Category: ثقافة

كيف أصبحت «فاشر السلطان» العاصمة التاريخية لدارفور محط أنظار السودانيين؟

20 يوليو 2024 – في لحظة فارقة من أزمنة السودانيين القاسية، أصبحت مدينة الفاشر عاصمة دارفور التاريخية، محط أنظار السودانيين منذ مايو الماضي وسط حرب مشتعلة للشهر السادس عشر على التوالي توزع الموت والنزوح واللجوء والخراب على سكان 11 ولاية من أصل 18 تشكل السودان.

الفاشر، عاصمة السلطان علي دينار، الحاكم القوي وآخر سلاطين مملكة الفور والذي لجأ إلى جبل مرة واغتيل هناك في عام 1916 ببنادق الجيش الانجليزي الغازي، بعد هزيمة جيشه في معركة برنجية على تخوم الفاشر، وهي أحد أحياء المدينة حاليًا.

 ومع ذلك، ظلت مدينة الفاشر، مركز دارفور التاريخي، مكانًا رحيبًا يضم الأعراق السودانية بلا تمييز ويصهر مجتمعها. وهكذا؛ تمضي فيها الحياة، كفضاء مكاني غارق في المحبة والفنون تشده الذكريات إلى تاريخ إداري تليد وتقاليد للدولة استمرت لقرون، كان مجلس سلطانها الحربي، يتشكل من جميع الأعراق، ويوزع قمع سلطته القابضة حينها على الجميع.

وضمن إرث الدولة في سلطنته، أنشأ السلطان علي دينار الحدائق العامة وشق الطرقات ومجاري المياه وسك العملة في إطار نظم إدارية للدولة الحديثة.  

ويشكل إقليم دارفور المنكوب منذ أكثر من عشرين عامًا 20% من مساحة السودان ويعيش فيه نحو 14% من سكان البلاد البالغ عدهم نحو 42 مليون نسمة.

فيما تحتل مدينة الفاشر موقعًا استراتيجيًا في شمال دارفور، فهي حاليًا تعتبر المدينة الكبيرة الوحيدة التي يمكن الوصول إليها من مدن شمال السودان مثل الدبة، نظرًا لقربها الجغرافي من تلك المناطق، وبالتالي فهي تعتبر المدخل الوحيد لقوافل المساعدات الإنسانية القادمة من ميناء بورتسودان – على ساحل البحر الأحمر – الذي يستقبل المساعدات الخارجية في الوقت الحالي، ومن ثم يتم نقل المساعدات منها إلى بقية أرجاء الإقليم.

جغرافيًا، تحدها من الغرب دولة تشاد، ومن الشمال ليبيا، ما يجعلها في موقع استراتيجي عسكري للجهة التي تسيطر عليها، خاصة في ظل وجود فصائل مسلحة وقوات سودانية داخل حدود الدولتين الجارتين.

وبعد سقوط مدن: «نيالا، زالنجي، الجنينة والضعين» على التوالي في يد الدعم السريع نهاية العام الماضي، تضع الدعم السريع أعينها حاليًا نصب الفاشر حتى تبسط سيطرتها على كامل إقليم دارفور عدا منطقة جبل مرة التي تخضع لسيطرة حركة جيش تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور

لذلك، تسعى الأطراف المتقاتلة إلى فرض سيطرتهما على الفاشر نظرًا لأهميتها الاستراتيجية البالغة في دارفور إذ تعد بوابة بحكم موقعها الجغرافي، حيث تقع على بعد 195 كيلو مترًا شمال شرق نيالا وتربطها طرق رئيسية، بمدن: أم كدادة والجنينة وبها أهم وأكبر مراكز النزوح مثل أبوشوك وزمزم والسلام ما يعزز من أهميتها الإنسانية واللوجستية.

مدخل مدينة الفاشر، الصورة: مواقع التواصل الاجتماعي

مولد الفاشر

بعد تداعي حكم السلطان علي دينار، في عام 1916، حافظت الفاشر الواقعة في شمال دارفور والقريبة من دولتي تشاد وليبيا ومصر عبر الصحراء الكبرى والطرق البرية، على ذلك العالم الإداري والاجتماعي والروابط الاجتماعية ونما شعبها بشكل مثالي متحدًا ومتماسكًا. ومع دخول التعليم الحديث، ما فتئت الفاشر تقدم أبنائها وبناتها لعموم السودانيين في المجالات العلمية والإدارية والطبية والتجارية، لتنصهر مرة أخرى مع عموم السودان.

وبحسب مؤرخين فاشريين، فإن نشأة الفاشر كانت في نهايات القرن السابع عشر، وتميزت بأنها كانت عاصمة لسلطنات متعددة وفي العهد الحديث كانت عاصمة لمحافظة دارفور قبل الحكم الإقليمي في عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري. ثم توسعت لاحقًا وازدادت كثافتها السكانية بسبب النزوح إليها من القرى المجاورة لها هربًا من المجاعات والحروب.

كما اختلفت الروايات وتعددت حول معنى واسم الفاشر إلا أن أكثرها شيوعًا وأقواها حجة تلك التي تذهب إلى أن اللفظ يعني مجلس السلطان، كما ورد في الأعمال الأدبية والغنائية بالسودان مثل الأغنية التراثية التي تقول في «..الفاشر الكبير طلعوا الصايح» أي مجلس السلطان الكبير، والفاشر أبو زكريا، أي مجلس السلطان زكريا بن محمد الفضل والد علي دينار.

وفي السياق نفسه، عرفت الفاشر بأنها مكان إقامة السلطان أو قلعته. فهناك عدة فواشر منتشرة في دارفور مثل «فاشر قرلي» التي بناها السلطان تيراب في منطقة جبل مرة، كما شيّدت فواشر في المناطق المجاورة لها في الغرب الأوسط لإفريقيا.

وهناك رواية تقول إن الفاشر هو اسم الوادي الذي تقوم على ضفتيه المدينة بمعنى الفاخر.

وتلقب الفاشر كذلك بالفاشر أبو زكريا نسبة إلى الأمير زكريا والد السلطان علي دينار الذي كان له فضل كبير في تطويرها. ويعود تاريخ الفاشر العريق إلى أيام السلطان عبد الرحمن الرشيد ( 1787ـ 1802 ) والذي اختار رهيد تندلتي موطنًا لمملكته قبل أن يتحول اسمها إلى الفاشر.

الميارم يلعبن دورًا كبيرًا في مجتمع الفاشر، الصورة: مواقع التواصل الاجتماعي

ميارم السلطنة

كانت النساء في الفاشر في ذلك العهد، عهد السلطان علي دينار ذوات وجود وتأثير واضح المعالم، حيث توجد الميارم وهن نسوة قويات شكلن شبكة من النفوذ الاجتماعي والسياسي في عاصمة سلطنة الفور الأخيرة، وأشهر الميارم هي ميرم تاجة شقيقة السلطان علي دينار.

يقول الباحث في التراث الدارفوري، محمود الشين، إن الميارم هن العنصر النسائي في منزل السلطان ويتم إعدادهن من تنشئة وتربية على نسق نساء الدولة في العصر الحديث.

مضيفًا “لكن ما يميزهن في هذا الجانب هو الإلمام بكافة تقاليد وقيم المجتمع لأن المرأة في سلطنة الفور مسؤولة عن إعداد وتنشئة رجال الدولة بما في ذلك السلاطين أنفسهم”.

وأكد أن لقب ميرم أطلق علي سائر النساء اللائي يبدعن في إعداد وطهي الطعام، مشيرًا إلى أنها جزئية ضئيلة من مهامها الكبرى.

لكن مع مرور الزمن أصبح لقب ميرم مماثلًا للقب الكنداكة في شمال السودان، والمرأة السودانية عمومًا. 

«نكاد نجزم بأنه لا توجد قبيلة في السودان ليس لها امتداد أو تمثيل مقيم في مدينة الفاشر ومنذ عهد قديم» يقول الدكتور جبريل عبد الله أحد أشهر المؤرخين للفاشر عن مجتمعها في كتابه (من تاريخ مدينة الفاشر)، ويتابع «أما تاريخها الاجتماعي يمكننا وصفه بالتمازج والتداخل».

وتعتبر الفاشر مدينة المصاهرات المفتوحة وبها ذابت الحدود القبلية وصار أهلها يعرفون بعضهم على اختلاف قبائلهم، إذ استقرت مكونات إثنية عديدة أتت من مختلف مناطق الإقليم، وهو ما جعل مجتمعها متراحمًا ومتواددًا يرحبون بالضيوف الوافدين إلى مدينتهم للخدمة المدنية أو العسكرية، أو لأجل التجارةـ أو أية أغراض أخرى حتى صار بعضهم جزءًا من نسيجها الاجتماعي.

ومع مرور الزمن تشكل مجتمع الفاشر وحيواتها بما في ذلك من فنون ورياضة وسياسة ومسرح ودور تعكس ذلك لتنطلق في عملية تنمية بطيئة ككل السودان وخاصة أركانه البعيدة عن مركز السلطة في الخرطوم. وكما غيرها من المدن السودانية، ظلت بمنأى عن العنصرية والقبلية، وإنما تعكس قيمها الاجتماعية وفاشريتها فقط.

وفي أعقاب اندلاع حرب دارفور الأولى في السابع والعشرين من أبريل عام 2003، اهتز أمان وأمن الفاشر للمرة الأولى منذ عقود حين نفذت حركات مسلحة هجومًا على مطارها الدولي كإعلان لتمردها على السلطة المركزية، لكن سرعان ما عاد إليها هدوئها كمجتمع، رغم القبضة الأمنية الباطشة لنظام الرئيس المخلوع، عمر البشير. 

ورويدًا رويدًا تم ربطها بطريق بري بالعاصمة الخرطوم، وأصبحت أنديتها لكرة القدم أحد أعمدة الدوري السوداني الممتاز لكرة القدم، حيث شهد استاد النقعة ملاحم كروية وألتراسات صاخبة، وكانت فرق الخرطوم الرفيعة مثل الهلال، المريخ والخرطوم، تخشى ما تخشاه، أن تحل باستاد النقعة، حيث الهزائم المتتالية لها.

التعليم والفنون في الفاشر

قصر السلطان علي دينار، الصورة: مواقع التواصل الاجتماعي

تعتبر دارفور(أرض التقابة) وهي نار توقد من الحطب في الخلاوى مساءً لتعين الطلاب على حفظ القرآن بضيائها، والفاشر باعتبارها إحدى أهم مدن الإقليم، كان التعليم فيها قرآنيًا وانتشرت فيها خلاوى تحفيظ القرآن وتعليم علومه للتلاميذ، وهو من بين أقدم نظم التعليم التقليدي في السودان ككل.

وتأسست أول مدرسة فيها في العام 1916 وهي مدرسة المزدوجة الأولية ثم المدرسة الأهلية الوسطى الأميرية ومدرستي دارفور والفاشر الثانويتين وازداد عدد المدارس بعدها بإزدياد كثافة السكان، ثم أتت جامعة الفاتح من سبتمبر كهدية من الحكومة الليبية قبل أن يتم تغيير اسمها إلى جامعة الفاشر.

ويوجد بالفاشر عدد من المسارح منها مسرح نادي الفاشر وتم تحويل اسمه إلى مسرح (المجمع الثقافي)، ومسرح القيادة، إضافة إلى المسارح المدرسية، وتوجد بها عدد من الفرق المسرحية، بينها: (فرقة فنون دارفور) بإوركسترا كاملة ومغنيها العديدين الذين تغنوا بأغانيهم الخاصة من التراث الشعبي.

وكتب أبناءها وبناتها الشعر باللغات المحلية والعربية، ومنهم الشاعر عالم عباس وشقيقه حافظ، والدكتور محمد الأمين “سيكا “، وعايدة أحمد عبد القادر “ننيه”، وعواطف إسحق وأستاذ الصافي.

ومن الشخصيات العامة أيضًا الطبيب الجراح، إبراهيم حسن، الشهير بـ”كوجان” والذي كتب رواية (خور جهنم)، وأيضًا هناك المحامي محمد بدوي الذي كتب كتابًا من ثلاثة أجزاء أسماه “وجوه ” وثق فيه التاريخ الاجتماعي لشخصيات عاشت في الفاشر في مختلف الحقب. 

وتعتبر الفاشر من أبرز المدن التاريخية في السودان، وتشمل أهم معالمها، قصر السلطان علي دينار ويضم مركزاً لتحفيظ القرآن ومسجدًا ومكتبة الكترونية، بالإضافة إلى آبار حجر قدو وهناك مقولة مشهورة بحقها، وهي: “من شرب من مياه آبار قدو لا بد أن يعود ويشرب منها مرة أخرى”. أيضًا، من ضمن معالمها  الفولتيين الكبيرة والصغيرة ، سجن خير خنقا، سوق المواشي الخاص ببيع اللحم المشوي والطازج، وسوق أم دفسو الخاص بالفواكه الناتجة من جبل مرة، وأشهر ما يباع به ” المرس، الكول، السمن الطبيعي وعسل الجبل”، وسوق المدينة الكبير وبه المحال التجارية والمقاصف والدكاكين وبرج الفاشر.

