطاحت ثورة  أكتوبر 1964، بحكم الجنرال إبراهيم عبود، ولكن قبل أن يحل عبود مجلسه العسكري أواخر الشهر نفسه، أردت قوات الحرس الجمهوري أكثر من ٢٢ قتيلاً أمام القصر الجمهوري، عندما حاولت الجماهير اقتحام المبنى.

 

في الحقبة التي تلت ذلك، وبينما كان الرئيس المخلوع جعفر النميري في إقامة جبرية بداخل القصر بُعيد انقلاب عسكري أطاح بحكمه لمدة ثلاثة أيام، في 19 يوليو 1971م، شهد المبنى الأثري حوادث إطلاق نار، ولكن بعد أن فرّ منه نميري في اليوم الثالث وآلت إليه الأوضاع في النهاية، زعم بأن الشعب حماه داخل القصر، لذا أطلق على المبنى اسم قصر الشعب. لكن، بعد انتفاضة مارس/أبريل 1985م، التي أطاحت بحكمه أعادت تسميته لما كانت عليه منذ حلول الحكم الوطني في 1956م (القصر الجمهوري) وهو الاسم الرسمي للمبنى حتى الآن.

حكام القصر:

في خضم أحداث دموية عديدة، بالمقابل يشهد القصر على أهم انتصارات السودان عندما تم إنزال علمي الحكم الثنائي ورفع العلم السوداني في أعلى سارية القصر، معلنا استقلال السودان في الأول من  يناير 1956م. 

ومنذ الاستقلال، استقبل القصر الجمهوري 9 رؤساء، بينهم 6 جنرالات جيش، وصلوا إليه عبر انقلابات عسكرية وفترات انتقالية، بالإضافة إلى أربعاء رؤساء مدنيين منتخبين وانتقاليين.

القصر الجمهوري: بين الماضي والحاضر

لكل تلك الأحداث أثرها على السودانيين، بما في ذلك منظورهم الخاص لرمزية القصر، وارتباطه بأحداث تاريخية تحتضنها الذاكرة الشعبية والتي لطالما كانت حاضرة في خطابات الثورة و أدبياتها، يستدلون بها الطريق نحو المقاومة حقبة تلو الأخرى. الآن، وبعد مرور أكثر من عام على انتفاضة شعبية اندلعت منذ فجر الخامس والعشرين من أكتوبر، إثر انقلاب قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، يخرج الآلاف بشكل دوري قاصدين القصر الجمهوري للمطالبة بإسقاط الحكم العسكري في السودان .

 

تلك الوجهة التي تحمل في طياتها قصص الحكم الاستعماري، أثره الجلي على الخرطوم، طابع المدينة السياسي والاجتماعي والثقافي، عمارتها المتباينة شوارعها وطرقاتها، أحلام وآمال الملايين بإنهاء عصر الانقلابات العسكرية وميلاد الدولة المدنية الديمقراطية. يودون فقط الذهاب إلى القصر احتفالاً باستقلال بلادهم والتنزه في حديقته وأخذ العبرة من ذاكرته التي تعج بتاريخ الانقلابات العسكرية المتواترة التي عرفها السودان ولحظات الإطاحة بها، المشاهد الدموية ولحظات الانتصار.

غاب لثلاث دورات متتالية.. كيف عصفت الأزمات بمعرض الخرطوم الدولي للكتاب؟

على مدى السنوات الثلاث الأخيرة، شهد معرض الخرطوم الدولي للكتاب، تخبطاً وتعثراً كبيرين، الأمر الذي ألقى بظلاله على واحدة من أهم الفعاليات الثقافية السنوية الراتبة في البلاد. وبرغم تعدد أسباب تعطل المعرض من صحية إلى سياسية، إلا أنها بالمقابل، فاقمت من المشكلات التي تواجه صناعة النشر الهشة في الأساس، وبات عدم ثقة الناشرين المحليين والدوليين في معرض الخرطوم الدولي للكتاب، واحدة من الأزمات التي تواجه القطاع الثقافي في البلاد. 

وكان أول غياب للمعرض في العام 2020، حينما أعلنت وزارة الثقافة عن تجميد المعرض نظراً لجائحة كورونا، على أن يُعد للمعرض في وقت لاحق، حال انتفاء أسباب التجميد. أما العام الماضي، فقد شكّل  انقلاب 25 أكتوبر العام ال، الضربة الأكبر للمعرض وسمعته، وتسبب في تعرض ناشرون محليون دوليون لخسائر كبيرة.

ومنتصف سبتمبر الماضي، أصدر وزير الثقافة والإعلام (المكلف من قبل السلطة الانقلابية) جراهام عبد القادر قراراً بتأجيل الدورة السابعة عشر للمعرض من موعدها المحدد مسبقاً بـ 19 أكتوبر إلى أجل “يحدد لاحقاً” بحسب عبد القادر، لكن ها هو ديسمبر يسدل ستاره على نهاية العام 2022م دون جديدٍ يذكر. 

وتمثلت أسباب تأجيل دورة المعرض للعام الحالي بحسب بيان وزارة الثقافة في السيول والأضرار التي ترتبت عليها، وضرورة توجيه الدولة للوقوف مع المتضررين، فضلاً عن تقلب الفاصل المداري الذي ينذر بغزارة الأمطار، بالإضافة لمنح مزيد من الوقت لإجراء الترتيبات الفنية والإدارية لتقديم دورة متميزة ومثالية.

 

لكن ناشرين لا يتفقون مع تبريرات الوزارة لعدم إقامة معرض الخرطوم الدولي للكتاب، حيث يذهب الناشر والوراق محمد عمر،  في إفادته لـ(بيم ريبورتس) إلى أنه “لطالما كان هناك تهميش وعدم اهتمام كاف بالثقافة والسياسات المتعلقة بها، وذلك نتيجة لجهل السياسيين بالعمل الثقافي، بل استسهاله والتغول عليه”، ويضيف عمر: “في نسخة 2020 التي ألغيت بذريعة كورونا، لم تبذل الجهات الرسمية أي محاولات جادة لإقامة المعرض، وبعدها بأقل من شهرين نُظم معرض الخرطوم الدولي في نفس المكان، مع توفير الاحترازات الصحية”.

تبعات انقلاب 25 أكتوبر

في أكتوبر من العام الماضي، عملت وزارة الثقافة بالحكومة الانتقالية على تنظيم معرض الكتاب بشكل جيد، حيث وفرت عدداً من الكتب المطلوبة، بالإضافة إلى مشاركة ما يزيد عن مئتي دار نشر محلية ودولية، أتت تلك النسخة بعد مجهودات نوعية كبيرة من فاعلين ثقافيين وحوارات عميقة لتنظيم نسخة مغايرة للمعرض. 

 

وكان وزير الثقافة والإعلام حينها، فيصل محمد صالح، قد صرح في نسخة المعرض عام 2019م، بأنهم كانوا أمام خيارين نسبة لظروف البلاد؛ إما المضي في المعرض أو الاعتذار فآثروا الخيار الأول لتأكيد استقرار السودان وأن الحياة الثقافية في قمة عنفوانها. تجدر الإشارة، إلى أن نسخة السنة الماضية من المعرض، لم تشهد تقييد أو منع عرض الكتب التي لطالما تعرضت للهجوم والرقابة من قبل نظام الإنقاذ في المعارض السابقة، وهو ما دفع الكثيرين بالتفاؤل بأن ينفض المعرض غبار السنوات الماضية، ويتخفف من الرقابة.

 

لكن الآمال التي عُقدت على تقديم نسخ مختلفة عن المعرض لم تدم طويلاً، فبعد يومين فقط من انطلاق المعرض، أطاح قائد الجيش عبد الفتاح البرهان بالحكومة الانتقالية، الأمر الذي عجل بتعليق كل فعاليات المعرض، وجزء من هذا الإغلاق كان احتجاجاً على الانقلاب نفسه واعتقال أعضاء الحكومة الانتقالية؛ من رئيس الوزراء ووزير الثقافة والإعلام.

 

وصرح مدير المعرض في ذلك الوقت، حاتم الياس أن”الانقلابات العسكرية خصم طبيعى للمعرفة والثقافة ولا يمكن أن يقام المعرض في هذا الظرف الاستثنائي”. وتقدم الياس مدير المعرض، باعتذاره إلى دور نشر محلية ودولية وكل المشاركين في المعرض.

