Category: اجتماعي

أطفال السودان… ظروف مميتة وحرمان من التعليم، كيف تتسع الهوة كلما دلفنا إلى الريف؟

تعطي حالة تسمم عشرات التلميذات والتلاميذ في أقصى إقليم النيل الأزرق جنوب شرقي البلاد مثالاً واضحاً ومتكرراَ للفوارق التنموية، كلما خرجت من العاصمة السودانية الخرطوم، ويممت وجهك إلى أي إقليم آخر ناءٍ، أو حتى قريب، مثل الجزيرة أو نهر النيل. 

مثال تسمم أكثر من 50 تلميذة وتلميذ في قرية سمسور بمحافظة باو (إقليم النيل الأزرق) في الثالث عشر من مارس الماضي، نتيجة تناولهم عقار طبي وصف لهم خطأً، ونقلهم على إثره إلى مستشفى الدمازين، يحدث مراراً وتكراراً حتى في أطراف العاصمة التي فر إليها الملايين من جحيم الحروب والفقر.

وحادثة سمسور التي كادت تودي بحياة عشرات الأطفال، ليست حادثة معزولة يتجلى فيها سوء الاهتمام بما يحدث داخل المؤسسات التعليمية بخاصة المدارس، وإنما تمتد القضية إلى بنية التعليم في مناطق وأرياف السودان المختلفة والتي ترتبط في الأساس بغياب الدولة عن الوفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها.

غياب الدولة المنهجي في أطراف البلاد كان قد تجسد بشكل واضح في حادثة وفاة 24 طفلاً في أغسطس من عام 2018 في منطقة المناصير بولاية نهر النيل شمالي السودان، بعدما غرقت المركب المتهالكة التي كانت تقلهم إلى المدرسة. حيث أنهم في العادة يقطعون المسافة سيراً على الأقدام، ولكن مع دخول فصل الخريف اضطروا لاستخدام القوارب نسبة للفيضانات التي غمرت المنطقة. وغرباً، نشهد بصورة تكاد تكون سنوية،  تعرض الطلاب في مراحل مختلفة وخاصة الشهادة السودانية في دارفور لحوادث سير تودي بحياتهم، وهم في طريقهم إلى مراكز الامتحانات بعواصم الإقليم، وتسببت آخر تلك الحوادث في وفاة 7 طلاب فيما تعرض 12 آخرين لجروح جراء انقلاب الحافلة التي كانت تقلهم.

أوضاع قاسية

أوضاع التعليم والأطفال خاصةً، تصل إلى ذروة الخطر، فبحسب تقرير لمنظمة (اليونيسيف) في سبتمبر 2022، فإن هناك ما يقدر بحوالي 6.9 مليون طفل وطفلة من هم خارج الحقل التعليمي في السودان، أي ما يعادل وجود طفل من ضمن كل ثلاثة أطفال في سن الدراسة لا يتلقون تعليماً مدرسياً. ويشير التقرير إلى أن دراسة 12 مليون طفل ستتعرض للانقطاع، نسبة للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يعيشها السودان، والتي ستتسبب في نقص المعلمين وتدهور البنية التحتية للتعليم.

فوارق تنموية… فوارق تعليمية

 

 تتمظهر هذه الفوارق الجوهرية والتأثيرات البنيوية بصورة أكبر وأعنف في أطراف وأرياف السودان التي تشهد نزاعات أو تهميش اقتصادي وفوارق تنموية. فضلاً عن إهمال الدولة، دمرت الحروبات المتواترة غالبية المؤسسات والمنشآت التعليمية، كما شردت الملايين من مناطقهم الأصلية إلى مخيمات نزوح ومدن جديدة لا توفر لهم أدنى مقومات الحياة اليومية، مما يضطر آلاف الأسر للانخراط  كلياً في السعي إلى توفير متطلبات الحياة اليومية من طعامٍ ومياه. 

وفي ظل هذه الظروف القاسية، سواء في أطراف الخرطوم أو أقاليم أخرى مثل شرق السودان، حيث تضطر عائلات كثيرة في المناطق النائية والفقيرة هناك، لإرسال أبنائها لجلب مياه الشرب بدلاً عن إرسالهم إلى المدارس، إذ تستغرق في العادة هذه الرحلة ما بين 4 إلى 10 ساعات يومياً، في حال استقلال الحمير والإبل. حيث في هذه الحال، في ظل سعي مستمر لتوفير أساسيات الحياة، يصبح تحقيق التعليم نوعاً من الاستحالة.

آثار مدمرة

لا يقتصر ما يحدثه غياب التعليم، في أرياف ومناطق السودان المهمشة بصورة خاصة، على حرمان الأطفال من حقهم الدستوري والإنساني وزيادة نسبة الأطفال غير المتعلمين فحسب، بل تمتد آثاره لتشمل تعرض الأطفال للاستغلال والانتهاك في أماكن العمل التي يضطرون للالتحاق بها، علاوة على تعزيز الفوارق التنموية بين المدينة والريف عبر الخلل في معادلة التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وإعادة خلق دائرة مفرغة من الحروب والفقر.

