Category: سياسي

على مفترق طرق.. البرهان وحميدتي يخوضان معركة إعادة الدعم السريع إلى (رحم الجيش)

لم يكن محمد حمدان دقلو المعروف بـ(حميدتي) حتى عام 2008 سوى قائد مليشيا مغمور، يطالب الدولة بمنحه وقواته رتباً عسكرية أسوة بالحركات المسلحة، مقابل ما يسديه من خدمات عسكرية وأمنية للحكومة في إقليم دارفور غربي البلاد، لكنه اليوم في محل سلطة ونفوذ مكنّاه من الحديث عن ضرورة إجراء “إصلاحات عميقة” في الجيش السوداني، كما أنه يقرر مع جنرالاته على حد سواء مصير البلاد برمتها.   

 

من قلب الأحراش في دارفور عام 2008 وسط قواته وعربات دفع رباعي، منصوبة عليها رشاشات الدوشكا، أرسل حميدتي المولود في عام 1975 حسب ما يعتقد، رسالته. ولم تمر سوى سنوات معدودة على مطالبه تلك بالتمكين العسكري، السياسي والاقتصادي، حتى تم تعيينه مستشاراً في حكومة ولاية جنوب دارفور ليتم في عام 2013 تدريبه وضمه إلى جهاز الأمن والمخابرات الوطني، حتى وصوله إلى منصبي نائب رئيس المجلس العسكري ورأس الدولة في عام 2019، في أعقاب الإطاحة بالرئيس المخلوع عمر البشير.

 

بالنسبة لغير المطلع على السيرة الذاتية لقائدي السلطة العسكرية الحاكمة، قد ينظر إلى التناقضات الماثلة بدهشة. فبعد نحو أربع سنوات فقط على مولد (حميدتي) في مكان غير معين على وجه التحديد، كان قائد الجيش الحالي عبد الفتاح البرهان المولود في عام 1960 بولاية نهر النيل شمالي البلاد، قد التحق بالكلية الحربية وتخرج فيها ضابطاً برتبة ملازم في عام 1982 كان وقتها نائبه الحالي لديه من العمر حوالي 7 سنوات في سن التمدرس تماماً. 

 

لكن الفوارق العمرية والمهنية الجوهرية تلاشت بدايةً من عام 2019، بين التلميذ الذي كان يتهيأ لدخول المدرسة وضابط الجيش المتخرج حديثاً حينها. بينما كان البرهان مفتشاً عاماً للجيش برتبة فريق أول ركن قبيل سقوط البشير، ماثله حميدتي في الرتبة العسكرية في 13 أبريل 2019، عندما ظهر وهو برتبة فريق أول تزامناً مع توليه منصب نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي المحلول، الذي استولى على السلطة بعد إطاحة البشير.  

 

ومنذ ذلك اليوم، حجز (حميدتي) مقعده في السلطة، لا يعلوه في الوظيفة من دون جنرالات الجيش السوداني والعسكريين قاطبة، سوى البرهان، لكن مع بقائه أربع سنوات في سدة الحكم وتنفذه، وجريان السلطة والمال بين يديه، لم يعد البرهان يمثل سقفاً له. ومن هنا، وبجانب حنق جنرالات الجيش منه وقضايا جيوسياسية واختلاف خريطة التحالفات الداخلية والخارجية، بدأت المعركة بينهما إلى أن وصلت أوجها عند نقطة الدمج.

 

والدمج، دمج الدعم السريع في الجيش، هو المعركة الماثلة والتي أثارها قادة الجيش تباعاً للمرة الأولى منذ أربع سنوات، بعدما كانوا يقولون إن الدعم السريع خرج من رحم الجيش، أي أنه كما يفهم من حديثهم وقتها، فإنه لا حاجة لفعل شيء بالخصوص.  

 

وضعية (حميدتي) التي يتمتع بها داخل المنظومة العسكرية والسياسية منحته استقلالية اقتصادية وعسكرية وإدارة مستقلة للعلاقات الخارجية. كما لعب دوراً محورياً في الفضاء السياسي، استهله بتزعم مفاوضات السلام مع الحركات المسلحة، وترؤس اللجنة الاقتصادية في فترة الحكومة الانتقالية أغسطس 2019 – أكتوبر 2021. بالإضافة إلى حفاظه على موقعه في قيادة الدعم السريع وينوب عنه شقيقه عبد الرحيم دقلو. مكنه النفوذ والعلاقة الراسخة مع البرهان في تلك الفترة، من توسيع قواته وإنشاء قطاعات لها في كل ولايات البلاد. وكان البرهان وقتها يقول، إن الجيش والدعم السريع شيء واحد، لكنه اليوم يتحدث عن دمجه وفق جداول زمنية لا تتعد السنوات الثلاث في حدها الأقصى.

صعود حميدتي

مع نهايات الحرب في إقليم دارفور، تمكنت قوات الدعم السريع التي يقودها (حميدتي) من سحق قوات حركة العدل والمساواة المسلحة في منطقة (قوز دنقو) بولاية جنوب دارفور. وسرعان ما استقل الرئيس المخلوع ووزير دفاعه السابق عبد الرحيم محمد حسين، الطائرة وذهبا إلى هناك لتهنئته، حيث طافا ميدان المعركة في عربة مكشوفة بمعية حميدتي، ومنها صار كنز البشير في تحصين حكمه من مطامع قادة الجيش والانتفاضات الشعبية.  

 

في تلك الأثناء كانت قد بدأت التوترات بين الحكومة والزعيم الأهلي المسلح، موسى هلال، في خضم تلك التوترات تم القبض على هلال في معقله بمنطقة مستريحة بولاية شمال دارفور في عام 2017 بالتزامن مع صعود نجم غريمه حميدتي الذي أصبح مقرباً من الرئيس المخلوع عمر البشير. 

ليأتي شهر يناير من عام 2017 حاملاً معه مفاجآته بإجازة قانون قوات الدعم السريع وإسناد قيادتها لحميدتي بعد ترقيته إلى رتبة فريق، فيما نص قانونها على أن تكون تحت إمرة رئيس الجمهورية وليس وزارة الدفاع. 

ومع ذلك، أجيز القانون وسط اعتراضات من بعض قادة الجيش ووزير الدفاع الأسبق عوض بن عوف، ورئيس المجلس العسكري في الفترة بين يومي 11 و12 أبريل 2019، ليصبح مسؤولاً فقط لدى الرئيس المخلوع.  

بين عامي 2013 و2019، تدرج حميدتي في الرتب العسكرية بشكل غير مسبوق من رتبة عميد إلى لواء، إلى فريق إلى فريق أول، كما تمكن من إحكام قبضته على تجارة الذهب في البلاد عبر شركة الجنيد التي يديرها أشقاوه حالياً وغيرها من الواجهات، وكانت مناجم الذهب والصراع حولها في دارفور من بين أسباب خلافه مع الزعيم الأهلي موسى هلال الذي انتهى به الأمر سجيناً إلى أن أطلق سراحه في أعقاب الثورة.

أبواب جديدة

مع بدء الحرب السعودية في اليمن عام 2015، فتحت أبواب جديدة أمام حميدتي، حيث أصبح يفوج الآلاف من قواته إلى هناك للمشاركة في الحرب، حينها ترسخت علاقاته مع كل من الرياض وأبوظبي، ما فتح الطريق أمامه لتشكيل نواة علاقات جيدة مع قادة المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، ومراكمة المزيد من الأموال من فائض الحرب، بجانب الذهب. 

وفي هذا السياق، سياق صعوده، تمر الأيام سريعاً، وصولاً إلى اندلاع ثورة ديسمبر 2018، حينها كانت قد توطدت علاقاته مع الرئيس المخلوع، وعدد من المقربين منه في الأجهزة الأمنية. لكن، مع اشتداد عصف الثورة بالنظام المخلوع، وبينما كان يتوقع البشير من جميع قواته تخليصه من كابوس التظاهرات، ظهر حميدتي في يناير 2019، أمام الآلاف من قواته جنوب العاصمة السودانية الخرطوم موجهاً انتقادات حادة لسياسات الحكومة، وفي 6 أبريل 2019 كانت المئات من المركبات العسكرية التابعة لقواته ترابط في محيط القيادة العامة للجيش، ليدشن بعد أيام معدودة وجوده في السلطة، جنباً إلى جنب مع قادة الجيش.

انقلاب 25 أكتوبر

في أعقاب استيلائه على السلطة، مرت أيام المجلس العسكري سريعاً، بما في ذلك ارتكابه مجزرة فض الاعتصام وصولاً إلى الوثيقة الدستورية وبداية الفترة الانتقالية والتي انتهت بانقلاب 25 أكتوبر 2021 ليبدأ الفصل الرئيس من الصراع والتنافس بينه وبين البرهان في كيفية إدارة السلطة الانقلابية الوليدة، الأمر الذي قاد إلى توتر العلاقة بينهما على نار هادئة، في خضم ضغوط كبيرة بدأ يواجهها البرهان من قادة الجيش، متعلقة بتنامي نفوذ حميدتي، بما في ذلك المحاولة الانقلابية في 21  سبتمبر 2021، والمقاومة الشعبية الشرسة لانقلابه من جهة أخرى، وتعقد المشهد بالنزاعات الأهلية الدامية والضغوط الدولية.        

ومع ذلك، غمر البرهان مشهد الانقلاب بظهوره وحيداً في المنابر، حيث انتظر حميدتي لنحو أسبوعين ليدلي ببيان مصور أيد فيه الانقلاب بشكل باهت، قبل أن يعود وينزوي عن المشهد، مقابل عودة لافتة لقادة النظام المخلوع لأجهزة الدولة، ومع ذلك في فبراير 2022 بدآ كل على حدة جولات خارجية كانت أبوظبي محطة مشتركة، بينهما، قبل أن يتوجه حميدتي إلى إثيوبيا، وأقصى الشرق ليزور موسكو مع بداية غزوها لأوكرانيا. 

والصراع بين البرهان وحميدتي، ظهر في السطح بعدما غادر الأخير إلى إقليم دارفور في يونيو الماضي، فيما بدا أنه اعتراض على توجيه البرهان للدولة منفرداً في أعقاب الانقلاب. كان البرهان في الخرطوم، يصدر قراراً جديداً أعلن فيه انسحاب المؤسسة العسكرية من العملية السياسية، وعاقداً العزم على تشكيل مجلس أعلى للقوات المسلحة، سرعان ما أبدى حميدتي اعتراضات غير مباشرة عليه. 

في أعقاب إعلان البرهان، خروج المؤسسة العسكرية من العملية السياسية، بدأت حرب المبادرات في أوساط القوى السياسية، لتخرج مبادرة (نداء أهل السودان) المحسوبة على النظام المخلوع، مقابل مبادرة اللجنة التسيرية لنقابة المحامين السودانيين التي طرحت مشروع دستور انتقالي، سرعان ما أيدها حميدتي في مؤتمر صحفي في الأول من أغسطس الماضي في أعقاب عودته من إقليم دارفور، على رغم من قوله بأنه لم يطلع عليها بعد، حينذاك. 

استمر الجدل بين القوى السياسية من جهة والجيش والدعم السريع من جهة ثانية والقوى المسلحة من جهة ثالثة، إلى حين توقيع الاتفاق الإطاري في ديسمبر الماضي، ليبدأ فصل جديد من التنازع بين الأطراف كافة، لكنه سرعان ما أصبح صراعاً  حامياً بين أطراف السلطة العسكرية، وصل إلى حد الملاسنات المباشرة والتحديات العلنية. 

ومثل الموقف من الاتفاق الإطاري وملفات جيوسياسية ترتبط بالحدود بين السودان وأفريقيا الوسطى، ودمج الدعم السريع في الجيش أخيراً والتنافس المباشر على مستقبل العملية السياسية بين البرهان وحميدتي وخريطة التحالفات الداخلية والخارجية المتناقضة، لحظة الصراع الحرجة التي حبست أنفاس السودانيين مع تصاعد احتمالية نشوب صراع مسلح بين الجيش والدعم السريع.   

الإصلاح العسكري بالنسبة للجيش والدعم السريع؟

عاد الصراع حول الحاضر والمستقبل ليحتدم مرة أخرى، في ورشة الإصلاح العسكري والأمني المستندة على الاتفاق الإطاري. لكن العملية السياسية التي بدأت بتوقيع الاتفاق الإطاري كانت قد رسخت قضية دمج الدعم السريع في الجيش التي لم تعد محل نقاش، لكن مفهوم وتصورات الدمج بالنسبة للجيش والدعم السريع هي لب المعركة الحالية.   

        

 “انسحاب المؤسسة العسكرية من السياسة، ضروري لإقامة نظام ديمقراطي مستدام. وهذا يستوجب أيضاً التزام القوى والأحزاب السياسية، بالابتعاد عن استخدام المؤسسة العسكرية للوصول للسلطة، كما حدث عبر التاريخ”، كانت هذه جزءاً من كلمة حميدتي التي ألقاها بالقصر الرئاسي خلال مراسم توقيع الاتفاق الإطاري. 

“وذلك يتطلب بناء جيش قومي، ومهني، ومستقل عن السياسة، وإجراء إصلاحات عميقة في المؤسسة العسكرية تؤدي إلى جيش واحد، يعكس تنوع السودان، ويحمي النظام الديمقراطي”، أضاف حميدتي. 

في ورشة الإصلاح الأمني والعسكري، أشار حميدتي أيضاً إلى ضرورة ابتعاد المؤسسة العسكرية عن السياسية والتحالف مع الأحزاب السياسية لتنفيذ الانقلابات. 

 واسترسل مشيراً إلى ضرورة الاستفادة من التجارب الإنسانية في المحيطين الأفريقي والعربي وفي العالم ، مع الأخذ في الاعتبار الفوارق الكبيرة بين جيوش تلك البلدان، وحالة قوات الدعم السريع، التي أنشئت وفق قانون، نظم عملها وحدد مهامها. 

 

في المقابل، قال القائد العام للجيش عبد الفتاح البرهان، إن الإصلاح الأمني والعسكري عملية طويلة ومعقدة ولا يمكن تجاوزها بسهولة ويسر. غير أنه أضاف أن القوات المسلحة مرت بتجارب عديدة منذ نشأتها، شهدت خلالها تقلبات كثيرة انعكست على أدائها ومشاركتها في العمل السياسي. 

وأكد البرهان أن القوات المسلحة ستكون تحت إمرة أي حكومة مدنية منتخبة بأمر الشعب. وقال إن هذه فرصة مواتية لوضع أسس الإصلاح الأمني والعسكري وكل أجهزة الدولة المختلفة خاصة الأجهزة الشرطية وأجهزة العدالة. 

وشدد البرهان على  ضرورة النظر لمفهوم الإصلاح نظرة فاحصة داعياً الشركاء في الورشة للإلمام التام بقانون القوات المسلحة وكيفية استنباط العقيدة العسكرية بجانب الإستراتيجية القومية الشاملة، وقال إن للقوات المسلحة تجارب في الإصلاح يمكن البناء عليها.

تضمين الدمج في الاتفاق النهائي

ومع اختتام ورشة الإصلاح العسكري والأمني، يوم الأربعاء، أكدت القوات المسلحة في تعميم صحفي، التزامها التام بالعملية السياسية الجارية. غير أنها شددت على أنها تنتظر عمل اللجان الفنية التي تعمل على إكمال التفاصيل المتعلقة بعمليات الدمج والتحديث وصولاً لجيش وطني واحد يحمي التحول الديمقراطي، وذلك تمهيدا لأن تكون هذه التفاصيل جزءاً من الاتفاق النهائي. 

 

وهو الأمر الذي أعادت تأكيده الدعم السريع،  وقالت في بيان إنه لا يمكن لأي جهة أن تعكر صفو “علاقتنا  العضوية مع القوات المسلحة”. قبل أن يؤكد البيان مواصلة العمل بصورة إيجابية في اللجان الفنية المشتركة، التي ستتابع النقاش حول بقية التفاصيل لإكمال ما اتفق عليه من مبادئ وأسس. كما أكدت التزامها بالإسراع في نقاش هذه القضايا، حتى تدرج في الاتفاق السياسي النهائي، وفق المواقيت المعلنة.

 

ومع ذلك، تمثل ورقة مبادئ وأسس إصلاح القطاع الأمني والعسكري، الموقعة في 15 مارس الحالي والتي يقول أطرافها، خاصة الدعم السريع إنها تمثل حجر الزاوية للإصلاح العسكري، مدخلاً جديداً لاحتدام الصراع بين الجيش والدعم السريع خاصةً فيما يتعلق بالمدة الزمنية للدمج التي يعترض عليها الجيش. 

ويتمسك الجيش، بمدة عامين لإكمال هذه العملية، بجانب اشتراطه وقف التجنيد العسكري في إقليم دارفور، وإعادة العمل بالمادة 5 التي تنص على تبعية الدعم السريع للجيش التي كان قد ألغاها البرهان بنفسه في عام 2019.

سياسات حكومية غير عادلة.. كيف أسهمت المبادرات الطبية في مساعدة السودانيين وسط انهيار المنظومة الصحية؟

منذ عدة سنوات، واختصاصي أمراض قلب الأطفال، باسط البشير، يحمل أدوات وأجهزة فحصه، متجولاً في أرجاء البلاد شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، في سعيٍ حثيث للتخفيف على آباء وأمهات صعوبة علاج أطفالهم، في ظل نظام صحي منهار، وخدماتٍ تزداد سوءاً كلما ابتعدت الجغرافيا من العاصمة. فينظم البشير عيادات الفحص المجانية، ويقدم الوصفات العلاجية، ويجري عملياتٍ جراحية، كل ذلك مع المراكز الصحية المحلية وشبكات التأمين الصحي.