أيضًا توجد أسواق أخرى مهمة مثل: (سوق الخضار، ، سوق نيفاشا، سوق المواسير والسوق المركزي).

على مستوى التجارة الحدودية، كانت الفاشر بمثابة مركز تجاري بين السودان ودول غرب إفريقيا، واشتهرت بتصدير البضائع.

وتصل البضائع والمؤن إلى الفاشر عبر الحدود مع دول غرب إفريقيا، ومن مدن أخرى في إقليم دارفور، وعبر الشمال بطريق الدبة ـ مليط.

صورة جوية لمدينة الفاشر، تصوير: محمد زكريا

عام من الحصار وأسابيع من اشتداد الحرب

يُسرع الزمن بالسودانيين وهو يحمل في جوفه المخاطر لتنفجر الحرب في الخرطوم في أبريل 2023، أي، بعد عشرين سنة تمامًا من اندلاع حرب دارفور، لتنتقل إلى إقليم دارفور، لكنها لم تصل إلى الفاشر بشكل قوي إلا في مايو الماضي، حين بدأت قوات الدعم السريع شن هجوم غير مسبوق على المدينة بهدف الاستيلاء عليها بقوة السلاح.

وعلى مدار أكثر من شهرين، تحولت الفاشر إلى محرقة استثنائية، بعدما حول القصف المدفعي الذي تشنه الدعم السريع على أعيانها المدنية، تلك البنية التحتية التي بنيت على مدار عقود من الزمن إلى رماد، وفر مئات الآلاف منها، وأصبحت العاصمة الغنية والواقعة تحت الحصار بحاجة إلى أن تطعم أطفالها وشيوخها ونسائها وكل شعبها، ولم يكن أمامهم سوى التكايا التي تحول الطعام إلى كونه حق للجميع.

والآن، تحت رماد الحرب، يحاول الجيش والقوة المشتركة والمتطوعين للدفاع عن آخر معاقل الدولة المركزية الكبرى في إقليم دارفور وسط سيل هجمات عنيفة تشنها الدعم السريع. كما أن حرب الفاشر، تعكس وجهة نظر سياسية أخرى، فبالحفاظ عليها، يعني ذلك عمليًا عدم قدرة الدعم السريع على إنشاء سلطة كاملة ومستقلة في إقليم دارفور، على غرار النموذج الليبي.

وكانت الفاشر ظلت على مدار حوالي عام تحت الحصار الذي تضربه عليها قوات الدعم السريع من حوالي ثلاثة اتجاهات خاصة بعد استيلائها على عواصم الإقليم الأخرى نهاية العام الماضي.  

وفي أواخر أبريل الماضي يبدو أن صبر قوات الدعم السريع قد نفد في محاولتها للسيطرة على كامل إقليم دارفور الذي تعادل مساحته مساحة الجمهورية الفرنسية، لتبدأ في حشد قواتها من جميع أماكن سيطرتها في أنحاء البلاد المختلفة في تخوم العاصمة الأخيرة في إقليم دارفور الخاضعة للسلطة المركزية.  

وقبل بدئها الهجوم المباشر على الفاشر، شنت الدعم السريع هجمات على ما يزيد عن 12 قرية غرب الفاشر، شملت قرى: (درماء، ازباني، كارو، جروف، حلة محمد علي ، حلة عبد الله، سرفاية، حلة خميس، ام عشوش، تركينية، جخي، ام هجاليج، جقي مقرن، جرونقا) ونزح جراء تلك الهجمات غالبية سكانها إلى مخيم زمزم بالفاشر وبلدة شقرة ومحلية طويلة.  

وتزامنًا، مع بداية تحركات الدعم السريع في اتجاه الفاشر، انطلقت التحذيرات الأممية والدولية لها بتجنب الهجوم على المدينة التي كانت مركزًا رئيسيًا لتوزيع الإغاثة والمساعدات. وحذرت الولايات المتحدة أطراف النزاع المختلفة من مغبة محاولة السيطرة على مدينة الفاشر، فيما أبدى الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش قلقه من هجوم وشيك محتمل على الفاشر، مشيراً إلى أن القتال سيؤدي إلى توسيع نطاق الصراع على طول الخطوط القبلية في أنحاء ولايات دارفور الخمس.  

بينما اعتبر المبعوث الأمريكي للسودان توم بيريلو في حسابه على منصة إكس إن الهجوم على الفاشر سيضيف زيتاً على النار التي تحرق السودان.

 أيضًا، حذر برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة من أن نافذة الوقت تضيق أمام مساعي منع حدوث مجاعة في هذه المنطقة الشاسعة، وحذرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسيف” من خطر يتهدد حياة ورفاه 750 ألف طفل في الفاشر وربما ملايين آخرين في حال شن هجوم عسكري وشيك على المدينة. وقالت إن تصاعد القتال في الولاية تسبب في خسائر بشرية مميتة بين الأطفال مشيرة إلى مقتل مالا يزيد عن 43 شخصاً بينهم أطفال ونساء في فترة أسبوعين.

ومع اشتداد حدة الصراع في مايو الماضي، أعلنت وزارة الصحة في الولاية عن مقتل  38 شخصاً وإصابة 280 في هجوم قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر بعد يومين من الاشتباكات الحادة بتاريخ 13 و 14 مايو، قبل أن يرتفع عدد الضحايا لاحقًا إلى مئات. كما تأثرت عدد من المستشفيات وخرجت عن الخدمة بينها مستشفى الفاشر للأطفال الذي تعرض لغارة جوية من الجيش 13 مايو، تسببت في انهيار سقف وحدة العناية المركزة ومقتل طفلين وفق ماذكرت منظمة أطباء بلا حدود.

ومع استمرار القتال يومًا عن يوم خرجت جميع المرافق الطبية في الفاشر عن الخدمة بعد تعرضها للاستهداف بغارات جوية للدعم السريع، لكن في المقابل ظلت أيادي المتطوعين والخيرين تحاوط المراكز وتقوم بعمليات صيانه وترميم عديدة وإنشاء عيادات جديدة رغم القصف.

تسلسل زمني للصراع الحالي في الفاشر

بدأت محاولات الدعم السريع للهجوم على المدينة منذ شهر مايو 2023 إذ تم رصد أول محاولة في نهاية الشهر وأعلن الجيش عن صده الهجمة.

  • تلا هذا الهجوم العديد من الهجمات الأخرى، ففي منتصف سبتمبر شنت قوات الدعم السريع هجومًا آخر أعلن الجيش تصديه له وقتل 30 من أفراد القوة المهاجمة.
  • شهدت الهجمات تغيرًا في استراتيجية الدعم السريع، ففي نهاية أكتوبر شنت القوات هجومًا على قيادة الجيش في الفاشر باستخدام الطائرات المسيرة، مصحوبًا باشتباكات بالأسلحة الثقيلة في عدد من الأحياء شمال شرقي المدينة. أدى هذا الهجوم إلى موجة نزوح نحو المناطق الآمنة في وسط المدينة وخارجها. 
  • تفاقمت أزمة النزوح في الفاشر بعد إعلان الدعم السريع سيطرته على حاميات الجيش في نيالا وزالنجي والجنينة، حيث أصبحت الفاشر تؤوي عشرات الآلاف من المواطنين الذين فروا إليها من ولايات دارفور المختلفة.
  • في بداية نوفمبر، حذر وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن من وجود مؤشرات على هجوم وشيك واسع النطاق لقوات الدعم السريع على المدينة، وسط تحذيرات من حدوث أزمة إنسانية ضخمة نظرًا للعدد الكبير من المدنيين المحتمين في المدينة. 
  • في 8 نوفمبر، وبعد أيام من التحذيرات الأمريكية، هاجمت قوات الدعم السريع منطقة أم كدادة بولاية شمال دارفور وسيطرت على خزان قولو، أحد أهم مصادر المياه الرئيسية في مدينة الفاشر.
  • في أبريل الماضي بدأ العد التنازلي للمعركة الكبرى حول الفاشر،بحشد الدعم السريع قواتها عند تخوم الفاشر ، في أعقاب تنفيذها عدد من الهجمات على قرى غربي الفاشر لتبدأ ضربتها المباشرة للعاصمة التاريخية في مايو.
  • بدأت الإشتباكات في الأسبوع الأول من مايو وازدادت بشكل يومي حتى بلغت أقصى مستوياتها بعد تاريخ العاشر من الشهر مما تسبب في دمار عدد من المرافق الحكومية والخاصة كما حُرقت أحياء ومنازل ومعسكرات نزوح ودفعت حدة الإشتباكات حاكم إقليم دارفور،لإعلان الإستنفارالعام في المدينة.
  • قلة حدة الإشتباكات أواخر مايو بتمكن الجيش والقوى المشتركة لحركات الكفاح المسلح الموالية له  في 27 مايو من دحر الدعم السريع وجعلها تتراجع إلى خارج المدينة بينما توزعت بعضها في أحياء قليلة شرق الفاشؤ وأصبحت الأخيرة تنتهج سياسة القصف العشوائي بالمدفعية الثقيلة  والصواريخ قصيرة المدى على أحياء المدينة والهجمات مستمرة حتى اللحظة.

مئات الآلاف نزحوا من مدينة الفاشر، الصورة مواقع التواصل الاجتماعي

على مدى أكثر من شهرين لفتت الفاشر أنظار السودانيين والعالم. فبالنسبة للسودانيين، كان ترابط مجتمع الفاشر بكل مكوناته أمرًا مثيرًا للاهتمام، رغم المعاناة الفائقة التي يواجهونا مع بدء هجوم الدعم السريع على المدينة في مايو الماضي. 

كذلك، لفتت الفاشر أنظار العالم بحجم المعاناة الإنسانية الكبيرة بسبب حصارها وانقطاع طرق قوافل المساعدات الإنسانية إليها. 

سياسيًا وعسكريًا، تمثل الفاشر نقطة الصراع الفاصلة في إقليم دارفور، لذا تبدو العاصمة التاريخية على وشك كتابة تاريخ جديد للوحدة الوطنية في السودان.

تقارير بيم: سلسلة مدن السودان

«الدلنج».. مدينة التنوع والتاريخ السياسي تحت نيران الحرب ومخاوف الصراع الاجتماعي

تعيش مدينة الدلنج، ثاني أكبر مدن ولاية جنوب كردفان بعد عاصمتها كادوقلي، أوضاعًا أمنية عصيبة على إثر المعارك التي استمرت لأسبوعٍ كامل، في أعقاب سيطرة قوات الدعم السريع على منطقة هبيلة (شرق الدلنج) وتقدمها نحو المدينة. 

 

وإثر محاولتها التوغل إلى داخل مدينة الدلنج تصدى لها الجيش السوداني وقوات يُعتقد أنها تتبع للجيش الشعبي التابع للحركة الشعبية – شمال بزعامة عبد العزيز الحلو، بالتزامن مع تقارير صحفية أشارت إلى وجود تنسيق مشترك بين الطرفين.  

 

لكن زعيم الحركة الشعبية – شمال عبد العزيز الحلو، نفى وجود أي تنسيق لقواته مع الجيش السوداني، وقال إنه لا علاقة للحركة الشعبية بالحرب التي تدور حاليًا في السودان، مضيفًا «هذه حرب بين مؤسسات السودان القديم».  

 

وتابع في تصريح لموقع الحركة الشعبية على الانترنت إن هناك بعض الجهات تعمل على نشر الشائعات والترويج لتحالف الحركة الشعبية مع الدعم السريع تارة، والقوات المسلحة تارة أخرى. وهذا كله غير صحيح.

 

ولم يستبعد الحلو أن تتقسم البلاد إلى عدة دويلات في حال عدم تدارك القوى السياسية السودانية للوضع الراهن ومخاطبة ما وصفها بجذور المشكلة، مضيفًا «لقد ناقش وفدنا المفاوض جميع هذه القضايا مع وفد الحكومة الانتقالية دون الوصول إلى نتيجة».

 

من جانبه، أكد المدير التنفيذي لمحلية الدلنج، إبراهيم عبدالله عمر، في بيان تعاون وتضامن الجيش السوداني والجيش الشعبي والقوات النظامية الأخرى في حماية المدينة والمواطنين والسوق من السرقات والنهب وحفظ الأمن.

وطالب عمر التجار بفتح المحال التجارية، داعيًا المواطنين العودة إلى منازلهم بعد أن تم «دحر الدعم السريع ومليشيات الجنجويد منها الأسبوع الماضي». كما أصدرت المحلية قرارًا بمنع ترحيل المواد الغذائية إلى خارج المحلية تجنبًا لحدوث ندرة في المواد والسلع الاستراتيجية.