الحرب والفقر

وتدهور التعليم، خارج الخرطوم عامةً وفي أطراف السودان خاصةً، له صلة وثيقة بما تعيشه تلك المجتمعات تحت وطأة الحروب والفقر المدقع. وفق دراسة (اليونيسيف) يتمركز جل الأطفال المحرومين من التعليم في إقليم دارفور الذي يعاني من تبعات حرب أهلية وصراعات قبلية، الأمر الذي تسبب في نزوح الملايين واستيطانهم في مخيمات النزوح داخل السودان، واللجوء إلى دول أخرى. ومع فقد الكثير من الأسر لوسائل وأدوات كسب رزقهم، إضافة إلى أفراد أسرهم المعيلين، فإن الأطفال أنفسهم دخلوا ضمن سلسلة لا متناهية من العمل وامتهان مهن هامشية وشاقة، سعياً لتوفير لقمة العيش.

وفي المناطق التي لا تشهد حروباً أو نزاعات، لكنها مهمشة تنموياً، مثل شرق السودان، فإن غالبية سكانه يرزحون تحت طائلة الفقر المدقع، وسط انهيار كامل لقطاع الخدمات، مما يجعل السكان موزعين على مناطق نائية، لا توفر أدنى فرصة لتوفير مساحة للتفكير في التعليم كضرورة.

تعليم الرحل

في ظل سياسات حكومية غير مكترثة كثيراً تجاه التعليم العادل، فإن القضية تكاد تمس كل الشرائح المختلفة في السودان، ومن ضمنهم الرحل، الذين يمثلون شريحة كبيرة من السكان. فبحسب تعداد العام 2008، بلغت نسبتهم 1.7% من جملة السكان، ولهم دور اقتصادي كبير ضمن الناتج القومي في السودان، والذي بلغ في العام 2007 حوالي 15.4%. لكن برغم ذلك، فإن الرحل يعانون من صعوبات جمة في مسائل التعليم، نسبة لطبيعة أنشطتهم الحياتية القائمة على الترحال وعدم مقدرة الدولة في الإيفاء بالالتزام اتجاههم.

غياب الدولة

يتجسد غياب الدولة في تدني الموازنة السنوية المخصصة للتعليم وعدم استعداد في كل المجالات من تهيئة بيئة مدرسية وإعداد معلمين بل حتى ايجاد مدارس بديلة لتلك التي دمرتها الحروب في أقاليم: جنوب كردفان، النيل الأزرق ودارفور.

وفي خضم هذه المأساة، أصبح السودان يحمل أعلى نسبة للأطفال خارج التعليم في منطقة الشرق الأوسط، وهي ما تعادل ثلث نسبة العدد الإجمالي من الأطفال. كما أن التحدي الماثل لا يكمن فقط في إلحاق هؤلاء الأطفال بالتعليم، ولكن في توفير مساحات لمواصلة رحلتهم، حيث يتسرب معظم الأطفال من المدارس قبل إكمال المرحلة الابتدائية. ومع ذلك، نجد غياب دور الدولة وتقشفها في الصرف على التعليم، قد ازداد بعد انقسام السودان، ليتحول التعليم لمجال استثمار وسلعة غالية وغير متاحة لعامة السودانيين، الأمر الذي تضاعف برفع الدولة يدها بشكل شبه كامل عن التعليم، خاصة في الريف ومناطق النزاع والحروب والضعف التنموي، ليصير الحصول على التعليم  نشاط تحفه المخاطر القاتلة، في ظل بنية تحتية متهالكة وفقر بنيوي يحيط بالأطفال ويرسم مستقبلاً ضبابي لمصائرهم.

سياسات حكومية غير عادلة.. كيف أسهمت المبادرات الطبية في مساعدة السودانيين وسط انهيار المنظومة الصحية؟

منذ عدة سنوات، واختصاصي أمراض قلب الأطفال، باسط البشير، يحمل أدوات وأجهزة فحصه، متجولاً في أرجاء البلاد شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، في سعيٍ حثيث للتخفيف على آباء وأمهات صعوبة علاج أطفالهم، في ظل نظام صحي منهار، وخدماتٍ تزداد سوءاً كلما ابتعدت الجغرافيا من العاصمة. فينظم البشير عيادات الفحص المجانية، ويقدم الوصفات العلاجية، ويجري عملياتٍ جراحية، كل ذلك مع المراكز الصحية المحلية وشبكات التأمين الصحي.

وتأتي المبادرات المشتغلة على تيسير الخدمات الصحية، من أفراد وأجسام مجتمع مدني، في الأساس لتغطية عجز الدولة وعدم اهتمامها بالقطاعات الخدمية، وضعف صرفها عليها. هذه الوضعية الإشكالية، التي لطالما كانت مستمرة منذ الاستعمار البريطاني، حيث يتمركز تقديم الخدمات الصحية على المناطق الحضرية، ويستهدف في الأساس طبقة الموظفين. ومع ذلك، تقدم الفترات التي أعقبت استقلال البلاد مزيدا من الفهم للمتغيرات التي طرأت على القطاع الصحي.

تاريخ الخدمات الصحية

كانت فترة ما بعد الاستقلال امتداداً لهيكلة دولة وخدمة مدنية شكلها البريطانيون، ولم يكن القطاع الطبي استثناءً، حيث استمرت في تقديم الخدمات بنفس منوال التباين بين المناطق الحضرية والريفية. لكن هذه الوضعية تغيَرت في النصف الأول من حكم الرئيس المخلوع، جعفر نميري 1969-1985، حيث برز الاهتمام بتطوير الخدمات الصحية المقدمة في الريف، وانتشرت مرافق متنوعة، وانتظمت الزائرات الصحيات والقابلات الريفيات، ومشرفي البيئة وغيرهم في سبيل تقديم ما يعرف بالرعاية الطبية الأولية.