وتأتي المبادرات المشتغلة على تيسير الخدمات الصحية، من أفراد وأجسام مجتمع مدني، في الأساس لتغطية عجز الدولة وعدم اهتمامها بالقطاعات الخدمية، وضعف صرفها عليها. هذه الوضعية الإشكالية، التي لطالما كانت مستمرة منذ الاستعمار البريطاني، حيث يتمركز تقديم الخدمات الصحية على المناطق الحضرية، ويستهدف في الأساس طبقة الموظفين. ومع ذلك، تقدم الفترات التي أعقبت استقلال البلاد مزيدا من الفهم للمتغيرات التي طرأت على القطاع الصحي.

تاريخ الخدمات الصحية

كانت فترة ما بعد الاستقلال امتداداً لهيكلة دولة وخدمة مدنية شكلها البريطانيون، ولم يكن القطاع الطبي استثناءً، حيث استمرت في تقديم الخدمات بنفس منوال التباين بين المناطق الحضرية والريفية. لكن هذه الوضعية تغيَرت في النصف الأول من حكم الرئيس المخلوع، جعفر نميري 1969-1985، حيث برز الاهتمام بتطوير الخدمات الصحية المقدمة في الريف، وانتشرت مرافق متنوعة، وانتظمت الزائرات الصحيات والقابلات الريفيات، ومشرفي البيئة وغيرهم في سبيل تقديم ما يعرف بالرعاية الطبية الأولية.

بداية التضعضع

لم تستمر الجهود المبذولة في تطوير القطاع الصحي طويلاً، إذ سرعان ما شهدت تراجعاً في النصف الأخير من السبعينيات، إثر تغيير سياسات الدولة، وتبني نميري سياسات يمينية، أدت إلى انسحاب الدولة من تمويل قطاع الخدمات الصحية، ومحاربة النقابات المدافعة عن العمال، الأمر الذي تسبب في نقص الكادر البشري، علاوة على تدهور المرافق الصحية، وبالتالي توفر الخدمات ونموها.

تجفيف المرافق الصحية

استمر تدهور الخدمات الصحية، ومع استيلاء نظام الإنقاذ على السلطة، فإنه عمد إلى اتخاذ إجراءات سياسية، بهدف السيطرة على المؤسسات الطبية المختلفة، الأمر الذي ظهر جلياً في تعيينات الموالين له، لكن برغم ذلك عمل نظام الإنقاذ على تطبيق خطته العشرية (1992-2002) والتي اعتمدت في الأساس على توصيات سمنار الإنقاذ الصحي في العام 1990، وأدخلت مفاهيم كان قد روج لها البنك الدولي لتطبيقها في الدول النامية، مثل مشاركة المواطن في تكلفة الخدمات وإدخال التأمين الصحي.

 لكن وسط سياسات حكومة الإنقاذ وعنفها الإيديولوجي، سرعان ما تمددت الحرب إلى إقليم دارفور في العام 2003 لتعيد الدولة زيادة مواردها المصروفة على القطاع الأمني، في حربها جنوباً وغرباً. لتشهد السنوات اللاحقة تدهوراً مريعاً في الخدمات الصحية، والذي وصل ذروته، إبان انقسام السودان إلى دولتين، في العام 2011، وتراجع موارد السودان الذي فقد دخله القومي من النفط، دون وجود بدائل أخرى تعتمد عليها الدولة. لتقوم برفع يدها من القطاع الصحي بشكل شبه كامل، بل عجلت بانهيار قطاع الخدمات عن طريق سياسات تجفيف المستشفيات والمرافق الصحية. 

تجفيف المستشفيات العامة

جفف مستشفى الخرطوم التعليمي والشعب والحوادث بمستشفى جعفر بن عوف للأطفال في الخرطوم، وتحول القطاع الصحي إلى سوق كبير بدخول قطاع المستشفيات الخاصة، التي تتطلب قدرات مالية هائلة من المواطنين في سبيل الحصول على الرعاية الصحية. كما تم تحرير أسعار الأدوية ضمن سياسات رفع الدعم في العام 2016، ليتحول نهار المرضى وذويهم إلى ليل ملئه الكوابيس، في ظل ظروف طاحنة تعبث بهم يومياً بشكل متوحش.

مبادرات مختلفة

في ظل ما كان يشهده السودان من تضعضع على جميع المستويات، إلا أن ذلك خلق حالة تضامنية على مستوياته القاعدية، بين الفاعلين والمبادرين أفراداً وجماعات، في سبيل التقليل على المواطنين من حدة ما يسببه تدهور قطاع الخدمات الصحية من مآس، فنجد أن مبادرة شارع الحوادث قد انطلقت في العام 2012 بحملاتٍ، كان هدفها في البداية هو التبرع بالدم من أجل الأطفال، لتتوسع بعدها إلى مبادرة لجمع دعم مادي من أجل مساعدة المرضى لعمل الفحوصات وشراء الأدوية وإجراء العمليات، ووجدت المبادرة استجابة كبيرة من القطاعات المختلفة في السودان، لتتحول لمبادرة تتواجد في كل ولاية من ولايات السودان. إلا أن مبادرة شارع الحوادث لم تظل حبيسة المساعدات فقط، حيث أنها افتتحت غرفة للعناية المركزة بمستشفى أمدرمان للأطفال 2015.

ما بعد الثورة

ساهمت الضائقة المعيشية بشكل كبير في اندلاع ثورة ديسمبر 2018، وكان السودانيون يستشرفون مستقبلاً مغايراً لحياة كريمة، من تعليمٍ وصحة. وعملت الأجسام المختلفة، في القطاع الصحي، من صيادلة وأطباء، على إبراز المشاكل التي يواجهها هذا القطاع الحيوي. لكن مع تعثر حكومة الفترة الانتقالية وتوجهها المستند على سياسات البنك الدولي وتحرير الخدمات، ولاحقاً مع المصاعب السياسية التي واجهتها، فإن الأوضاع لم تبرح مكانها.

 

وظهر تهالك النظام الصحي في السودان بشكل سافر خلال جائحة كورونا، حيث أن  الحكومة الانتقالية ورثت نظام منهار في الأساس، لم يكن يصرف سوى 6% من الموازنة العامة على القطاع الصحي، وداخلياً كان يعاني من صراعات في الاحتكار والسيطرة على المرافق الصحية واستيراد الأدوية.

لم تلق الأوضاع السيئة بظلالها على المواطنين فقط، بل إن العاملين في الحقل الطبي أنفسهم يعيشون أوضاعاً مأساوية، بسبب العمل في مستشفيات تفتقر إلى أدنى المقومات المطلوبة لتقديم الخدمات، علاوة على ضعف الرواتب وطول ساعات العمل. 

 

ونجد أنه على اختلاف الحكومات المتعاقبة في السودان، فإن التعامل الجاد مع الأجندة المتعلقة بالحقوق والرعاية الصحية للمواطنين والمواطنات لطالما كان غائباً  عن مخيال الساسة، وفي حالة حضوره كان يزج به في معارك من أجل التكسب السياسي. هذه الوضعية التي خلقت نظاماً صحياً متهالكاً، ولا يتوافق مع الزيادة السكانية والتوزيع الجغرافي في البلاد. 

وتجدر الإشارة إلى أن الصرف على القطاع الصحي هو الأكثر تدنياً في ميزانية الدولة السودانية منذ عقود، وفي وسط كل هذا الاضطراب والحيرة، برزت المبادرات الصحية والطبية، من أفراد ومجموعات مختلفة، منها ما يبذله الطبيب باسط البشير ومبادرات شارع الحوادث في الولايات المختلفة، وغيرها من عشرات المبادرات، في سبيل  سد الفجوة الكبيرة ما بين نظام متهالك، واحتياجات شعب يرزح تحت الفقر والعوز، ويواجه معاركاً يومية، من أجل الاستشفاء والحصول على أبسط أنواع الرعاية الصحية.

اقتربوا من استعادة نقابتهم.. كيف لعب الأطباء دوراً مركزياً في مقاومة الأنظمة العسكرية؟

أية السماني

أية السماني

مثل اصطفاف الأطباء السودانيون في طوابير طويلة لانتخاب لجنتهم التمهيدية في طريق استعادة واحدة من أبرز النقابات التي تم تغييبها لأكثر من ثلاثة عقود، في العاشر والحادي عشر من مارس الحالي، بالعاصمة الخرطوم، حصاد أربعة أعوام من ثمار جهدهم وعملهم المتواصل لتكوين نقابة شرعية قائمة على انتخابات ديمقراطية.

وتأتي خطوة الأطباء، لاستعادة كيانهم التاريخي، في خضم حراك نقابي محموم تشهده البلاد، ابتدره الصحافيون في أغسطس الماضي عندما استعادوا نقابتهم التي حلت مع استيلاء النظام المخلوع على السلطة في يونيو 1989. وأيضاً، في ظل محاولات حثيثة لواجهات النظام المخلوع، في إعادة السيطرة على المشهد النقابي، في أعقاب انقلاب 25 أكتوبر 2021، الذي أعاد إنتاجهم في مؤسسات الدولة المختلفة.   

بالنسبة للأطباء، في واقع الأمر لم تبدأ رحلتهم لاستعادة النقابة منذ 4 أعوام فقط، في أعقاب ثورة ديسمبر التي أطاحت بنظام الرئيس المخلوع، عمر البشير. فجهودهم تستند على تاريخ نضالي طويل سطروه من خلال حراكهم النقابي والسياسي في فترات مختلفة من تاريخ البلاد، خاصة في ثورتي ديسمبر ومارس – أبريل. حيث كان لنقابة الأطباء في انتفاضة مارس- أبريل 1985 والتي أطاحت بنظام الرئيس المخلوع، جعفر نميري، دوراً مركزياً وقيادياً بارزاً في نجاح الانتفاضة.

بينما لعب الأطباء دوراً جوهرياً، جنباً إلى جنب مع فئات الشعب المختلفة، خلال ثورة ديسمبر – وما يزالون -، من خلال المشاركة في التظاهرات لإسعاف الجرحى ومعالجتهم. كما شكلت إضراباتهم المنظمة خلال تلك الفترة كرت ضغط جديد بالنسبة للنظام الذي كان يتقهقر في ظل ثورة شعبية متصاعدة.

كذلك مثل توثيق الأطباء لانتهاكات النظام السابق وتدوين تفاصيل القتلى والجرحى بعد كل تظاهرة، دوراً بارزاً، في ملاحقة الأجهزة الأمنية وحكومة الأمر الواقع بما في ذلك توثيق الانتهاكات في التظاهرات بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021.

الجمعية العمومية

في العاشر من مارس الحالي، اكتظ دار الأطباء المطل على شارع النيل بالعاصمة السودانية الخرطوم، بآلاف الأطباء، حيث انعقدت أولى جلسات الجمعية العمومية المركزية للنقابة.

شارك في حضور الجمعية العمومية، أولئك الذين مهدوا الطريق لبناء قاعدي بتضحياتهم. والمقصود هنا، هو الطبيب مأمون محمد حسين الذي أطلقت عليه لجنة الأطباء المركزية لقب “الشهيد الحي”.

وملابسات الشهيد الحي، تأتي في سياق الإضراب الذي قاده حسين بمعية عدد من زملائه في مجلس نقابة الأطباء في عام  1989 احتجاجاً على انقلاب الإنقاذ انتهى باعتقاله والحكم عليه بالإعدام.

يعود ذلك الحدث بالذاكرة إلى تلك الحقبة التي استباح فيها النظام المخلوع، جميع مظاهر الديمقراطية والذي لم يتردد في حل جميع النقابات والأحزاب في يومه الثاني من الاستيلاء على مقاليد الحكم في البلاد.

بيوت الأشباح

قابل النظام الذي كان حاداً في قراراته المستندة على فوهة البندقية، في مواجهة معارضيه الذين تمسكوا بنقابتهم وحقوقهم، بعنف وقمع شديدين. ومع ذلك، بعد مرور عقود، هاهم الأطباء يعودون في محفل ديمقراطي جديد يجيب على وصية الشهيد الطبيب علي فضل الذي اعتقل بتاريخ 30 مارس 1990 وواجه أشد أنواع التعذيب في “بيوت الأشباح”  حتى فارق الحياة في 21 ابريل 1990 إثر قيادته لإضراب الأطباء، حيث كان موقنا بأن هناك من سيكمل الطريق بعده. 

وبيوت الأشباح، هي مقار تعذيب سرية وحشية أسسها جهاز الأمن في حقبة التسعينات، في مواجهة المعارضين، تخصصت في القتل والتعذيب. 

 فيما يعد النشاط النقابي المستمر للأطباء وفاعليته سببا كافيا لنظام الإنقاذ للقيام بخطوة حظر النقابات، علاوة على تعريض الأطباء للاعتقال والهجوم المستمرين.

إرث قديم

ويستند أطباء السودان في حراكهم الديمقراطي الحالي، على إرث قديم من النشاط السياسي منذ استقلال البلاد في 1956. كما تعد ثورة أكتوبر 1964 أحد الأمثلة البارزة حيث أطيح بنظام الجنرال المخلوع، إبراهيم عبود والذي قبع السودان تحت قبضة حكمه العسكري لأكثر من 6 سنوات، عن طريق ثورة شاركت فيها مجموعات مهنية، منها الجمعية الطبية السودانية.

وقد توجت تلك الثورة بتشكيل ديمقراطية قصيرة الأمد تكونت من مجلس رئاسي خصصت ثلاثة من مقاعده الخمسة الأساسية للأطباء، وهم عبد الحليم محمد، مبارك الفاضل شداد والتجاني الماحي الذي ترأس مجلس السيادة الانتقالي.

كما كان للأطباء دوراً بارزاً في الاحتجاجات التي سبقت سقوط نظام جعفر نميري، وقد نظموا خلال تلك الفترة إضرابات جنبا إلى جنب مع المهنيين في السودان.

فيما كان للأطباء طوال فترة حكم المخلوع عمر البشير حراكا مميزا ومنفصلا، على إثر دواعٍ مختلفة، وقد نظموا إضرابات عديدة ومؤثرة في جميع أنحاء السودان، ووجهت بالقمع الوحشي في أحايين كثيرة.

العملية الانتخابية

بدأت العملية الانتخابية، بمبادرة من المكتب الموحد للأطباء، والذي يضم لجنة الأطباء المركزية ونقابة أطباء السودان الاختصاصيين والاستشاريين السودانيين وعملت مع المكتب الموحد أيضا لجنة أطباء الامتياز. 

وقد تكونت لجنة الانتخابات المركزية للجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان في يناير 2021، وضمت مرشحين من الأجسام الأربعة السابقة بجانب 6 من النقابيين القدامى إلى جانب عضو قانوني واحد وقد شارك في تكونيها 21 هيئة نقابية من جميع ولايات السودان.

انتخب الطبيب نجيب نجم الدين رئيساً للجنة الانتخابات والطبيب مالك أحمد  مقرراً لها، حيث عكفت اللجنة على وضع لائحة تستند على دستور النقابة لعام 1987.

استغرق الطريق لبناء النقابة أكثر من أربع سنوات، وفي هذه المدة تمكن المكتب الموحد للأطباء من حصر أكثر من 10 آلاف طبيب في جميع أنحاء البلاد وانعقدت أعمال الجمعية العمومية المركزية لنقابة أطباء السودان في يومي 10 و 11 مارس الحالي، وناقشت الجمعية مسودة دستور النقابة ورفع التوصيات للجمعية العمومية المقبلة.

كما ناقشت اللائحة الانتخابية، حيث تم التوافق عليها وإجازتها مباشرة، وشارك الأطباء في عمليات حصر الأصوات وإدارة العملية الانتخابية ومراقبتها.

وفي 19 مارس الحالي، تم الإعلان عن فوز الطبيبة هبة عمر برئاسة اللجنة التمهيدية لأطباء السودان، فيما حصل 21 طبيبا آخر على عضوية المكتب التنفيذي، على أن تعد اللجنة التمهيدية لانتخابات نقابة الأطباء في غضون ثلاثة الى ستة أشهر.

لاقى الحدث ترحيباً واسعاً واحتفاءً من قطاعات المجتمع والتجمعات النقابية والمهنية، واعتبرت خطوة نحو العودة لمسار النقابات المهنية واسترداد العمل الديمقراطي الذي قطع نظام الإنقاذ الطريق أمامه لأكثر من 30 عاما.

ويسير الأطباء في خطى الصحافيين والذين أكملوا عملية الانتخابات والتي أسفرت عن استعادتهم لنقابتهم، وهي أول نقابة انتخبت ديمقراطيا منذ سقوط نظام الرئيس المخلوع عمر البشير، في أبريل 2019.

عمال السكة الحديد يعاودون حراكهم المطلبي في خضم معركة مستمرة مع السلطة

نرجو إخطار جميع العمال الذين شملهم قرار الفصل بإنهاء خدماتهم”، بهذا القرار، الصادر عن حاكم إقليم الولاية الشمالية وقتذاك، محمد الحسن الأمين، تعرض حوالي 4 آلاف عامل بالسكة حديد، في 11 يوليو 1990، إلى الفصل تحت حجة الصالح العام، علاوة على حرمانهم من مستحقاتهم.

ولم يأتِ استهداف نظام الإنقاذ وقتها لعمال السكة حديد، بعد أشهر معدودة من استيلائه على السلطة عبر انقلاب عسكري، من فراغ أو بشكل عشوائي، بل تم عن سابق إصرار وترصد للدور الطليعي الذي لعبته نقابة عمال السكة الحديد تاريخياً في مقاومة الاستعمار البريطاني والنظم الديكتاتورية التي حكمت البلاد. كما ساهمت في التأسيس لقيام بقية النقابات في السودان، مثل نقابة المزارعين. 

السكة الحديد قديماً

ومع أن الاستعمار البريطاني أنشأ السكة الحديد لخدمة مصالحه الاقتصادية، إلا أنه ربما لم يتوقع أن تصبح أساس التواصل الاجتماعي بين كافة أطراف البلاد والناقل الوطني لكافة السودانيين على حد سواء، وأن يكون لها قصب السبق في قيادة الدور السياسي الذي قصم ظهر الاستعمار نفسه.