 

وتسببت هذه المعارك العسكرية في تصعيد آخر على المستوى الاجتماعي بين المجموعات الإثنية التي تسكن المنطقة وهو ما ينذر بتصاعد خطاب الكراهية والعنف الموجه بناء على الانتماء العرقي في مدينةٍ عُرفت تاريخيًا بالتنوع والتعدد الإثني والاجتماعي.

صورة عن الدلنج

يعود تاريخ مدينة الدلنج، الواقعة في أقصى شمال ولاية جنوب كردفان إلى القرن التاسع عشر، حيث كانت مجرد قرية صغيرة تقطنها إثنية النوبة لتتطور بعدها إلى سوقٍ موسمية للتجارة وتبادل السلع بين سكانها والرحل الذين يمرون بها. هذا النشاط التجاري فتح المدينة على الثراء الإثني وجعلها فضاءً للتعدد بين مختلف الإثنيات بما في ذلك النوبة والحوازمة والفلاتة والرزيقات والمسيرية.

 

وتعتمد المدينة في نشاطها الاقتصادي على قطاعي التجارة وهناك طيف من الحرف اليدوية. كما تشتهر بصناعة الجلود، والزراعة، والرعي، علاوة على الزراعة التي يمثلها مشروع هبيلا الزراعي (شرق المدينة) وهو أحد أكبر المشاريع الزراعية، وينتج الغلال؛ مثل الذرة البيضاء المعروفة محلياً باسم الفيتريته وكذلك الذرة الشامية، بالإضافة إلى السمسم.

تشكل الأفق السياسي للمدينة

برزت مدينة الدلنج إلى الفضاء السياسي السوداني في العام 1881، مع انطلاق الثورة المهدية في السودان ضد الاستعمار التركي – المصري، بزعامة الإمام محمد أحمد المهدي، حيث اعتصم ورابط رفقة قواته في جبال النوبة، لتمثل الدلنج قاعدة انطلاق وتقدّم عسكري لجيوش المهدية ضد القوات الاستعمارية. 

 

وبعدها، ما بين عامي 1912 – 1913، انطلقت مقاومة أخرى، وهذه المرة ضد الاستعمار البريطاني، بزعامة السلطان عجبنا، قبل أن تتمكن سلطات الاستعمار من إلقاء القبض عليه وإعدامه. 

 

تجدر الإشارة إلى أن الدلنج قد شهدت حركة مقاومة أخرى ترأسها الفكي على الميراوي، والتي كانت مقاومة مسلحة ضد الاستعمار البريطاني أيضاً، والتي استمرت في السنوات ما بين 1914 وحتى 1927.

جامعة الدلنج

مثَل معهد المعلمين بمدينة الدلنج، والذي أنشئ في العام 1948، أحد أهم منارات تدريب المعلمين السودانيين، وذلك بجانب معهد بخت الرضا في سنوات الخمسينيات والستينيات وحتى بداية التسعينيات. وفيما بعد أصبح المعهد نواة لكلية التربية بجامعة كردفان ثم جامعة الدلنج التي تأسست فى العام 1994 وتضم حوالى خمس كليات أبرزها كلية التربية وكلية تنمية المجتمع والعلوم الزراعية وكلية العلوم.

المدينة في ظل حرب 15 أبريل

أثرت الحرب، التي اندلعت في الخامس عشر من أبريل 2023، في العاصمة الخرطوم بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، على التحركات العسكرية وخارطة السيطرة على ولاية جنوب كردفان ككل. حيث شهدت عاصمة الولاية كادوقلي، اشتباكاتٍ مسلحة بين الجيش السوداني والجيش الشعبي والتي نزح على إثرها الآلاف من أحياء حجر المك الشرقية إلى أحياء أخرى داخل المدينة. 

 

أما في مدينة الدلنج، فكانت قوات الدعم السريع قد سيطرت على منطقة هبيلة الزراعية (شرق الدلنج) ضمن محاولاتها لدخول المدينة، إلا أن قوات الجيش الشعبي استبقها إلى المدينة لتدور بعدها اشتباكات بين الجيش السوداني والجيش الشعبي من جهة ضد قوات الدعم السريع، فيما لم يُعلن عن تحالف بشكل رسمي بين الطرفين. 

خطر التصعيد الإثني

بدأ، مزامنة مع تقدم الدعم السريع إلى منطقة هبيلا شرق الدلنج، صعود خطاب التصعيد الإثني والانحيازات القبيلة ما بين المجموعات الإثنية من النوبة والمجموعات العربية التي تعيش في نفس المنطقة من أزمان سحيقة وهو ما هدد النسيج الاجتماعي في المدينة، وأعاد رسم خارطة التحالفات الاجتماعية والعسكرية على أساس إثني. وهو ما انعكس في مهاجمة شرسة لحي أبو زيد بالدلنج والاعتداء على مواطنيه من مكون «الحوازمة» على أسس إثنية واتهامهم بالانتماء إلى الدعم السريع.

(107) أعوام على تأسيس دار الوثائق.. هل تنقذ (الرقمنة) ما تبقى من أرشيف السودان المهمل؟

في منعطف جانبي هادئ متفرع من شارع السيد عبد الرحمن بوسط العاصمة السودانية الخرطوم، لكنه ليس بعيداً عن صخب السلطة ممثلاً في (القيادة العامة للجيش) شرقاً، والقصر الرئاسي شمالاً، يقع مبنى دار الوثائق الذي يحتضن أرشيف وتاريخ البلاد الحديث بكل تقلباته منذ العام 1916

وتعد دار الوثائق السودانية من أقدم المؤسسات التي تعمل على حفظ الوثائق والأرشيف في المنطقة الأفريقية والعربية، فهي تحل في المرتبة الثانية بعد نظيرتها المصرية. 

مثّل “حفظ الأوراق المالية والمستندات التي تخص الحكومة الاستعمارية”، الهدف الرئيسي لإنشاء دار الوثائق من قبل البريطانيين. لكنها اليوم وبعد مرور 107 أعوام على تأسيسها، تغص بنحو 50 مليون وثيقة تتضمن نحو مائتي مجموعة وثائقية مع مجموعة أخرى من الخرائط والمخطوطات والكتب، بالإضافة إلى وثائق نادرة تغطي بيانات محلية وأخرى خارجية.

الأرشفة والسلطة

مع أن الاطلاع على الوثائق التاريخية والحفاظ عليها، حق من حقوق المواطنين، لاسيما الباحثين، إلا أن التوجهات السياسية الشمولية لعدد من الحكومات السودانية المتعاقبة ظلت متحكمة في ما هو متاح لتوثيقه والاطلاع عليه، حيث حدت سياساتها في نهاية المطاف من الوصول لأرشيف البلاد الضخم. والمثال الأكثر وضوحاً في هذا السياق، هو القرار الجمهوري الذي أصدره الرئيس المخلوع، عمر البشير، في العام 2007، بتعيين السياسي كبشور كوكو، وهو أحد الموالين لنظام الإنقاذ، أميناً عاماً لدار الوثائق، رغم أنه غير متخصص، والاستغناء عن أمينها المتخصص، علي صالح كرار، بنقله إلى جامعة النيلين.

كان القرار سياسياً بامتياز، واستند على موازنات داخل حزب المؤتمر الوطني المحلول، الذي سعى منذ استيلائه على السلطة في عام 1989، على السيطرة واختراق كل مؤسسات الدولة. الأمر الذي تكرر مرة أخرى، في يناير 2019، بتعيين ضياء الدين محمد عبد القادر، بديلاً لكبشور. حيث لم يكن لضياء أي خبرة في عمل الدار، بل انحصرت خبرته العملية في مشروع سد مروي وعدد من المؤسسات التابعة لنظام الإنقاذ. لتستمر دوامة التلاعب، بتاريخ السودان الموثق، بتعيين  ضباط من الجيش والشرطة في إدارة دار الوثائق القومية.

إهمال يقود إلى الفاجعة

لم تكن التعيينات السياسية هي التحدي الأوحد في تطور العمل في دار الوثائق وحسب، بل الإهمال الذي عرّض المحفوظات لأخطار الضياع والتلف. كما تعرضت الدار لعملية سرقة منظمة في مارس 2021، أسفرت عن فقدان جهازي حاسوب يحتويان على معلومات نادرة ومهمة تتعلق بملف (طوبوغرافيا السودان) وعلاقتها بالإنتاج الزراعي في السودان. بالإضافة إلى ملف محاكمات ثورة 1924 (اللواء الأبيض) بقيادة علي عبد اللطيف والأسر التي تعاملت مع الاستعمار، ومواقع المياه الجوفية خاصة في إقليمي كردفان ودارفور.

إضراب عن العمل

أدى تراكم الإهمال الحكومي في دار الوثائق وتردي بيئة العمل إلى إضراب منسوبيها من موظفين وعمال عن العمل في أكتوبر 2022، وكانت أبرز مطالب ذلك الإضراب الذي تجاوز الثلاثة أشهر، تحسين الأجور، حيث كانت تتراوح ما بين 10 – 70 ألف جنيه للشهر، علاوة على ظروف العمل السيئة والتي تمثل عائقاً أمام تطور العمل وأدائه في أحسن وجه.

محاولات مغايرة

مع تصاعد التقنية والأدوات والوسائل التي أتاحتها، فإن ما كانت تعول عليه السلطة، في كونها المصدر الوحيد للتوثيق، شهد هزات عنيفة، وذلك ببروز مؤسسات بتوجهات مغايرة، تعمل على خلق أرشيف لا تحده اشتراطات ورقابة السلطة، ويتبع وسائل تعتمد على رقمنة المواد من مختلف المجموعات العامة والخاصة.

ذاكرة السودان

ولدت فكرة مشروع “ذاكرة السودان” في العام 2013، لكنه تخلق في أرض الواقع وبدأ عمله في العام 2018، والذي تمثل في رقمنة الوثائق والمخطوطات القديمة والصور والأفلام والكتب النادرة والوثائق ومن ثم إتاحتها عبر الإنترنت، عبر بناء شراكات مختلفة مع مؤسسات وأفراد، ومن ضمنهم الجمعية السودانية لتوثيق المعرفة” (سوداك)، إلى جانب 500 مساهم بين باحث ومترجِم ومصوّر فوتوغرافي، وغيرهم من المتطوّعين أو الموظّفين السودانيين والأجانب.

درّب مشروع ذاكرة السودان أكثر من 20 موظفاً بدار الوثائق القوميّة بينهم متخصصين في تكنولوجيا المعلومات والمحفوظات، حيث قام ذلك الفريق بمسح أكثر من 30.000 وثيقة، وذلك بغرض إتاحتها للجمهور عبر الإنترنت.

يقوم مشروع (ذاكرة السودان) بدعم من المجلس الثقافي البريطاني بالسودان عبر صندوق حماية الثقافة، ويهدف المشروع إلى حفظ التراث الثقافي السوداني الثري وجعله متاحا للوصول عالميا. يقوم المشروع برقمنة العديد من المواد. سيتم اختيار المحتويات حسب تصنيف موضوعاتها مثال لذلك: الأزياء والملابس السودانية – الممارسات الثقافية السودانية – الفنون الأدائية – الموسيقى – اللغات – الأساطير والخرافات – الآثار القديمة – التاريخ الحديث والأحداث. 

كما يهدف مشروع “ذاكرة السودان” لحماية الموروث والممتلكات الثقافية السودانية المهددة بالتلف أو الضياع ويسعى من خلال ذلك لربط ودمج السودانيين أكثر بثقافتهم واطلاع العالم الخارجي على مدى ثراء وبداعة التراث الثقافي السوداني المتنوع. 

للتاريخ ارتباط وثيق بتشكيل الذاكرة الجمعية للشعوب، وكيف نقرأ الماضي في سبيل استشراف المستقبل، الأمر الذي يضع ضرورة كبرى للاهتمام بالأرشفة، والحفاظ على الدولة وتراثها التاريخي، وأرشيفها، وهو تاريخ مهم للأجيال القادمة. ومع التغيرات السياسية والاجتماعية التي يشهدها السودان خلال السنوات الخمس الأخيرة، واندلاع ثورة ديسمبر وما يرتبط بها من أحداث كثيرة، فإن دور التوثيق والأرشفة لهذه الأحداث هو مهمة جليلة يجب الإطلاع بها على أكمل وجه.