بداية التضعضع

لم تستمر الجهود المبذولة في تطوير القطاع الصحي طويلاً، إذ سرعان ما شهدت تراجعاً في النصف الأخير من السبعينيات، إثر تغيير سياسات الدولة، وتبني نميري سياسات يمينية، أدت إلى انسحاب الدولة من تمويل قطاع الخدمات الصحية، ومحاربة النقابات المدافعة عن العمال، الأمر الذي تسبب في نقص الكادر البشري، علاوة على تدهور المرافق الصحية، وبالتالي توفر الخدمات ونموها.

تجفيف المرافق الصحية

استمر تدهور الخدمات الصحية، ومع استيلاء نظام الإنقاذ على السلطة، فإنه عمد إلى اتخاذ إجراءات سياسية، بهدف السيطرة على المؤسسات الطبية المختلفة، الأمر الذي ظهر جلياً في تعيينات الموالين له، لكن برغم ذلك عمل نظام الإنقاذ على تطبيق خطته العشرية (1992-2002) والتي اعتمدت في الأساس على توصيات سمنار الإنقاذ الصحي في العام 1990، وأدخلت مفاهيم كان قد روج لها البنك الدولي لتطبيقها في الدول النامية، مثل مشاركة المواطن في تكلفة الخدمات وإدخال التأمين الصحي.

 لكن وسط سياسات حكومة الإنقاذ وعنفها الإيديولوجي، سرعان ما تمددت الحرب إلى إقليم دارفور في العام 2003 لتعيد الدولة زيادة مواردها المصروفة على القطاع الأمني، في حربها جنوباً وغرباً. لتشهد السنوات اللاحقة تدهوراً مريعاً في الخدمات الصحية، والذي وصل ذروته، إبان انقسام السودان إلى دولتين، في العام 2011، وتراجع موارد السودان الذي فقد دخله القومي من النفط، دون وجود بدائل أخرى تعتمد عليها الدولة. لتقوم برفع يدها من القطاع الصحي بشكل شبه كامل، بل عجلت بانهيار قطاع الخدمات عن طريق سياسات تجفيف المستشفيات والمرافق الصحية. 

تجفيف المستشفيات العامة

جفف مستشفى الخرطوم التعليمي والشعب والحوادث بمستشفى جعفر بن عوف للأطفال في الخرطوم، وتحول القطاع الصحي إلى سوق كبير بدخول قطاع المستشفيات الخاصة، التي تتطلب قدرات مالية هائلة من المواطنين في سبيل الحصول على الرعاية الصحية. كما تم تحرير أسعار الأدوية ضمن سياسات رفع الدعم في العام 2016، ليتحول نهار المرضى وذويهم إلى ليل ملئه الكوابيس، في ظل ظروف طاحنة تعبث بهم يومياً بشكل متوحش.

مبادرات مختلفة

في ظل ما كان يشهده السودان من تضعضع على جميع المستويات، إلا أن ذلك خلق حالة تضامنية على مستوياته القاعدية، بين الفاعلين والمبادرين أفراداً وجماعات، في سبيل التقليل على المواطنين من حدة ما يسببه تدهور قطاع الخدمات الصحية من مآس، فنجد أن مبادرة شارع الحوادث قد انطلقت في العام 2012 بحملاتٍ، كان هدفها في البداية هو التبرع بالدم من أجل الأطفال، لتتوسع بعدها إلى مبادرة لجمع دعم مادي من أجل مساعدة المرضى لعمل الفحوصات وشراء الأدوية وإجراء العمليات، ووجدت المبادرة استجابة كبيرة من القطاعات المختلفة في السودان، لتتحول لمبادرة تتواجد في كل ولاية من ولايات السودان. إلا أن مبادرة شارع الحوادث لم تظل حبيسة المساعدات فقط، حيث أنها افتتحت غرفة للعناية المركزة بمستشفى أمدرمان للأطفال 2015.

ما بعد الثورة

ساهمت الضائقة المعيشية بشكل كبير في اندلاع ثورة ديسمبر 2018، وكان السودانيون يستشرفون مستقبلاً مغايراً لحياة كريمة، من تعليمٍ وصحة. وعملت الأجسام المختلفة، في القطاع الصحي، من صيادلة وأطباء، على إبراز المشاكل التي يواجهها هذا القطاع الحيوي. لكن مع تعثر حكومة الفترة الانتقالية وتوجهها المستند على سياسات البنك الدولي وتحرير الخدمات، ولاحقاً مع المصاعب السياسية التي واجهتها، فإن الأوضاع لم تبرح مكانها.

 

وظهر تهالك النظام الصحي في السودان بشكل سافر خلال جائحة كورونا، حيث أن  الحكومة الانتقالية ورثت نظام منهار في الأساس، لم يكن يصرف سوى 6% من الموازنة العامة على القطاع الصحي، وداخلياً كان يعاني من صراعات في الاحتكار والسيطرة على المرافق الصحية واستيراد الأدوية.

لم تلق الأوضاع السيئة بظلالها على المواطنين فقط، بل إن العاملين في الحقل الطبي أنفسهم يعيشون أوضاعاً مأساوية، بسبب العمل في مستشفيات تفتقر إلى أدنى المقومات المطلوبة لتقديم الخدمات، علاوة على ضعف الرواتب وطول ساعات العمل. 