 

وقتها تمتعت السكة الحديد بأهمية كبيرة جداً، حيث كان مديرها أحد أهم خمس شخصيات إدارية في البلاد، ضمن مجلس الحاكم العام البريطاني، الذي ضم الحاكم العام، والسكرتير الإداري، والمالي، والقضائي، ومن ثم مدير عام السكة الحديد.

أول نقابة عمالية

مع نشأتها الأولى، خضعت السكة الحديد لإدارة مباشرة من قبل المستعمر البريطاني، وشغل وظائفها الرئيسية عسكريون حتى عام 1902، بعدها بدأ الموظفون المدنيون السودانيون يشغلون وظائف إدارية مع انتقال مركز الإدارة الرئيسي من حلفا إلى مدينة عطبرة في عام 1906.

 

وفي 1948، تأسست نقابة عمال السكة حديد، وأجريت أول انتخابات لاختيار أعضائها، وشكلت وقتها البداية لإنشاء نقابات أخرى لقطاعات إنتاجية أهمها نقابة مزارعي الجزيرة. لتصبح نقابة السكة حديد الدينمو المحرك لمقاومة الاستعمار.

 

لم يقف دور السكة الحديد مع خروج المستعمر على متن نفس القطارات التي أدخلها البلاد لخدمته، إذ أن الحركة النقابية كانت السبب الرئيس في إنهاء حكم الرئيس المخلوع، إبراهيم عبود في ثورة أكتوبر 1964، بعدما حركت قطارين من مدينة بورتسودان تجاه العاصمة الخرطوم لدعم المتظاهرين. في المقابل مثلت مدينة عطبرة، أحد أهم لحظات ثورة أكتوبر بعدما انخرط مواطنوها على رأسهم عمال السكة الحديد في إضراب عام امتد إلى سائر أنحاء البلاد حتى إسقاط نظام عبود.

 

ومع تزايد أهميتها، اتخذت السكة الحديد، في عام 1967، صفة الهيئة الإدارية المستقلة التي يترأسها مدير عام يساعده مجلس استشاري يتألف من خمسة أعضاء بينهم وزير النقل.

 

ولطالما شكلت السكة الحديد هاجساً يؤرق الحكومات السودانية، فبعد أشهر معدودة من استيلائه على السلطة عبر انقلاب عسكري في 25 مايو 1969، وسعياً منه لتخفيف تأثيرها الشعبي، أصدر “مجلس الثورة”  الذي شكله الرئيس  المخلوع، جعفر نميري، في التاسع والعشرين من نوفمبر عام 1971 قراره رقم (69)، والذي قضى بحل الهيئة وإلغاء صفتها المستقلة ووضعها تحت إشراف وزارة النقل.

 

لتمر السكة حديد بعدها بسياسات تجفيف متعددة في عهد حكومة المخلوع أبرزها قرار حل النقابة الشرعية وفصل أكثر من 4000 عامل، بجرة قلم.

استعادة مؤقتة للنقابة

نجحت السكة الحديد، في تسيير قطار الثورة الشهير من عطبرة إلى الخرطوم، خلال اعتصام القيادة العامة، والذي توج بإطاحة النظام المخلوع، في أبريل 2019، واستمر دور السكة الحديد في أعقاب تشكيل الحكومة الانتقالية، حيث سيرت قطارات أخرى لدعم الحراك الثوري، كما أنها شكّلت لجنة تسييرية بعد الثورة.

لكن وبعد انقلاب الجيش في 25 أكتوبر 2021، عاد استهداف السكة الحديد والنقابات سريعاً، وفي ظل وجود لجنة تسييرية للنقابة، إلا أنها فشلت في مجابهة قرار قائد الجيش بحل اللجان التسييرية، ليواصل العمال بعدها مطالبهم دون جهة نقابية حتى اليوم.

اعتصام بقيادة جماعية

دخل عمال السكة حديد في اعتصام مفتوح، منذ مطلع مارس الحالي، للمطالبة بتحسين الأجور وصرف متأخرات رواتب سابقة. وهو امتداد لحراك مماثل، خلال العام الماضي، حيث شهدت السكة حديد تنفيذ أكثر من إضراب لنفس السبب، لكن العمال نفذوا اعتصامهم هذه المرة دون تسمية جسم محدد لتبني الإعتصام ومطالب العمال.

و على خلفية حراكاتهم السابقة التي فشلت في الوصول لمبتغاها اتفق العمال على تنظيم اعتصام بقيادة جماعية، فاقدين الثقة في الادارة الحالية للسكة حديد في محاولة للحد من الفشل الذي واجه محاولات قياداتهم السابقة في ادارة الحراك في أوقات سابقة .

في هذا السياق يقول العامل بإدارة الحركة والنقل (عبد الخالق سعد ) في حديثه مع (بيم ريبورتس) “أصر العمال على استمرار الاعتصام بقيادة جماعية حتى بعد تقديم لجنة الأجور المكونة من 7 أفراد لاستقالاتهم” 

و تضم مطالب العمال رفع الحد الأدنى للأجور بالإضافة لصرف المتأخرات التي تتضمن فروقات 3 أشهر .

قضية عالقة

بعد مرور ما يربو على الـ 33 عاماً، فإن أخر رئيس لنقابة السكة حديد، في دورة (1985-1991)، علي عبدالله السيمت، لم ينس القرارين رقم 138 و 139، واللذين تسببا في فصل 4000 عامل بصورة تعسفية، وحل نقابة السكة حديد. واللذين جاءا لخوف النظام، حديث العهد وقتها، من تأثير النقابة على نجاح الانقلاب خاصة بعد إصدارها بيان استنكاري لحادثة إعدام 28 ضابطاً بالجيش في أبريل 1990 .

يذكر السيمت، والذي عمل على استرداد حقوق المفصولين بعد ثورة ديسمبر 2018، رغم تقدمه في السن أن خطاب الفصل وقتها صدر بأمر من نائب حاكم الإقليم الشمالي، محمد الحسن الأمين، والذي يصدف أنه عضو بهيئة الدفاع عن الرئيس المخلوع حالياً.

 

وكان السيمت قد فتح بلاغاً، بتاريخ 10 سبتمبر 2019، ضد الأمين بنيابة عطبرة. ليتلقى رداً من النيابة بعد ستة أشهر، بأنها قبلت طلب محامي المشكو ضده بشطب البلاغ في مواجهة، محمد الحسن الأمين، بحجة أن أسباب الدعوى سياسية وكيدية وتستند على شهادات عمال مفصولين من الخدمة فقط، خاصة وأن خطاب الفصل لا يحمل توقيع محمد الحسن الأمين.

ويرى سمت أن المؤسسات المهنية والكيانات العمالية  عليها تكوين مؤتمر قومي لمناقشة مشاكل القطاعين المهني والعمالي والخروج برؤية واضحة لها.

وهو ما يتفق معه سعد، مشيراً إلى ضرورة تكوين نقابة منتخبة لعمال السكة حديد في أسرع وقت.

يستمر اعتصام عمال السكة حديد في القطاعات المختلفة ، بالتزامن مع اضرابات واعتصامات مختلفة  تشهدها البلاد، وصراعات لاستعادة النقابات غابت عنها نقابة السكة حديد عريقة التاريخ، أما السكة حديد التي بدأ نجمها في  الأفول  مع ميلاد فجر حكومة المخلوع ما تزال معركتها الماثلة إلى اليوم مستمرة في سبيل استعادة مجدها.

هل تنهي محاكمة (البشير) بتهمة تقويض النظام الدستوري ظاهرة الانقلابات العسكرية في السودان؟

 مترجلاً من سيارة تويوتا (لاند كروزر) ومرتدياً عمامة وجلباب ناصعيّ البياض، ومتبادلاً الابتسامات مع طاقم الحراسة الذي رافقه من سجن كوبر إلى نيابة مكافحة الفساد بالخرطوم في السادس عشر من يونيو 2019، كان هذا مشهد أول مثول للرئيس المخلوع، عمر البشير، أمام جهة عدلية، بعد أشهر معدودة على اقتلاع نظامه عبر ثورة شعبية. قبل أن يمثل في الشهر نفسه أمام المحكمة في مواجهة التهم نفسها. 

رُّحل البشير يومها إلى النيابة لاستجوابه في تهم تتعلق بحيازة نقد أجنبي وفق المادة 5 من قانون الثراء الحرام والمشبوه لسنة 1989″، والثراء غير المشروع وفق المادة 6/1/ج، كانت قد وجهت له وبدأ التحقيق فيها منذ أبريل بواسطة النائب العام السابق، الوليد سيد أحمد محمود.

لاحقاً، وجهت إليه تهمة قتل المتظاهرين حيث بدأ التحقيق فيها في مايو قبل أن تضاف إليها في الشهر نفسه تهمة تقويض الدستور بالانقلاب على الشرعية في 30 يونيو 1989.  

وتفتح محاكمة (البشير) بتهمة تقويض النظام الدستوري، باب التساؤلات في أوساط الرأي العام السوداني والمراقبين، حول إمكانية تحقيق عدالة تنهي عهد الانقلابات العسكرية على الحكومات المدنية في السودان، خاصة وأن التاريخ السياسي طغى عليه حكم الجيش الذي قارب الـ55 عاماً منذ استقلال البلاد في 1956. ويعتقد خبراء، أن الانقلاب على الحكومة الانتقالية في 21 أكتوبر 2021، لم يعطل سير محاكمات شهداء ثورة ديسمبر 2018 وحسب، بل فتح فرصة لإلغاء أو تعطيل إجراءات محاكمة مدبري انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة (البشير). 

المحكمة الجنائية:

والبشير، ليس مطلوب داخلياً فقط، إذ تلاحقه المحكمة الجنائية الدولية منذ 4 مارس 2009، بعد إصدار الدائرة التمهيدية بالمحكمة مذكرة توقيف بحقه بناء على اتهامات تشمل: ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، جرائم حرب والإبادة الجماعية في دارفور منذ عام 2003.

ورغم إعلان وزيرة الخارجية في الحكومة الانتقالية السابقة، مريم الصادق المهدي، في أغسطس 2021  عن صدور قرار رسمي بتسليم الرئيس المخلوع، إلا أن الخطوة تأخرت بعد انقلاب 25 أكتوبر.

محكمة الثراء الحرام

“لا توجد بيانات أو أدلة بخصوص تهمة الثراء الحرام الموجهة للبشير. وأي شخص في وظيفة البشير يكون هناك لديه نقد أجنبي”، رغم محاولة تبرير رئيس هيئة الدفاع عن البشير، في بلاغ الثراء المشبوه الذي فتحته النيابة ضده بعد العثور على 351 ألف دولار وأكثر من ستة ملايين يورو. فضلاً عن خمسة ملايين جنيه سوداني في منزله  لحظة اعتقاله. أصدرت المحكمة قراراً بإدانة البشير ومصادرة المبالغ المالية موضوع الدعوى. كما قضت بسجنه لـ 10 أعوام، لكن المحكمة، وفي الجلسة نفسها، أسقطت حكم السجن عنه لتجاوزه السبعين عاما وقررت إخضاعه للإقامة في دور الرعاية الاجتماعية لمدة عامين.

محاكمة وسط تحديات

وافقت النيابة على التحقيق مع البشير و27 آخرين من المدنيين والعسكريين المشاركين، بتهمة تقويض النظام الدستوري، في أعقاب قيام هيئة من كبار المحامين السودانيين على رأسهم علي محمود حسنين، وكمال الجزولي، ومحمد الحافظ بتقديم دعوى قضائية ضد تنظيم “الجبهة القومية الإسلامية” إلى النائب العام بتهمة الانقلاب على الشرعية، وتقويض النظام الدستوري وحل المؤسسات والنقابات في الدولة، في عام 1989، وبدأت المحكمة أولى جلساتها في 21 يوليو 2020.

واستندت الدعوى التي قدمها المحامون، إلى قوانين قديمة مجازة منذ عام 1983، لجهة أن القانون الجنائي المعمول به حالياً أدخل عليه تعديل دستوري من النظام المخلوع، إذ تم فتح بلاغ جنائي تحت المادة 96 من قانون العقوبات السوداني ضد البشير، وكافة المشاركين في الانقلاب.

وجاء على لسان المحامي علي محمود حسنين وقتها: “النائب العام  قبل عريضة الدعوى، وأحالها إلى وكيل نيابة جنايات الخرطوم شمال، للتحقيق فيها”.

تهمة الانقلاب لا تحتاج إلى بينة:

جريمة الانقلاب على السلطة الشرعية من الجرائم التي يمكن للنائب العام، ومن بعده المحكمة، أن تأخذ (علماً قضائياً) بوقوعها. والعلم القضائي بمعنى أنه لا يلزم النائب العام أو المحكمة الحصول على بينة لإثبات أن الانقلاب قد وقع”، يقول القاضي السابق والخبير القانوني سيف الدولة حمدنا الله، في مقال منشور.

ويضيف  حمدنا الله: “واقعة حدوث الانقلاب تدخل في العلم القضائي الذي لا تحتاج المحكمة بعده أكثر من نصف يوم لصياغة التهمة وتقديم البشير وأعوانه للمحاكمة مباشرة ويعقب ذلك صدور العقوبة”. 

ويواصل: “اتباع إجراء العلم القضائي، يمكن به تجاوز الخطأ الذي كان قد ارتكب في السابق بمحاكمة مدبري انقلاب مايو حيث ظلت المحكمة تستمع لنحو عام كامل للشهود حتى تُثبت هيئة الاتهام أن انقلاب مايو قد وقع”.

“النائب العام ما كان يلزمه من الأساس انتظار مُتطوعين مثل الأستاذ حسنين ومن معه من المحامين لأن يتقدموا إليه ببلاغ في مواجهة المجرم البشير بتهمة تقويض الدستور”، يضيف حمدنا الله. والصحيح، أن “تحريك الدعوى ضد البشير في هذه القضية وغيرها من القضايا ذات الطبيعة العمومية تقع ضمن واجبات وظيفته “النائب العام” التي تُوجِب عليه أن يقوم من تلقاء نفسه بتحريكها، ومن بينها قضية التحريض على قتل شهداء سبتمبر 2013، وكذلك شهداء بورتسودان وأمري وكجبار والعيلفون.

 كما كان على النائب العام، والحديث لحمدنا الله، أن يقوم من تلقاء نفسه (وقد مضت مدة كافية ليفعل ذلك) بتحريك قضايا الفساد الأخرى مثل قضية بيع سودانير والخطوط البحرية وممتلكات مشروع الجزيرة وبنك الثروة الحيوانية، وقضية التقاوي الفاسدة، وشراء القطار الصيني، وقضية أموال الأدوية.

تغيير القضاة:

إنني أعاني من ارتفاع ضغط الدم ونصحني الأطباء الابتعاد، عن التوتر”، في 22 ديسمبر 2020م، أعلن القاضي عصام الدين محمد إبراهيم أول رئيس لمحكمة مدبري انقلاب يونيو 1989 تنحيه بسبب وضعه الصحي.

فيما فضل القاضي أحمد علي أحمد في يوليو 2020م، التحدث بشفافية أثناء تقديمه طلب إعفاء من القضية  “خشية الانزلاق فيما تأباه العدالة” وفق ما قال. 

وفي خطوة مفاجئة، قرّرت السُّلطة القضائية بداية العام الحالي، إحالة قاضي محكمة مدبري انقلاب 30 يونيو. إذ كشفت مصادر غير رسمية عن تسلم رئيس هيئة محاكمة مدبري انقلاب 30 يونيو 1989، قاضي المحكمة العليا حسين الجاك الشيخ خطاب إحالته إلى التقاعد عن العمل بالسلطة القضائية لبلوغه السن القانونية.

وذكرت المصادر، أنّ القرار تسبّب بغياب القاضي المذكور عن الجلسة المعلنة، في يناير ما اضطر عضو هيئة المحكمة القاضي بمحكمة الاستئناف، الرشيد طيب الأسماء، لإعلان تعليق الجلسات لأسبوعين. 

وتواصلت الجلسات في بداية العام الحالي بعد تعيين القاضي عماد الجاك رئيسا جديدا لهيئة محكمة مدبري الانقلاب خلفا لحسين الجاك إلى جانب القاضيين محمد المعتز، والرشيد طيب الأسماء. لكن متابعين وخبراء قانونين تحدثو عن الضرر الذي أحدثه تغيير القضاة بشكل كبيير على سير المحاكمة.

اعتراف منقوص:

“بالمعطيات التي كانت قائمة في 1989، لو عاد التاريخ القهقهري، فسنقف نفس الموقف وسنقوم بالتغيير الذي حدث في 89”. رغم مخاطبة نائب الرئيس المخلوع، علي عثمان مجلس شورى “الحركة الإسلامية” في أحد اجتماعاته في 2013 والتي يظهر فيها متابهيا بالحركة الإسلامية ومشاركته في الانقلاب بالخطاب السابق في إحدى حلقات الفيلم الوثائقي الشهير الأسرار الكبرى لجماعة الأخوان الذي عرضته قناة العربية. 

وتسجيلات أخرى من مخاطبات جماهيرية وقف أمام القاضي متمسكا بعدم تخطيطه للانقلاب وتنفيذه قائلاً: “ليلة تنفيذ الانقلاب كنت بمنزلي ضاحية الرياض ولم أشارك في الانقلاب”، وذلك خلافاً للبشير الذي خرج بملامح لا تنم عن الأسف معلناً تحمله كافة المسؤولية عما تم في 1989م، وقال في خطوة مفاجئة يناير الماضي: “أتحمل كامل المسؤولية عما تم في 30 يونيو 1989، وأعلم أن الاعتراف هو سيد الأدلة”.

“لقد أخطأت المحكمة بالسماح للمتهم البشير في استغلال مرحلة الاستجواب وتحويله إلى منبر خطابي بالحديث خارج النطاق الذي شرع القانون من أجله الاستجواب. يعود حمدنا الله ويقول منتقدا طريقة استجواب البشير في المحكمة والسماح له بالحديث خارج النطاق الذي شرعه القانون: ويضيف: “كل ما جاء على لسان المتهم البشير أثناء استجوابه من حديث عن انجازات حكمه وعن الوضع المتردي للجيش وغيره يقع خارج نطاق الهدف الذي قصده القانون من مرحلة الاستجواب”.