من صالون (فوز) إلى الجمعيات الأدبية.. كيف لعبت الثقافة دوراً طليعياً في استقلال السودان؟

من هناك، منزل “فوز” بأمدرمان مطلع العشرينيات، خرجت الأشعار والأغاني التي شكلت وجداناً مقاوماً للاستعمار البريطاني. حيث احتضن المنزل رهطاً من الشعراء والأدباء والسياسيين، وكان لهم ملاذاً آمناً من أعين المخابرات البريطانية، التي ضيّقت الخناق على الأنشطة التي نظمها مثقفو وسياسيو السودان في ذلك الزمان. وهو المكان الذي صدح فيه خليل فرح بأغنياته الوطنية لأول مرة، وخبئت فيه آلة طباعة استخدمت لنسخ المنشورات السياسية التي انتشرت في جميع أنحاء الخرطوم.

دار فوز

أسست جمعية الاتحاد السوداني في العام 1921م، وهي واحدة من أوائل التكوينات السياسية مطلع العشرينيات، والتي ضمت عدداً من المثقفين والمتعلمين بالعاصمة والأقاليم، وتكونت من خلايا سرية بعدد لا يتجاوز الخمسة أعضاء في الخلية الواحدة. ومع اتساع نشاط الجمعية وتمدده ومحاولة انفكاكه من قبضة الرقابة المفروضة على أنشطة وأجسام مشابهة من قبل الإدارة الاستعمارية، فإن أعضاء الجمعية كانوا في بحث مستمر عن مقر لتنظيم اجتماعاتهم، ليرسو بهم الأمر إلى استئجار صالون وحوش شاغرين بمنزل السيدة (حلوة) والتي كانت تسكن فيه مع ابنتها الوحيدة (الشُّول) والتي ستصير فيما بعد فوز، ويعرف ذلك المنزل باسمها، ويحتضن الكثير من الاجتماعات وجلسات الأنس والسمر.

منافذ عدة

لم تكن جمعية الاتحاد السوداني هي الجسم أو التجمع الوحيد الذي انتهج الثقافة في سبيل التحرر الوطني، بل كان للأدباء والمثقفين منافذ وأجسام عدة، والتي ساهمت إسهاماً مقدراً  في تحقيق استقلال السودان، في العام 1956م.

 العمل الذي بدأ منذ بواكير تشكل جمعيات القراءة في أمدرمان،  وولاية الجزيرة (جمعية ود مدني الأدبية) وهي التي كانت جنيناً لمؤتمر الخريجين؛ حين أطلق أحمد خير المحامي من منبرها فكرته، ثم نمت الفكرة وتبلورت عن طريق كتابة الصحافيين عن دور المؤتمر الطليعي في جريدة السودان، ومجلة الفجر، الأمر الذي تمكن من جذب مختلف المهتمين.

بدائل جديدة

نسبة للممارسات الاستعمارية والتضييق على السودانيين، فقد تولد حس وطني باحثاً عن هويته، ومناهضاً للوجود الأجنبي، وهي المدعاة الأساسية لظهور الجمعيات السياسية كالاتحاد السوداني، ولاحقاً جمعية اللواء الأبيض، التي ناهضت الاستعمار بأدوات ووسائل عدة. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الأجسام شكلت روحها من داخل الفضاء الثقافي والأدبي، بعد تضييق الاستعمار الخناق على الممارسات السياسية.

وترأس الجمعية علي عبد اللطيف وعضوية  عدداً من الكتبة وصغار الموظفين، لتشهد بعد ذلك تحولاً في مناهضة الإنجليز عبر الفعل السياسي، جنباً إلى جنب مع سطوع عدد من مبدعي وشعراء الحركة الوطنية، مثل الموسيقار إسماعيل عبد المعين، وحسن خليفة العطبراوي، علاوة على الأشعار التي شكلت مزاج تلك الفترة؛ ومنها قصيدة خضر حمد للعلا، وصه يا كنار لمحمود أبي بكر.

جمعية اللواء الأبيض

ارتفع صوت الخلافات داخل جمعية الاتحاد السوداني حول الطريقة المثلى لمقاومة الاستعمار، ورأى البعض أنه ينبغي مواجهته بطريقة أكثر جذرية وحدة، الأمر الذي حدا بتكوين جمعية اللواء الأبيض. وعلى الرغم من توجهها السياسي، إلا أنها اتخذت من الثقافة والأدب رافداً أساسياً، يتمظهر ذلك في الهتافات التي شهدتها التظاهرات التي خرجت ضد السلطة البريطانية من شاكلة  “نحن الشرف الباذخ”، وهتاف طلاب الكلية الحربية “يا أم ضفاير قودي الرسن، اهتفي فليحيا الوطن”.

بعد القمع الذي تعرضت له انتفاضة اللواء الأبيض في 1924م، غير المثقفين تكتيكاتهم في  مقاومة الاستعمار، واتجهوا إلى توعية المجتمع عن طريق زيادة التعليم الأهلي وبث القيم الوطنية. 

وابتكر المثقفون وسائل وأدوات أدبية وفنية عديدة في سبيل نشر القيم التي نادوا بها، مثل المسرح والحفلات، والخطاب الشعري الذي ظهر في النشيد الوطني “في الفؤاد ترعاه العناية” والذي أحدث قطيعة مع مؤسسات الاستعمار؛ حيث ورد فيه “ما بخش مدرسة المبشِّر.. عندي معهد وطني العزيز”.

دور الصحف والمجلات

شكلت الصحف والمجلات فضاء جديداً للمقاومة، وجاءت كتطور طبيعي لمجموعات القراءة والنقاش التي نشطت في الأحياء، وأضحت منفذاً لحركة التنوير في السودان؛ مثل جمعية أبوروف الأدبية، والهاشماب والموردة.

كانت الظروف مواتية لجمعية الهاشماب في تكوين مجلة الفجر، والتي خلقت تأثيراً في الفضاء الاجتماعي والثقافي والسياسي، عبر مناقشتها لقضايا الهوية والانتماء. وانتظمت البلاد عدداً من الندوات والمحاضرات؛ التي نظمها مؤتمر الخريجين بعد توقيع المعاهدة المصرية – البريطانية في عام 1936م، والتي لم يجيء فيها ذكر مصير السودان. لتنشر محاضرة “واجبنا السياسي بعد المعاهدة” في مجلة الفجر.

بعدها نُظم أول مهرجان أدبي، في العام 1939م، بمدينة ود مدني، والذي تطرق – إلى جانب الأدب – لقضايا الاقتصاد والهوية والتخلف. وأقيمت النسخة الثانية من المهرجان بمدينة أمدرمان، في العام التالي. وكان مقرراً إقامة النسخة الثالثة بنادي الخريجين بالخرطوم، إلا أن الإدارة البريطانية منعت قيامه، لكن النسخة الرابعة اتخذت مكانها بمدينة الأبيض (شمال كردفان). 

منذ العشرينيات، ومع دخول التيارات الفكرية الحديثة إلى السودان بشكل كبير، كانت الأسئلة الوطنية الكبرى المتعلقة بالتحرر والهوية قد برزت إلى السطح. وعولجت هذه الأسئلة في البدء من خلال الندوات والأشعار والأغاني التي شكلها الجيل المبكر من الحركة الوطنية السودانية التي انتظمت النوادي والصوالين الأدبية، قبل أن تتبلور في أجندة سياسية واضحة. الأمر الذي جعل هذه الأجسام ومطالبها ذات طابع ثقافي في الأصل، ولكن تنبغي الإشارة إلى عدم القدرة على الفصل القاطع والحاد بين ما هو ثقافي وما هو سياسي.

الكنائس تعاود قرع أجراسها احتفالاً بـ(الكريسماس).. كيف واجه المسيحيون السودانيون عقوداً من التضييق؟

يعاود المواطنون المسيحيون في السودان، اليوم الأحد، الاحتفال بأعياد الميلاد بالعاصمة الخرطوم بشكل اعتيادي للمرة الأولى منذ عدة سنوات، وذلك بعد إعلان تنسيقيات لجان مقاومة الولاية، تأجيل موكب 25 ديسمبر. وتقع غالبية الكنائس الرئيسية التي ستقرع أجراسها احتفالاً بأعياد الميلاد بقلب العاصمة الخرطوم.

 

وأتت خطوة لجان المقاومة على إثر ما شهدته البلاد العام الماضي خلال موكب 25 ديسمبر ضد انقلاب الجيش، حيث أغلقت الجسور الرابطة بين مدن العاصمة، وقطعت شبكتا الإنترنت والاتصالات، الأمر الذي حرم المواطنين المسيحيين من إمكانية الوصول إلى الكنائس التي يتركز أغلبها في قلب العاصمة، لأداء الصلوات والشعائر وإقامة الاحتفالات.

 

أيضاً، خطوة لجان المقاومة بتأجيل موكب يوم 25 ديسمبر، جاءت نتيجة لنقاشات ظلت تدور منذ العام الماضي، حول أهمية تأجيل التظاهرات بالتزامن مع أعياد الميلاد لتمكين المسيحيين من الاحتفال بالمناسبة بسلام.

 

و25 ديسمبر، مثل أول موكب وتظاهرة مركزية كان قد دعا لها تجمع المهنيين السودانيين قبل أربع سنوات، في ديسمبر 2018م. حيث قرر التجمع يومها تغيير فعله السياسي المتمثل في رفع عدد من المطالب التي تخص المهنيين والعمال إلى البرلمان، إلى الانخراط في التظاهرات التي انطلقت شرارتها في عدد من المدن السودانية المختلفة، ليتصدى التجمع لقيادة التظاهرات ويعلن عن تسيير موكب جماهيري إلى القصر الرئاسي بالخرطوم، من أجل المطالبة بتسليم السلطة.

تضييق مستمر ومعاناة قديمة

بدأت معاناة المسيحيين السودانيين، في عهد نظام الفريق إبراهيم عبود، الذي انتهج سياسة الأسلمة والتعريب القسريين والتي ألقت بظلالها على المسيحيين وانتهكت حقوقهم الدستورية. لكن مع فرض نظام الرئيس المخلوع، جعفر نميري (قوانين سبتمبر) في عام 1983م دخلت معاناتهم مع التمييز من قبل الدولة مرحلة فاصلة. وهو الأمر الذي عمقه نظام الإنقاذ وهي تضع نصب أعينها مشروعها الحضاري الذي سعى إلى إعادة هندسة المجتمع السوداني، ليتخذ اضطهاد المسيحيين والتضييق عليهم شكلاً ممنهجاً رعته الدولة ومؤسساتها، خاصة مع تصاعد الحرب في جنوب السودان، الأمر الذي أدخل مسألة الدين ضمن إطار سياسي وعرّف الحرب على كونها جهاد ديني.

انفراجة ولكن

لم تشهد القبضة المفروضة على المسيحيين انفراجاً إلا بعد التوقيع على اتفاق السلام الشامل وإقرار الدستور الانتقالي لسنة 2005م. لكن تلك الانفراجة والبراح الذي أتاحته الاتفاقية لم يدم لأكثر من ست سنوات، إلى لحظة انقسام السودان إلى دولتين في العام 2011م، بعدها عادت الهجمات بصورة أكثر شراسة، حيث أسقط الرئيس المخلوع، عمر البشير، كل المواد الدستورية والقوانين التي كفلت حقوق المسيحيين، وكان البشير قد صرح بأن “السودان صار دولة إسلامية-عربية خالصة عقب انفصال جنوب السودان”.

الانتهاكات

مثّلت تصريحات البشير وقتها ضوءاً أخضر أطلق أجهزة الدولة والتحريض الديني وعنفه تجاه المسيحيين؛ وبدأ تاريخ طويل من هدم الكنائس وإزالتها. 

وبعد تصريحات البشير مباشرة، أقدمت مجموعة متشددة على حرق مبنى تابع للكنيسة الإنجيلية اللوثرية بمدينة أمدرمان في يونيو 2011م. وفي مطلع العام 2012م، حرق مجموعة من الأهالي بمنطقة الجريف مجمع كنسي في المنطقة بعد تحريض علني من قبل أحد الشيوخ السلفيين، ولم تحقق الشرطة في الحادثتين.

 

لتقدم السلطات المحلية بالخرطوم بإزالة مباني الكنيسة الأسقفية بالحاج يوسف، بزعم أنها شيدت بصورة عشوائية ودون ترخيص من السلطات، وتجدر الإشارة إلى أن تلك الكنيسة أنشئت في العام 1978م وكانت تمارس فيها الشعائر الدينية منذ ذلك الحين.

وفي إفادته لـ(بيم ريبورتس) يقول أحد المنتمين للكنيسة الإنجيلية في بحري، رأفت سمير، “شهدت أعياد الميلاد ما قبل الثورة تضيقياً على المسيحيين، حيث يعتقل القساوسة ويهجم على الكنائس، علاوة على عدم منح المسيحيين عطلة العيد”.