 

ونجد أنه على اختلاف الحكومات المتعاقبة في السودان، فإن التعامل الجاد مع الأجندة المتعلقة بالحقوق والرعاية الصحية للمواطنين والمواطنات لطالما كان غائباً  عن مخيال الساسة، وفي حالة حضوره كان يزج به في معارك من أجل التكسب السياسي. هذه الوضعية التي خلقت نظاماً صحياً متهالكاً، ولا يتوافق مع الزيادة السكانية والتوزيع الجغرافي في البلاد. 

وتجدر الإشارة إلى أن الصرف على القطاع الصحي هو الأكثر تدنياً في ميزانية الدولة السودانية منذ عقود، وفي وسط كل هذا الاضطراب والحيرة، برزت المبادرات الصحية والطبية، من أفراد ومجموعات مختلفة، منها ما يبذله الطبيب باسط البشير ومبادرات شارع الحوادث في الولايات المختلفة، وغيرها من عشرات المبادرات، في سبيل  سد الفجوة الكبيرة ما بين نظام متهالك، واحتياجات شعب يرزح تحت الفقر والعوز، ويواجه معاركاً يومية، من أجل الاستشفاء والحصول على أبسط أنواع الرعاية الصحية.

(107) أعوام على تأسيس دار الوثائق.. هل تنقذ (الرقمنة) ما تبقى من أرشيف السودان المهمل؟

في منعطف جانبي هادئ متفرع من شارع السيد عبد الرحمن بوسط العاصمة السودانية الخرطوم، لكنه ليس بعيداً عن صخب السلطة ممثلاً في (القيادة العامة للجيش) شرقاً، والقصر الرئاسي شمالاً، يقع مبنى دار الوثائق الذي يحتضن أرشيف وتاريخ البلاد الحديث بكل تقلباته منذ العام 1916

وتعد دار الوثائق السودانية من أقدم المؤسسات التي تعمل على حفظ الوثائق والأرشيف في المنطقة الأفريقية والعربية، فهي تحل في المرتبة الثانية بعد نظيرتها المصرية. 

مثّل “حفظ الأوراق المالية والمستندات التي تخص الحكومة الاستعمارية”، الهدف الرئيسي لإنشاء دار الوثائق من قبل البريطانيين. لكنها اليوم وبعد مرور 107 أعوام على تأسيسها، تغص بنحو 50 مليون وثيقة تتضمن نحو مائتي مجموعة وثائقية مع مجموعة أخرى من الخرائط والمخطوطات والكتب، بالإضافة إلى وثائق نادرة تغطي بيانات محلية وأخرى خارجية.

الأرشفة والسلطة

مع أن الاطلاع على الوثائق التاريخية والحفاظ عليها، حق من حقوق المواطنين، لاسيما الباحثين، إلا أن التوجهات السياسية الشمولية لعدد من الحكومات السودانية المتعاقبة ظلت متحكمة في ما هو متاح لتوثيقه والاطلاع عليه، حيث حدت سياساتها في نهاية المطاف من الوصول لأرشيف البلاد الضخم. والمثال الأكثر وضوحاً في هذا السياق، هو القرار الجمهوري الذي أصدره الرئيس المخلوع، عمر البشير، في العام 2007، بتعيين السياسي كبشور كوكو، وهو أحد الموالين لنظام الإنقاذ، أميناً عاماً لدار الوثائق، رغم أنه غير متخصص، والاستغناء عن أمينها المتخصص، علي صالح كرار، بنقله إلى جامعة النيلين.

كان القرار سياسياً بامتياز، واستند على موازنات داخل حزب المؤتمر الوطني المحلول، الذي سعى منذ استيلائه على السلطة في عام 1989، على السيطرة واختراق كل مؤسسات الدولة. الأمر الذي تكرر مرة أخرى، في يناير 2019، بتعيين ضياء الدين محمد عبد القادر، بديلاً لكبشور. حيث لم يكن لضياء أي خبرة في عمل الدار، بل انحصرت خبرته العملية في مشروع سد مروي وعدد من المؤسسات التابعة لنظام الإنقاذ. لتستمر دوامة التلاعب، بتاريخ السودان الموثق، بتعيين  ضباط من الجيش والشرطة في إدارة دار الوثائق القومية.

إهمال يقود إلى الفاجعة

لم تكن التعيينات السياسية هي التحدي الأوحد في تطور العمل في دار الوثائق وحسب، بل الإهمال الذي عرّض المحفوظات لأخطار الضياع والتلف. كما تعرضت الدار لعملية سرقة منظمة في مارس 2021، أسفرت عن فقدان جهازي حاسوب يحتويان على معلومات نادرة ومهمة تتعلق بملف (طوبوغرافيا السودان) وعلاقتها بالإنتاج الزراعي في السودان. بالإضافة إلى ملف محاكمات ثورة 1924 (اللواء الأبيض) بقيادة علي عبد اللطيف والأسر التي تعاملت مع الاستعمار، ومواقع المياه الجوفية خاصة في إقليمي كردفان ودارفور.

إضراب عن العمل

أدى تراكم الإهمال الحكومي في دار الوثائق وتردي بيئة العمل إلى إضراب منسوبيها من موظفين وعمال عن العمل في أكتوبر 2022، وكانت أبرز مطالب ذلك الإضراب الذي تجاوز الثلاثة أشهر، تحسين الأجور، حيث كانت تتراوح ما بين 10 – 70 ألف جنيه للشهر، علاوة على ظروف العمل السيئة والتي تمثل عائقاً أمام تطور العمل وأدائه في أحسن وجه.