العدالة تتطلب فصل محكمة البشير عن بقية المتهمين:

ويرى حمدنا الله، أن اللحاق بالعدالة الآن يقتضي أن تطلب هيئة الاتهام من المحكمة فصل محاكمة البشير عن بقية المتهمين بما يمكنها من سماع أقواله كشاهد وخضوعه للاستجواب الكامل بعد حلف اليمين، بخلاف ما جرى في مرحلة استجوابه كمتهم والذي تم دون حلف لليمين ودون أن يكون لأي من طرفي القضية الحق في توجيه الأسئلة.

ومع توالي الأحداث على مدى الأعوام الثلاثة الماضية وتأثر محاكمات البشير وقياداته بالأوضاع السياسية والقانونية في البلاد. لا تزال القضية الماثلة أمام القضاء السوداني تمثل تحدياً كبيراً له. خاصة وأنها ستكون سابقة في محاسبة العسكريين المنقلبين على الحكومات المنتخبة، آملين أن تنهي عهد تدخل العسكر في السلطة بسلاح الانقلاب.

وسط أزمة شاملة.. كيف حولت الأجسام النقابية والمطلبية (2022) إلى عام للإضرابات والاحتجاجات المستمرة؟

في معركة مبكرة، في أعقاب سقوط نظام الرئيس المخلوع، عمر البشير، وتوليه السلطة، سارع المجلس العسكري الانتقالي المحلول، بإصدار قرار بتجميد جميع النقابات والإتحادات المهنية في البلاد بتاريخ 28 أبريل 2019م، لقطع الطريق أمام قيام نقابات جديدة، تسهم في تثبيت الثورة وطريق التحول الديمقراطي.
بعد حوالي أسبوعين من استيلائه على السلطة عقب الإطاحة بنظام الرئيس المخلوع، عمر البشير عبر ثورة شعبية، سارع رئيس المجلس العسكري الانتقالي المحلول، عبدالفتاح البرهان، إلى إصدار قرار بتجميد نشاط النقابات والاتحادات المهنية في 28 أبريل 2019م

خطوة المجلس العسكري المحلول، لاقت انتقاداً كبيراً من القوى السياسية المعارضة وقتها وأجسام نقابية، بسبب أن القرار تحدث عن تجميد النقابات المحسوبة على النظام البائد وليس حلها. لكن تحت ضغط الثورة، تراجع المجلس العسكري، بعد أقل من شهر عن قرار التجميد. 

استمرار محاولات تأسيس نقابات واتحادات جديدة خلال الفترة الانتقالية، أثنى القائد العام للجيش عبد الفتاح البرهان لفترة، لكن بعد يوم واحد من انقلاب 25 أكتوبر 2021م، أصدر قراراً بحل الاتحادات المهنية واللجان التسيرية التي كانت شكلتها لجنة إزالة التمكين، ليقطع بذلك الطريق على محاولات القوى الثورية أثناء الفترة الانتقالية بتشكيل نقابات منتخبة من قواعدها، بدلا عن لجان التسيير المعينة من الحكومة الانتقالية. البرهان لم يكتف بذلك، بل حاول إعادة نقابات النظام البائد للواجهة  مرة أخرى.

ومع ذلك، لم تتوقف محاولات البرهان، في محاولة إعادة تشكيل المشهد النقابي لصالح النظام المخلوع، فأصدر قراراً في الثامن والعشرين من نوفمبر الماضي، بتجميد نشاط النقابات والاتحادات المهنية والاتحاد العام لأصحاب العمل.

في خطوة سبقها إصدار قرارات قضائية بإعادة رموز من النظام المخلوع كان قد تم فصلهم في عهد الحكومة الانتقالية. كما أعلن عن تشكيل لجنة برئاسة مسجل عام تنظيمات العمل بوزارة العدل لتكوين لجان تسيير للنقابات والاتحادات المهنية والاتحاد العام لأصحاب العمل وتحديد وحصر أرصدة وحسابات هذه النقابات المجمدة داخل وخارج السودان ووضعها تحت السيطرة. قبل أن يصدر قرار قضائي من المحكمة العليا في الثالث والعشرين من يناير الماضي، بتوقيف قرار البرهان.

احتجاجات وإضرابات مستمرة

رغم العراقيل التي ظلت توضع لمنع العمال والمهنيين من ترتيب أنفسهم وإكمال تشكيل أجسامهم النقابية، بدلاً عن لجان تسيرية تعمل في ظل ظروف سياسية معقدة تفتقر لأبسط مظاهر الديمقراطية. استمر المهنيون والعمال في الاحتجاج بشكل متواصل أمام المقار الحكومية مثل وزارتي: المالية والتعليم العالي ومجلس الوزراء، احتجاجاً على سياسات الدولة الاقتصادية. 

بالإضافة للإضرابات والوقفات الاحتجاجية التي شهدتها عشرات المؤسسات في قطاعات التعليم والصحة والنقل والصناعة والتجارة والموانئ العام الماضي. وحسب إحصاءات غير رسمية، فإن الإضرابات المتكررة في القطاعات المختلفة تسببت في ضياع أكثر من 80 يوماً من العمل خلال عام 2022م. 

وأسباب استمرار هذه الموجة من الإضرابات، هو عدم إيفاء موازنة العامين الماضيين باستحقاقات العاملين، في ظل ظروف اقتصادية طاحنة تشهدها البلاد، علاوة على حالة عدم الاستقرار السياسي.

وفي خضم هذه الاحتجاجات والإضرابات، حاول وزير المالية بحكومة الأمر الواقع، جبريل إبراهيم شرح تفاصيل موازنة العام 2023م.

وقال في تصريحات صحفية إن “الموازنة الجديدة  للعام 2023م تعتمد على الموارد الذاتية للدولة من رسوم جمركية وضرائب ورسوم مصلحية وغيرها من الإيرادات الذاتية “، قبل أن يشير إلى أن تدفق المنح والقروض يعتمد على تكوين حكومة بقيادة مدنية لاستكمال ما وصفه بالإصلاح الاقتصادي الذي بدأ تنفيذه في العام قبل الماضي بالتعاون مع صندوق النقد والبنك الدوليين، وهو ما أثار تساؤلات عن مصير الموازنة، حال لم تلق هذه الدعومات، وتأثير موازنة هذا العام على حجم الإضرابات التي ستنفذ وتأثيرها على الدولة.

لكن تصريحات إبراهيم التي بدأ إطلاقها منذ ديسمبر الماضي غلب عليها طابع التناقض. فتارة يشير إلى تفاؤله بالعام الحالي ويعد بحل مشاكل البلاد والعاملين بالخدمة المدنية، واصفاً موازنة العام الحالي بالواقعية. وتارة أخرى، يعترف بوجود عجز يحتاج لدعم خارجي، هذا غير الاختلاف في أرقام مبلغ الموازنة.

وكانت الحكومة الانتقالية السابقة، قد بدأت في تنفيذ خطة إصلاح اقتصادية بمراقبة البنك الدولى لإعفاء ديون السودان الخارجية، والحصول على دعم ومساعدات طارئة، لكن هذه الجهات اشترطت وجود حكم مدني في السودان للحصول على هذه الدعومات مما أدى لتعليقها بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021م.

توحيد الهيكل الراتبي هو الحل

“دائرة الإضرابات ستتسع أكثر فأكثر في ظل حالة الفراغ الحكومي الآني الذي أعقب انقلاب 25 أكتوبر 2021م، في ظل عدم وجود نقابات رسمية”،  بحسب تصريح صحفي للخبير في مجال العمل النقابي محمد خوجلي، والذي أضاف موضحاً أنه : “حتى الحلول والعلاجات الطارئة لقضية الإضرابات، تفتقر إلى الخبرات الكافية وخصوصاً من قبل الحكومة التي تصرف الحوافز من دون أدنى ضوابط أو معايير، ما خلق الكثير من الظلم وسط الفئات المختلفة”.

وانتقد خوجلي دور وزارتي العمل والإصلاح الإداري والمالية اللتين فشلتا تماماً وفق ما قال في إدارة الملفات المنوطة بها، لا سيما الاختلال الكبير في الرواتب والمخصصات من وزارة إلى أخرى ومؤسسة إلى أخرى، مشيرا إلى أن المعالجة النهائية تكمن في التوحيد الكامل للهيكل الراتبي بما يخلق عدالة بين جميع القطاعات.  

عام الإضرابات

في العام الماضي، انخرطت قطاعات التعليم والصحة والصناعة والتجارة في إضرابات متتابعة للمطالبة بتحسين الخدمات والأجور امتداداً للحراك الذي بدأ منذ العام 2021، وبعض هذه المطالبات رفعت شعارات إسقاط الانقلاب.

  بدأ موظفو بنك الخرطوم العام الجديد 2023م  بالإضراب عن العمل فى أكثر من 80 فرع بالخرطوم وعدد من الولايات، ضمن سلسلة إضرابات بدأت في ديسمبر الماضي، احتجاجًا على الفصل التعسفي الذي طال 210 موظفين و547 حالة إنذار بالفصل، لحقها فصل 10 أعضاء من مبادرة موظفي بنك الخرطوم. وتركزت مطالب الموظفين وقتها في تحسين الأجور وإعادة المفصولين.

وامتداداً، لما بدأته في 29 أغسطس من العام 2021م، بعد تقديمها مذكرة إلى رئيس الوزراء السابق، عبد الله حمدوك، تطالب فيها بتحسين وضع الأستاذ الجامعي وتطبيق هيكل راتبي خاص بالأساتذة أُسوةً بالقُضاة والمُستشارين، أعلنت لجنة أساتذة الجامعات السودانية عودتها للإضراب الشامل في 2 يناير 2022م.

 

وفي الثاني من فبراير 2022م، قررت وزارة المالية، بعد اجتماع مشترك مع لجنة أساتذة الجامعات تكوين لجنة لمعالجة قضية الهيكل الراتبي لأساتذة الجامعات السودانيين. وفي أبريل 2022 استجابت سلطة الأمر الواقع لمطالب أساتذة الجامعات انتهت بإعلان اللجنة عبر بيان  لها عن تعليقها الإضراب ابتداء من الثامن من مايو بشروط تحقيق مطالب صرف المتأخرات، وتكملة الهيكل الاستثنائي. حيث استجابت السلطات لأساتذة الجامعات و أجازت الهيكل الراتبي وأفرجت عن مرتبات معدلة لأساتذة الجامعات في مايو 2022 بعد نحو عام من الإضراب المستمر. لكن مع ذلك، عاود الأساتذة الإضراب أكثر من مرة  بسبب عدم إيفاء وزارة المالية بمستحقات الراتب الجديد بعد أشهر وحتى بداية العام الحالي منذ 10 يناير الماضي.

أيضاً، شهد قطاع التعليم تنفيذ لجنة المعلمين السودانين إضراباً عاماً عن العمل بجميع  مدارس البلاد، بتاريخ 10 مارس 2022م، احتجاجاً على تشوه الهيكل الراتبي بعد رفع اللجنة مذكرة إلى وزارة المالية تتضمن ثلاثة مطالب تمثلت في: (رفع الحد الأدنى للأجور إلى 24 ألف جنيه، إزالة الازدواجية في الرواتب وصرفها بهيكل واحد – هيكل 2022. المعدل، وصرف راتب فبراير معدلاً مع صرف فرق يناير في مارس).

وبعد استمرار المالية في تجاهل مطالبها، عاودت اللجنة إضرابها مرة ثانية في الثالث من أبريل العام الماضي حتى السابع من أبريل واستمر الإضراب حتى موعد امتحانات الشهادة الثانوية الأمر الذي دفع اللجنة لتقديم طلب بتأجيل موعدها.

تقديم مذكرة

 بعد شهرين من الإضراب قدمت لجنة المعلمين مذكرة لوزير التربية والتعليم بحكومة الأمر الواقع، محمود سر الختم الحوري، بتاريخ 8 مايو 2022، تطالبه فيها بتمديد مواعيد امتحانات الشهادة الثانوية المزمع قيامها وقتها في 11 يونيو 2022م، استنادا إلى دراسة أجرتها، أثبتت أن بعض الولايات لن تستطيع إكمال المقررات الدراسية قبل الموعد.

وقالت اللجنة: “اتضح لنا من خلال الدراسة التي شملت الولايات الأكثر تأثراً بالإضراب، الحاجة الماسة لتأجيل امتحانات الشهادة السودانية لمدة ثلاثة أسابيع حتى تتاح عدالة الفرص في التحصيل لأبنائنا الطلاب، والتي تباينت من ولاية لولاية، ومن تعليم حكومي إلى تعليم خاص. وهذا بدوره أمر يقتضي النظر إليه وأخذه في الاعتبار”، لكن الوزارة رفضت الطلب وتمت إقامة الامتحانات في ظل ظروف صعبة.

ومع بداية العام الحالي، أعلنت اللجنة عودتها للإضراب بالتزامن مع الإعلان عن الموزانة الجديدة. ففي 12 مايو 2022م، أضرب  العاملون في ولاية شمال كردفان  احتجاحاً على عدم تنفيذ الهيكل الراتبي لموظفي الخدمة المدنية عدا المعلمين واستمر لما يزيد عن الـ٣ أشهر.

سلسلة إضرابات

 في  7 أغسطس  2022 أضرب  4 آلاف عامل بشركة السكر السودانية، كما نفذ  29 قطاعا بولاية البحر الأحمر احتجاجات على عدم سداد الولاية مستحقاتهم في نفس التاريخ. أيضاً أقام أهالي منطقة العبيدية الفاروق اعتصاما مفتوحاً جوار مبنى الوحدة الإدارية  تحت شعار (الأمن مقابل التعدين)، بسبب تضرر الأهالي من التعدين وهو ثاني اعتصام بعد اعتصام 5/5/2022، بعد خلاف بين الشركة السودانية للموارد المعدنية والمواطنين حول الإشراف على تنفيذ الخدمات.

فيما أضربت في أغسطس نفسه، أكثر من 8 مؤسسات في ولاية شمال دارفور استجابة لدعوة أطلقتها اللجنة العليا لمطالب العاملين بالولاية والتي تشمل 28 موظفاً من هذه المؤسسات.

وفي 30/8/2022 نفذ موظفو الضرائب إضرابا عاما، أصدر بعده أمين عام الضرائب محمد علي مصطفى، قرارا بعدم ممارسة أنشطة نقابية لمديري الإدارات والولايات والمراكز بنهاية العام.

كما نفذ العاملون بالنقل النهري كوستي إضرابا مفتوحا  في 31 أغسطس 2022 تنديدا بعدم وجود هيكلة وظيفية واتهامهم للمسؤول الإداري السابق، محمد المعتصم في فساد بالشركة، واستمر الاحتجاج بسبب قرار قضائي من محكمة كوستي الجزئية التابعة للجهاز القضائي ولاية النيل الأبيض بمصادرة ممتلكات الشركة وتسريح الموظفين.

وبهدف الضغط على الحكومة لصرف رواتبهم ومستحقات المالية، أضرب  أطباء الامتياز عن العمل لمدة 3 أيام من الـ11 إلى الـ13 من سبتمبر في 30 مستشفى حكومي بالعاصمة والولايات، وبعد مضي الأيام الثلاثة من دون استجابة لمطالبهم، مُدّد الإضراب ثلاثة أيام أخرى، واستمر حتى تاريخ الـ21 من سبتمبر.

أيضاً، أضرب موظفي معتمدية اللاجئين بمكاتب ولايات الخرطوم، القضارف، كسلا، النيل الأبيض، كادقلي والفولا ومعسكرات أم راكوبة وكيلو 26 القربة، وود شريفي والشجراب  بتاريخ 18 سبتمبر.

في  19 /9 / 2022 ، عاود العاملون بالنقل النهري كوستي التصعيد مرة أخرى بعد قرار مدير النقل النهري الجديد، محسن سليمان البنا، بإخلاء العمال الذين لم يسددوا إيجار السكن التابع للشركة منازلهم.

وفي 20 سبتمبر 2022م، أضرب 60 موظفاً بالتأمينات الصحية بولاية وسط دارفور احتجاجا على قرار إداري من وزارة الصحة بفصل 6 كوادر كانت قد أصدرت نفس الإدارة  قرار بفصلهم من  مستشفى زالنجي قبلها بشهر، مما دفع  22  كادر طبي للتوقف عن العمل بالمستشفى وبنك الدم تضامنا مع المفصولين.

كما لوّح 400 أستاذ يعملون بعقود خاصة في جامعة الخرطوم في سبتمبر الماضي، بالاستقالة بعد تخفيض رواتبهم بنسبة 50 في المائة، سبقه إضراب للعاملين في الصندوق القومي لرعاية الطلاب.

إضرابات حكومية

تواصلت الإضرابات لتشمل عاملين في وزارات حكومية، مثل إضراب عمال وزارة الزراعة والغابات التي أعلن العاملون فيها بدء إضراب تدريجي عن العمل في المركز والولايات في 25 سبتمبر الماضي، للضغط على السلطات لتنفيذ مطالبهم الخاصة بالرواتب والمخصصات الأخرى، وهدّد المهندسون بالبث الإذاعي والتلفزيوني بالدخول في إضراب قبل أن تستجيب وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي لمطالبهم، لكن عدم وفائها بالتزاماتها مع عمال ومهندسي قطاع الكهرباء، أعاد إضراب عمال الكهرباء إلى الواجهة يوم الـ25 من الشهر الماضي، وهو الإضراب الثاني في سبتمبر للعمال إذ سبقه آخر نفذ في 6 سبتمبر 2022. وفي 28 سبتمبر، رفع العاملون بوزارة التجارة والتموين في المركز والولايات إضرابهم بعد تشكيل لجنة لتنفيذ مطالبهم بعد يومين من الإضراب.