مستقبل ضبابي

يلقي ما شهده معرض الكتاب خلال الدورات الثلاث بظلاله على مستقبل هذه الفعالية ومدى مشاركة دور النشر المحلية والدولية بصورة خاصة، بحيث يتطلب الأمر مجهودات حثيثة لاستعادة ثقة هذه الدور واتحادات النشر الدولية. 


وتجدر الإشارة إلى أن ما يعيشه معرض الخرطوم، هو جزء من ضمن مشكلة كبيرة يعيشها السودان في قطاع النشر وتعاطي الدولة مع الثقافة، الأمر الذي يصاحبه إشكالات سياسية واقتصادية. هذا الأمر الذي حاولت النسخة الأخيرة من المعرض معالجته، بحيث كونت لجنة من مختصين للتنسيق والإشراف على المعرض، وحملت الدورة الماضية شعار “العودة إلى الكتاب” وهي المحاولة التي هدفت لإخراج الكتاب وقضاياه من سنوات الرقابة والمصادرة والتضييق على النشر، الذي شهد تراجعاً كبيراً خلال الفترة الماضية. 


وفي هذا السياق، يعود الناشر والوراق محمد عمر ويقول:”إن سوق الكتب في السودان لم يشهد تجديداً منذ ثلاث سنوات وذلك لغياب المعرض الذي يمثل فرصة ممتازة لمشاركة الدور المختلفة في هذه الفعالية، كما أنه فرصة للدور والمكتبات المحلية لتحقيق أرباح تساعدها في إنعاش مكتباتها بعناوين جديدة”.

ما يشهده معرض الخرطوم الدولي للكتاب من تغييب امتد لثلاث سنوات، وعدم توفر الدعم المادي والاهتمام الكافي، يدلل على موقع الثقافة في السودان، وطريقة النظر إليها كشيء ثانوي، وما غياب معرض الخرطوم الدولي للكتاب لثلاث دورات كاملة إلا دليلاً على هذا الأمر.

وفي ظل تحديات سياسية واقتصادية يعيشها السودان، فإن معرض الخرطوم للكتاب في حاجة ماسة من الجهد والموارد من أجل استعادة وضمان تحقيق أهدافه كتظاهرة ثقافية عابرة للحدود.

كيف تحولت المصارعة السودانية من طقس ثقافي بجبال النوبة إلى رياضة شعبية واسعة الانتشار؟

للوهلة الأولى التي تسمع فيها هتافات وتشجيع الجمهور، قد تعتقد أنك في حدث يخص كرة القدم، ولكن ما إن تقترب للساحة التي يحفها المشجعون، حتى ينكشف الأمر، فهناك مصارعان يتوسطان ساحة مفروشة بالرمل، ويتعاركان بالأيدي في سبيل إسقاط المنافس أرضاً والفوز بإحدى جولات المصارعة السودانية (الصُراع).

وللمصارعة (الصُّراع) تاريخ ضارب القدم في جنوب كردفان (إقليم جبال النوبة)، حيث بدأت من هناك كممارسة ثقافية وجزء من هوية المجموعات القبلية المختلفة وهي ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية كذلك.

ارتبط الصُراع في الأساس بالاحتفالات والمهرجانات المصاحبة لموسم الحصاد؛ ما بين أغسطس وديسمبر من كل عام. حيث تتضمن عرضاً فنياً يقدمه المتصارعون قبل المباراة. وجزء من هذه الثقافة، أن لكل مجموعة قبلية عدداً من المصارعين الشُبان التي تحرص على تدريبهم وخلق نظام غذائي متكامل (يتضمن اللبن الطازج واللحوم والعسل والسمسم) حتى يتمكنوا من منافسة المصارعين من المجموعات القبلية الأخرى.

فضاءات جديدة

مع الحروب الأهلية المتواترة التي شهدها السودان، والتي كان إقليم جنوب كردفان ضمن نطاقها، فإن الكثيرين بدأوا في النزوح منذ السبعينات، هرباً من ويلات الحروب، وبحثاً عن مساحات جديدة وآمنة. وحملت حركة النزوح، التي كانت إلى عدد من الولايات الأخرى، ولكنها تمركزت في العاصمة الخرطوم وأطرافها بصورة كبيرة، علاوة على تراث وثقافة وطقوس  المجموعات النازحة، مثل الرقصات ومنها (الكرنك، الكمبلا) وكذلك المصارعة. لتلقى الأخيرة إقبالاً واسعاً كرياضة، ولاحقاً انشأت العديد من حلبات المصارعة في منطقة الحاج يوسف (شرق النيل) ومنطقة أبو حمد (مدينة أمدرمان) حيث يتجمع فيها جمهورمتنوع من السودانيين والأجانب مرتين كل أسبوع من أجل الفرجة وتشجيع المصارعين.

صاحب تحول المصارعة من كونها ممارسة ثقافية إلى رياضة تغييراً في بعض قواعدها، وحتى الطريقة التي يتزين بها المصارعون (الفرسان كما يطلق عليهم في جبال النوبة) وأصبح لهذه الرياضة قوانين وقواعد تحكمها، كما وأنه تأسس اتحاد المصارعة السودانية الذي يشرف عليها. وصار انتماء اللاعبين إلى أندية وليس إلى مجموعاتهم القبيلة التي يتحدرون منها.

ونظراً للتشابه الكبير بين المصارعة السودانية ومصارعة السومو اليابانية، فقد شهدت ساحات المصارعة السودانية مشاركة بعض اليابانيين فيها، ومن ضمنهم الدبلوماسي الياباني ياسوهيرو موروتاتسو في عدة مناسبات.

في مارس الماضي، اختتمت بمدينة خشم القربة (ولاية كسلا) الدورة الخامسة لبطولة الجمهورية للمصارعة. الفعالية التي بدأ الاتحاد الرياضي السوداني للمصارعة في تنظيمها لأول مرة في العام 2017م بمدينة الخرطوم، لتصبح بعدها محفلاً سنوياً شهدته كل من: ولايات القضارف، كسلا، النيل الأزرق ثم كسلا مرة أخرى في مارس 2022م. حيث جاءت البطولة تحت شعار “بالمصارعة نعزز السلام” وشاركت فيها ست ولايات؛ وهي: جنوب كردفان – النيل الأبيض – القضارف – الخرطوم – البحر الأحمر وكسلا) فيما اعتذرت ولايات غرب وشمال كردفان، وسنار والشمالية والنيل الأزرق.

مشاركات دولية

خلال الأعوام الماضية، شارك منتخب السودان للمصارعة في عدد من البطولات الأفريقية والعربية، واستطاع المنتخب، أن يظفر بعدد مقدر من التتويجات والميداليات؛ ميداليتين برونزيتين في البطولة الأفريقية في نيجيريا عام 2018م، وخمس ميداليات أخرى بالبطولة العربية في شرم الشيخ (جمهورية مصر العربية). وعزز المنتخب من خبرته ومشاركته العالمية ليتوج ذلك بحصد 12 ميدالية في البطولة العربية 2019م وبطولة إبراهيم مصطفى الدولية.

وشهد مايو الماضي اختراقاً جديداً للمصارعة السودانية في المحافل الدولية، حيث حققت لاعبة المصارعة السودانية، باتريسيا سيف الدين، وهي أول مصارعة تشارك في بطولة خارجية، المركز الثالث والميدالية البرونزية في وزن 68 كجم خلال البطولة الأفريقية التي استضافتها المغرب بمشاركة 34 دولة.

وتجدر الإشارة إلى أن باتريسيا هي واحدة ضمن فتيات كثر انخرطنْ في رياضة المصارعة، ضمن مشروع اكتشاف المواهب، البرنامج الذي ينظم بشراكة بين اللجنة الأولمبية الدولية والاتحادات الدولية، الأمر الذي استفاد منه اتحاد المصارعة في العام 2018م.  وحجزت باتريسيا أحد المراكز الأولى ضمن برنامج المواهب، وهي تخوض استعداداتٍ للمشاركة في أولمبياد باريس 2024م.

أجيال جديدة

عزز ازدهار المصارعة وقدرتها على خلق جمهور من كل الفئات العمرية من ضرورة وجود مؤسسات ترعى وتقدم التدريب للأجيال الشابة من الجنسين، وهو ما شرع فيه اتحاد المصارعة بتنظيمه دورة الفنون القتالية للبنين والبنات (ما بين 7 – 19 سنة) في سبيل تطوير رياضة المصارعة عبر توفير التدريب والمهارات اللازمة لها. 