محاولات مغايرة

مع تصاعد التقنية والأدوات والوسائل التي أتاحتها، فإن ما كانت تعول عليه السلطة، في كونها المصدر الوحيد للتوثيق، شهد هزات عنيفة، وذلك ببروز مؤسسات بتوجهات مغايرة، تعمل على خلق أرشيف لا تحده اشتراطات ورقابة السلطة، ويتبع وسائل تعتمد على رقمنة المواد من مختلف المجموعات العامة والخاصة.

ذاكرة السودان

ولدت فكرة مشروع “ذاكرة السودان” في العام 2013، لكنه تخلق في أرض الواقع وبدأ عمله في العام 2018، والذي تمثل في رقمنة الوثائق والمخطوطات القديمة والصور والأفلام والكتب النادرة والوثائق ومن ثم إتاحتها عبر الإنترنت، عبر بناء شراكات مختلفة مع مؤسسات وأفراد، ومن ضمنهم الجمعية السودانية لتوثيق المعرفة” (سوداك)، إلى جانب 500 مساهم بين باحث ومترجِم ومصوّر فوتوغرافي، وغيرهم من المتطوّعين أو الموظّفين السودانيين والأجانب.

درّب مشروع ذاكرة السودان أكثر من 20 موظفاً بدار الوثائق القوميّة بينهم متخصصين في تكنولوجيا المعلومات والمحفوظات، حيث قام ذلك الفريق بمسح أكثر من 30.000 وثيقة، وذلك بغرض إتاحتها للجمهور عبر الإنترنت.

يقوم مشروع (ذاكرة السودان) بدعم من المجلس الثقافي البريطاني بالسودان عبر صندوق حماية الثقافة، ويهدف المشروع إلى حفظ التراث الثقافي السوداني الثري وجعله متاحا للوصول عالميا. يقوم المشروع برقمنة العديد من المواد. سيتم اختيار المحتويات حسب تصنيف موضوعاتها مثال لذلك: الأزياء والملابس السودانية – الممارسات الثقافية السودانية – الفنون الأدائية – الموسيقى – اللغات – الأساطير والخرافات – الآثار القديمة – التاريخ الحديث والأحداث. 

كما يهدف مشروع “ذاكرة السودان” لحماية الموروث والممتلكات الثقافية السودانية المهددة بالتلف أو الضياع ويسعى من خلال ذلك لربط ودمج السودانيين أكثر بثقافتهم واطلاع العالم الخارجي على مدى ثراء وبداعة التراث الثقافي السوداني المتنوع. 

للتاريخ ارتباط وثيق بتشكيل الذاكرة الجمعية للشعوب، وكيف نقرأ الماضي في سبيل استشراف المستقبل، الأمر الذي يضع ضرورة كبرى للاهتمام بالأرشفة، والحفاظ على الدولة وتراثها التاريخي، وأرشيفها، وهو تاريخ مهم للأجيال القادمة. ومع التغيرات السياسية والاجتماعية التي يشهدها السودان خلال السنوات الخمس الأخيرة، واندلاع ثورة ديسمبر وما يرتبط بها من أحداث كثيرة، فإن دور التوثيق والأرشفة لهذه الأحداث هو مهمة جليلة يجب الإطلاع بها على أكمل وجه.

تتضافر مع المجتمع أحياناً.. كيف تترصد السلطة فضاءات الفنون بالرقابة والتعدي المستمر؟

يمثل (جالوص جاليري)، وهو أحد بيوت العرض الفنية بوسط العاصمة السودانية الخرطوم، مساحة مشرعة ومفتوحة لكل مهتم أو مهتمة بالفنون التشكيلية وما يرتبط بها من فعاليات ثقافية.

 ولم يكن الدخول إليه يتطلب جهداً، سوى بعض الخطوات، نسبة لبابه المفتوح على مصراعيه، للدرجة التي تنتفي فيها الحدود بينه  والشارع العام.

لكن هذا الوضع لم يكتب له الاستمرار، إذ تغيّر بالكامل بعد حادثة الاعتداء على المعرض، مساء 15 يناير الماضي، حينما اقتحمت (جالوص) مجموعة متذرعة بالأسلحة البيضاء، وتزيد عن الـ30 شخصاً ، واعتدت على الموجودين آنذاك، علاوة على تخريب الأعمال الفنية وسرقة معدات موسيقية تخص المؤسسة.

صَدمت الحادثة القائمين على أمر جالوص، والمهتمين بالشأن الثقافي، وأثرت على المساحة نفسها. لتقود هذه التطورات عنيفة الطابع، إلى  إعادة وضع اعتبارات تأمينية احترازية للمساحة التي كانت مشرعة الأبواب، تمثلت في إغلاق باب المؤسسة والتأكد من هوية الزائرين قبل السماح لهم بالدخول.

حوادث أقدم

برغم معاودة (جالوص) لمزاولة نشاطاته، والتي كان آخرها معرض الفنانة، آية بابكر،  “مسارات السراب”. إلا أن الحادثة أعادت للأذهان ما تتعرض له المساحات الفنية والفنانين والفاعلين الثقافيين من انتهاكات وتعدٍ من قبل السلطة العسكرية والاجتماعية، وتداخلها في أحيان كثيرة منذ لحظة الثورة في 2018. 