إضراب القطاع التجاري

 في ظاهرة نادرة امتدت الإضرابات إلى الأسواق، إذ أغلق التجار محالهم، في مدن: تمبول والقضارف والأبيض والدمازين وعطبرة وغيرها، احتجاجاً على السياسات الضريبية الجديدة التي رفعت نسبة الضرائب عشرة أضعاف حتى وصول الحكومة معهم لحل وسط بدفع نصف الضريبة.

 وفي نوفمبر 2022م، نفذ العاملون في وزارة الصناعة إضرابا مفتوحا، بالإضافة لإضراب آخر نفذه عمال السكة حديد بعطبرة للمطالبة بتعديل الأجور وصرف علاوة مستحقة.

فيما أغلق محتجون ميناء بشائر للمطالبة بالتعويض عن الأراضي والتوظيف والتنمية والخدمات بالمنطقة، مما أجبر العاملين في الدخول في إضراب قسري عن العمل في نفس الشهر.

كما فتح بنك فيصل الإسلامي باب الاستقالات الطوعية للعاملين، بعد قرار لمجلس الإدارة بإغلاق بعض مكاتب الصرف ونوافذ الخدمة ومقترحات دمج وتقليص بعض الأقسام.

أيضاً، دخل عمال هيئة مياه الخرطوم في إضراب جزئي في 10 نوفمبر استثنى عمال التشغيل في المحطات النيلية والآبار، للمطالبة بحقوق مالية من خلال التصديق على لائحة مالية أعدتها اللجنة، أيضا نفذ موظفو بنك السودان المركزي وقفة احتجاجية للاعتراض على حملات النقل التعسفي التي طالت موظفي البنك.

حراك طلابي

شهد نهاية العام 2022 حراكاً طلابياً واسعاً، دفع جامعات مثل السودان لتعليق الدراسة بسبب تخفيض وزارة المالية الدعم الموجه للجامعات الحكومية من 250 مليون جنيه إلى 50 مليون جنيه لكل جامعة في العام. كما أعطت الجامعات الضوء الأخضر لزيادة إيراداتها عبر زيادة الرسوم وغيرها من الموارد لتغطية نفقاتها واحتياجاتها بما في ذلك الفصل الأول (مرتبات) العاملين، والتنمية والتسيير وغيرها من المصروفات، وفي ظل هذه الزيادة وصلت الرسوم السنوية في بعض الجامعات الحكومية إلى ما يعادل أكثر من ألف دولار.

وواجهت عدد من الجامعات الحكومية وأكثر من 20 ألف مدرسة في السودان إمكانية التعطيل بسبب الإضرابات المطالبة بتحسين الأوضاع المعيشية وأزمة رسوم الجامعات الحكومية الأخيرة والتي بلغت الزيادة فيها أكثر من 900 في المئة أثرت على آلاف الطلاب. وكان ما يفوق الـ” 22956 ” طالبا وطالبة بالجامعات السودانية  قد تأثروا من إضراب أساتذة الجامعات العام الماضي.

ونفذت لجنة مطالب العاملين بديوان الضرائب إضراباً في الفترة من 25 إلى 27 ديسمبر على الرغم من تهديد الأمين العام للضرائب للعاملين المضربين.

وأوضحت اللجنة، أنها حددت هذا التوقيت للإضراب لأهميته القصوى في التوريدات الأخيرة لقفل حسابات ميزانية الدولة للعام 2022م.

في السياق، دخل العاملون في وزارة الصناعة الاتحادية ، في إضراب عن العمل  في 25 ديسمبر استمر ليومين بسبب عدم الاستجابة لمطالبهم بتحسين بيئة العمل ورفع الأجور، وأوضحوا أن الرواتب لا تكفي () من احتياجاتهم.

وفي 26 ديسمبر، دخل العاملون في مصلحة الأراضي بولاية الخرطوم إضراباً عن العمل  لمدة ثلاثة أيام للمطالبة باستحقاقات مالية، كان والي الخرطوم بحكومة الأمر الواقع قد التزم بتنفيذها في 22 ديسمبر. كذلك، نظم العاملون في التأمين الصحي في الخرطوم والولايات وقفات احتجاجية في نفس التاريخ احتجاجاً على التراجع عن تطبيق تعديل المنشور الملزم من ديوان شؤون الخدمة 2022م على الحوافز والمكافآت.

وطالب العاملون خلال الوقفات بالتنفيذ الفوري والملزم لمنشور ديوان شؤون الخدمة على الحوافز والمكافآت قبل نهاية العام.

إضرابات بداية العام

في 10 يناير، أعلن 80% من أصل 8 آلاف عامل بديوان الضرائب الدخول في إضراب مفتوح عن العمل احتجاجا على كشف المناقلات التعسفية الذي أصدره الأمين العام للديوان محمد علي عبدالله والذي قضى بنقل 84 موظفا وعاملا من أعضاء لجنة مطالب العاملين والداعمين الأساسيين لها بقرار رسمي لإضرابهم عن العمل، احتجاجا على عدم تنفيذ مطالبهم بتحسين شروط الخدمة ورفض إدارة الديوان مقابلتهم، وقالت اللجنة في بيان لها إن الإضراب سيستمر حتى تحقيق مطالبهم بتحسين شروط الخدمة وإلغاء قرار التنقلات التعسفية وإقالة الأمين العام للديوان.

وفي 15 يناير الماضي، أضرب أصحاب الحافلات العامة نتيجة ارتفاع رسوم الترخيص وزيادة المخالفات المرورية علاوة على زيادة رخصة القيادة وكروت الخطوط،ودفع الإضراب السلطات لإعلان تجميد المخالفات حتى مطلع الشهر المقبل، وإتاحة الفرصة أمام المركبات لتجديد الترخيص.

فيما استمر إضراب معلمي المدارس الحكومية الذي نفذته نهاية ديسمبر،مما دفع الحكومة لتغيير التقويم الدراسي بتقديم موعد العطلة في محاولة لقطع الطريق أمام نجاح الإضراب الذي تقرر تنفيذه ل 3 أسابيع.

وفي 25 يناير عقدت وزارة المالية اجتماعا مع لجنة المعلمين ومسؤولين بمجلس السيادة بسلطة الأمر الواقع لبحث أزمة إضراب المعلمين، خلص إلى رفع الإنفاق على التعليم بنسبة 14.8% من ميزانية 2023 وأقر بمراجعة العلاوات ذات القيمة الثابتة في موازنة العام الجاري. وفي 20 سبتمبر 2022 الماضي، نشرت لجنة المعلمين دراسة قالت فيها إن راتب المعلم يغطي 13% فقط من تكاليف المعيشة الأساسية.

حراك في طريق قيام النقابات

“حراك العمال والمهنيين، مربوط بالحركة الجماهيرية في صعودها وهبوطها لكنه مستمر رغم تباطؤه أحياناً”، يقول الخبير النقابي محجوب كناري لـ( بيم ريبورتس). مضيفاً: “رغم كل ما تبذله سلطة الانقلاب والموالين لها من جهود لمنع العمال من تكوين نقاباتهم وإحباط مجهوداتهم، نشهد كل يوم قيام نقابة جديدة”.

ويعتقد كناري أنه بغض النظر عن القانون الحالي أو المقترح، ينجح العمال في إنشاء النقابات، مشيرا إلى أن قيام النقابات في السودان على مدى التاريخ  غير مرتبط بالقانون لأنها قامت قبل تعيين قانون.

ورأى كناري، أن الحراك الحالي سيتوج بقيام النقابات في كل القطاعات، ويواصل: “ستقوم النقابات بفهم جديد مربوط بإرث نقابي في السودان وبالمعايير الدولية، وستأخذ أشكالها الجديدة رغم العقبات والعراقيل التي توضع لها وستنجح في تكوين اتحاداتها وستشهر سلاحها المجرب (الإضراب السياسي)، وستنجح مع غيرها من لجان المقاومة والأحزاب في عمل التغيير الذي تحتاج إليه البلاد للمضي قدماً”.

وفقاً للخبير النقابي، فإن اللجان التسييرية فشلت في تكوين نقاباتها بسبب كونها لجان غير منتخبة، مشيرا إلى أن اللجان المنتخبة تقاوم في تكملة نقاباتها، لكن لأن لجان التسيير معينة فتذهب مع ذهاب الحكومة التي عينتها.

ويشير إلى أن عدم توقف الإضرابات لديه أسبابه الموضوعية والمقنعة في ظل ما وصفه بالانهيار الاقتصادي والتضخم الذي ليس لديه حدود، والسياسات التي تؤثر على المواطن في معاشه وخدماته، مؤكداً أن الإضرابات لن تتوقف لأن الأسباب التي دعت لها لم تزل ولن تزول بسهولة.

ومع تواصل موجة الإحتجاجات بمجئ العام الجديد لا يزال الكثير ينتظرون تتويج هذا الحراك المطلبي بالنجاح في الوصول للإضراب الشامل وسد حالة الفراغ النقابي بالبلاد، ومساهمة الأجسام المطلبية في ملء فجوة الفراغ السياسي الحالي. 

الخرطوم تتحول لمحطة دبلوماسية ساخنة على مقياس الأزمات الداخلية و(الجيوسياسية) 

في محيط محدود بالعاصمة السودانية الخرطوم، لا يتجاوز عدة كيلومترات، بدايةً من المطار، ومروراً ببيت الضيافة وصولاً إلى القصر الرئاسي شمالاً ووزارة الخارجية وقاعة الصداقة غرباً. تغص العاصمة السودانية، بضيوفها الدبلوماسيين رفيعي المستوى، القادمين من عواصم صناعة القرار العالمية، حاملين أجندتهم المتصارعة، في بلد غارق في الأزمات الداخلية والجيوسياسية. 

 

يبحث هؤلاء الضيوف، المنتمين إلى معسكرين نقيضين، والذين بدأوا في التوافد إلى الخرطوم منذ أمس الأول الثلاثاء. بالنسبة للمبعوثين الغربيين، النقاش مع الأطراف السودانية، حول العملية السياسية والاتفاق الإطاري، واللجان الوزارية المشتركة والتجارة وقضايا إقليمية بالنسبة لموسكو، حسب ما أعلن رسمياً.

 

ورغم البرودة النسبية التي تتمتع بها مدينة الخرطوم منذ عدة أيام، إلا أنها لا تعكس مدى اشتعال الحالة السياسية واختناقها بالانغلاق ومخاوف الصدامات، وتارة بعبوات الغاز المسيل للدموع. 

 

تطورات ما بعد 25 أكتوبر

لا تعيش الخرطوم، التي تجري فيها مباحثات، مبعوثو كل من: الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، النرويج، فرنسا، ألمانيا والاتحاد الأوروبي من جهة. ووزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف من جهة أخرى، صراعاتها التقليدية منذ انقلاب 25 أكتوبر 2021م، فحسب. 

إنما هي اليوم، تحت وطأة أزمات داخلية مركبة مدنية – مدنية وبين القوى العسكرية. بجانب صراعات جيوسياسية تمتد غرباً إلى تشاد وأفريقيا الوسطى، ومنها إلى عمق الساحل الأفريقي. بينما تمتد في الجنوب الشرقي إلى إثيوبيا وفي الشمال الشرقي إلى مصر، والمملكة العربية السعودية. ومن البحر الأحمر يتفرع صراعها إلى دولتي إسرائيل والإمارات.

إذ سبقت زيارة مبعوثي الغرب وموسكو، وصول رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد إلى الخرطوم، بالتزامن مع تنظيم القاهرة ورشة لبعض الأطراف السودانية. فضلاً عن استقبال الخرطوم لوزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين. بالاضافة إلى توترات أمنية في الحدود، بين السودان، تشاد وأفريقيا الوسطى. 

بالنسبة للأزمة الداخلية المركبة، فهي قد وصلت إلى مرحلة الدمج. دمج الأزمة كلها في أزمة أكبر، يأمل المسؤولون الغربيون الموجودون في الخرطوم، في أن يمنعوا انفجارها، أو على الأقل إبطال مفعولها، وإن كان لأشهر معدودات، ضمن أجندة أخرى مقلقة يحملونها في ملفاتهم، تتعلق بالضيف الآخر القادم من موسكو، حسب ما علمت (بيم ريبورتس) من مصادر رسمية وسياسية مطلعة. 

مخاوف من الوجود الروسي

يتعمق الوجود الروسي في الحدود بين السودان، أفريقيا الوسطى وتشاد، وهي مخاوف أساسية يطرحها المسؤولون الأوروبيون على القادة العسكريين المنقسمين على الموقف، حتى لو كان ذلك بشكل تاكتيكي. 

الأوروبيون والأمريكيون، يطلبون بشكل واضح طرد شركة فاغنر العسكرية الروسية من البلاد وتحجيم نفوذ موسكو إلى أبعد حد، نقلوا هذا الأمر إلى العسكريين بشكل واضح، حسب ما أكدت مصادر سياسية مطلعة لـ(بيم ريبورتس).

في المقابل، وبالرغم من أن وزير الخارجية الروسي الذي وصل فجر الخميس، أجرى مباحثات مع نظيره السوداني، علي الصادق ولاحقاً قادة حكومة الأمر الواقع، إلا أن مصدراً مسؤولاً بوزارة الخارجية أبلغ (بيم ريبورتس)، أن ملف الزيارة وترتيباتها بحوزة القصر الجمهوري.

زيارة متزامنة

لماذا يتزامن وجود المسؤولين الغربيين في الخرطوم مع وزير الخارجية الروسي، وما علاقة ذلك بزيارة وزير الخارجية الإسرائيلي للبلاد الأسبوع الماضي؟.

يعتقد المحلل السياسي، الحاج حمد، أن “التناقض الثانوي” بين إسرائيل والولايات المتحدة قد انفجر بسبب الاتفاق الإطاري. ويقول “واشنطن صممت ودعمت الاتفاق الإطاري واصطفت كل القوى الدولية خلفه”، مضيفاً “رغم أنه لا يبعد العسكريين من السياسة لكنه يخفض من دورهم”.

 

ويرى حمد، أن إسرائيل وحكومتها اليمينية المتطرفة، حركت الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وسرعان ما زار وزير الخارجية الأمريكي القاهرة وألجم تحرك مصر. ويتابع “بالطبع لا يمكن أن تلغي الزيارة، لذا نفضت يدها من مجموعة دعم الانقلاب واضطر وزير خارجية إسرائيل لمقابلة البرهان ليؤكد أن مجموعة التطبيع ستستمر”. 

 

“حضور المبعوثين لمنع العسكر من الارتداد عن الاتفاق الإطاري”، كان هو رد واشنطن، يوضح حمد.

 

ورأى حمد، أن تأثير زيارة المبعوثين الغربيين، يتمثل في تأكيد الموقف الأمريكي تجاه الاتفاق الإطاري وإبعاد التأثير السالب لإسرائيل. وبالتالي تضييق فرص مناصري العسكر في الإشتراك، ولذا لعب البرهان ورقة التطبيع مرة أخرى، بالإضافة إلى تصريح زميله شمس الدين الكباشي.

 

“في ظل هذه المعمعة لم يتردد الروس في الوجود في الخرطوم ليقولوا إن لديهم مصالح اقتصادية وجيوسياسية في السودان، وعبره في المنطقة”، يوضح المحلل السياسي.

أجندة الزيارة الروسية

بعد منتصف ليل الخميس بدقائق حطت طائرة وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف بمطار الخرطوم في زيارته الأولى للبلاد منذ عام 2014م، حيث كان في استقباله نظيره بحكومة الأمر الواقع علي الصادق.

 

“في إطار جولة يقوم بها في عدد من الدول الأفريقية والعربية لبحث علاقات روسيا مع هذه البلدان، إضافة إلى مناقشة القضايا الدولية ذات الاهتمام المشترك”. هكذا، حرصت وكالة السودان للأنباء ـ سونا، باهتمام بالغ، على تأكيد أن زيارة المسؤول الروسي الرفيع بجانب السودان تشمل دولاً أخرى وبنفس الأجندة.

 

في تصريح لـ(سونا)، سبق الزيارة، أعرب وزير الخارجية بحكومة الأمر الواقع، عن سعادته باستقبال نظيره الروسي، قبل أن يقول بلغة دبلوماسية منمقة “إن روسيا دولة صديقة تقليدية للسودان”.

 وأشار إلى أن الخرطوم وموسكو تربطهما علاقات قوية وراسخة ومتطورة، تقوم على الاحترام المتبادل والمساواة، كما تجمعهما الرغبة في تطوير هذه العلاقات. وتدعم هذه العلاقات، حسب الصادق، آليات قائمة متفق عليها بين الطرفين تتمثل في اللجنة الوزارية المشتركة ولجنة التشاور السياسي بين البلدين واللقاءات الثنائية على مستوى الرؤساء والوزراء وكبار المسؤولين والخبراء. إضافة إلى منبر المنتدى الروسي العربي الذي يهتم بتطوير علاقات روسيا مع الدول العربية.

 

لكن الصادق يفتح أجندة الزيارة الحساسة بدبلوماسية غاية في الحذر، عندما قال “إننا قدمنا للجانب الروسي شرحاً حول سير العملية السياسية في البلاد والجهود المبذولة لتحقيق التقارب الوطني وصولاً إلى تكوين حكومة مدنية تواصل مسيرة الانتقال وتقود البلاد إلى الانتخابات”.

 

لا شيء حساس آخر إذاً، يمضي الوزير إلى القضايا الروتينية، مضيفاً “الجانبان ناقشا العلاقات الثنائية، خاصة مخرجات اجتماعات اللجنة الوزارية المشتركة التي انعقدت في النصف الثاني من العام الماضي. إضافة الى مجالات التعاون المشترك بين البلدين متمثلة في توليد الطاقة من مياه الخزانات والأبحاث الجيولوجية والتعدين والنفط، إلى جانب القضايا الدولية التي تهم البلدين”.

 

في المقابل، ذكرت وزارة الخارجية الروسية، أن لافروف وصل إلى السودان في زيارة عمل، لإجراء مباحثات مع قائد الجيش عبد الفتاح البرهان. بالإضافة إلى قائد الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي) ونظيره علي الصادق. 