وشهد يوليو من العام الماضي، إقامة الدورة الخامسة من مشروع مدرسة الفنون القتالية، المشروع الذي يستهدف طلاب وطالبات المدارس، حيث شارك 150 طالباً وطالبة من مدرستي الوحدة الوطنية أساس بنين وبنات (شرق النيل). وينفذ المشروع بواسطة الاتحاد الرياضي السوداني للمصارعة عن طريقة شراكة مع المركز الدولي للفنون القتالية (دولة كوريا الجنوبية) تحت رعاية منظمة اليونسكو.

انتشار المصارعة وتحولها من نشاط اجتماعي وطقوسي ارتبط بمواسم الحصاد والاحتفالات في إقليم جبال النوبة، إلى رياضة تنتشر في أرجاء السودان المختلفة، ويتابعها جمهور متنوع، يُقدّم ملمحاً عن التداخل الثقافي بين كقيمة تعتمد على انفتاح هذه الثقافات على بعضها البعض.

(8) ولايات سودانية تحت وطأة (حمى الضنك).. كيف استجابت السلطات؟

منذ عدة أسابيع والحمى النزفية (حمى الضنك) تضرب ولاية شمال كردفان، قبل أن ينتقل المرض سريعاً إلى 7 ولايات أخرى، وذلك في ظل تعتيم رسمي ونظام صحي متهالك، يعاني من تبعاته ملايين السودانيين.

يصف عضو لجنة مقاومة منطقة طيبة جنوب بـ(ولاية شمال كردفان)، خطاب إدريس، الوضع الصحي، بالخطير، ويقول “في حيّنا فقط توجد 21 حالة إصابة مسجلة بحمى الضنك و4 حالات وفاة خلال الأسبوعين الماضيين، وهناك وفيات أخرى في أحياء مجاورة”. 

ويضيف إدريس لـ(بيم ريبورتس):“نعمل كمتطوعين لجمع التبرعات وشراء الاحتياجات اللازمة لرعاية المرضى المصابين في منازلهم ونقوم بتوفير الكوادر الطبية، ومعظمهم من طلاب وطالبات كليات الطب، نسبة لاكتظاظ المستشفيات والضغط الكبير والمتواصل على الطواقم الطبية فيها”.

وحمى الضنك، هي عدوى فيروسية تنتقل عبر الدم الملوث، حيث  تعمل إناث البعوض من نوع (الزاعجة المصرية)، على نقل المرض عبر لدغ شخص مصاب بالمرض وآخر غير مصاب، ويمكن أن تنقل هذه البعوضة حميات أخرى مثل (الشيكونغونيا) و(الحمى الصفراء)، وتنتشر هذه الحمى في المناخات المدارية وشبه المدارية. تسبب حمى الضنك، اعتلالات خطيرة قد تؤدي لوفاة المريض.  بالرغم من عدم وجود علاج محدد لها، إلا أن الإبكار في الكشف عنها وتلقي الرعاية الصحية المناسبة يقلل من معدلات الوفيات الناجمة عنها.

في 6 نوفمبر الحالي، كشف تقرير صادر عن الإدارة العامة للطوارئ الصحية التابعة لوزارة الصحة، عن تأثر 8 ولايات سودانية بحمى الضنك؛ وهي: (شمال كردفان، غرب كردفان، شمال دارفور، جنوب دارفور، غرب دارفور، البحر الأحمر، النيل الأبيض، وكسلا).

الأبيض.. تجاهل الاستغاثة

في الـ 21 من أكتوبر الماضي، بدأ نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي بمدينة الأبيض، في تداول معلومات عن انتشار حمى غريبة تصاحبها آلام مفاصل، بعدها بأيام، انطلق وسم (الأبيض تنزف)  والذي تحول إلى فضاء واسع لمشاركة عشرات القصص والصور التي تحكي تفاصيل الكارثة الصحية التي تعاني منها المدينة، وواقع النظام الصحي المتهالك في مواجهة الوباء الفتاك، حيث تنتشر الحمى في كل المنازل وتكتظ المستشفيات بالمرضى، فيما تحولت السيارات إلى وحدات علاجية. 

وقبل أن تستجيب السلطات المعنية للسيطرة على الوضع الصحي بالبلاد، كان مواطنو مدينة الأبيض الذين اعتبروا أن ما يحدث تعتيم رسمي، قد أخذوا على عاتقهم تكوين مبادرات ولجان قامت بأدوار مختلفة لمجابهة المرض. حيث تعمل المبادرات بالتكامل مع الكوادر الصحية في الأبيض وشباب الأحياء وكل من بيده تقديم مساعدة سواء بالرش أو المتابعة الصحية للمرضى، علاوة على التوعية الصحية وسط سكان المدينة وتثقيفهم حول الوباء وطرق التعامل معه.

تعتمد الوقاية من حمى الضنك ومكافحة انتشارها على اتخاذ تدابير فعالة لمكافحة نواقلها. بالنسبة للسودان، فإن حمى الضنك فيروس قديم ومن الوارد تجدد انتشاره في الفترة التي تعقب الخريف، حيث أن المياه الراكدة التي تعقب أمطار فصل الخريف تزيد من انتشار البعوض الناقل لفيروس حمى الضنك، ما يجدد إمكانية انتشار الفيروس سنوياً عقب فصل الخريف. 

حول الوضع بولاية شمال كردفان، يعود إدريس ويضيف قائلاً: “في الأسبوعين الماضيين كانت مدينة الأبيض تعاني ظروفاً صعبة، يوجد تكدس بالمستشفيات ونقص حاد في الإمدادات الطبية الأساسية للمرضى، خاطبنا المحلية بشأن احتياجاتنا لتوفير ناموسيات وطلمبات رش ومحاليل وريدية للمراكز الصحية، وكان الرد من المدير التنفيذي للوحدة، أن وزارة الصحة لم ترد حتى الآن”.

لكن، ثمة فرق كبير بين ما رواه مواطنو مدينة الأبيض، التي شهدت أكبر موجة انتشار للمرض حتى الآن، ورواية السلطات، وذلك يبدو واضحاً حسب مقاطع فيديو وصور بثها نشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي على الانترنت، عن أوضاع المستشفيات وصفوف المحاليل الوريدية وعدد الوفيات المتزايدة يوماً بعد يوم.

ويشير أحدث تقرير في 19 نوفمبر لوزارة الصحة والتنمية الاجتماعية في ولاية شمال كردفان، عن وفاة 5 أشخاص متأثرين بحمى الضنك منذ بداية انتشار المرض، كما سجلت 14 حالة اشتباه جديدة ليرتفع العدد التراكمي للحالات إلى 613 حالة، مع وجود 3 حالات بمركز للعزل.

من جهتها علقت لجنة أطباء السودان المركزية على انتشار حمى الضنك في مدينة الأبيض، وأشارت إلى أن الولاية تعاني من “وضع خطير”، حسب معدل الإصابات والوفيات المتزايد بالمدينة. 

وأضافت في بيان “تشير كل الدلائل اننا أمام كارثة صحية فأغلب مستشفيات المدينة ما زالت تكتظ بالمرضى وبعضهم قد لا يجد حتى مكاناً لتلقي العلاج”.

وتابع البيان، أن المنومين بالمنازل عددهم أضعاف من يصلون إلى المستشفيات والمراكز الصحية”. 

استجابة حكومية:

 بعد مرور أكثر من 3 أسابيع على معاناة أهالي ولاية شمال كردفان وشمال دارفور وبقية الولايات المتضررة بالجائحة، أعلنت وزارة الصحة تزايد أعداد المصابين بحمى الضنك لترتفع خلال عدة أيام إلى آلاف الحالات.

يقول وزير الصحة الاتحادي بسلطة الأمر الواقع، هيثم محمد إبراهيم : “كنا نتوقع منذ بداية الخريف كثافة نواقل الأمراض، كان يوجد تحسب بالإسناد لهذه الولايات بتدريب الكادر الطبي وإرسال الإمدادات لمعظم هذه الولايات”.

وأشار إبراهيم، إلى أن الحالات المسجلة لدى وزارة الصحة تقدر بـ 2400 حالة، وأن وزارة الصحة تقدر العدد الفعلي للحالات بأكثر من 12 ألف حالة ولكن معظمها ليست بتلك الخطورة، إذ انها لا تستدعي إلا رعاية صحية منزلية.