تأثير الثورة

بعد الإطاحة برأس النظام السابق في 11 أبريل 2019م، علق مسيحيو السودان آمالاً في أن تسترجع لهم الحكومة الانتقالية حقوقهم التي تعرضت للانتهاك والسلب على مدى عقود. عملت الحكومة الانتقالية، في فترة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، على إجراء عدداً من التعديلات المتعلقة بالتشريع، بالإضافة إلى قانون الأحوال الشخصية، وقامت بإلغاء حد الردة، ووضع عقوبة جنائية على التكفير. إضافة إلى إعادة الحكومة عطلة عيد الكريسماس التي كانت لغتها حكومة الإنقاذ بعد انقسام السودان في 2011م.

جهد غير كاف

لكن الحقوقي والمحامي، ديماس مرجان، يرى في إفادته لـ(بيم ريبورتس) أن الحكومة الانتقالية شهدت تغيراً في شكل الخطاب، وكان متوازناً إلى حد كبير في التعامل مع ملفات الحريات الدينية. لكنه يعود ويقول برغم الخطاب المتزن إلا أنه لم ينعكس بصورة واضحة على مستوى التطبيق.

 

يذهب رأفت سمير في ذات اتجاه مرجان، ويقول”لم تكن للحكومة الانتقالية الرغبة الحقيقية للتعامل مع الانتهاكات التي يتعرض لها المواطنون المسيحيون، وكان تركيزها ينصب على إرضاء المجتمع الدولي ورفع العقوبات. لكنها لم تشرع في رد المظالم التاريخية والأصول التي صودرت في عهد الإنقاذ”.

 

توجت مساعي الحكومة الانتقالية بشطب السودان من قائمة المراقبة الخاصة بالحريات الدينية، وكانت الولايات المتحدة قد أدرجت السودان عام 1999م على القائمة السوداء حول الحريات الدينية ضمن مجموعة من الدول، قبل أن تنقلها في 20 كانون أول/ديسمبر 2019م، إلى قائمة المراقبة. ثم إزالتها بشكل نهائي.

 

لكن ما بعد انقلاب الجيش في 25 أكتوبر 2021م فإن الأوضاع قد شهدت تراجعاً كبيراً بالنسبة للمسيحيين في السودان، عادت الانتهاكات مرة أخرى، وليس ما شهدته ولاية القضارف (شرق السودان) من إقدام نظامي يتبع للجيش بحرق كنيسة المسيح السودانية بمنطقة الدوكة، إلا أكبر دليل على ذلك.

المسيحية في السودان القديم

للمسيحية في السودان تاريخ ضارب في القدم، وهو يعود إلى قرونٍ مبكرة من العهد المسيحي، بصورة أكثر تحديداً إلى نهاية النصف الأول من القرن السادس الميلادي، حيث شهد السودان تشكل ممالك في شمال وأواسط البلاد اتخذت من المسيحية ديانة رسمية لها. حيث قامت ثلاث ممالك مسيحية، وهي مملكة نوباتيا (543م) وعاصمتها فرس، ومملكة المقرة (569م) وعاصمتها دنقلا العجوز، ومملكة علوة(580م) وعاصمتها سوبا. ولاحقاً اندمجت مملكتي المقرة ونوباتيا في مملكة واحدة، ومع دخول المسلمين بلاد النوبة بقيادة عبد الله بن أبي السرح انتهى الأمر بعقد الصلح بين الطرفين فيما عرف باتفاقية البقط.

دولة المواطنة

مع عدم وجود تعداد دقيق في السودان، إلا أن أحدث التقديرات تشير إلى أن سكان البلاد يبلغ 45.6 مليون نسمة، يدين 91% منهم بالإسلام، بينما تتوزع على 5.4% مسيحيون، و 2.8% ديانات شعبية، والباقي يتبع ديانات أخرى أو غير منتمين لأية ديانة. علاوة على  وجود ما يزيد عن المليون لاجئ وطالب لجوء في البلاد.

وفي ظل هذه الإحصاءات، فإن سؤال المواطنة المتساوية دون تمييز على أساس الدين يظل قائماً في سبيل كفل الحقوق والواجبات الدستورية، في بلدٍ عرف بالتنوع الثقافي والديني والإثني.

أقدم بنايات الخرطوم.. كيف اختزن القصر الجمهوري حكايات السودان لنحو مائتي عام؟

يمكنك تمييز حتى ألوانه، وسرعة وبطء أرجحة الهواء له في ساريته الشامخة إلى أعلى. هكذا يبدو للناظر إلى القصر الجمهوري، عَلَم السودان، وهو يرفرف في أزمنة الخرطوم، ما قبل وبعد الاستقلال، قبل أن تتغير ألوان العلم نفسه، وتطمس المباني المتناثرة بلا هدف، هوية المدينة المعمارية القديمة، التي أعاد تخطيطها البريطانيون على شكل علم بلادهم.

 

زحف المباني الفوضوي في مدينة الخرطوم المعاصرة وصل إلى القصر الجمهوري نفسه، بعدما تم تشييد قصر جديد بجواره في عام 2015م، تضافر ذلك مع إغلاق واجهة القصر المطلة على شارع النيل بحاجز حديدي، والذي أنهى تقليداً تاريخياً، كان يتمثل في تلقي الشعب تحية شرفية من حراس القصر كلما مدّ أي مواطن عابر يده محيياً أو أطلق صافرة سيارته.

 

شيدت سرايا الحكمدار، وهو أول اسم أطلق على القصر الجمهوري، في عام 1832م. وتشكّلت في البداية، من قاعة استقبال ذات سقف مرفوع فوق عروق خشبية غير مهذبة. أما أرضها، فكانت من التراب المدكوك وكانت تُرش مرة كل ساعتين، ويحيط بثلاثة جوانب منها ديوان مقام من الطين ومُغطى بألواح الخشب، وبينما كان هذا الديوان مفروشاً بالسجاد الفاخر ومساند الحرير، كان الحصير من أوراق شجر الدوم يغطي أرض القاعة. 

 

مع استتباب الحكم التركي – المصري للبلاد، كانت عودته لتاريخ الخرطوم القديم حتمية، فاستخدم الآجر المنقول من بقايا مدينة سوبا الأثرية وبعض المباني القديمة التي ترجع للعهد المسيحي في السودان، في إعادة بناء السرايا بين عامي 1849-1851م، التي كان قد تم هدمها بالكامل.  

 

“كانت سرايا الحكمدار بعد اكتمال بنائها أعجوبة أهل الخرطوم ومشايخ العرب من زوارها، الذين كانوا لا يصدقون أنها من عمل الإنسان وحده”، يقول الباحث المصري، أحمد أحمد سيد أحمد، في كتابه “تاريخ مدينة الخرطوم”.

 

ويتكوّن مبنى القصر الجمهوري من طابقين، بالإضافة إلى جزء أرضي وهو من المعالم المعمارية الرئيسية في الخرطوم، وتطل واجهته الرئيسية على النيل الأزرق شمالاً. للقصر ملحق به مسجد وكانت فيه كنيسة، لكن الحكم الوطني، حوّل مبنى الكنيسة إلى متحف، بعدما أزيل جزءاً منها وهو برجها. 

ويطل من الناحية الجنوبية على ساحة صغيرة كانت تحمل اسمه (ساحة القصر)، قبل أن يطلق عليها اسم حدائق الشهداء أخيراً.

حتى وقت قريب كان المتحف يفتح أبوابه أمام الزوار، أيام: الجمعة والأحد والأربعاء.

 

 وتم افتتاح المتحف الواقع في حديقة القصر رسمياً فى 31 ديسمبر 1999، وهو يضم المشاهد التاريخية التي كان مسرحها القصر الجمهوري خلال الحقب التاريخية المتعاقبة من تاريخ السودان الحديث، ويضم كذلك عدة مقتنيات أثرية وتراثية مختلفة ومتعددة ومكتبة. 

 

 وجرى تصميم القصر على نمط المباني الأوربية الكبيرة التي كانت سائدة في أوروبا في القرن السابع عشر، مع لمسة شرق أوسطية تتمثل في الأبواب والنوافذ المقوسة إلى جانب النوافذ الرومانية والإغريقية والشرفات والفرندات على الطراز البحر متوسطي.

 

ومع ذلك، في عهد الحكم الثنائي “الإنجليزي – المصري” للسودان، (1898-1955م)، أجريت بعض التعديلات عليها سنة 1900م، بعدما أهملت في عهد الدولة المهدية (1885-1898م)، وهدم جزء كبير منها، وفي 1912 بنيت فيها كاتدرائية.  وأطلق عليها سرايا الحاكم العام، وعرفت أيضاً باسم القلعة، نادراً.

تاريخ مدينة الخرطوم:

ومدينة الخرطوم لا تحتضن القصر الجمهوري وحسب، وإنما ينطوي تاريخها الحديث على التغيرات السياسية والاجتماعية التي عرفها السودان وشكلت وجوده الحالي.

 

وهي عرفت الحياة ودب فيها الإنسان قبل مئات السنين من ميلاد المسيح، بينما تم تأسيسها كعاصمة من قبل الحكم التركي المصري للسودان في 1830م. في ضاحيتها الجنوبية نحو عشرين ميلا،  كانت توجد مدينة سوبا عاصمة دولة علوة المسيحية التي سقطت بيد تحالف العرب والفونج 1504. و“تعرف المنطقة بالاسم ذاته حالياً. وتعد من أعظم مدن السودان المسيحي قاطبة، وكان فيها أبنية حسان ودور واسعة وكنائس كثيرة الذهب وبساتين”، يقول صاحب كتاب تاريخ الخرطوم. 

 

ومع أن مدينة الخرطوم في نسختها الحديثة خلق استعماري، إلا أن التاجر الخرطومي، الأوروبي، برون روليت، يقول إنها قديمة، وأنها كانت حتى  قبل الحكم التركي – المصري بنصف قرن مدينة عظيمة عندما هاجمها “الشلك” إحدى قبائل أعالي النيل الأبيض، جنوب السودان، ذات ليلة من ليالي سنة 1772 وقتلوا أهلها ودمروها، فانتهى وجودها في ذلك التاريخ حتى جاء الحكم التركي المصري فأعاد تأسيسها. 

 

وتجمع غالبية المصادر، على أن الخرطوم أخذت اسمها من شكل لسان الأرض المحصور بين النيلين الأبيض والأزرق، الشبيه بخرطوم الفيل، إلا أن آخرين يربطون اسم الخرطوم وقبيلة الشلك التي تعيش في جنوب السودان، على أساس أنه يتكون عندهم من مقطعين معناهما معاً “نقطة التقاء مجريين مائيين”.

 

ويقول الباحث المصري: “إن منطقة مقرن النيلين تقع طوال العصور القديمة في وطن النيليين، وهو الأمر الذي أثبتته القرائن المادية القاطعة. يضيف: “فقد كشفت الحفائر سنة 1954م، عن موطن للنيليين في الطرف الجنوبي لمدينة الخرطوم الحالية ترجع حضارته إلى عصر ما قبل الأسرات، كما ثبت أنه كان مأهولاً في العصر النوباتي والمروي (٧٥٠ – ٣٥٠) قبل الميلاد.  نسبة لمملكتي نبتة ومروي في السودان، وقد عُثر أيضاً على أكثر من إثني عشر موضعا حول مقرن النيلين لسكنى هؤلاء النيليين.

 

بالقرب من محيط القصر الجمهوري، توجد أهم المباني الأثرية في الخرطوم، على رأس تلك المباني مبنى جامعة الخرطوم، الذي شيده أول حاكم عام للسودان في عهد الحكم الثنائي اللورد كتشنر، تخليداً لذكرى غوردون، وتم افتتاحها 1902 باسم كلية غوردون التذكارية.

وكذلك مبنى البريد والبرق، ومبنى وزارة المالية والداخلية ويقعان بشارع النيل، بالإضافة إلى مقبرة ترجع إلى الحكم التركي – المصري، وهي قباب يرقد فيها بعض حكمداري الحكم التركي – المصري، بالإضافة إلى كاتدرائية القديس متى، المشيدة على الطراز الفيكتوري. 

 

ومحيط الخرطوم الرئيسي، تم تخطيطه على شكل العلم البريطاني، وذلك يشمل شارع القصر الجمهوري، وسابقا كان يُسمى شارع فيكتوريا، ويشمل ذلك كل المدينة جنوب شارع القصر إلى جامعة الخرطوم،  وأكبر تجسيد للعلم البريطاني يظهر في تقاطع سانت جيمس الواقع بقلب الخرطوم، وكان قبل تطبيق القوانين الإسلامية في السودان، توجد بالقرب منه أشهر بارات المدينة.

أحداث شهدها القصر:

في فجر السادس والعشرين من يناير 1885م، اقتحم أنصار الثورة المهدية مبنى سرايا الحكمدار في العاصمة الخرطوم قبالة النيل الأزرق وقتلوا حاكم عام السودان وقتها، الجنرال الإنجليزي تشارلز غوردون، في درج الطابق الأول.