 

وتتركز المباحثات بين الخرطوم وموسكو، حسب الخارجية الروسية، حول ما وصفتها بالجوانب الرئيسية من التعاون السوداني – الروسي المتعدد الأوجه. بالإضافة إلى القضايا الدولية والإقليمية الملحة، مع التركيز على ضرورة إيجاد حلول سياسية ودبلوماسية للأزمات في الشرق الأوسط والقارة الأفريقية”.

 

وتشمل أجندة الزيارة كذلك، حسب الخارجية الروسية، تركيز الاهتمام بشكل خاص على التحضير للقمة الروسية الأفريقية الثانية، التي من المقرر أن تعقد في مدينة سان بطرسبورغ في يوليو المقبل.

 

غير أن الخارجية السودانية ذكرت، أن وزير الخارجية الروسي سيجري مباحثات مع نظيره علي الصادق تتناول القضايا الثنائية والإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك، كما سيلتقي ضمن برنامج الزيارة عددا من المسؤولين بالدولة، دون أن تسميهم.

اتفاقيات معلقة

خلال لقائه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمدينة سوتشي في نوفمبر 2017م، أبلغ الرئيس المخلوع، عمر البشير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إن بلاده بحاجة إلى حماية من العدوان الأميركي.

 وقال موجهاً حديثه إليه: “الأميركان نجحوا في تقسيم السودان لدولتين وساعين لمزيد من التقسيم”، مضيفاً “ونحن نحتاج كسودان لحماية من العدوان الأميركي علينا”. 

هكذا دشن البشير، حقبة جديدة معقدة من العلاقات بين الخرطوم وموسكو، واصل قادة المجلس العسكري بعده الانخراط فيها، وما تزال عواقب هذه العلاقة تلقي بظلالها على بوابة البلاد الساحلية شرقاً، وأقصى غربها على الحدود مع تشاد وأفريقيا الوسطى. 

في ديسمبر 2019م، نشرت الجريدة الرسمية الروسية نص اتفاقية بين السودان وروسيا حول إقامة قاعدة تموين وصيانة للبحرية الروسية على ساحل البحر الأحمر، بهدف ما وصف بتعزيز السلام والأمن في المنطقة. كما نص الاتفاق على أن القاعدة لا تستهدف أطرافاً أخرى حسب ما ورد في مقدمتها، على أن يحصل السودان مقابل ذلك على أسلحة ومعدات عسكرية من روسيا، حسب الاتفاقية التي وقعها بوتين في نوفمبر من العام 2020م.

من طلب إلى قرارات

سرعان ما استطاع الروس، تحويل طلب الحماية ذلك، إلى قرارات فاعلة، فبدأ الحديث عن اتفاق لإنشاء قاعدة عسكرية لموسكو على البحر الأحمر. أيضاً تمكنوا من تحويل السودان، إلى بوابة نحو جمهورية أفريقيا الوسطى المجاورة، ومنها إلى غرب ووسط أفريقيا. 

وفي هذا السياق، رعت الخرطوم، بإيعاز من موسكو محادثات سلام بين أطراف أفريقيا الوسطى، مكّنها هذا الأمر رويداً رويداً من أن تكون لاعباً أساسياً في ذلك البلد الفقير و الغني بالمعادن والثروات الطبيعية في الوقت نفسه. 

لم يمر وقت طويل، بين بدء تعاون موسكو مع نظام البشير، حتى واجه الأخير ثورة شعبية أطاحت بنظام حكمه في أبريل 2019م، رغم محاولات موسكو الحثيثة وقتها لإنقاذ حليفها من السقوط. 

ما بعد البشير

عندما أيقنت موسكو أن نظام البشير ساقط لا محالة، سرعان ما عقدت اتفاقاً مع المجلس العسكري الانتقالي الذي خلفه، يتعلق أيضاً بالقاعدة البحرية. لتأتي، تحت وقع الضغوط الروسية، استجابة المجلس العسكري الانتقالي الحتمية، مرةً بسبب هشاشته السياسية، ومرة أخرى بسبب ضعف خبرته السياسية. 

 

نجحت روسيا في مايو 2019 م في التوقيع على اتفاقية المركز اللوجيستي على البحر الأحمر، مع المجلس العسكري الانتقالي والذي صادق عليه في يوليو من العام نفسه. بالمقابل، دعمت روسيا المجلس العسكري الانتقالي، في تعطيل إقرار مشروع قرار بمجلس الأمن الدولي، يُدين قتل الحكومة العسكرية السودانية للمدنيين في يونيو 2019م، بالتزامن مع أحداث فض اعتصام القيادة العامة.

 

ويعتقد أن موسكو وظفت رغبة الجيش السوداني في تعزيز قدراته الدفاعية، ورغبته في الحصول على أسلحة ومعدات عسكرية مجانية من موسكو، بجانب تعزيز أسطوله البحري، وتوفير الدعم والحماية في المنصات الأممية في تحقيق مكاسب استراتيجية لروسيا متعلقة باستخدام السودان كبوابة للتوسع الروسي في القارة وفي استغلال الموارد والسيطرة عليها.

أجندة الزيارة الغربية

  • التمدد الروسي في أفريقيا عبر بوابة السودان، أثار مخاوف الغرب، خصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية، حيث استمرت في محاولاتها الحثيثة طيلة الفترة الانتقالية، وما بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021م، لإبعاد شبح الوجود الروسي عن الخرطوم.

فاقم الغزو الروسي لأوكرانيا، في فبراير الماضي، الصراع بين موسكو والعواصم الغربية، وأصبحت أفريقيا عامةً ساحة له وبشكل خاص السودان، وهي من الدواعي الرئيسية لخوض معركة دبلوماسية ساخنة في الخرطوم على مقياس الأزمات الداخلية والجيوسياسية.

“من الرائع أن أكون مع الاتحاد الأوروبي، ألمانيا، فرنسا، النرويج والولايات المتحدة الأمريكية في هذه الزيارة إلى السودان”، كتب المبعوث البريطاني الخاص للسودان وجنوب السودان، روبرت فيرويدز، في تغريدة على حسابه بموقع تويتر صباح الأربعاء من العاصمة الخرطوم.
يوضح المسؤول الغربي الرفيع الغرض من زيارة الخرطوم بقوله “نحن مُتحدون خلف الاتفاق الإطاري. بالإضافة إلى الجهود الجارية لتوسيع المُشاركة وتأمين اتفاق نهائي سريعاً لتشكيل حكومة بقيادة مدنية”.


في صباح الخرطوم الشتوي الملتهب، على عدة جوانب، مليونية بوسط الخرطوم ومنطقة الديم، وصدى ملاسنات جنرالات المجلس العسكري، وترقب وصول ضيف موسكو، انعقد بقاعة الصداقة، اجتماع رؤساء وممثلي القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري مع المبعوثين الدوليين الزائرين للبلاد.

وشملت أجندة الاجتماع، حسب بيان، الاطلاع على مجريات العملية السياسية في مرحلتها النهائية، حيث عرضت القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري تصورها للخطوات القادمة وأهم التحديات وكيفية تلافيها لضمان الوصول لاتفاق سياسي نهائي في أسرع فرصة ممكنة.

في المقابل، جدد المبعوثون الغربيون تشديدهم و دعمهم للاتفاق الإطاري الموقع في الخامس من ديسمبر الماضي، باعتباره الأساس الوحيد للوصول إلى توقيع اتفاق نهائي تتشكل بموجبه حكومة مدنية ذات مصداقية تضطلع بمهام إدارة الفترة الانتقالية.

أيضاً، أكد المبعوثون على تقديم الدعم للشعب السوداني لتحقيق أهدافه وتطلعاته في الانتقال الديمقراطي والتحول المدني، واستئناف برامج التعاون الاقتصادي عقب تشكيل الحكومة المدنية على أساس العملية السياسية الجارية.

في المقابل، لم يتم إثارة الأجندة المقلقة المتعلقة بالضيف الروسي في البيان، لكنها كانت حاضرة في النقاشات، حسب ما أوضحت المصادر السياسية لـ(بيم ريبورتس).

بدوره، حاول وزير الخارجية بحكومة الأمر الواقع، علي الصادق، توضيح أجندة زيارة المبعوثين الغربيين التي تستغرق عدة أيام وجدول لقاءاتهم الذي يتضمن الاجتماع معه هو نفسه، بجانب قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، وقائد الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي). بالإضافة إلى لقاء الأحزاب المنضوية في “الحوار الجاري” الآن في البلاد.

بالنسبة للبرهان، فقد أكد للمسؤولين الغربيين الذين استقبلهم ببيت الضيافة بحضور (حميدتي)، التزامه بالاتفاق الإطاري والعمل مع جميع الأطراف وإقناع الممانعين للتوصل لاتفاق نهائي شامل، يمهد الطريق لحكومة انتقالية بقيادة مدنية تقود البلاد لانتخابات حرة ونزيهة، مجدداً التزام المؤسسة العسكرية بالخروج من العملية السياسية وإجراء الإصلاحات المطلوبة بالأجهزة الأمنية.

من جهتها، ذكرت وزارة الخارجية، أن المبعوثين الغربيين تحدثوا عن أهمية السودان في المنطقة وضرورة استعادة النظام الديمقراطي والحكم المدني والآمال التي تعقدها هذه الدول على السودان في محاربة الإرهاب وتحقيق الاستقرار في الساحل والصحراء والقرن الأفريقي. فيما قال الوزير، خلال استقباله الوفد الغربي، يوم الأربعاء، إن الزيارة تأتي فى إطار دعم الجهود الجارية للتوصل إلى اتفاق نهائي بين الفرقاء السياسيين وتشكيل حكومة مدنية واستعادة الانتقال الديمقراطي.

لا يبدو حديث الوزير بعيداً عن ما تتوقعه القوى السياسية الموقعة على الاتفاق الإطاري.
يقول القيادي بقوى الحرية والتغيير، خالد عمر، في أعقاب لقاء وفد الدبلوماسيين الغربيين إن “الزيارة سيكون لها أثر إيجابي على الإسراع بمعالجة التحديات الاقتصادية والأمنية والسياسية التي تواجهها البلاد”.
وأكد عمر، على دعم الوفد للمسار الذي خطه الاتفاق الإطاري والحكومة المدنية التي تتأسس بناءً عليه، ومع ذلك خلت كلماته من التطرق والتعليق على زيارة وزير الخارجية الروسي.

مراقبون ومحللون للاشتباك الدبلوماسي في الخرطوم بين القوى الغربية وموسكو يتحدثون عن ملفات ساخنة ينتظر أن تكون على الطاولة مع الأطراف السودانية.

“قد تعكس زيارة لافروف، أحد أبرز مساعدي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الأهمية الاستثنائية والمكانة المميزة، التي أصبح يتمتع بها السودان، بما في ذلك وقوعه بين قطبي الرحى”، يقول المحلل السياسييقول المحلل السياسي، عبد الله رزق.

ويشير رزق إلى أن الزيارة تأتي والسودان في أسوأ حالاته بسبب افتقاره للإدارة الحكومية الفاعلة. ورأى أن هذا الأمر” ربما كان حافزاً للتكالب الدولي الجاري من أجل التأثير على تطور الوضع الداخلي للبلاد، وإعادة تشكيله”.

ويعتقد رزق أنه بالنسبة لملف القضايا الإقليمية، فتتصدره الأوضاع المأزومة في تشاد وأفريقيا الوسطى، وعلاقة السودان بأزمات البلدين الجارين. وأيضاً، قد يكون في جدول الأعمال موقف السودان الرسمي من الحرب في أوكرانيا ضمن ملف القضايا الدولية.
بينما قد يشمل الجدول، في ملف القضايا الثنائية الإشارة لقضية علاقة السودان بشركة فاغنر الأمنية وقضية تصدير وتهريب الذهب لروسيا، والتوسط لإطلاق سراح الروس الثلاث الذين تم القبض عليهم مؤخرا في عطبرة بتهمة الشروع في تهريب ذهب. بجانب قضية القاعدة العسكرية على البحر الأحمر في إطار مشروع اتفاق أمني أوسع.

وحسب رزق، فإن جولة لافروف يمكن النظر لها كرد على جولة بلينكن، في سياق التنافس على كسب التأييد واشتداد حدة الاستقطاب والاستقطاب المضاد حول الموقف من الحرب في أوكرانيا.

كما يمكن بالمثل، والحديث لرزق، التقرير بأن زيارة ستة من المبعوثين الغربيين للخرطوم، والتي تم الإعلان عنها على مفاجئ جاء تزامنها مع زيارة لافروف في السودان عن قصد.

وفي خضم هذه الزيارات والأقدام الدبلوماسية المتتابعة في الخرطوم، والتي تتزامن مع التطورات السياسية الراهنة في البلاد، تطرح اهتمامات الغرب بالعملية السياسية في السودان، وصراع المصالح الواضح، تساؤلات عن تأثير هذا الصراع على ما ستشهده البلاد الفترة المقبلة وتبعاته على الوضع الأمني والاقتصادي والسياسي. أما محلياً وفي مسار منفصل عن حكومة الأمر الواقع وقادة التحول الحالي ظل الشارع رافعا راياته الرافضة لأي تغيير لا يلبي تطلعاته متحديا قوة السلاح، ومتجاوزاً لتأثير دول الإقليم وسلطة القوى العظمى.

ترقد على كومة من النفايات.. الفساد وعجز الدولة يحولان الخرطوم إلى مدينة تتنفس قبحاً

أصبح التعايش مع النفايات في العاصمة السودانية الخرطوم، أمراً لا مفر منه، في المدينة التي تحتضن شوارعها المتهالكة وأسواقها وأحيائها السكنية، آلاف الأطنان من مخلفاتها.

لا يقتصر غرق الخرطوم في كومة من الأوساخ والبيئة الملوثة على المخلفات العادية، بل يمتد إلى النفايات الطبية، التي تبقى لأيام في المكبات بالقرب من المستشفيات، انضم إلى هذا الجو الخانق، الغاز المسيل للدموع، كمخلفات وتلوث إضافي.

وأصبحت الروائح الكريهة، المنبعثة من هذه النفايات، بالإضافة إلى انفجار الصرف الصحي المستمر، خاصة في وسط الخرطوم، جزءاً من مدينة يطلق عليها اسم العاصمة جزافاً.

في خضم هذا الوضع المزري، ومع غياب دور الدولة في التعامل مع مخلفات النفايات، فقد أصبح كل شارعٍ وفسحة مكباً للنفايات، وأضحت الخرطوم عاصمة تحفها مخلفات القمامة من كل جانب، وبات أمراً معتاداً، أن تقف سيارة وينزل سائقها ويضع أكياساً من القمامة، على قارعة الطريق، وهو أمر يمكن أن تشاهده أكثر من مرةٍ في اليوم، في أماكن عديدة.

David Jensen, UNEP

أزمة قديمة متجددة

رغم تنامي أزمة النفايات أخيراً في مدينة الخرطوم بمحلياتها السبع، إلا أنها ليست جديدة كلياً، فالعاصمة ظلت تحت وطأة هذه الأزمة منذ حوالي 23 عاماً، ولكنها خلال السنوات الأخيرة تفاقمت بشكل كبير.

ويأتي على رأس الأسباب التي أدت إلى استمرار الأزمة؛ زيادة نسبة النفايات التي تخلفها مدينة الخرطوم يومياً، لتصبح 7 آلاف طن يومياً خلال العام 2022م، مقارنة بـ 3 آلاف طن خلال العام 2016م، أي بنسبة زيادة تفوق الضعف خلال 6 سنوات. 

كانت مسؤولية التخلص ومعالجة النفايات في الخرطوم تقع على عاتق المحليات، حيث تمول هذه العملية من عوائد إيراداتها، في وقت لم تكن هناك رسوم مفروضة على المواطنين. وخلال حقبتي الثمانينات والتسعينات، ومع زيادة عدد سكان الخرطوم، علاوة على تغّير نمط الحياة ونوعية الاستهلاك، شهدت نسبة مخلفات النفايات زيادة كبيرة، وهو ما قابلته المحليات بفرض رسوم على المواطنين مقابل نقل النفايات.

وظّفت المحليات تلك الرسوم، والتي كان يتم تحصيلها بصورة منفصلة عن إيرادات المحلية الأخرى، في توفير الآليات ودفع استحقاقات العمال. وهو جزء من سياسات الخصخصة التي طبقها النظام المخلوع في بداية التسعينات، والتي شملت خفض الصرف على المؤسسات الخدمية من صحة وتعليم.

خصخصة وفساد

لم يكن قطاع النفايات استثناء من الخصخصة التي طالت القطاعات الخدمية في عهد النظام المخلوع، حيث خصخصت الحكومة شركة الخرطوم للنظافة، وهي شركة تمتلكتها ولاية الخرطوم، وكانت تمتلك أكثر من 500 عربة نقل نفايات، وحرقة بمدينة أمدرمان، بالإضافة إلى ثلاثة مدافن.

 ومع انتظام عمل الشركة وتحقيقها لإيرادات مالية كبيرة من عملها، فإن الأمر لفت النظر إليها بغرض الاستيلاء عليها. حيث وضعت العراقيل أمام الشركة، الأمر الذي أدى إلى تدهورها وتراجع أدائها بنسبة 25%. ليتم خصخصتها في العام 2012م، واستبدالها بـ12 شركة خاصة، امتلكها أفراد موالون للنظام المخلوع.

وفي ظل غياب أي رؤية استراتيجية لإدارة تلك الشركات، والتي مثلت جيوباً للفساد، كانت النتيجة فشلها الكامل في إدارة ملف النفايات، بسبب ضعف إمكانياتها وعدم خبرتها في عمل النفايات، بالإضافة إلى الصراع الذي اندلع بين النافذين الذين كانوا يمتلكون تلك الشركات، حول رسوم تجميع و نقل النفايات بالولاية.