فهناك عدداً من الحوادث التي شهدتها الأعوام الثلاث السابقة، أبرزها ما تعرضت له مجموعة (فيد للفنون)، في أغسطس 2020، من اعتداء من قبل بعض سكان حي الزهور وبعدها استكمل الاعتداء أوجهه بتعرضهم للحكم بالسجن لمدة شهرين من قبل الشرطة.

الفنون والمجتمع

تجدر الإشارة إلى أن ما تتعرض إليه الفنون المختلفة من تعدٍ وهجمات ليس محصوراً على السلطة الرسمية (السياسية في الدولة) بل هو ممتد إلى مساحات اجتماعية أخرى. فخلال ثورة ديسمبر، وبالرغم من الاحتفاء بذكرى استشهاد الثوار ومحاولة تخليدهم، نجد أن فعالية النصب التذكاري للشهيد عبد العظيم أبو بكر، في المكان الذي ارتقت فيه روحه، بشارع الأربعين، أمدرمان، قوبلت برفض كبير من قبل بعض سكان حي العباسية.

لم تكن هذه الحادثة الوحيدة، ففي مدينة الأبيض، عاصمة ولاية شمال كردفان، تعرض النصب التذكاري الذي يرمز لشهداء مجزرة الأبيض، والمعبّر عنه بطفل يحمل حقيبة مدرسية ويُلوح بعلامة النصر، وأنجزه مجموعة من الفنانين التشكيليين، تعرض للتحطيم وجز رأسه من قبل مجهولين في سبتمبر 2021. ومع ذلك، أعاد الفنانون ترميمه مرة أخرى، إلا أن ذلك لم يكن كافياً لحماية التمثال، الذي كان منتصباً في ساحة الحرية،  من الاعتداءات و التعرض للتدمير مرة أخرى. 

بعد الانقلاب

بجانب تشكيله خطراً على كل النشاطات، والذي لم يسلم منه الحقل الفني كذلك، فإن انقلاب 25 أكتوبر 2021، شكل خطراً داهماً على الفنون ومساحات الحركة المختلفة؛ إذ تعرض فنانون للاعتقال، وتعرضت معارض فنية للاقتحام والمصادرة. 

فالانقلاب الذي بدأ منذ يومه الأول بالحد من فضاء الحركة والتواصل عبر قطع شبكة الإنترنت والإتصالات، استمّر بعد ذلك في نهجه القمعي، فيما يخص الفنون.

لتقتحم قوة عسكرية، فجر 14 فبراير 2022،  الاستديو الخاص بالفنان، مازن حامد، وتعتقله هو والمغني الرئيسي لفرقة أصوات المدينة، حينها، محمد حامد. الاعتقال الذي جاء كمحاولة لتقييد ما يقدمه مازن من أغنيات تدعو إلى الحرية، وتعري السلطة العسكرية الحاكمة. 

استمر التعدي على الفنانين بإلغاء جهاز المخابرات لحفل الفنان محمد عبد الجليل، والذي كان من المقرر إقامته في 25 يونيو 2022، دون إبداء أي أسباب لهذا القرار. 

إيغال في التعدي

في أبريل من نفس العام، 2022، أقدمت قوة من الاستخبارات العسكرية على اعتقال فنان الجداريات أحمد الصادق (ميدو) والذي كان يدير حينها مشروع “فن قيد التطور” وهو مشروع يهتم بتعليم الفنانين الهواة أساسيات الرسم. تعرض ميدو لانتهاكات في محبسه الذي مكث فيه 55 يوماً.

لم تقتصر القصة على هذا، فبعد خروج (ميدو) من محبسه، شرع في تنظيم معرض فني، في أكتوبر 2022، حمل عنوان (معرض ميدو 55 يوماً) والذي تناول فيه تجربته في الاعتقال، علاوة على مواصلته في التوثيق للأحداث الثورية. لكن هذا المعرض أيضاً لم يسلم من أعين السلطة، حيث اقتحمت قوة ملثمة بزي مدني وما يزيد عن 10 سيارات المعرض المقام بالمعمل المدني، الخرطوم واعتقلت (المنسق المالي بالمعمل المدني) علم الدين إسماعيل مصطفى، ومجموعة أخرى من الفنانين، وزائري المعرض، بل حتى أن اللوحات تعرضت للاعتقال.

لماذا الفنون؟

لطالما حاربت السلطات الشمولية الفنون عبر تاريخ السودان، هذه المحاربة التي وصلت أوجها في سنوات نظام الإنقاذ، وما يحمله من مشروع عمل على تضييق المساحات الفنية والثقافية المتاحة. 

 

وبرغم ذلك عمل السودانيين والسودانيات؛ من مثقفين وفنانين على اختراق مساحات جديدة، عبر وسائل المقاومة الثقافية، و تحايلوا على شروط الدولة وسياساتها، عبر مبادرات فردية وجماعية، من أجل خلق فضاء ثقافي. على سبيل المثال (جماعة عمل) والتي نظمت معرض (مفروش) في ساحة أتنيه العامة بوسط الخرطوم، وتحايلت على رقابة السلطة بقدر المستطاع، من أجل توفير الكتب، وغيرها من الجماعات والانشطة الأخرى.

 

ومع ثورة ديسمبر، فإن البركان الذي كان يتخلق بالداخل عبر سنوات طوال، وجد مساحته للانفجار، واحتلال مساحات جديدة، لم تكن مطروقة.