كما أشار إلى أن الوزارة قد هيأت الوضع قبل انتشار الجائحة بالعمل على عدة محاور رئيسية منها الرش و التوعية الصحية و تدعيم المراكز الصحية.

لكن، حديث الوزير عن التحوطات والاستعدادات المسبقة للتعاطي مع مثل هذه الحميات، يكذبه الواقع وخريطة انتشار المرض وانتقاله لولايات عديدة يوماً بعد يوم.  

الجائحة في شمال دارفور:

سجلت ولاية شمال دارفور، غربي البلاد، حسب آخر تقرير لوزارة الصحة بالولاية، 315 حالة مؤكدة معملياً حتى 14 نوفمبر الحالي بجانب حالة وفاة واحدة لطفل من منطقة “أمراحيك” التابعة لريفي مدينة الفاشر. كما أشار  التقرير الذي تم عرضه خلال اجتماع للجنة الفنية للطوارئ الصحية بالولاية، إلى استمرار أنشطة مكافحة النواقل من خلال الرش وتفتيش المنازل، بالإضافة لاستمرار أنشطة التوعية الصحية بالولاية.

لم يقتصر تأخر استجابة الجهات الرسمية لانتشار الحمى على ولاية شمال كردفان، حيث يعاني مواطنو ولاية شمال دارفور من ذات المشكلة، وتعتبر الولايتان هما الأكثر تضرراً من انتشار حمى الضنك حتى الآن، حسب الإحصاءات الرسمية وغير الرسمية.

يسرد المواطن إبراهيم البشير، أحد سكان مدينة الفاشر قصة عائلته مع المرض لـ(بيم ريبورتس)، حيث أصيبت بهفي  ابنته أواخر أكتوبر الماضي.

“أصيبت ابنتي الأولى بحمى الضنك قبل إعلان الجهات الرسمية انتشار المرض، وعندما ذهبنا إلى المستشفى طلبوا منّا تحليلاً معملياً، تم تشخيص مرضها بالملاريا.. وصف الطبيب  محاليل وريدية وبندول فقط، لم يصف لنا أقراص الملاريا (الكوارتم) واستمر الوضع لأكثر من أسبوع حتى مطلع نوفمبر عندما أعلنت السلطات انتشار المرض”، يوضح إبراهيم.

الحميات في السودان

لا تعتبر هذه الجائحة هي الأولى بالسودان، فقد عانت البلاد بمختلف ولاياتها في الأعوام الأخيرة من انتشار حميات عديدة، بينها حمى الضنك بنسب متباينة في مدن مختلفة.

يشير مكتب تنسيق الشؤون الانسانية بالأمم المتحدة في آخر تحديث إنساني لشهر أكتوبر الماضي، الى إن النمط المتزايد للحميات في السودان سنوياً يعد من الهموم الرئيسية لشركاء القطاع الصحي الذين يقدمون الدعم لوزارة الصحة الاتحادية لتجاوز هذه الأزمة.

لعبت الجهود الشعبية دورا محوريا في مجابهة الكارثة الصحية الحالية بولايات السودان، و اخذت على عاتقها مسؤولية العمل وفق ما يتطلبه محاربة الوباء و تسليط الضوء على الوضع الجاري.

ومع ذلك، يبدو أن السودان سيعاني مراراً وتكراراً عقب كل فصل خريف في السنوات المقبلة، وذلك بالنظر إلى الأزمة السياسية والاقتصادية التي يعاني منها، بالإضافة إلى سياسات سلطة الأمر الواقع التي ترتكز موازنتها على الصرف الأمني وتمويل الصرف على الوظائف الحكومية العليا. في الوقت الذي تتجاهل فيه القطاعات الحيوية مثل القطاع الصحي الذي يعاني من هشاشة تكاد تعصف به في خضم الأوبئة والحميات التي ما انفكت تضرب البلاد في السنوات الأخيرة، دون أن يقود ذلك إلى محاولة إصلاح القطاع الذي يرزح تحت وطأة الإهمال والتجاهل.

كيف أظهرت نتيجة امتحانات الشهادة السودانية عوامل تفوق التعليم الخاص على الحكومي؟

إنها لا تبتسم مطلقاً”، هذا كان فحوى تعليق متداول على وسائل التواصل الاجتماعي، على ردة فعل ظهور أولى الشهادة السودانية للعام الحالي، أمنية موسى، بمنصات الإعلام المختلفة، والتي أحرزت نسبة 98% من مدرسة  الفتح الخاصة بالعاصمة الخرطوم. 

أيضاً، مثّل إحراز الجندي بالقوات المسلحة محمد إبراهيم، الذي جلس للامتحانات من ولاية جنوب دارفور غربي البلاد، لنسبة 91.4% ردود أفعال واسعة. بالإضافة للاحتفال بالطلاب المتفوقين وتقديم التهاني لهم على وسائل التواصل الاجتماعي وتكريم بعض المدارس لطلابها واهدائهم سيارات في بعض الحالات. 

مثّلت كل هذه الحالات الاحتفالية، الشكل الأبرز للتعاطي مع نتيجة امتحانات الشهادة السودانية التي أعلنتها وزارة التربية والتعليم في التاسع والعشرين من سبتمبر الماضي، في مؤتمرها الصحفي السنوي، لكنها لم تول الاهتمام الكافي للوجه الآخر لتفاصيل الامتحانات التي جلس لها هذا العام خمسمائة وعشرة ألف وتسعمائة وثمانية وثلاثين (510938) طالباً وطالبة في كل المساقات من داخل السودان.

وجلس للامتحانات من المدارس الحكومية (المساق الأكاديمي) 175915 طالباً وطالبة، نجح منهم 123718، بينما جلس في المدارس الخاصة 150194 طالباً وطالبة وكان عدد الناجحين 110706. فيما كانت النسب العامة للنجاح في جميع المساقات كالتالي: المساق الأكاديمي (68.4%)، المساق الحرفي (87.9%) والمساق الفني (60.3%) وشهادة القرآن الكريم (92.4%).

وأظهرت تفاصيل النتيجة، تحقيق المدارس الخاصة نسبة بلغت 73.7% متفوقة بذلك على المدارس الحكومية التي حققت نسبة نجاح 70.3%، وهو أمر تكرر خلال الأعوام السابقة، وفقاً لمختصين تحدثوا لـ(بيم ريبورتس) وكان عدد المدارس الحكومية التي أحرز طلابها درجات ضمن الـ 116 الأوائل 20 مدرسة (46 طالباً وطالبة)، بينما عدد المدارس الخاصة 33 مدرسة (70 طالب وطالبة).

“سياسات التعليم التي تتخذها الدولة تسببت في انهيار التعليم الحكومي وتحويله لسلعة من بعض الفئات التي استثمرت فشل الدولة”. يقول الأستاذ بالمرحلة الثانوية أحمد مختار ضو البيت لـ(بيم ريبورتس).

ويضيف ضو البيت: الأسباب الرئيسية لتفوق التعليم الخاص على التعليم الحكومي تتمثل في إهمال التعليم الحكومي عموماً، ونقص المعلمين والمعينات والوسائل التعليمية، وتردي البيئة المدرسية، وتضاعف عدد المدارس الخاصة 3 مرات خلال 15 عاماً”، وتابع قائلاً “اليوم التعليم الخاص يشكل 75% في ولاية الخرطوم، بينما مدارس الحكومة لم تزد، فمن الطبيعي أن يظهر ذلك في تفوق المدارس الخاصة على الحكومية”.

طلاب غير مرئيين

في كل عام وما إن يتم إعلان نتيجة الشهادة السودانية، حتى يكون التركيز على الطلاب والطالبات الذين أحرزوا درجات عالية، واحتلوا قائمة المائة الأوائل، تثميناً لنجاحهم، في حين لا يقدم المؤتمر أي إحصاءات عن الطلاب والطالبات الذين لم ينجحوا، والأسباب المتعلقة بجودة التعليم المقدمة.

وحتى عندما تأتي سيرة الطلاب من الأماكن الأقل نمواً، تأتي كحديث عن حالات تفوق فردي، مثلما حدث في نتيجة 2017م مع أول الشهادة السودانية بولاية شمال دارفور، عصام محمدين، وكيف كان يقطع مسافة 6 كيلومترات يومياً للذهاب إلى المدرسة، لكن ذلك لا يقابله الحديث عن أوضاع بقية الطلاب والأسر الأخرى في مخيمات النزوح المختلفة، والصعوبات التي تواجه وجود خيار يسمح لهم بالالتحاق بنفس المدرسة التي تبعد 6 كيلومترات. 