وفي وقت لاحق، نقلت الحكومة، مسؤولية إدارة ملف النفايات من المحليات إلى رئاسة الولاية، عبر تكوين هيئات من حكومة الولاية تعمل رفقة المحليات. فكان ميلاد مشروع نظافة ولاية الخرطوم الإسعافي، في العام 2001م. لكنه لم يحقق المرجو منه، في ظل فشل إداري وفساد مالي صاحب المشروع، علاوة على توقف الدعم المالي من حكومة الولاية. وعقب فشل المشروع، أقدمت الحكومة على تشكيل هيئة نظافة ولاية الخرطوم للاضطلاع بنفس المهام، وتبعت إداراتها إلى المجلس الأعلى للبيئة والترقية الحضرية.

مبادرات آنية

مع استمرار الفشل الحكومي وتردي الأوضاع البيئية خلال السنوات الماضية، أطلق عدد من المبادرات الشعبية والمنظمة في الخرطوم، بهدف العمل على الإصلاح البيئي، والتي شملت على حملات نظافة للأحياء السكنية والأسواق، بالإضافة إلى معالجة مخلفات النفايات المختلفة. لكن، افتقدت تلك الجهود بعد النظر، وكانت جهوداً آنية ولم تنجح في التعاطي مع المشكلة في بعدها الكلي، والذي يتعلق بضرورة وجود سياسات واضحة تعالج جذر المشكلة. 

حراك عمال النظافة

لسنوات، ظل عمال النظافة يعملون تحت أوضاع غاية في الصعوبة، بدءاً من ظروف عملهم القاسية، وليس انتهاءً  بضعف الرواتب وعدم إدراجهم ضمن التراتبية الوظيفة في الدولة. ومع حراك العمال في القطاعات المختلفة إثر ثورة ديسمبر، انتظم عمال النظافة في حراك مطلبي، بدأ في ديسمبر 2020م واستمر لثلاث أيام، وكانت أبرز مطالبه زيادة الرواتب والتي كانت 3 ألف جنيه حينها.

وفي ظل استمرار تجاهل مطالبهم، عاود عمال النظافة في محلية الخرطوم الإضراب عن العمل مجدداً في سبتمبر 2022م، وذلك احتجاجاً على ضعف الرواتب، حيث يتقاضى العامل فقط 20 ألف جنيه في الشهر، في وقت يشهد في السودان ضائقة اقتصادية ومعيشية تزاد يوماً إثر يوم. لكن الروتب لم تكن هي السبب الأبرز في إضراب العمال، بل هناك مطالب بتوفير ظروف عمل تراعي لسلامتهم، علاوة إلى إدخالهم في مظلة التأمين الصحي والضمان الاجتماعي.

وعود قديمة

وفي أكتوبر من العام الماضي، صرّح مدير عام هيئة نظافة ولاية الخرطوم، عماد الدين خضر، أن التردي في خدمات النظافة هو نتيجة لخروج عدد من آليات النظافة من الخدمة، وأن ولاية الخرطوم تحتاج الى 534 عربة نفايات، في حين أنها تتوفر على 267 عربة فقط، أي بنسبة عجز 50%.

مع النمو السكاني في العاصمة الخرطوم، بعد الهجرات الكبيرة من الأقاليم والولايات الأخرى، بسبب الحروب الأهلية والتنمية غير المتوازنة وانعدام الخدمات في الريف والجفاف والتصحر في عام 1984، علاوة على التغيّر في نمط الحياة الحديثة، فإن كل هذه الظروف أدت إلى تزايد سكان الخرطوم، والذي بدوره أدى إلى تزايد وتنوع كبير في طبيعة المخلفات والافرازات . 

وفي الجانب المقابل، فإن غياب دور الدولة وسياساتها في التعامل مع ملف النفايات، فاقم حجم المشكلة، وذلك لعدم وجود سياسات وخطط تستند على إحصاءات علمية بمقدورها التصدي للتحديات الماثلة.

أصبحت الخرطوم اليوم، مدينة لا تُطاق، والتي كانت قد عرفت النظافة والتجميل في حقب محدودة، بعد ذلك تراوحت درجة اتساخها ونظافتها على حسب الظروف السياسية، وفاعلية أجهزة الدولة المعنية، واستناداً على عدد سكانها. 

ما يزيد تعقيد أزمة النفايات بمدينة الخرطوم، حالة الفراغ السياسي والإداري المتنامية، وزيادة عدد السكان بشكل مهول، وانعدام الرؤية لمعالجة آثارها التي تمتد إلى صحة المواطنين، بالإضافة إلى التشوه البصري، والتعايش مع القبح جنباً إلى جنب.

مؤتمر لتجديد عمله.. كيف أصبح «تفكيك التمكين» قضية مركزية في أجندة الثورة السودانية؟

أية السماني

أية السماني

"لقد ساد المؤتمر أجواء من النقاش البناء والحوار الديمقراطي والروح الوطنية والرغبة الأكيدة في بناء عقد اجتماعي جديد وإرساء دعائم الحكم الديمقراطي القائم على مبادئ الحوكمة الرشيدة والتنمية المتوازنة ومدخلها تفكيك التمكين ومحاربة الفساد وتعزيز الشفافية"، يقول الناطق الرسمي باسم (العملية السياسية)، خالد عمر.

وجاء حديث عمر خلال كلمته بـ(مؤتمر خارطة طريق تجديد عملية تفكيك نظام الـ30 من يونيو)، الذي عقد بين يومي 9-11 يناير الحالي، بمشاركة خبراء سودانيين وأجانب، حيث من المنتظر أن تُضمن توصياته في الاتفاق النهائي، حسبما أعلن منظموه.

إذ، ما تزال قضية تفكيك تمكين نظام الثلاثين من يونيو 1989م، حتى بعد مرور 4 أعوام على إسقاطه، وأكثر من عام على انقلاب 25 أكتوبر 2021م، تشكل أولوية بالنسبة للفاعلين السياسيين السودانيين، رغم تجميدها من قبل القائد العام للجيش، عبد الفتاح البرهان، غداة الانقلاب.

ولعبت اللجنة، خلال فترة الحكومة الانتقالية السابقة، دوراً بارزاً، في تفكيك تمكين حزب المؤتمر الوطني المحلول وواجهاته، حيث نجحت في استرداد أصول وأموال تقدر بمليارات الدولارات، وفق ما أعلنت.

وظلت قضية تفكيك (نظام الحزب الواحد)، تحتل حيزاً كبيراً في مواثيق المعارضة السودانية، خلال حقبة حكم النظام المخلوع، ومع وصولها إلى السلطة في 2019م، عقب إطاحته، سرعان ما ضمنتها في الوثيقة الدستورية التي حكمت الفترة الانتقالية.

في المقابل، أوضح انقضاض البرهان، على لجنة إزالة التمكين، عقب انقلابه، مركزية اللجنة، ضمن مؤسسات الحكومة الانتقالية السابقة، قبل أن يزج بقادتها في السجون، تحت تهم عديدة.

وشيئاً فشيئاً، مع مرور أيام انقلاب 25 أكتوبر 2021م، بدأ النظام المخلوع، في استعادة واجهاته ومؤسساته والأصول المالية التي كانت لجنة إزالة التمكين قد استردتها.

ومع تصدع قوة انقلاب 25 أكتوبر، تحت الضغط الجماهيري، وبدئه مفاوضات مع قوى الحرية والتغيير، ووصولهم إلى محطة الاتفاق الإطاري في الخامس من ديسمبر الماضي، أجلت قضية تفكيك التمكين، ضمن 5 قضايا أخرى إلى حين الوصول إلى الاتفاق النهائي.

ومنذ استيلائه على السلطة عبر انقلاب عسكري في 30 يونيو 1989م، تمكن النظام المخلوع في جميع أجهزة الدولة العسكرية والمدنية، بالإضافة إلى إنشائه مئات الواجهات والشركات التي كانت تعمل لتحقيق مصالحه خارج إطار الدولة المؤسسي. كما شمل تمكين النظام المخلوع، فصل مئات الآلاف من موظفي الخدمة المدنية والعسكريين، وإبدالهم بموظفين موالين له.

ميلاد اللجنة

في ديسمبر 2019م، وفي أعقاب تشكيل الحكومة الانتقالية، أجيز القانون الخاص بتفكيك تمكين نظام الـ30 من يونيو، وقضى القانون المجاز بحل حزب المؤتمر الوطني وحجز والأموال والأصول التابعة له لتتم إعادتها لصالح الخزينة العامة، قبل أن يتم تكوين اللجنة، برئاسة عضو مجلس السيادة الانتقالي، ياسر العطا، لتنفيذ المهام التي ينص عليها القانون.

باشرت اللجنة عملها وسط قبول شعبي كبير، وأصدرت عدداً من القرارات بمصادرة أموال وأصول وواجهات من أفراد النظام المخلوع وموالين له. كما حجزت على حسابات مالية تعود لعدد من رموزه وفصلت عددا من الموظفين بالخدمة المدنية، قالت اللجنة إن تعيينهم تم على أساس ولائهم وانتمائهم للنظام السابق، وليس على أساس الكفاءة.

أيضاً، طالت إجراءات الفصل موظفين بمناصب رفيعة من قضاة وسفراء. لكن مع ذلك، لم تمس اللجنة الموالين للنظام السابق بالقوات العسكرية، حيث تركت مهمة فحصهم وقرار فصلهم لتتم من داخل المؤسسة العسكرية، وفق ما تراه يصب في مصلحة “الإصلاح العسكري المنشود”.

عوائق مبكرة

أظهر المكون العسكري، انزعاجاً واضحاً، من عمل لجنة تفكيك التمكين، وتمظهر ذلك، في استقالة رئيسها، ياسر العطا، بشكل مفاجئ لم يوضح فيها الأسباب، إلا أنه أشار إلى أخطاء  قال إنها صاحبت عمل اللجنة دون أن يفصلها.

ومع ذلك، لم يتوقف عمل اللجنة، وتواصلت مؤتمراتها التي كانت تبث على القنوات الرسمية، واستمرت في إصدار القرارات بفصل أشخاص واسترداد شركات ومصانع وأراض، في وقت كان الهجوم على اللجنة وطريقة عملها، يتنامى يوماً بعد يوم.

لاحقاً، بدأت الآراء تتباين، حول لجنة تفكيك التمكين، من داخل الحكومة الانتقالية بشقيها المدني والعسكري، حيث كان لوزير المالية، جبريل إبراهيم، رأي مناهض، عندما قال “إن جمع سلطات النيابة والشرطة والقضاء والاستئناف والأمن في يد لجنة التفكيك، سلطة مطلقة تقود إلى فساد مطلق”، على حد تعبيره.

بينما كانت لجنة التمكين ترد بإصدار مزيد من القرارات، وكانت ترى أن عمل اللجنة مهدد بـ“كثير من المتربصين”، مشيرة إلى أن العداء نحوها متوقع من أفراد النظام السابق و”الدولة العميقة”.

في هذا السياق، يقول الرئيس المناوب السابق، للجنة إزالة التمكين في الفترة الانتقالية، محمد الفكي، لـ(بيم ريبورتس):

"لم تنجز اللجنة كثير من الملفات ونتج ذلك عن المقاومة من مناطق قوى متفرقة في الحكومة الانتقالية السابقة، ومكنت هذه التقاطعات الدولة القديمة الموجودة في مفاصل السلطة من المراوغة وإيقاف عمل اللجنة وتأخيرها والدخول معها في مواجهات صغيرة".

وأضاف الفكي: “بدأت الخلافات في الظهور على السطح، في الوقت الذي استمرت فيه اللجنة في ممارسة عملها بشكل طبيعي وهي تواجه أزمات سياسية ومالية عدة، كان لها الأثر الجلي على أداء وعمل اللجنة”. وحسب الفكي، فقد كان للميزانية المخصصة للجنة الأثر العظيم في اختيار الموظفين بها، ومدى كفاءتهم لتأدية مهام اللجنة، وقال:

"كان لدى اللجنة 200 موظف بميزانية مليوني جنيه، كنا نستخدمها في الأشياء الضرورية للعمل وقد تمر فترات طويلة دون أن نعطي الموظفين رواتبهم ما أثر بدوره على أداء اللجنة".

وحول عمل اللجنة المقبلة، يقول الفكي: “أتمنى أن تعمل اللجنة القادمة في ظروف أفضل وسندعمها من الخارج بخطاب سياسي وإعلامي لتأخذ حقها ونصيبها من الأموال التي تتيح لها أن تعمل بكفاءة وفق العبء الملقى على عاتقها”.

وبالعودة إلى الصراع حول اللجنة في الفترة الانتقالية، أبدت اللجنة استيائها من وزارة المالية، واعتبرت، أنها تحاول إفشال عملها، وقال مقررها، وجدي صالح، إن “وزارة المالية لم تُدر الأصول والأموال المستردة لإفشال لجنة التفكيك”.

أيضاً، مثل غياب الاستئناف ضغطا مضاعفا على اللجنة حيث بدت وهي تصدر أحكاماً مطلقة في ظل غياب الحق الأساسي للأفراد في الدفاع عن ممتلكاتهم أو وظائفهم الحكومية، ويرى الفكي في هذه النقطة، أن تأخير هذه اللجنة لم يتح العدالة الكافية، ويضيف:

"كانت هناك مماحكات مستمرة من داخل السلطة لإيقاف عمل لجنة الاستئنافات، وقد شكل هذا ضغطا قانونيا وسياسيا وأخلاقيا على لجنة إزالة التمكين".

أحكام قضائية وتجميد اللجنة

في تطور لافت، في مطلع أكتوبر 2021م، وقبيل أيام معدودة من الانقلاب، أصدرت دائرة الطعون بالمحكمة العليا، حكماً بإلغاء 11 قراراً أصدرتهم لجنة إزالة التمكين بفصل موظفين من مناصبهم. فيما أبدت لجنة التمكين انزعاجها من قرار المحكمة، إلا أنها أكدت في تصريحات صحفية بأنها ماضية في مشروعها لتفكيك تمكين النظام المخلوع.

مع تنفيذ القائد العام للجيش، عبد الفتاح البرهان، انقلابه في 25 أكتوبر 2021م، أصدر قراراً بتجميد عمل لجنة إزالة التمكين، ضمن عدد من القرارات التي تضمنها بيان انقلابه. وطالت اعتقالات السلطة العسكرية في يوم الانقلاب الأول، قيادات اللجنة، على رأسهم الرئيس المناوب لها، وعضو مجلس السيادة الانتقالي، محمد الفكي، لاحقاً شكل البرهان لجنة مختصة لمراجعة قراراتها في الفترة الانتقالية.

وعلى الفور، باشرت اللجنة التي شكلها البرهان عملها، وسرعان ما أعادت عدداً كبيراً من الموظفين المفصولين في الفترة الانتقالية، بالإضافة للأصول والأموال، كانت قد استردتها لجنة إزالة التمكين المجمدة بقرار البرهان. ولم تمثل قرارات لجنة الاستئناف سوى إعادة ترسيخ لمفاصل النظام السابق، كما أنها بددت  المجهود الذي بذلته لجنة إزالة التمكين طوال فترتها.

جلسات وتوصيات المؤتمر

بالنسبة لمؤتمر خارطة طريق تجديد عملية تفكيك نظام الـ30 من يونيو 1989م، الذي انعقدت أولى جلساته في التاسع من يناير الحالي واستمرت لمدة أربعة أيام، حيث شارك في المؤتمر (350) شخصاً، مثلت القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري نسبة 40%، بينما شكل القوام الأكبر للمؤتمر ومجموعات العمل المتخصصة، مشاركون ومشاركات، من خارج القوى السياسية الموقعة، بنسبة 60%، من مختلف الأطراف، ممن وصفوا بأصحاب المصلحة.

وعقدت خلال المؤتمر 8 جلسات عمل عامة، ترأسها وعقب عليها، خبراء سودانيين ودوليين، حيث ناقشت 8 أوراق؛ وهي: الفساد والتمكين خلال 3 عقود، الأبعاد السياسية لعملية تفكيك نظام 30 من يونيو 1989م، تجربة تفكيك التمكين في الفترة الانتقالية، الإعلام والاتصال ومشاركة المواطنين في عملية التفكيك، الإطار القانوني الحاكم لعملية التفكيك، المعايير الدولية والمبادئ الحاكمة والخيارات في عملية التفكيك، التجارب الأفريقية، التعامل مع الفساد واسترداد الأصول والأموال المنهوبة.  

وأفضى المؤتمر لعدد من التوصيات أهمها؛ إلغاء الأحكام القضائية الصادرة من دائرة الاستئناف بالمحكمة العليا، وأهمية إخضاع قضاة الدرجات الأدنى لعملية فحص وتدقيق. وشملت التوصيات كذلك، الواجهات الدينية للنظام المخلوع، حيث شددت على تصفيتها ومحاسبة منسوبيها، أيضاً شملت التوصيات الخطوات المعنية بمعالجة إخفاقات لجنة إزالة التمكين في الفترة الانتقالية.

وحول إدراج التوصيات في الاتفاق النهائي، يعود الفكي ويقول:

"الآن جميع التوصيات لدى السكرتارية ويعكف عليها قانونيون لتوضع بصيغة قانونية لا تتقاطع مع قوانين الدولة وتمكن اللجنة من تأدية مهامها".

وفيما يخص هيكلة لجنة إزالة التمكين، فقد أوصت الورشة بالإبقاء على اللجنة كهيكل حكومي مستقل بصلاحيات عديدة وتوفير حصانات إجرائية وقانونية لأعضائها. كما أوصت باستبعاد وزارة العدل وممثلي الأجهزة النظامية من عضوية لجنتها العليا، على أن تتبع اللجنة في كل قرارتها المعايير الدولية والقانونية في عملية تفكيك بنية النظام المخلوع، لضمان حدوث التحول الديمقراطي.

غير أن خبراء قانونين لديهم وجهة نظر مختلفة، حول طريقة عمل لجنة إزالة التمكين، وما ينبغي أن تكون عليه.