عندما وصلت ما عُرفت بحملة إنقاذ غوردون القادمة من بريطانيا قريباً من الخرطوم، كان أنصار المهدي قد قضوا على غوردون وسلموا رأسه للمهدي في عاصمته الجديدة بمدينة أمدرمان، على الضفة الغربية للنيل الأبيض، ونهر النيل. 

 

وتقع مدينة الخرطوم شرقي النيل الأبيض وجنوبي النيل الأزرق ويلتقي فيها النيلان الأزرق والأبيض في “مقرن النيلين” مكونان من بعد، نهر النيل، أحد أطول الأنهار في العالم.

 

 

قبيل الاستقلال بعامين، شهد القصر الجمهوري أحداثاً دموية، وذلك عشية مقدم الرئيس المصري الراحل، محمد نجيب إلى الخرطوم، في مارس 1954م إذ سقط العشرات من أنصار حزب الأمة الذي كان يرفض الوحدة مع مصر، قتلى قبالة البوابة الغربية للقصر الجمهوري، عندما حاول أنصار حزب الأمة اقتحام القصر، بوجود الرئيس المصري فيه. وسُميت تلك الأحداث في التاريخ السياسي السوداني، بأحداث الأول من مارس.

 

لم تمر أكثر من عشر سنوات على أحداث الأول من مارس 1954م، حتى عرف قصر الجمهوري أحداثاً دموية جديدة، عندما أطاحت ثورة  أكتوبر 1964، بحكم الجنرال إبراهيم عبود، ولكن قبل أن يحل عبود مجلسه العسكري أواخر الشهر نفسه، أردت قوات الحرس الجمهوري أكثر من ٢٢ قتيلاً أمام القصر الجمهوري، عندما حاولت الجماهير اقتحام المبنى.

 

في الحقبة التي تلت ذلك، وبينما كان الرئيس المخلوع جعفر النميري في إقامة جبرية بداخل القصر بُعيد انقلاب عسكري أطاح بحكمه لمدة ثلاثة أيام، في 19 يوليو 1971م، شهد المبنى الأثري حوادث إطلاق نار، ولكن بعد أن فرّ منه نميري في اليوم الثالث وآلت إليه الأوضاع في النهاية، زعم بأن الشعب حماه داخل القصر، لذا أطلق على المبنى اسم قصر الشعب. لكن، بعد انتفاضة مارس/أبريل 1985م، التي أطاحت بحكمه أعادت تسميته لما كانت عليه منذ حلول الحكم الوطني في 1956م (القصر الجمهوري) وهو الاسم الرسمي للمبنى حتى الآن.

حكام القصر:

في خضم أحداث دموية عديدة، بالمقابل يشهد القصر على أهم انتصارات السودان عندما تم إنزال علمي الحكم الثنائي ورفع العلم السوداني في أعلى سارية القصر، معلنا استقلال السودان في الأول من  يناير 1956م. 

ومنذ الاستقلال، استقبل القصر الجمهوري 9 رؤساء، بينهم 6 جنرالات جيش، وصلوا إليه عبر انقلابات عسكرية وفترات انتقالية، بالإضافة إلى أربعاء رؤساء مدنيين منتخبين وانتقاليين.

القصر الجمهوري: بين الماضي والحاضر

لكل تلك الأحداث أثرها على السودانيين، بما في ذلك منظورهم الخاص لرمزية القصر، وارتباطه بأحداث تاريخية تحتضنها الذاكرة الشعبية والتي لطالما كانت حاضرة في خطابات الثورة و أدبياتها، يستدلون بها الطريق نحو المقاومة حقبة تلو الأخرى. الآن، وبعد مرور أكثر من عام على انتفاضة شعبية اندلعت منذ فجر الخامس والعشرين من أكتوبر، إثر انقلاب قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، يخرج الآلاف بشكل دوري قاصدين القصر الجمهوري للمطالبة بإسقاط الحكم العسكري في السودان .

 

تلك الوجهة التي تحمل في طياتها قصص الحكم الاستعماري، أثره الجلي على الخرطوم، طابع المدينة السياسي والاجتماعي والثقافي، عمارتها المتباينة شوارعها وطرقاتها، أحلام وآمال الملايين بإنهاء عصر الانقلابات العسكرية وميلاد الدولة المدنية الديمقراطية. يودون فقط الذهاب إلى القصر احتفالاً باستقلال بلادهم والتنزه في حديقته وأخذ العبرة من ذاكرته التي تعج بتاريخ الانقلابات العسكرية المتواترة التي عرفها السودان ولحظات الإطاحة بها، المشاهد الدموية ولحظات الانتصار.

غاب لثلاث دورات متتالية.. كيف عصفت الأزمات بمعرض الخرطوم الدولي للكتاب؟

على مدى السنوات الثلاث الأخيرة، شهد معرض الخرطوم الدولي للكتاب، تخبطاً وتعثراً كبيرين، الأمر الذي ألقى بظلاله على واحدة من أهم الفعاليات الثقافية السنوية الراتبة في البلاد. وبرغم تعدد أسباب تعطل المعرض من صحية إلى سياسية، إلا أنها بالمقابل، فاقمت من المشكلات التي تواجه صناعة النشر الهشة في الأساس، وبات عدم ثقة الناشرين المحليين والدوليين في معرض الخرطوم الدولي للكتاب، واحدة من الأزمات التي تواجه القطاع الثقافي في البلاد. 

وكان أول غياب للمعرض في العام 2020، حينما أعلنت وزارة الثقافة عن تجميد المعرض نظراً لجائحة كورونا، على أن يُعد للمعرض في وقت لاحق، حال انتفاء أسباب التجميد. أما العام الماضي، فقد شكّل  انقلاب 25 أكتوبر العام ال، الضربة الأكبر للمعرض وسمعته، وتسبب في تعرض ناشرون محليون دوليون لخسائر كبيرة.

ومنتصف سبتمبر الماضي، أصدر وزير الثقافة والإعلام (المكلف من قبل السلطة الانقلابية) جراهام عبد القادر قراراً بتأجيل الدورة السابعة عشر للمعرض من موعدها المحدد مسبقاً بـ 19 أكتوبر إلى أجل “يحدد لاحقاً” بحسب عبد القادر، لكن ها هو ديسمبر يسدل ستاره على نهاية العام 2022م دون جديدٍ يذكر. 

وتمثلت أسباب تأجيل دورة المعرض للعام الحالي بحسب بيان وزارة الثقافة في السيول والأضرار التي ترتبت عليها، وضرورة توجيه الدولة للوقوف مع المتضررين، فضلاً عن تقلب الفاصل المداري الذي ينذر بغزارة الأمطار، بالإضافة لمنح مزيد من الوقت لإجراء الترتيبات الفنية والإدارية لتقديم دورة متميزة ومثالية.

 

لكن ناشرين لا يتفقون مع تبريرات الوزارة لعدم إقامة معرض الخرطوم الدولي للكتاب، حيث يذهب الناشر والوراق محمد عمر،  في إفادته لـ(بيم ريبورتس) إلى أنه “لطالما كان هناك تهميش وعدم اهتمام كاف بالثقافة والسياسات المتعلقة بها، وذلك نتيجة لجهل السياسيين بالعمل الثقافي، بل استسهاله والتغول عليه”، ويضيف عمر: “في نسخة 2020 التي ألغيت بذريعة كورونا، لم تبذل الجهات الرسمية أي محاولات جادة لإقامة المعرض، وبعدها بأقل من شهرين نُظم معرض الخرطوم الدولي في نفس المكان، مع توفير الاحترازات الصحية”.

تبعات انقلاب 25 أكتوبر

في أكتوبر من العام الماضي، عملت وزارة الثقافة بالحكومة الانتقالية على تنظيم معرض الكتاب بشكل جيد، حيث وفرت عدداً من الكتب المطلوبة، بالإضافة إلى مشاركة ما يزيد عن مئتي دار نشر محلية ودولية، أتت تلك النسخة بعد مجهودات نوعية كبيرة من فاعلين ثقافيين وحوارات عميقة لتنظيم نسخة مغايرة للمعرض. 

 

وكان وزير الثقافة والإعلام حينها، فيصل محمد صالح، قد صرح في نسخة المعرض عام 2019م، بأنهم كانوا أمام خيارين نسبة لظروف البلاد؛ إما المضي في المعرض أو الاعتذار فآثروا الخيار الأول لتأكيد استقرار السودان وأن الحياة الثقافية في قمة عنفوانها. تجدر الإشارة، إلى أن نسخة السنة الماضية من المعرض، لم تشهد تقييد أو منع عرض الكتب التي لطالما تعرضت للهجوم والرقابة من قبل نظام الإنقاذ في المعارض السابقة، وهو ما دفع الكثيرين بالتفاؤل بأن ينفض المعرض غبار السنوات الماضية، ويتخفف من الرقابة.

 

لكن الآمال التي عُقدت على تقديم نسخ مختلفة عن المعرض لم تدم طويلاً، فبعد يومين فقط من انطلاق المعرض، أطاح قائد الجيش عبد الفتاح البرهان بالحكومة الانتقالية، الأمر الذي عجل بتعليق كل فعاليات المعرض، وجزء من هذا الإغلاق كان احتجاجاً على الانقلاب نفسه واعتقال أعضاء الحكومة الانتقالية؛ من رئيس الوزراء ووزير الثقافة والإعلام.

 

وصرح مدير المعرض في ذلك الوقت، حاتم الياس أن”الانقلابات العسكرية خصم طبيعى للمعرفة والثقافة ولا يمكن أن يقام المعرض في هذا الظرف الاستثنائي”. وتقدم الياس مدير المعرض، باعتذاره إلى دور نشر محلية ودولية وكل المشاركين في المعرض.

مستقبل ضبابي

يلقي ما شهده معرض الكتاب خلال الدورات الثلاث بظلاله على مستقبل هذه الفعالية ومدى مشاركة دور النشر المحلية والدولية بصورة خاصة، بحيث يتطلب الأمر مجهودات حثيثة لاستعادة ثقة هذه الدور واتحادات النشر الدولية. 


وتجدر الإشارة إلى أن ما يعيشه معرض الخرطوم، هو جزء من ضمن مشكلة كبيرة يعيشها السودان في قطاع النشر وتعاطي الدولة مع الثقافة، الأمر الذي يصاحبه إشكالات سياسية واقتصادية. هذا الأمر الذي حاولت النسخة الأخيرة من المعرض معالجته، بحيث كونت لجنة من مختصين للتنسيق والإشراف على المعرض، وحملت الدورة الماضية شعار “العودة إلى الكتاب” وهي المحاولة التي هدفت لإخراج الكتاب وقضاياه من سنوات الرقابة والمصادرة والتضييق على النشر، الذي شهد تراجعاً كبيراً خلال الفترة الماضية. 


وفي هذا السياق، يعود الناشر والوراق محمد عمر ويقول:”إن سوق الكتب في السودان لم يشهد تجديداً منذ ثلاث سنوات وذلك لغياب المعرض الذي يمثل فرصة ممتازة لمشاركة الدور المختلفة في هذه الفعالية، كما أنه فرصة للدور والمكتبات المحلية لتحقيق أرباح تساعدها في إنعاش مكتباتها بعناوين جديدة”.

ما يشهده معرض الخرطوم الدولي للكتاب من تغييب امتد لثلاث سنوات، وعدم توفر الدعم المادي والاهتمام الكافي، يدلل على موقع الثقافة في السودان، وطريقة النظر إليها كشيء ثانوي، وما غياب معرض الخرطوم الدولي للكتاب لثلاث دورات كاملة إلا دليلاً على هذا الأمر.

وفي ظل تحديات سياسية واقتصادية يعيشها السودان، فإن معرض الخرطوم للكتاب في حاجة ماسة من الجهد والموارد من أجل استعادة وضمان تحقيق أهدافه كتظاهرة ثقافية عابرة للحدود.

كيف تحولت المصارعة السودانية من طقس ثقافي بجبال النوبة إلى رياضة شعبية واسعة الانتشار؟

للوهلة الأولى التي تسمع فيها هتافات وتشجيع الجمهور، قد تعتقد أنك في حدث يخص كرة القدم، ولكن ما إن تقترب للساحة التي يحفها المشجعون، حتى ينكشف الأمر، فهناك مصارعان يتوسطان ساحة مفروشة بالرمل، ويتعاركان بالأيدي في سبيل إسقاط المنافس أرضاً والفوز بإحدى جولات المصارعة السودانية (الصُراع).

وللمصارعة (الصُّراع) تاريخ ضارب القدم في جنوب كردفان (إقليم جبال النوبة)، حيث بدأت من هناك كممارسة ثقافية وجزء من هوية المجموعات القبلية المختلفة وهي ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية كذلك.