 

بدأ استخدام الفن في البداية كوظيفة للتواصل والإعلان عن المواكب، وفي ظل قبضة أمنية، انتشرت الجداريات والكتابة على الجدران، ومن هنا بدأت الفنون التشكيلية خاصة، تشهد تصاعدها، والذي بلغ ذورته في اعتصام القيادة. لذا نجد أن أول فعل قامت به القوات العسكرية بعد فض الاعتصام، هو مسح الجداريات من جدران وحوائط محيط القيادة العامة.

 

ما أحدثته ثورة ديسمبر، فيما يخص الفنون، هو الانتصار لها، وفتح آفاق ومساحات جديدة، لطالما كانت مغلقة خلال سنوات نظام الإنقاذ الطويلة.  والذي عمل على التضييق على الفنون والثقافية، وتحجيمها بما يتوافق مع مشروعه الأيديولوجي، الأمر الذي أثر على كيفية تعاطي المجتمع مع الفنون، وجعل السلطة الاجتماعية في أحيان كثيرة تتضافر مع السلطة السياسية في عملية التهجم والاعتداء على المساحات الفنية. والآن، في ظل عسكرة كاملة للدولة، بعد انقلاب 25 أكتوبر، مع ذلك فإن الفنون ظلت في حالة مقاومة دائمة خلقت بها ثورة داخل ثورة، في رحلة تصديها لممارسات السلطة التي تعمل على وأدها.

هوية مفقودة.. كيف تتداعى مدينة الخرطوم تحت وطأة فشل سياسات التخطيط الحضري للحكومات المتعاقبة؟ 

أية السماني

أية السماني

“لا قرية تبدو بداوتها ولا بندر”، ينطبق إلى حد كبير قول الشاعر توفيق جبريل، على هوية وطابع العاصمة السودانية الخرطوم. وهي المدينة التي ظلت تعاني من غياب التخطيط الحضري الفعّال على مدى سنوات الحكم الوطني.

إذ ما تزال آثار سوء الإدارة للحكومات الوطنية المتعاقبة، شاخصة للعيان فيها حتى اليوم. بناء على تداعيات ونتائج السياسات الفاشلة لكل حكومة على حدة، مروراً بنقاط التحول الفكرية والتاريخية، تكون الشكل الحضري لمدينة الخرطوم، آخذاً في الاعتبار جميع المظاهر الحضرية من نشاطات سياسية وروابط اجتماعية ومظاهر العمران والخدمات.

ومع أن أنظمة سياسية مختلفة بأيدلوجيات وسياسات متباينة عن بعضها البعض، تولت مقاليد الحكم في السودان، إلا أن الغالبية العظمى منها اشتركت في فشل سياسات التخطيط، وكان لابد أن يترتب على ذلك نتائج وخيمة تقاسيها المدينة، والسودان عامةً حتى هذا اليوم. 

الحكم التركي

بعد مرور بضعة سنين على إخضاع معظم مناطق السودان تحت سيطرة الاستعمار التركي- المصري (1821-1885م)، بدأت مدينة الخرطوم في السير نحو شكل حضري حديث تمظهر في عمرانها المتسارع، حيث اتسعت بشكل متسارع ونمط محدد. فتم تشييد جامع خورشيد الذي يعرف اليوم بجامع أرباب العقائد. وشيد خورشيد بك ثكنات الجهادية، كل ذلك أصبح دافعاً لأهالي المدينة لتشييد المنازل، حيث قدمت المساعدات بتوفير معدات البناء. تلون الطابع الطاغي على المدينة آنذاك بالطوب الأحمر الذي كان يصنع بمنطقة سوبا وينقل إلى الخرطوم.

كما تمت إضافة منشآت جديدة، وبني قصر الحكمدار ومبنى مديرية الخرطوم القديمة والمطبعة ومحكمة العموم و الأجزخانة. يصف المؤرخ محمد إبراهيم أبو سليم في كتابه “تاريخ الخرطوم”، الخرطوم في ذلك الوقت قائلا: “جمعت مدينة الخرطوم بين جمال الموقع الطبيعي ومحاسن النظام المدني والرونق الحضري”.

المهدية

لم يحفل الحكم التركي – المصري كثيراً بمدينة بأمدرمان، فظلت خالية إلا من بعض سكانها القدامى حتى اندلاع الثورة المهدية. بعد تحرير الأنصار مدينة الخرطوم، أمر المهدي سكانها بإخلائها والانتقال لحي أمدرمان الصغير وقتها، بعد وفاته توسعت أمدرمان في عهد خليفته عبد الله التعايشي، حيث حلت منازل الطين والطوب الأحمر محل المنازل المبنية بالقش، وشيدت مباني عدة مثل بيت المال والسجن وبيت الأمانة، نهاية بقبة المهدي والسور حول المدينة.

الحكم الثنائي

كانت مدينة الخرطوم منذ بداية الاستعمار الثنائي الانجليزي – المصري (1898-1955) محط اهتمام  بالنسبة للإداريين المستعمرين، وكانت خياراً مثاليا يدعم التوجه الاقتصادي لذلك النظام.

إذ شهدت نموا سريعا ومكثفا وخططت لتصبح مدينة ذات طابع أوروبي يقيم فيها ضباط المستعمرين والطبقات العليا من القوميات الأخرى، لتصبح الخرطوم مدينة سياسية وتجارية وإدارية في ذات الوقت. وفي العام 1909 وصلت السكة الحديد إليها مما أتاح فرص عمل في مدينة جديدة وهي الخرطوم بحري، حيث أصبحت معقل المخازن الحكومية والورش والمنطقة الصناعية. 