وفي هذا العام كان أول الشهادة في المساق النسوي، هبة الله عوض محمد، من معهد الأمل للصم بولاية الخرطوم، دون التطرق لما يواجهه الصم من صعوبات كبيرة في ارتياد المدارس العامة، وذلك بسبب صعوبة الإدماج، وعدم توفر البيئة المدرسية اللازمة لاستقبالهم.

موت في سبيل التعلم

“خلال هذا العام، توفي خمسة من طلاب من مخيم كلمة للنازحين، والذين كان من المفترض أن يجلسوا لامتحانات الشهادة السودانية، إثر انهيار بئر عليهم أثناء عملهم في صُنع الطوب من أجل توفير احتياجاتهم الدراسية” بهذه الكلمات الممتلئة بالحزن يصف المتحدث الرسمي باسم منسقية النازحين واللاجئين آدم رجال الوضع التعليمي داخل مخيمات النازحين بإقليم بدارفور.

يضيف رجال، “على مر السنوات والوضع التعليمي يزداد سوءاً. هناك العديد من التحديات والظروف القاسية التي يواجهها آلاف الجالسين لامتحانات الشهادة السودانية سنوياً في دارفور بشكل عام وفي مخيمات النزوح واللجوء على وجه الخصوص”.

يصبح هذا الجانب غير مرئي مع إعلان نتيجة امتحانات الشهادة السودانية في كل عام، حيث تقيم وزارة التربية والتعليم مؤتمرها الصحفي، وتبين خلاله تفاصيل نتيجة شهادة الثانوية العامة وأسماء الطلاب الأوائل في المساقات المختلفة على مستوى الولايات السودانية دون أن تناول أسباب هذه النسب والفوارق والتناقضات التي تحيط بها.

ما يعانيه الطلاب والطالبات في المناطق الأقل نمواً، أو تلك المتأثرة بالحرب ينعكس وتظهر نتائجه في العملية التعليمية برمتها، بما في ذلك المعاناة في سبيل الحصول على التعليم نفسه، والطريق الطويل في سبيل الوصول لمراكز الامتحانات عبر قطع مئات الكيلومترات. وخلال العام الماضي على سبيل المثال، لقي 7 طلاب مصرعهم فيما أصيب 12 آخرين إثر انقلاب وسيلة النقل التي كانت تقلهم من شرق جبل مرة إلى مدينة نيالا للجلوس لامتحانات الشهادة السودانية.

حرمان من التعليم

أصدرت يونسيف تقريراً في 12 سبتمبر الماضي، أوردت فيه أن هناك ضرورة عاجلة لاتخاذ تدابير عاجلة فيما يتعلق بموضوع التعليم في السودان، حيث يواجه 6.9 مليون طفل خارج المدرسة و 12 مليونًا يواجهون اضطرابات في التعلم. وقالت يونسيف: “واحد من كل ثلاثة أطفال في سن الدراسة، لا يذهبون إلى المدرسة في السودان، و 12 مليون آخرين سيتوقفون عن الدراسة، بسبب نقص المعلمين والبنية التحتية الكافية، والبيئة التعليمية التي تمكنهم من الوصول إلى إمكاناتهم الكاملة”.

ودرجت وزارة التربية في مؤتمرها الصحفي السنوي لإعلان النتيجة، على الإعلان عن تاريخ الامتحانات للسنة المقبلة، دون أن تُبين أوضاع المدارس من ناحية بنى تحتية وتأهيل، أو توفر الأساتذة والكتاب المدرسي، مضافاً إلى ذلك انهيار عشرات المدارس سنوياً في موسم الخريف. فعلى سبيل المثال فقط، تأثرت 95 مدرسة من المراحل المختلفة في منطقة المناقل (جنوب الجزيرة).

وبينما تظهر الدولة بكثافة في إعلان موعد النتيجة بكل تفاصيله، في الوقت نفسه لا تبدِ اهتماماً كافياً، بالسياق الكلي الذي تجري في ظله العملية التعليمية.

وكان وزير التربية والتعليم في فترة الحكومة الانتقالية الأولى، والخبير التربوي، محمد الأمين التوم، قدم خططاً بناءة لإعادة إصلاح قطاع التعليم الحكومي، بما يضمن تحسينه و وصوله للفئات الأكثر فقراً وحرماناً في البلاد، غير أنه أبعد من الحكومة الانتقالية الثانية بحجة الفحص الأمني، قبل أن يكمل انقلاب 25 أكتوبر الإجهاز على مشروعه في تطوير التعليم الحكومي.

كيف يكافح الكتاب السودانيين الشباب لتجاوز عقبات النشر وتكاليفه الباهظة؟

أية السماني

أية السماني

“أول رواية لي نُشرت مجانًـا لأنها فازت بمسابقة تقيمها إحدى دور النشر العربية المعروفة. السبب الأساسي الذي دفعني لتقديم روايتي؛ هو أن الأعمال الفائزة تطبع وتنشر وتسوق ويُشارك بها في المعارض العربية على نفقة الدار”، يصف الكاتب مصطفى خالد 24 عاماً، أولى تجاربه في النشر.

“كانت تجربة جديدة ومدهشة، أن تجد عملك قد وصل إلى اليمن شرقًا والمغرب شمالاً وأنت في بيتك لم يكلفك الأمر سوى نقرة إرسالٍ بالبريد الإلكتروني”، يضيف خالد لـ(بيم ريبورتس). 

صعوبة النشر داخل البلاد، مثّلت الدافع الأساسي لخالد في تجريب نشر روايته (غول سليمة) خارج السودان، حيث تعكس تجربته في النشر، التحديات والصعوبات التي تواجه الكتاب السودانيين الشباب ومعاناتهم في نشر أعمالهم وإيصالها إلى القراء. 

لا تختلف تجربة الكاتب والروائي أيمن هاشم، في النشر، عن تجربة زميله مصطفى خالد كثيراً.

يقول هاشم لـ( بيم ريبورتس): “هناك مشكلة في التعامل مع التجارب الكتابية الحديثة، حيث لا يتم التعامل معها بجدية. مضيفاً “لدي تجربة مع عدد من دور النشر الخارجية، فقبل مشاركة مجموعتي القصصية في منحة آفاق، أرسلتها لعدد من دور النشر السودانية، ولم تلق الاهتمام الكافي منها.. كان الرد أنها لا تصلح للنشر، لكن عند مشاركتي بنفس المجموعة في منحة آفاق تحصلت على منحة لنشرها”.

حركة النشر تاريخياً

بدأت حركة دور النشر في البلاد في عشرينيات القرن الماضي، وكانت البداية بنشر عدد قليل من الأعمال الأدبية، واستمرت كحركة محدودة، إلى أن أزدهرت في حقبة السبعينات، حيث أسست الدار السودانية للكتب بالخرطوم، ودار نشر جامعة الخرطوم وغيرها من الدور الكبيرة. لكن السمة الرئيسية لصناعة الكتاب في السودان، غلب عليها الركود وعدم الاستقرار، بسبب تقلب أوضاع البلاد الاقتصادية والسياسية.

ومع مرور مائة عام على ابتدار حركة النشر والطباعة في البلاد، إلا أنها، ما تزال محدودة الحجم، حيث لا يتجاوز عدد دور النشر العشرات، وهي في الغالب دور تجارية واستثمارية خاصة.

تكاليف باهظة

العامل الاقتصادي للنشر يمثل العائق الأبرز أمام الكتاب عامةً والكتاب الشباب بشكل خاص.

تقول الكاتبة والقاصة رهام حبيب لـ(بيم ريبورتس ): “شاركني أحد أصدقائي تكلفة إصدار كتابه عبر دار نشر سودانية حديثة النشأة، وقد قاربت الألف دولار. أي أعلى من رواتب ثلاثة أشهر مجتمعة للسواد الأعظم من السودانيين، وربما تزيد عن الثلاثة أشهر للكتّاب”. 

وأثر الجانب الاقتصادي على النشر، أصبح عاملاً مضاعفاً، في ظل التدهور الذي تعيشه البلاد وطال أثره كل القطاعات، بما في ذلك مجال صناعة الكتاب والنشر، حيث يتمثل في ارتفاع الرسوم الجمركية على مستلزمات وخامات صناعة الكتب (مثل الورق والأحبار).