يقول الخبير القانوني، نبيل أديب: “أعتقد أن التمكين تمثل في إخضاع سلطة الدولة ومواردها لإرادة العصبة الحاكمة، وهذا يتطلب أمرين؛ إبعاد الأشخاص المتورطين في عمليات فساد إداري من أجهزة الدولة، بعد التوصل عبر تحقيق إداري بواسطة أجهزة الدولة التابع لها الشخص المعني لإدانته بالفعل المنسوب له، ويجوز له استئناف القرار الإداري للقضاء”.

ويضيف أديب في حديثه لـ(بيم ريبورتس) "بالنسبة للأجهزة العدلية، يجب أن يتم ذلك عبر مفوضية الأجهزة العدلية". وتابع قائلاً: "المسائل التي تحمل معاملة فاسدة تحال للقضاء بواسطة نيابة الفساد".

ورأى أديب، أن يقتصر عمل لجنة إزالة التمكين على الاقتراحات الخاصة بتعديل القوانين التي سمحت بالتمكين، موضحاً أن إزالة تمكين نظام الـ30 من يونيو 1989م، تبدأ بعدم اتباع أساليبه في الحكم.

وتشغل قضية تفكيك تمكين نظام الثلاثين من يونيو 1989م، حيزاً كبيراً من النقاش والجدل الذي يدور حول الاتفاق النهائي الجاري، ويعد من قضايا الخلاف بين شقي الحكومة الانتقالية السابقة وأطراف أخرى. لكن عدداً مقدراً من الأطراف الموقعة على الاتفاق الإطاري، يرى أن مسألة تفكيك التمكين ضرورة لا يمكن التغاضي عنها.

ورغم المشاكل التي واجهت وصاحبت عمل اللجنة السابقة، إلا أن الأطراف تعتقد أنها تجربة يمكن الاستفادة منها وتطويرها لتشكيل لجنة جديدة تعمل وفق صورة قانونية ومؤسسية مثلى.

من البريق إلى النسيان.. كيف تراجع دور تجمع المهنيين السودانيين على مدى سنوات الثورة؟

“نستطيع معاً أن نعيد بناء كل شيء، والذي يقف أمام ذلك، هو هذا النظام الذي يجب أن نعمل جميعاً على أن يرحل فوراً”، أطلق تجمع المهنيين السودانيين هذه الكلمات المشحونة بالتحدي، في وجه النظام المخلوع في قمة سطوة قمعه، لم تتغير وجهة التجمع من كونه جسماً يمارس نشاطاً نقابياً وحسب، وإنما تحول إلى أحد أبرز الكيانات الاحتجاجية التي قادت حراكاً سياسياً سلمياً في تاريخ السودان الحديث.

وهكذا بدأت رحلة تجمع المهنيين السودانيين، في قيادة ثورة ديسمبر، فبدلاً من التوجه إلى مقر البرلمان بمدينة أمدرمان للمطالبة بتعديل الأجور حسبما كان أعلن مسبقاً، دعا السودانيين للتوجه إلى القصر الرئاسي بالعاصمة الخرطوم في 25 ديسمبر 2018م لتسليم مذكرة تطالب بتنحي الرئيس المخلوع عمر البشير.

وسرعان ما التف ملايين السودانيين، حول التجمع، بما شكله من أمل، مقابل حرب بدأ النظام المخلوع شنها ضده. ومع ذلك، مكّن التأييد الواسع الذي حظي به التجمع من مواجهة الهجمة الأمنية والإعلامية ضده، وفي الجانب الآخر، منحه الفرصة في لم شتات الأحزاب المعارضة، بتوقيع إعلان الحرية والتغيير.

ورغم الاعتقالات التي طالت قياداته وحملات التشكيك المستمرة ضده من منسوبي الإنقاذ وقتها، توجت مجهودات التجمع في قيادة الثورة، بإطاحة نظام الرئيس المخلوع، عمر البشير، في أبريل 2019م. 

غير أنه، وبعد أشهر معدودة من ذلك، بدأت الخلافات تدب في جسم التجمع وسط مشهد سياسي مليء بالاستقطاب. والآن، بعد مرور أكثر من أربعة أعوام، على خطوته التاريخية تلك، يغيب التجمع عن موقع القيادة، كأنه لم يكن، بعدما عصفت به الخلافات وشقته إلى جناحين.

العمل النقابي في ظل التضييق

بدأ النظام المخلوع، حربه على العمل النقابي مبكراً، بدايةً من استيلائه على السلطة، فشرع مباشرة في حل النقابات المهنية والعمالية واعتقال وفصل القيادات النقابية. كما استبدل عدداً من النقابات الفئوية بنقابات المنشأة التي تضم العاملين في مؤسسة واحدة.

في هذا السياق، يوضح الأكاديمي والسياسي، الواثق كمير، أن قانون النقابات الذي فرضته الإنقاذ انحرف بشكل جذري عن تاريخ الحركة العمالية السودانية. وقال “عمل القانون على فرض قيود على النشاط النقابي، خاصة عدم التمييز بين نقابات العمال والمهنيين والفنيين، وبدلاً من ذلك أصبحت النقابة تُعرّف بالمنشأة التي تخلط كل هذه المهن، وبهذا تم تغييب المصالح المشتركة للعاملين في مهنة واحدة“. 

لا يذهب عضو مبادرة استعادة نقابة المهندسين، كمال عمر، بعيداً عن حديث الواثق كمير ويشير في إفادته لـ(بيم ريبورتس)، إلى تبعات إلغاء نقابة المهندسين، وكيف أفقدهم ذلك وجود جسم يعتني بقضايا المهنة. ولفت عمر، إلى أن غياب النقابة شكل خصماً على مقدرة المجلس الهندسي في أداء مهام تنظيم المهنة، وقال “كانت نقابة المهندسين هي الجهة التي بادرت بتكوين مجلس تنظيم مهنة الهندسة الذي كان يتبع لمجلس الوزراء، وصاغت قوانينه وظلّت ممثلة به حتى الغائها”.

ميلاد التجمع

لم تكن حالة المهندسين في ظل الإنقاذ منفردة، فقد عانت النقابات جميعها، إما من الحل، أو تفريغ ما بقي منها من أدوارها وتجنيدها لخدمة أجندة النظام، وهو الأمر الذي عملت القطاعات المهنية على التصدي له منذ البداية؛ فقاطعت عدة فئات مهنية النقابات التي كونتها الحكومة، وشرعت في خلق أجسام موازية مارست من خلالها نشاطها النقابي ونسقت عبرها احتجاجاتها الفئوية. كما نشطت هذه الأجسام في دعم الحراك السياسي والحقوقي في البلاد ضد سياسات النظام المخلوع الذي مارس التضييق والعنف للحفاظ على مصالحه التي تتعارض – بالضرورة –  مع مصالح العاملين وجميع فئات المواطنين بشكل عام. 

ومن رحم هذه الأجسام، ولدت الأجسام الثلاثة التي كونت نواة تجمع المهنيين في 2016م؛ وهي شبكة الصحفيين السودانيين، والتحالف الديمقراطي للمحامين، ولجنة أطباء السودان المركزية. وعندما كانت البلاد في ذلك العام تشهد موجة احتجاجات بسبب تراكم الأزمات الاقتصادية، صدر البيان الأول من تجمع المهنيين الذي أعلن فيه شروع قطاعات المهنيين في ترتيب صفوفهم لخلق أكبر جبهة ممكنة لإسقاط النظام.

وبعد عامين من العمل غير المعلن والتنظيم الداخلي، صدر ميثاق تجمع المهنيين في يوليو 2018م يحمل توقيعات 8 أجسام مهنية، ضمت الأجسام الثلاثة السابقة، بالإضافة إلى لجنة المعلمين، ورابطة الأطباء البيطريين الديموقراطيين، وتجمع أساتذة الجامعات، ونقابة أطباء السودان الشرعية.

تطرق الميثاق إلى ضرورة العمل على محاربة حالة التردي التي أصابت النقابات في ظل النظام المخلوع، والتي تسببت في سلب حقوق المهنيين، وضياع مكتسباتهم التاريخية، فوضع استرداد استقلالية العمل النقابي من ضمن أهداف تكوين التجمع الأساسية، بالإضافة للتفاعل مع القضايا العامة التي تهم جموع الشعب السوداني. وعن ذلك، يعود كمال عمر ويقول “التقت هذه الأجسام حول الحاجة للدفاع عن قضاياها الفئوية، عن طريق تنظيم القواعد المهنية النقابية، حيث أن هنالك إرث نقابي زاخر بنجاح تجارب كيانات نقابية مشابهة، والتي – بالإضافة إلى قضاياها الفئوية – ساهمت في إسقاط الأنظمة الديكتاتورية”.

الحد الأدنى للأجور

كانت البلاد تعاني من ضائقة اقتصادية أحكمت خناقها على المواطن، عندما بادر تجمع المهنيين في نوفمبر 2018م بعقد مؤتمر صحافي استعرض فيه دراسة أعدها عن وضع الأجور في السودان، أوضح فيها عدم واقعيتها أمام التضخم الذي تجاوز الـ 68% في ذلك العام، وأفضت دراسة التجمع؛ إلى أن الأجور – في حدها الأدنى الذي يلبي الاحتياجات الأساسية – يجب ألا تقل عن (8864) جنيه سوداني.

من البرلمان إلى القصر

أثناء تحركات المهنيين في قضية الأجور، تفجرت احتجاجات في عدد من ولايات السودان خلال الأسبوع الأول من ديسمبر 2018م، بعدما ضاق المواطنون ذرعاً من الغلاء وتواتر أزمات: الوقود والخبز، والسيولة النقدية والتي لم يستطيعوا معها حتى الحصول على أرصدتهم بالبنوك لمجابهتها. لم يمض وقت طويل حتى انتقل الهتاف في الشارع من الاحتجاج على سوء الأوضاع المعيشية، إلى المطالبة برحيل النظام، فانعكست هذه النقلة أيضاً على خطاب التجمع الذي أصدر بياناً في 23 ديسمبر أعلن فيه تغيير دعوته من المطالبة برفع الحد الأدنى للأجور إلى دعوة جموع السودانيين والسودانيات للتجمع بوسط الخرطوم في 25 ديسمبر، للتوجه نحو القصر الجمهوري للمطالبة بتنحي رأس النظام المخلوع عن السلطة، وذلك “استجابة لرغبة الشعب السوداني وحقناً لدمائنا جميعاً، على أن تتشكل حكومة انتقالية ذات كفاءات بمهام محددة، ذات صبغة توافقية بين جميع أطياف المجتمع السوداني”،  كما جاء في البيان.

في صباح ذلك الثلاثاء، ملأت القوات الأمنية شوارع وسط الخرطوم لتحول دون وصول المتظاهرين إلى نقطة التجمع في ميدان أبو جنزير. ومع ذلك، انطلقت التظاهرات من نقاط عديدة في الشوارع المحيطة بشارع القصر، واستمرت مطاردات القوات الأمنية للمتظاهرين حتى الساعات الأخيرة من نهار ذلك اليوم، الذي سجلت اللجان الطبية فيه أعداداً كبيرة من الإصابات بالرصاص الحي والهراوات والغاز المسيل للدموع.

وفي اليوم التالي، أصدر التجمع دعوة جديدة لمواصلة التظاهر اليومي إلى حين إسقاط النظام، كما أعلن الصحفيون والأطباء إضرابهم عن العمل عبر أجسامهم المنضوية داخل التجمع. ولم ينقطع تنسيق التجمع للتظاهرات، حيث دعا التجمع  لموكب في 31 ديسمبر 2018م حدد وجهته صوب القصر مرةً أخرى.

وبالرغم من حملات الاعتقال الكثيفة و الممنهجة للناشطين السياسيين وأعضاء تجمع المهنيين التي بدأت في ديسمبر 2018م، إلا أن النظام المخلوع، فشل في السيطرة على ما أسماه بعض قيادات النظام المخلوع في تصريحاتهم آنذاك بـ “شبح المهنيين” الذي اجتاحت بياناته وسائل التواصل الاجتماعي، وكان المتحدثون باسمه يظهرون على القنوات الإخبارية العالمية من داخل وخارج السودان، حيث نجح التجمع في التكيف مع موقعه من الأحداث بالشكل الذي أحبط كل محاولات النظام في إجهاض نشاطه.

إعلان قوى الحرية والتغيير

"نحييكم بالاستقلال المجيد، نحييكم ونحن جميعاً كشعب سوداني نعمل على تحقيق استقلال جديد من مستعمر جديد يسمى نظام المؤتمر الوطني".

John Doe

بهذه الكلمات، افتتح عضو سكرتارية تجمع المهنيين، محمد ناجي الأصم حديثه عبر بث مباشر على صفحة تجمع المهنيين في الأول من يناير 2019م ليعرف بإعلان الحرية والتغيير. وبعد أن أكد الإعلان في بنده الأول على استمرارية جميع أشكال النضال السلمي حتى رحيل النظام، تناول مهام الفترة الانتقالية، التي حددها بأربعة أعوام، وتضمنت وقف الحرب، ومعالجة التدهور الاقتصادي، وعمل ترتيبات متممة لاتفاق سلام شامل، وإعادة هيكلة الخدمة المدنية والعسكرية، وإلغاء القوانين المقّيدة للحريات، وضمت قائمة الموقعين على إعلان الحرية والتغيير عند صدوره تجمع المهنيين السودانيين، وقوى الإجماع الوطني، وقوى نداء السودان، والتجمع الاتحادي المعارض. 

في وقت تواصل الزخم الثوري في ولايات البلاد المختلفة، وفقاً للجداول التي يصدرها التجمع حيث كانت محل ترقب أسبوعياً، وذلك بالتوازي مع انضمام قطاعات مهنية إلى تجمع المهنيين وتوقيع قوى سياسية وقوى مجتمع مدني على إعلان الحرية والتغيير، حتى بلغ الحراك أوجه في 6 أبريل 2019م، عندما فشلت جميع محاولات القوات الأمنية، في منع وصول مئات آلاف المتظاهرين إلى مقر القيادة العامة للجيش بالخرطوم.

حيث بدأوا اعتصاماً شهدوا خلاله إطاحة البشير في  11 أبريل، واستمر من يومها وحتى 3 يونيو، عندما فضته قوات المجلس العسكري المحلول الذي استولى على السلطة،  في أعقاب عزل البشير، بالقوة، الأمر الذي أسفر عن مقتل أكثر من 130 شخصاً وإصابة المئات وفقدان العشرات، بالإضافة إلى حالات اغتصاب وثقتها عدد من المنظمات الحقوقية المحلية والدولية.

 لم تكن تجربة تجمع المهنيين في قيادة العملية السياسية، ومبادرته بميثاق إعلان الحرية والتغيير مستحدثة تماماً. فبالرغم من وجود اختلافات سياقية بين التجارب المختلفة، إلا أن القطاعات المهنية والعمالية في السودان درجت على إنشاء تحالفات بين القطاعات المختلفة ومع القوى السياسية.

ولعبت هذه التحالفات، أدواراً محورية في الحراك السياسي والمطلبي على مر التاريخ، مثل الاتحاد العام لنقابات السودان، الذي نشط في مناهضة الاستعمار، و جبهة الهيئات التي أنتجتها ثورة أكتوبر 1964م، والتي كانت بدايتها من أساتذة جامعة الخرطوم ونقابة المحامين عقب استشهاد الطالب أحمد القرشي طه، والتجمع النقابي الذي كان المنظم الرئيس للإضراب السياسي ودعا لتظاهرات الشعب باتجاه القصر حتى سقوط نظام جعفر نميري في انتفاضة مارس/أبريل 1985م.

تصاعد الخلافات

بالرغم من انخراط تجمع المهنيين في تحالف أوسع مع أحزاب سياسية وقوى مدنية ومسلحة، إلا أنه ظل الجسم الذي التف حوله السودانيون وعلقوا آمالهم عليه، الأمر الذي لم يدم طويلاً، عقب نجاح الثورة في الإطاحة بالنظام المخلوع، حيث ظهرت للسطح خلافات داخل التجمع، أدت إلى انشقاق عدد من الأجسام بعد انتخاب هياكل جديدة له في 10 يوليو 2020م. 

تلك الخلافات التي ضربت التجمع، وصفها المحلل السياسي، بكري الجاك، بالمتوقعة؛ حيث رأى أنه بالرغم من أن دور تجمع المهنيين القيادي قبل سقوط النظام كان ضرورياً، بسبب تشوه الحياة السياسية وتخريب سمعة أحزاب المعارضة في فترة الإنقاذ، إلا أن وجود التجمع في العملية السياسية انتفت مبرراته بعد سقوط النظام، وبقائه داخل العملية السياسية كان لا بد أن يضر بأي انتقال وأي ممارسة ديمقراطية على المدى الطويل.

وقال الجاك في إفادته لـ(بيم ريبورتس): “من الضروري أن تلعب منظمات المجتمع المدني أدوارها وفقا لموقعها. الحزب هو من عليه أن يعمل على تطوير برامج سياسية يدعو الجماهير إلى الاصطفاف خلفها للوصول للسلطة، أما النقابة واتحادات أصحاب العمل وغيرها فعليها أن تعرف مصالح المجموعات التي تمثلها” 

و بشأن الخلافات حول مجريات انتخابات هياكل التجمع، أضاف الجاك “من المثير للسخرية أن يحدث خلاف حول انتخاب هياكل قيادية لأجسام هي في الأصل غير منتخبة”، موضحاً أن عملية الانتخاب في هذا السياق، تعكس ما وصفه بالتناقض البنيوي، مشيراً إلى أن ما حدث، ليس إلا صراع سياسي تمظهر داخل هذه الأجسام.

والآن والبلاد تشهد مجهودات في تصحيح مسار العمل النقابي واستعادة ما اقتلع منها في ظل النظام المخلوع، يظل تجمع المهنيين ـ بشقيه المتنازعين – بعيداً عن هذا المشهد، وتستدعي محورية المجتمع المدني الفاعل في صناعة أي تجربة ديمقراطية الوقوف على تجربة تجمع المهنيين والنقد الجاد في ما نجحت فيه، وما أثارته إخفاقاتها.