ارتبط الصُراع في الأساس بالاحتفالات والمهرجانات المصاحبة لموسم الحصاد؛ ما بين أغسطس وديسمبر من كل عام. حيث تتضمن عرضاً فنياً يقدمه المتصارعون قبل المباراة. وجزء من هذه الثقافة، أن لكل مجموعة قبلية عدداً من المصارعين الشُبان التي تحرص على تدريبهم وخلق نظام غذائي متكامل (يتضمن اللبن الطازج واللحوم والعسل والسمسم) حتى يتمكنوا من منافسة المصارعين من المجموعات القبلية الأخرى.

فضاءات جديدة

مع الحروب الأهلية المتواترة التي شهدها السودان، والتي كان إقليم جنوب كردفان ضمن نطاقها، فإن الكثيرين بدأوا في النزوح منذ السبعينات، هرباً من ويلات الحروب، وبحثاً عن مساحات جديدة وآمنة. وحملت حركة النزوح، التي كانت إلى عدد من الولايات الأخرى، ولكنها تمركزت في العاصمة الخرطوم وأطرافها بصورة كبيرة، علاوة على تراث وثقافة وطقوس  المجموعات النازحة، مثل الرقصات ومنها (الكرنك، الكمبلا) وكذلك المصارعة. لتلقى الأخيرة إقبالاً واسعاً كرياضة، ولاحقاً انشأت العديد من حلبات المصارعة في منطقة الحاج يوسف (شرق النيل) ومنطقة أبو حمد (مدينة أمدرمان) حيث يتجمع فيها جمهورمتنوع من السودانيين والأجانب مرتين كل أسبوع من أجل الفرجة وتشجيع المصارعين.

صاحب تحول المصارعة من كونها ممارسة ثقافية إلى رياضة تغييراً في بعض قواعدها، وحتى الطريقة التي يتزين بها المصارعون (الفرسان كما يطلق عليهم في جبال النوبة) وأصبح لهذه الرياضة قوانين وقواعد تحكمها، كما وأنه تأسس اتحاد المصارعة السودانية الذي يشرف عليها. وصار انتماء اللاعبين إلى أندية وليس إلى مجموعاتهم القبيلة التي يتحدرون منها.

ونظراً للتشابه الكبير بين المصارعة السودانية ومصارعة السومو اليابانية، فقد شهدت ساحات المصارعة السودانية مشاركة بعض اليابانيين فيها، ومن ضمنهم الدبلوماسي الياباني ياسوهيرو موروتاتسو في عدة مناسبات.

في مارس الماضي، اختتمت بمدينة خشم القربة (ولاية كسلا) الدورة الخامسة لبطولة الجمهورية للمصارعة. الفعالية التي بدأ الاتحاد الرياضي السوداني للمصارعة في تنظيمها لأول مرة في العام 2017م بمدينة الخرطوم، لتصبح بعدها محفلاً سنوياً شهدته كل من: ولايات القضارف، كسلا، النيل الأزرق ثم كسلا مرة أخرى في مارس 2022م. حيث جاءت البطولة تحت شعار “بالمصارعة نعزز السلام” وشاركت فيها ست ولايات؛ وهي: جنوب كردفان – النيل الأبيض – القضارف – الخرطوم – البحر الأحمر وكسلا) فيما اعتذرت ولايات غرب وشمال كردفان، وسنار والشمالية والنيل الأزرق.

مشاركات دولية

خلال الأعوام الماضية، شارك منتخب السودان للمصارعة في عدد من البطولات الأفريقية والعربية، واستطاع المنتخب، أن يظفر بعدد مقدر من التتويجات والميداليات؛ ميداليتين برونزيتين في البطولة الأفريقية في نيجيريا عام 2018م، وخمس ميداليات أخرى بالبطولة العربية في شرم الشيخ (جمهورية مصر العربية). وعزز المنتخب من خبرته ومشاركته العالمية ليتوج ذلك بحصد 12 ميدالية في البطولة العربية 2019م وبطولة إبراهيم مصطفى الدولية.

وشهد مايو الماضي اختراقاً جديداً للمصارعة السودانية في المحافل الدولية، حيث حققت لاعبة المصارعة السودانية، باتريسيا سيف الدين، وهي أول مصارعة تشارك في بطولة خارجية، المركز الثالث والميدالية البرونزية في وزن 68 كجم خلال البطولة الأفريقية التي استضافتها المغرب بمشاركة 34 دولة.

وتجدر الإشارة إلى أن باتريسيا هي واحدة ضمن فتيات كثر انخرطنْ في رياضة المصارعة، ضمن مشروع اكتشاف المواهب، البرنامج الذي ينظم بشراكة بين اللجنة الأولمبية الدولية والاتحادات الدولية، الأمر الذي استفاد منه اتحاد المصارعة في العام 2018م.  وحجزت باتريسيا أحد المراكز الأولى ضمن برنامج المواهب، وهي تخوض استعداداتٍ للمشاركة في أولمبياد باريس 2024م.

أجيال جديدة

عزز ازدهار المصارعة وقدرتها على خلق جمهور من كل الفئات العمرية من ضرورة وجود مؤسسات ترعى وتقدم التدريب للأجيال الشابة من الجنسين، وهو ما شرع فيه اتحاد المصارعة بتنظيمه دورة الفنون القتالية للبنين والبنات (ما بين 7 – 19 سنة) في سبيل تطوير رياضة المصارعة عبر توفير التدريب والمهارات اللازمة لها. 

وشهد يوليو من العام الماضي، إقامة الدورة الخامسة من مشروع مدرسة الفنون القتالية، المشروع الذي يستهدف طلاب وطالبات المدارس، حيث شارك 150 طالباً وطالبة من مدرستي الوحدة الوطنية أساس بنين وبنات (شرق النيل). وينفذ المشروع بواسطة الاتحاد الرياضي السوداني للمصارعة عن طريقة شراكة مع المركز الدولي للفنون القتالية (دولة كوريا الجنوبية) تحت رعاية منظمة اليونسكو.

انتشار المصارعة وتحولها من نشاط اجتماعي وطقوسي ارتبط بمواسم الحصاد والاحتفالات في إقليم جبال النوبة، إلى رياضة تنتشر في أرجاء السودان المختلفة، ويتابعها جمهور متنوع، يُقدّم ملمحاً عن التداخل الثقافي بين كقيمة تعتمد على انفتاح هذه الثقافات على بعضها البعض.

كيف يكافح الكتاب السودانيين الشباب لتجاوز عقبات النشر وتكاليفه الباهظة؟

أية السماني

أية السماني

“أول رواية لي نُشرت مجانًـا لأنها فازت بمسابقة تقيمها إحدى دور النشر العربية المعروفة. السبب الأساسي الذي دفعني لتقديم روايتي؛ هو أن الأعمال الفائزة تطبع وتنشر وتسوق ويُشارك بها في المعارض العربية على نفقة الدار”، يصف الكاتب مصطفى خالد 24 عاماً، أولى تجاربه في النشر.

“كانت تجربة جديدة ومدهشة، أن تجد عملك قد وصل إلى اليمن شرقًا والمغرب شمالاً وأنت في بيتك لم يكلفك الأمر سوى نقرة إرسالٍ بالبريد الإلكتروني”، يضيف خالد لـ(بيم ريبورتس). 

صعوبة النشر داخل البلاد، مثّلت الدافع الأساسي لخالد في تجريب نشر روايته (غول سليمة) خارج السودان، حيث تعكس تجربته في النشر، التحديات والصعوبات التي تواجه الكتاب السودانيين الشباب ومعاناتهم في نشر أعمالهم وإيصالها إلى القراء. 

لا تختلف تجربة الكاتب والروائي أيمن هاشم، في النشر، عن تجربة زميله مصطفى خالد كثيراً.

يقول هاشم لـ( بيم ريبورتس): “هناك مشكلة في التعامل مع التجارب الكتابية الحديثة، حيث لا يتم التعامل معها بجدية. مضيفاً “لدي تجربة مع عدد من دور النشر الخارجية، فقبل مشاركة مجموعتي القصصية في منحة آفاق، أرسلتها لعدد من دور النشر السودانية، ولم تلق الاهتمام الكافي منها.. كان الرد أنها لا تصلح للنشر، لكن عند مشاركتي بنفس المجموعة في منحة آفاق تحصلت على منحة لنشرها”.

حركة النشر تاريخياً

بدأت حركة دور النشر في البلاد في عشرينيات القرن الماضي، وكانت البداية بنشر عدد قليل من الأعمال الأدبية، واستمرت كحركة محدودة، إلى أن أزدهرت في حقبة السبعينات، حيث أسست الدار السودانية للكتب بالخرطوم، ودار نشر جامعة الخرطوم وغيرها من الدور الكبيرة. لكن السمة الرئيسية لصناعة الكتاب في السودان، غلب عليها الركود وعدم الاستقرار، بسبب تقلب أوضاع البلاد الاقتصادية والسياسية.

ومع مرور مائة عام على ابتدار حركة النشر والطباعة في البلاد، إلا أنها، ما تزال محدودة الحجم، حيث لا يتجاوز عدد دور النشر العشرات، وهي في الغالب دور تجارية واستثمارية خاصة.

تكاليف باهظة

العامل الاقتصادي للنشر يمثل العائق الأبرز أمام الكتاب عامةً والكتاب الشباب بشكل خاص.

تقول الكاتبة والقاصة رهام حبيب لـ(بيم ريبورتس ): “شاركني أحد أصدقائي تكلفة إصدار كتابه عبر دار نشر سودانية حديثة النشأة، وقد قاربت الألف دولار. أي أعلى من رواتب ثلاثة أشهر مجتمعة للسواد الأعظم من السودانيين، وربما تزيد عن الثلاثة أشهر للكتّاب”. 

وأثر الجانب الاقتصادي على النشر، أصبح عاملاً مضاعفاً، في ظل التدهور الذي تعيشه البلاد وطال أثره كل القطاعات، بما في ذلك مجال صناعة الكتاب والنشر، حيث يتمثل في ارتفاع الرسوم الجمركية على مستلزمات وخامات صناعة الكتب (مثل الورق والأحبار).

إعاقة المشاريع الأدبية

أزمة صناعة الكتاب والنشر عامةً في السودان ألقت بظلالها على أسعار الكتب، وبالتالي اضطر قراء كثر إلى العزوف عن شراء الكتب الورقية، واللجوء إلى خيارات قراءة بديلة.

يقول الكاتب والروائي حمور زيادة لـ (بيم ريبورتس ): “إذا لم يجد الكاتب جمهوراً فذلك قد يجهض مشروعه الأدبي كله. لماذا يتكلف عناء خلق عالم روائي إن لم يكن هناك من سيطلّع عليه؟، ربما يكتفي بكتابة مسودات أحياناً، أو الحكي الشفاهي، أو الكتابة على مواقع التواصل والمدونات. لكن لا أظن ذلك يرضي نزعة الفن داخل الكاتب. لذلك، فإن صعوبة النشر في السودان تعيق مشاريع أدبية كثيرة”. 

وجزء من أزمة صناعة الكتاب، ما بعد طباعة الكتاب، تتمثل في مرحلة التسويق للكتاب وتقديمه للجمهور، حيث يقف غياب التسويق والتعريف بالكتاب حاجزاً أمام وصوله إلى جمهور أوسع من القراء.

ومع ذلك، يظل التحدي الأكبر بالنسبة للكتاب الشباب، هو عملية النشر نفسها، يقول الكاتب وقاص الصادق لـ(بيم ريبورتس): “إنه لا توجد فرص للنشر المجاني، ومن الصعب على الشباب تحمل تكلفة النشر شخصياً. مضيفاً “وإذا وجدت فرص للنشر المجاني فهي بسيطة وغير ناجحة في مراحلها المتقدمة، حيث لا توجد استراتيجيات واضحة لتوزيع الكتاب وتسويقه وبيعه، وفي الغالب يتكفل الكاتب بهذه المسائل، مما يخل بجودة العملية ويدخل الكاتب في تفاصيل لا علاقة له بها”.

توزيع الكتاب

ضيق منافذ التوزيع وتركز وجود الناشرين بشكل كبير في العاصمة الخرطوم، بالإضافة إلى قلة منافذ التوزيع بالولايات، وعدم القدرة على توزيع الكتب خارج السودان والمشاركة في المعارض العالمية، يضع المزيد من العقبات أمام الكتاب في حال تمكنوا من نشر كتبهم بالأساس.

“إن عُسر عملية النشر في السودان معضلة قديمة وشائكة”، يعود الكاتب مصطفى خالد ويقول.

ويعزو خالد الأسباب، إلى قلة الدور الحكومية التي تموّل الطباعة وتسوّق للإبداع السوداني محليًا وإقليميًا، بجانب التكاليف الباهظة للدور التجارية، المنصرفات الضريبية والجمركية لحركة الكتب. ويرى خالد، أن معظم الكتب المنشورة محلياً والتي وجدت رواجاً لا يتجاوز صداها الخرطوم.