إعاقة المشاريع الأدبية

أزمة صناعة الكتاب والنشر عامةً في السودان ألقت بظلالها على أسعار الكتب، وبالتالي اضطر قراء كثر إلى العزوف عن شراء الكتب الورقية، واللجوء إلى خيارات قراءة بديلة.

يقول الكاتب والروائي حمور زيادة لـ (بيم ريبورتس ): “إذا لم يجد الكاتب جمهوراً فذلك قد يجهض مشروعه الأدبي كله. لماذا يتكلف عناء خلق عالم روائي إن لم يكن هناك من سيطلّع عليه؟، ربما يكتفي بكتابة مسودات أحياناً، أو الحكي الشفاهي، أو الكتابة على مواقع التواصل والمدونات. لكن لا أظن ذلك يرضي نزعة الفن داخل الكاتب. لذلك، فإن صعوبة النشر في السودان تعيق مشاريع أدبية كثيرة”. 

وجزء من أزمة صناعة الكتاب، ما بعد طباعة الكتاب، تتمثل في مرحلة التسويق للكتاب وتقديمه للجمهور، حيث يقف غياب التسويق والتعريف بالكتاب حاجزاً أمام وصوله إلى جمهور أوسع من القراء.

ومع ذلك، يظل التحدي الأكبر بالنسبة للكتاب الشباب، هو عملية النشر نفسها، يقول الكاتب وقاص الصادق لـ(بيم ريبورتس): “إنه لا توجد فرص للنشر المجاني، ومن الصعب على الشباب تحمل تكلفة النشر شخصياً. مضيفاً “وإذا وجدت فرص للنشر المجاني فهي بسيطة وغير ناجحة في مراحلها المتقدمة، حيث لا توجد استراتيجيات واضحة لتوزيع الكتاب وتسويقه وبيعه، وفي الغالب يتكفل الكاتب بهذه المسائل، مما يخل بجودة العملية ويدخل الكاتب في تفاصيل لا علاقة له بها”.

توزيع الكتاب

ضيق منافذ التوزيع وتركز وجود الناشرين بشكل كبير في العاصمة الخرطوم، بالإضافة إلى قلة منافذ التوزيع بالولايات، وعدم القدرة على توزيع الكتب خارج السودان والمشاركة في المعارض العالمية، يضع المزيد من العقبات أمام الكتاب في حال تمكنوا من نشر كتبهم بالأساس.

“إن عُسر عملية النشر في السودان معضلة قديمة وشائكة”، يعود الكاتب مصطفى خالد ويقول.

ويعزو خالد الأسباب، إلى قلة الدور الحكومية التي تموّل الطباعة وتسوّق للإبداع السوداني محليًا وإقليميًا، بجانب التكاليف الباهظة للدور التجارية، المنصرفات الضريبية والجمركية لحركة الكتب. ويرى خالد، أن معظم الكتب المنشورة محلياً والتي وجدت رواجاً لا يتجاوز صداها الخرطوم.

رقابة على الكتب

إلى جانب هذه الأزمات، يعاني الكُتاب عامةً، والكٌتاب الشباب بشكل خاص من الرقابة على أعمالهم.

وقبل الثورة، درجت أمانة حماية حق المؤلف والحقوق المجاورة والمصنفات الأدبية والفنية، على تشكيل لجان لتقييم الأعمال المقدمة للنشر لإجازتها، ما مثل شكلاً من أشكال تقييد حرية الكتابة والنشر أمام الكتاب، حيث قامت بحظر العديد من الكتب والروايات.

لكن بعد تشكيل الحكومة الانتقالية في عام 2019م، أعلن أمين عام أمانة حق المؤلف والحقوق المجاورة، حاتم الياس، فك حظر جميع تلك الأعمال.

وعادةً ما تستند لجان التقييم على معايير فضفاضة، في حكمها النهائي على النصوص المقدمة إليها وتتعلق في الغالب بتناول مواضيع الدين والسياسة، وكثيراً ما وصفت تلك الأعمال بأنها تخل بالقيم الدينية أو الآداب العامة، لتدفع هذه الأحكام القيمية على النصوص عدداً من الكتاب الشباب للتوجه إلى دور نشر خارج البلاد بحثاً عن نشر تجاربهم الكتابية، خارج الأطر التي تضعها المصنفات ودور النشر في السودان.

أيضاً، يواجه الكتاب السودانيون مشكلة قرصنة الكتب في ظل عدم فعالية القوانين التي تحمي حقوق النشر والتي غالباً ما تنتهك عن طريق طباعة الكتب بصورة غير قانونية الأمر الذي ينتهي بكساد الكتب. تدفع كل هذه العراقيل الكتاب إلى النشر خارج السودان، في محاولة لتجنب هذه العملية غير المأمونة.

بينما وجد مصطفى خالد وأيمن هاشم، الفرصة لنشر أعمالهم خارج البلاد، لا يزال عشرات الكتاب ربما يقرأون مسودات كتبهم لأنفسهم وأصدقائهم المقربين، دون أن يكونوا قادرين على نشرها بسبب التكاليف الباهظة للنشر والعقبات التي تضعها تلك الدور على الكٌتاب الشباب، حيث تسعى في معظم الأحيان، إلى نشر أعمال لكتاب معروفين، عوضاً عن الانفتاح على تجارب كتابية جديدة.

هل تشكل (دورات الصيدلة الوظيفية) خطراً على حياة السودانيين ؟

أية السماني

أية السماني

عشرات الحكايا والقصص يتداولها السودانيون في لقاءاتهم لوقائع تدور أحداثها بالعديد من الصيدليات، حول صرف أدوية ومستحضرات طبية بخلاف التي كتبها الطبيب المُعالج لطالب العلاج في ورقة وصفة الدواء (الروشتة)، وكل قصة تكاد تقود  إلى كارثة صحية أو تنهي حياة إنسان، بسبب استخدام دواء خاطئ.

وخلال الأسابيع الماضية، كتب أحد مستخدمي موقع فيسبوك، شهادة شخصية حول صرف مستحضر طبي خاطئ لطفل عمره خمسة أشهر، وقال انه كان يحمل روشتة لحليب خاص بالرضع (فري لاكتوز) إلا أن الصيدلي قدم له زجاجة مشروب دوائي، وقال له يجب على المريض تناول ثلاثة ملاعق كل مساء.

فتحت هذه القصة، الباب واسعاً أمام العشرات من المتضررين من صرف أدوية خاطئة، ودفعتهم لسرد العديد من القصص المماثلة، اتفق أغلبهم على مراجعة أكثر من صيدلية عند شراء الدواء او المستحضر الطبي المطلوب، وعدم الوثوق بأول دواء يصرفه الصيدلي.

تنتهي أغلب تلك الحكايات بالاتفاق على أن السبب المباشر في ذلك هو أن أغلب أصحاب الصيدليات يفضلون توظيف خريجي دورات الصيدلة الوظيفية، من حملة شهادات الثلاثة أشهر.

ودورات الصيدلة الوظيفية هي دورات تقام بمراكز تدريب، تعمل بموجب ترخيص من قبل الإدارة العامة للتدريب، و تتراوح مدة الكورس بين شهر الى ثلاثة أشهر، وهي متاحة للجميع من حاملي الشهادات الثانوية، والجامعية، و ليست حصرا على طلاب التخصصات الطبية.

بالرغم من أن الشهادات التي يحصل عليها المتدرب من هذه الدورات لا تخوله لمزاولة مهنة الصيدلة الا أنها انتشرت مؤخراً بصورة ملحوظة و ازداد عدد الراغبين في الانضمام إليها ، يعزى ذلك للتجاوزات التي يرتكبها ملاك الصيدليات بتوظيف حاملي شهادات دورات الصيدلة الوظيفية كصيادلة أو مساعدي صيادلة.

ومن المتعارف عليه بموجب القوانين السارية بالبلاد، أن مزاولة مهنة الصيدلة، تقتضي الحصول على رخصة من المجلس الطبي السوداني و لا يحق لأي شخص ممارسة المهنة دون أن يكون مسجلاً بسجل المجلس الطبي.

وفي هذا السياق، تقول الطبيبة الصيدلانية، شذى صلاح الدين، لــ(بيم ريبورتس)، “لقد مررت بكثير من  الاخطاء الفادحة و التي غالبا ما يتضح بعدها أن الموظف في الصيدلية ليس صيدلياً يحمل رخصة صيدلي و لكنه يحمل شهادة الثلاث أشهر، لأن أصحاب الصيدليات يفضلون توظيف حاملي شهادات تلك الكورسات لعدة أسباب تعود جميعها لتقديمهم العامل المادي و الاستثماري على بقية العوامل، ومنها أن حاملي شهادات تلك الكورسات يقبلون برواتب زهيدة مقارنة برواتب الصيادلة، و أنهم اكثر جرأة من الصيادلة في صرف الادوية مما يسهل عملية البيع و يجعلها تمر بسلاسة، لان الصيدلي يطرح كثير من الأسئلة ويتأنى في صرف الأدوية الاعتيادية كالمضادات الحيوية و غيرها، و أنه يضع في الحسبان جميع العوامل كعمر المريض وحالته الصحية، أو إذا كان يتلقى علاج آخر الى جانب العلاج المطلوب ذلك لمعرفة الصيدلي بجدية المسألة و إدراكه لخطورة التجاوزات الطفيفة التي قد تسبب مشاكل صحية يمكن أن تؤدي إلى وفاة الشخص”.

وتعزي شذى هذه المشكلة لانعدام الرقابة و تهاون الجهات المسؤولة، و على حد قولها: “أن الادارة العامة للصيدلة ليست صارمة بخصوص الصيدليات إذ أنها تجري جولات ميدانية في أوقات محددة خلال العام بغرض المتابعة و غالبا ما يتدخل جانب المحسوبية والوساطة في تفعيل العقوبات إذا تم الإخلال بأحد القوانين المتعلقة بالصيدليات مثل توظيف شخص لا يحمل رخصة صيدلي من المجلس الطبي السوداني”.

وتشير شذى، الى أن الغرامة التي تفرضها الجهات المسؤولة زهيدة جدا و أن أصحاب الصيدليات يفضلونها مقارنة براتب الصيدلي.

وفيما يتعلق بالتأهيل المطلوب لمزاولة مهنة الصيدلة، فتبدو مدة الثلاثة أشهر – التي يتلقى فيها موظفي الصيدليات الكورس التدريبي – غير منطقية إذا قورنت بالفترة التي يقضيها طالب بكالوريوس الصيدلة بالجامعات، والتي تتراوح بين 4 – 5 سنوات، ومن ثم الحصول على رخصة مزاولة المهنة، أو ثلاث سنوات لطلاب دبلوم الصيدلة، وبعدها الحصول على رخصة مساعد صيدلي و التي بدورها تشير للمسؤولية العظيمة التي تقع على عاتق الصيدلي و مدى خطورة وأهمية موقعه الذي يجعله المسؤول الأول عن الممارسات الدوائية الآمنة حيث يعتمد الصيدلي على معرفته بالعلاجات المصنعة وآثارها الجانبية المحتملة التي قد تسبب مشاكل صحية للمريض بالاضافة لدوره الأساسي في تعزيز الصحة العامة ورفع الوعي المجتمعي بشأنها.

لكن الصيدليات اليوم تحكي واقعا مختلفا في تجاوز صارخ للقوانين التي تقوم عليها مهنة الصيدلة، و كغيرهم من المهنيين يحتاج الصيادلة لقوانين و تشريعات تنظم وتحافظ على مهنة الصيدلة و تحول دون المساس بمصداقية ومهنية الصيدلي.

وفي هذا الصدد يعمل العديد من الصيادلة على نشر الوعي بخطورة هذه الظاهرة ومحاربتها و الحد منها بكل الطرق الممكنة لما فيها من تهديد للمهنة و حياة الأشخاص .   

يقول رئيس فرعية الخرطوم بالهيئة النقابية لصيادلة المجتمع، هاني نبق، لــ(بيم ريبورتس) : “أن فرعيات الهيئة النقابية تعمل جاهدة لمحاربة الكورسات التي تتيح للأشخاص العمل كصيادلة بعد 3 أشهر فقط من التدريب، و في جهودنا لمجابهة هذه الازمة توجهنا لعدة جهات منها المجلس الطبي السوداني و المجلس القومي للأدوية والسموم حيث طالبنا بزيادة الغرامة المفروضة على التجاوزات، و تشديد الرقابة عليها و قد تلقينا الكثير من الوعود حول هذه القضية، طالبنا الادارة العامة للتدريب بايقاف هذه الكورسات بصفتها غير قانونية و لا تجيز لأي أحد أن يعمل كصيدلي او مساعد صيدلي”.

وأشار نبق الى ان النقابة تعزي هذه المشكلة لانعدام الرقابة و الإفلات من العقاب، حيث ان العقوبات قد تصل الى حد سحب الرخصة ولكن تلك القوانين لم تطبق على ارض الواقع، بالاضافة الى ان الاشخاص الذين يحملون شهادات هذه الكورسات غالبا ما يقبلون برواتب أقل بكثير من تلك التي يحصل عليها الصيادلة المسجلين، معتبراً هذا الأمر “تهاوناً من ملاك الصيدليات و مشكلة حقيقية”، وأكد أن “النقابة ماضية في جهودها نحو انهاء هذه الظاهرة تماما و انقاذ مهنة الصيدلة”.

وفي إطار خطوات النقابة لمحاربة هذه الظاهرة ناقش ممثلي فرعيات الهيئة النقابية لصيادلة المجتمع في اجتماع مع المجلس القومي للأدوية والسموم القضايا المتعلقة بمهنة الصيدلة ، وقد طالب ممثلي النقابة المجلس بـ“اتخاذ إجراءات حاسمة بخصوص كورسات الصيدلة المهنية و اكدو على ضرورة فرض الرقابة بشأنها”، و رد المجلس بالتأكيد على التنسيق و التعاون المشترك بشأن القضايا المتعلقة بمهنة الصيدلة و على اهمية عقد اجتماعات دورية لمتابعة سير العمل على تلك القضايا.

خطوات كثيرة تقودها عدة جهات مرتبطة بمهنة الصيدلة للتقليل من المخاطر الناجمة عن كورسات الصيدلة الوظيفية، التي باتت تشكل معاناة إضافية للسودانيين، فما من يوم يمر إلا وتسمع قصة جديدة عن صرف دواء خاطئ ضاعف من مصاب شخص مريض، وعلى الرغم من تصاعد هذه المأساة إلا أن مراكز التدريب التي تقيم كورسات الصيدلة الوظيفية ما زالت تروج لها، والجهات المسؤولة عن تنظيم مهنة الصيدلة لا تلقي بالاً لكل هذه المشكلات.

السينما السودانية .. كيف يسهم ماضيها العريق في استشراف آفاق جديدة بعد الثورة ؟

“نَعْتّز بهذا الوليد، ليس لأنه وصل إلى المستوى الذي نصبو إليه، ولكن لأنه اللبِنة الأولى في بناء نهضة سينمائية حقيقية في سوداننا الحبيب” بهذه الكلمات علّق المخرج السوداني إبراهيم ملاسي، خلال بداية تصوير أول فيلم روائي سوداني في العام 1962م، موضحاً محاولتهم الرائدة في هذا الضرب الجديد للفن السينمائي في السودان، ومستشرفاً أفقاً تجريبياً لصناعة السينما.

بدايات مبكرة

تمتلك السينما في السودان تاريخاً ضارباً في القدم، وهو يتفرع إلى قسمين؛ الأول يتعلق ببداية فعل المشاهدة ودُور العرض، والآخر يعود إلى بداية صناعة أفلام سودانية. وتعود جذور السينما في السودان إلى بدايات القرن العشرين؛ بعد سنوات قليلة من اختراع السينما. حيث شهد السودان أول عرض سينمائي في مدينة الأبيض (شمال كردفان) أثناء زيارة اللورد كتشنر للسودان في 1911م واحتفالاً بمناسبة وصول خطوط السكة حديد إلى المدينة، وكان فيلماً قصيراً وصامتاً.

وبعد عامين، حوالي عام 1913م، شهدت مدينة أمدرمان عروضاً لأول مرة، كان يجلس المشاهدون خلف مقهي “الخواجة لويزو” للفرجة على السينماتوغراف (مشاهد ومناظر وصور للتسلية) وهي تعرض على قطعة قماش. لتتسع تلك المساحات لاحقاً، قبل دخول العشرينيات، وتتيح للمشاهدين الأفلام عن طريق السينما الجواله في المدارس والساحات العامة، وفي نهاية العشرينيات أسست دارين لعروض السينما في الخرطوم؛  سينما الجيش (والتي عرفت بالنيل الأزرق لاحقاً) وسينما اسكيتنج رنج (والتي صارت كلوزيوم). أما تاريخ صناعة الأفلام في السودان فهو متأخر عن تاريخ المشاهدة.