رقابة على الكتب

إلى جانب هذه الأزمات، يعاني الكُتاب عامةً، والكٌتاب الشباب بشكل خاص من الرقابة على أعمالهم.

وقبل الثورة، درجت أمانة حماية حق المؤلف والحقوق المجاورة والمصنفات الأدبية والفنية، على تشكيل لجان لتقييم الأعمال المقدمة للنشر لإجازتها، ما مثل شكلاً من أشكال تقييد حرية الكتابة والنشر أمام الكتاب، حيث قامت بحظر العديد من الكتب والروايات.

لكن بعد تشكيل الحكومة الانتقالية في عام 2019م، أعلن أمين عام أمانة حق المؤلف والحقوق المجاورة، حاتم الياس، فك حظر جميع تلك الأعمال.

وعادةً ما تستند لجان التقييم على معايير فضفاضة، في حكمها النهائي على النصوص المقدمة إليها وتتعلق في الغالب بتناول مواضيع الدين والسياسة، وكثيراً ما وصفت تلك الأعمال بأنها تخل بالقيم الدينية أو الآداب العامة، لتدفع هذه الأحكام القيمية على النصوص عدداً من الكتاب الشباب للتوجه إلى دور نشر خارج البلاد بحثاً عن نشر تجاربهم الكتابية، خارج الأطر التي تضعها المصنفات ودور النشر في السودان.

أيضاً، يواجه الكتاب السودانيون مشكلة قرصنة الكتب في ظل عدم فعالية القوانين التي تحمي حقوق النشر والتي غالباً ما تنتهك عن طريق طباعة الكتب بصورة غير قانونية الأمر الذي ينتهي بكساد الكتب. تدفع كل هذه العراقيل الكتاب إلى النشر خارج السودان، في محاولة لتجنب هذه العملية غير المأمونة.

بينما وجد مصطفى خالد وأيمن هاشم، الفرصة لنشر أعمالهم خارج البلاد، لا يزال عشرات الكتاب ربما يقرأون مسودات كتبهم لأنفسهم وأصدقائهم المقربين، دون أن يكونوا قادرين على نشرها بسبب التكاليف الباهظة للنشر والعقبات التي تضعها تلك الدور على الكٌتاب الشباب، حيث تسعى في معظم الأحيان، إلى نشر أعمال لكتاب معروفين، عوضاً عن الانفتاح على تجارب كتابية جديدة.

السينما السودانية .. كيف يسهم ماضيها العريق في استشراف آفاق جديدة بعد الثورة ؟

“نَعْتّز بهذا الوليد، ليس لأنه وصل إلى المستوى الذي نصبو إليه، ولكن لأنه اللبِنة الأولى في بناء نهضة سينمائية حقيقية في سوداننا الحبيب” بهذه الكلمات علّق المخرج السوداني إبراهيم ملاسي، خلال بداية تصوير أول فيلم روائي سوداني في العام 1962م، موضحاً محاولتهم الرائدة في هذا الضرب الجديد للفن السينمائي في السودان، ومستشرفاً أفقاً تجريبياً لصناعة السينما.

بدايات مبكرة

تمتلك السينما في السودان تاريخاً ضارباً في القدم، وهو يتفرع إلى قسمين؛ الأول يتعلق ببداية فعل المشاهدة ودُور العرض، والآخر يعود إلى بداية صناعة أفلام سودانية. وتعود جذور السينما في السودان إلى بدايات القرن العشرين؛ بعد سنوات قليلة من اختراع السينما. حيث شهد السودان أول عرض سينمائي في مدينة الأبيض (شمال كردفان) أثناء زيارة اللورد كتشنر للسودان في 1911م واحتفالاً بمناسبة وصول خطوط السكة حديد إلى المدينة، وكان فيلماً قصيراً وصامتاً.

وبعد عامين، حوالي عام 1913م، شهدت مدينة أمدرمان عروضاً لأول مرة، كان يجلس المشاهدون خلف مقهي “الخواجة لويزو” للفرجة على السينماتوغراف (مشاهد ومناظر وصور للتسلية) وهي تعرض على قطعة قماش. لتتسع تلك المساحات لاحقاً، قبل دخول العشرينيات، وتتيح للمشاهدين الأفلام عن طريق السينما الجواله في المدارس والساحات العامة، وفي نهاية العشرينيات أسست دارين لعروض السينما في الخرطوم؛  سينما الجيش (والتي عرفت بالنيل الأزرق لاحقاً) وسينما اسكيتنج رنج (والتي صارت كلوزيوم). أما تاريخ صناعة الأفلام في السودان فهو متأخر عن تاريخ المشاهدة.

أين تسهر هذا المساء؟

شهدت فترة السبعينات توالي تجارب الأفلام الروائية، وتمكنت من إحداث نقلة من نمط الفيلم الوثائقي السائد حينها منذ بداية الأربعينيات، وحظيت أفلام تلك الفترة بتقدير وإشادة عاليين، فيلم (تاجوج 1977م) من إخراج جاد الله جبارة، والذي حاز على جوائز في تسعة مهرجانات دولية وإقليمية، فيما حصل فيلم “الضريح” للمخرج الطيب مهدي على ذهبية مهرجان القاهرة للأفلام القصيرة 1972م، لتنتهي حقبة السبعينيات  بفيلم (ولكن الأرض تدور) للمخرج سليمان محمد إبراهيم، والذي حصل ذهبية مهرجان موسكو 1979م.

كما شهدت تلك الفترة نمواً في عدد دور العرض، حيث بلغت 60 داراً في عام 1970، وبنهاية السبعينات بلغت دور العرض 67 وكان عدد الأفلام التي عرضت في السودان 243 فيلماً حتى عام 1978م. وكانت إعلانات عروض الأفلام تحتل مساحات مقدرة من الصحف.

التسعينيات، نفق مظلم

كان استيلاء حكومة الإنقاذ على السلطة في انقلاب 1989م وما عُرف بـ(المشروع الحضاري) بمثابة نصلاً حاداً انغرس في جسد كل الفنون، وتضررت السينما تضرراً بالغاً، حيث تهدم كل أرثها الذي بدأ نموه منذ سنوات بعيدة. أغلقت كل دور السينما، وعرضت كعقارات للبيع، وما لم يبع صار ذكرى أليمة.  لم تسلم دور العرض ولا الإنتاج السينمائي الذي كان مهمشاً بصورة ممنهجة، ومراقباً من قبل الدولة. بل أن أرشيف السينما تعرض للتلف والفقدان نتيجة سوء التخزين والحرارة، علاوة على الأفلام السودانية التي كانت محفوظة ضمن أرشيف شركات أوروبية، أعادتها للسودان لعدم التزامه بدفع مستحقات إيجار حفظها.

طرق ومؤسسات بديلة

بالرغم من العتمة التي شهدتها السينما في السودان خلال العقود الماضية، والتضييق على كل أفق ممكن لها من قبل حكومة الإنقاذ إلا أن الفاعلين فيها لم يرفعوا الراية البيضاء، بل قاتلوا في سبيل اجتراح طرق ومؤسسات ومبادرات بديلة، على أمل المساهمة في نفض الغبار عن أجنحة السينما حتى تحلق من جديد،  وواحدة من هذه المؤسسات هي (سودان فيلم فاكتوري) والتي انطلقت في نسختها الأولى في العام 2010م وقدمت إضافات نوعية في مجال دعم السينما من تدريب وتعلم، حيث استضافت مدربين من دول مختلفة لإثراء الخبرة التراكمية عند الشباب في السودان. وفي إفادته لـ (بيم ريبورتس) يقول مؤسس ومدير سودان فيلم فاكتوري، طلال عفيفي، حول هذه التجربة: “أسست وأطلقت سودان فيلم فاكتوري أول مهرجان سينما في السودان، وهو فعالية سنوية مدتها أسبوع في يناير من كل عام، حيث تعرض عشرات الأفلام العالمية الجديدة في أماكن مختلفة، على خلفية من ورش العمل، وتقديم المشهد السينمائي برمته للجمهور السوداني من المهتمين والهواة والمحترفين”.

بالإضافة إلى كل ذلك فإن لسودان فيلم فاكتوري إسهامات مقدرة في مجال رفد السينما السودانية بعدد من الأفلام، التي شاركت في محافل عالمية من مهرجانات دولية وإقليمية حول العالم.

السينما بعد الثورة

مع بدايات ثورة ديسمبر 2018م كانت هناك ثورة أخرى تشهدها السينما في السودان، حيث وجهت أفلام (ستموت في العشرين)، و(الحديث عن الأشجار)، و(خرطوم أوفسايد) أنظار العالم إلى السينما السودانية والامكانيات الخصبة التي تنطوي عليها، وأيقظت السينما من سبات عميق. حصدت هذه الثلاثة أفلام جوائز مهرجانات عالمية عديدة. وكان الفيلم الوثائقي (الحديث عن الأشجار) للمخرج صهيب عبد الباري، يناقش الأحلام والآمال التي تشكّلت عند أبطال الفيلم، وعودتهم إلى السودان، بعد سنوات من الدراسة بالخارج، وحلمهم بتأسيس سينما سودانية، ليؤسسوا جماعة الفيلم السوداني في 1989م لكن هذا الحلم راح أدراج الرياح بسبب قرار الإنقاذ إغلاق جميع دور العرض في البلاد.

يتتبع هذا الفيلم الحياة الفنية لأربعة مخرجين من وسعيهم لإعادة إحياء دور العرض التي أغلقت منذ عقدين ونصف من الزمان، وهو لمحة فنية للمصاعب والتحديات التي تواجهها السينما السودانية ككل.

لكن مؤسس ومدير سودان فيلم فاكتوري، طلال عفيفي، يوضح في إفادته لـ (بيم ريبورتس) أن: “واقع ما بعد الثورة كان موسوماً بانعدام الرؤية والتخطيط تجاه الثقافة والآداب والفنون، كما أن هناك ظروف وعوامل مثل الإعتصام وفض الإعتصام و جائحة الكورونا والضعف الاقتصادي ساهمت في ألا تكون حركة الأشياء مثل المتوقع عند معظم الناس”.

ويرى عفيفي، أن واقع السينما السودانية اليوم: “يحتاج إلى الكثير حتى يكون مرضياً، لكن ثمة تفاؤل ما”.

تحديات مستمرة

كان عدد من السينمائيين يحلمون بضرورة وجود سياسات ثقافية جديدة، تولي هذا القطاع الاهتمام والدعم الذي يدفع مسيرة السينما التي توقفت لسنواتٍ طويلة، بعد أن كانت تتلمس خطواتها الأولى. فكل النجاح الذي يشهده قطاع السينما في السودان يأتي نتيجة جهود واجتهادات فردية، حيث يتجه الكثير من صناع الأفلام لتمويل أفلامهم من المنح وشركات الإنتاج الخارجية، في ظل صعوبات للنهوض بهذا القطاع داخلياً.

علاوة على كل ما سبق، فإن غياب قطاع السينما كتخصص في أغلب مؤسسات التعليم العالي يشكل عثرة في مسار تطور السينما كصناعة، وينعكس هذا الأمر في ضعف الحركة النقدية والتي هي أساساً لتطور أي فن من الفنون.

ويوضح عفيفي في إفادته لـ (بيم ريبورتس) أن السينما السودانية تحتاج إلى “إنشاء معاهد ومدارس سينما لأنها أمر حيوي، كما أن إصلاح التعليم وإدماج الفنون فيه منذ البداية بشكل فاعل أمور لا يمكن تجاوزها في التأسيس لصناعة السينما، علاوة على ضخ الأموال واقتطاع الممكن من الميزانيات لدعم التعليم وتمويل الإنتاج السينمائي والبنى التحتية، وإعادة كتابة القوانين بشكل صديق للإنتاج مسألة مهمة وتبني سياسات ثقافية تحتضن النمو نحو صناعات ثقافية”.

يبعث الازدهار الذي تشهده السينما السودانية، الأمل في نفوس روادها والمهتمين بها، ويؤكد الامكانيات الكبيرة للسينما، لكنه يظل نشاط من أجسام ومبادرات تعمل في ظروف اقتصادية وسياسية صعبة، يستحيل أن نقول معها أن لدى السودان “صناعة سينما”، بالمفهوم المتعارف عليه لصناعة السينما، لافتقاد هذا القطاع اهتمام الدولة.

لكن التاريخ العريق للسينما السودانية في عقودها السابقة، والظروف والتعقيدات التي صاحبتها، ينطوي على قدرة كبيرة لبعثها من جديد، في ظل المجهودات الكبيرة التي يطلع بها عدد كبير من المهتمين والفاعلين في سبيل خلق واقع جديد للسينما السودانية.