أين تسهر هذا المساء؟

شهدت فترة السبعينات توالي تجارب الأفلام الروائية، وتمكنت من إحداث نقلة من نمط الفيلم الوثائقي السائد حينها منذ بداية الأربعينيات، وحظيت أفلام تلك الفترة بتقدير وإشادة عاليين، فيلم (تاجوج 1977م) من إخراج جاد الله جبارة، والذي حاز على جوائز في تسعة مهرجانات دولية وإقليمية، فيما حصل فيلم “الضريح” للمخرج الطيب مهدي على ذهبية مهرجان القاهرة للأفلام القصيرة 1972م، لتنتهي حقبة السبعينيات  بفيلم (ولكن الأرض تدور) للمخرج سليمان محمد إبراهيم، والذي حصل ذهبية مهرجان موسكو 1979م.

كما شهدت تلك الفترة نمواً في عدد دور العرض، حيث بلغت 60 داراً في عام 1970، وبنهاية السبعينات بلغت دور العرض 67 وكان عدد الأفلام التي عرضت في السودان 243 فيلماً حتى عام 1978م. وكانت إعلانات عروض الأفلام تحتل مساحات مقدرة من الصحف.

التسعينيات، نفق مظلم

كان استيلاء حكومة الإنقاذ على السلطة في انقلاب 1989م وما عُرف بـ(المشروع الحضاري) بمثابة نصلاً حاداً انغرس في جسد كل الفنون، وتضررت السينما تضرراً بالغاً، حيث تهدم كل أرثها الذي بدأ نموه منذ سنوات بعيدة. أغلقت كل دور السينما، وعرضت كعقارات للبيع، وما لم يبع صار ذكرى أليمة.  لم تسلم دور العرض ولا الإنتاج السينمائي الذي كان مهمشاً بصورة ممنهجة، ومراقباً من قبل الدولة. بل أن أرشيف السينما تعرض للتلف والفقدان نتيجة سوء التخزين والحرارة، علاوة على الأفلام السودانية التي كانت محفوظة ضمن أرشيف شركات أوروبية، أعادتها للسودان لعدم التزامه بدفع مستحقات إيجار حفظها.

طرق ومؤسسات بديلة

بالرغم من العتمة التي شهدتها السينما في السودان خلال العقود الماضية، والتضييق على كل أفق ممكن لها من قبل حكومة الإنقاذ إلا أن الفاعلين فيها لم يرفعوا الراية البيضاء، بل قاتلوا في سبيل اجتراح طرق ومؤسسات ومبادرات بديلة، على أمل المساهمة في نفض الغبار عن أجنحة السينما حتى تحلق من جديد،  وواحدة من هذه المؤسسات هي (سودان فيلم فاكتوري) والتي انطلقت في نسختها الأولى في العام 2010م وقدمت إضافات نوعية في مجال دعم السينما من تدريب وتعلم، حيث استضافت مدربين من دول مختلفة لإثراء الخبرة التراكمية عند الشباب في السودان. وفي إفادته لـ (بيم ريبورتس) يقول مؤسس ومدير سودان فيلم فاكتوري، طلال عفيفي، حول هذه التجربة: “أسست وأطلقت سودان فيلم فاكتوري أول مهرجان سينما في السودان، وهو فعالية سنوية مدتها أسبوع في يناير من كل عام، حيث تعرض عشرات الأفلام العالمية الجديدة في أماكن مختلفة، على خلفية من ورش العمل، وتقديم المشهد السينمائي برمته للجمهور السوداني من المهتمين والهواة والمحترفين”.

بالإضافة إلى كل ذلك فإن لسودان فيلم فاكتوري إسهامات مقدرة في مجال رفد السينما السودانية بعدد من الأفلام، التي شاركت في محافل عالمية من مهرجانات دولية وإقليمية حول العالم.

السينما بعد الثورة

مع بدايات ثورة ديسمبر 2018م كانت هناك ثورة أخرى تشهدها السينما في السودان، حيث وجهت أفلام (ستموت في العشرين)، و(الحديث عن الأشجار)، و(خرطوم أوفسايد) أنظار العالم إلى السينما السودانية والامكانيات الخصبة التي تنطوي عليها، وأيقظت السينما من سبات عميق. حصدت هذه الثلاثة أفلام جوائز مهرجانات عالمية عديدة. وكان الفيلم الوثائقي (الحديث عن الأشجار) للمخرج صهيب عبد الباري، يناقش الأحلام والآمال التي تشكّلت عند أبطال الفيلم، وعودتهم إلى السودان، بعد سنوات من الدراسة بالخارج، وحلمهم بتأسيس سينما سودانية، ليؤسسوا جماعة الفيلم السوداني في 1989م لكن هذا الحلم راح أدراج الرياح بسبب قرار الإنقاذ إغلاق جميع دور العرض في البلاد.

يتتبع هذا الفيلم الحياة الفنية لأربعة مخرجين من وسعيهم لإعادة إحياء دور العرض التي أغلقت منذ عقدين ونصف من الزمان، وهو لمحة فنية للمصاعب والتحديات التي تواجهها السينما السودانية ككل.

لكن مؤسس ومدير سودان فيلم فاكتوري، طلال عفيفي، يوضح في إفادته لـ (بيم ريبورتس) أن: “واقع ما بعد الثورة كان موسوماً بانعدام الرؤية والتخطيط تجاه الثقافة والآداب والفنون، كما أن هناك ظروف وعوامل مثل الإعتصام وفض الإعتصام و جائحة الكورونا والضعف الاقتصادي ساهمت في ألا تكون حركة الأشياء مثل المتوقع عند معظم الناس”.

ويرى عفيفي، أن واقع السينما السودانية اليوم: “يحتاج إلى الكثير حتى يكون مرضياً، لكن ثمة تفاؤل ما”.

تحديات مستمرة

كان عدد من السينمائيين يحلمون بضرورة وجود سياسات ثقافية جديدة، تولي هذا القطاع الاهتمام والدعم الذي يدفع مسيرة السينما التي توقفت لسنواتٍ طويلة، بعد أن كانت تتلمس خطواتها الأولى. فكل النجاح الذي يشهده قطاع السينما في السودان يأتي نتيجة جهود واجتهادات فردية، حيث يتجه الكثير من صناع الأفلام لتمويل أفلامهم من المنح وشركات الإنتاج الخارجية، في ظل صعوبات للنهوض بهذا القطاع داخلياً.

علاوة على كل ما سبق، فإن غياب قطاع السينما كتخصص في أغلب مؤسسات التعليم العالي يشكل عثرة في مسار تطور السينما كصناعة، وينعكس هذا الأمر في ضعف الحركة النقدية والتي هي أساساً لتطور أي فن من الفنون.

ويوضح عفيفي في إفادته لـ (بيم ريبورتس) أن السينما السودانية تحتاج إلى “إنشاء معاهد ومدارس سينما لأنها أمر حيوي، كما أن إصلاح التعليم وإدماج الفنون فيه منذ البداية بشكل فاعل أمور لا يمكن تجاوزها في التأسيس لصناعة السينما، علاوة على ضخ الأموال واقتطاع الممكن من الميزانيات لدعم التعليم وتمويل الإنتاج السينمائي والبنى التحتية، وإعادة كتابة القوانين بشكل صديق للإنتاج مسألة مهمة وتبني سياسات ثقافية تحتضن النمو نحو صناعات ثقافية”.

يبعث الازدهار الذي تشهده السينما السودانية، الأمل في نفوس روادها والمهتمين بها، ويؤكد الامكانيات الكبيرة للسينما، لكنه يظل نشاط من أجسام ومبادرات تعمل في ظروف اقتصادية وسياسية صعبة، يستحيل أن نقول معها أن لدى السودان “صناعة سينما”، بالمفهوم المتعارف عليه لصناعة السينما، لافتقاد هذا القطاع اهتمام الدولة.

لكن التاريخ العريق للسينما السودانية في عقودها السابقة، والظروف والتعقيدات التي صاحبتها، ينطوي على قدرة كبيرة لبعثها من جديد، في ظل المجهودات الكبيرة التي يطلع بها عدد كبير من المهتمين والفاعلين في سبيل خلق واقع جديد للسينما السودانية.