فيما ظلت أمدرمان تتميز بطابع محلي واحتفظت بخصائصها التي سبقت الاستعمار. ليجاري الاستعمار مأربه، كان لزاما أن يضع خططا جادة نحو التنمية بتطوير تشريعات وخطط للزراعة والصناعة والتعليم والاتصالات، وكان لكل ذلك عاقبة مهددة للتنمية وهي الاهتمام بمناطق جغرافية بعينها دون الأخرى، ما انعكس سلبا على استقرار السودان وكان عاملا في مشكلة جنوب السودان فيما بعد.

القومية السودانية

على مدى سنوات تبلور الشعور القومي، وتطورت القومية السودانية ملقية بآثارها على طابع المدينة الحضري، حيث أقيمت الصوالين الأدبية والفعاليات الاجتماعية وقد تأثرت الى حد ما بطابع انجليزي بحكم الأمر الواقع. وبعد استقلال السودان تولى السودانيون حكم بلادهم. 

ويمكن القول إن السياسيين السودانيين كانوا أكثر تقديرا للمؤسسات البرلمانية والإدارية، وبالرغم من ضعف التجربة البرلمانية في ذلك الوقت بسبب حداثة التجربة السياسية، إلا أن البرلمان كان يمثل رمزا للتحرر والنضج السياسي.

لاحقاً، تجلت تداعيات وضع خطط للتوسع في التعليم والاقتصاد وقطاع المواصلات. ولتحقيق ذلك، احتاجت حكومة السودان إلى مساعدات خارجية اقتصادية وتقنية، وكانت تلك أولى بوادر العلاقات السودانية الأمريكية، حيث بدأت المحادثات بين البلدين وصادق البرلمان على اتفاقية تقدم بموجبها الولايات المتحدة التسهيلات والمساعدات لحكومة السودان فيما يلي قطاع المواصلات.

 وبينما كان السودان يقاسي عدة أزمات، صدر أول قانون في مجال التخطيط العمراني في عام 1957م ليصب في ترقية وضبط وتخطيط المدن والقرى. حدد القانون مسؤوليات التخطيط على المستويين المركزي والإقليمي، وأصبح بموجب ذلك القانون وزير الحكومة المحلية مسؤولاً عن تخطيط القرى والمدن ويملك السلطة لإقامة لجنة استشارية فنية للتخطيط.

لاحقاً، عدل القانون بحيث اشتمل على موجهات ثابتة إدارية وفنية بشأن مشاريع التخطيط العمراني. احتفظت الخرطوم في ذلك الوقت بشئ من كل حقبة، وتوسعت بشكل كاف، لتشمل كل ذلك التنوع في وعاء واحد يسوقها بخطى بطيئة نحو فقدان هويتها الأصلية.

الخرطوم الشمولية

بدأت مدينة الخرطوم، تستأنف تطور شكلها الحضري، مع كل سلطة جديدة في السودان، وكان العامل المشترك بين كل ذلك هو إهمال استدامة مشاريع وسياسات التخطيط الحضرية، علاوة على حصرها بمناطق دون أخرى في جميع أنحاء البلاد.

في فترة حكم الرئيس المخلوع، إبراهيم عبود، ظهرت بوادر للعناية بقطاع التخطيط وكانت تمثل أملا جديدا للمدينة، حيث صدر قانون تخطيط المدن والقرى لعام 1961م، وكانت سمته الرئيسية أنه منح الحكومة سلطة انتزاع الأراضي للمصلحة العامة، وتكونت لجان مستديمة وفنية متخصصة بالمجالات ذات الصلة بالتخطيط. وفي عام 1962م، وضعت “الخطة العشرية للتنمية الشاملة”؛ وهي أحد أنواع التخطيط الشامل وتعنى بخدمة جميع القطاعات، وجاء تصميمها على خلفية أن السودان يمتلك عائد محلي ضعيف ومستويات منخفضة من الإدخار والتنمية، لا سيما وأن السودان في ذلك الوقت اعتمد بشكل كامل على محصول القطن وحده. 

وقد وضعت شروط وأهداف لتلك الخطة، كان أبرزها التصديق على الخريطة الموجهة والقوانين المتعلقة بها لضمان استعمالات الأرض، وعمل خرائط مفصلة على المستوى المحلي لمدة خمس سنوات وبدء برنامج خاص في المدى الوسيط لتنفيذ الخطة. 

بطبيعة الحال، واجهت خطط نظام عبود عدة مشاكل وحوت بداخلها آفات أدت إلى فشل محتوم. 

ومع ذلك، لم يمر وقت طويل حتى استولى، الرئيس المخلوع، جعفر نميري، على مقاليد الحكم في البلاد، وقد كانت له محاولات أخرى بهذا الصدد، حيث بدأ خطة جديدة للتنمية حددت بسقف زمني يقدر ب 6 سنوات. بينها خطة موجهة للعاصمة الخرطوم وشمل البرنامج العمل على التخطيط الحضري وتجميل العاصمة القومية.

واقترحت الخطة توفير السكن لـ5.1 مليون شخص وتوفير مساحات شاسعة بنقل مطار الخرطوم والثكنات العسكرية، لكن الخطة لم تسر كما ينبغي وتعثر العمل بها لاحقاً، ووصلت أزمة السكن ذروتها حيث انتشر (السكن الاضطراري)، كما تدهورت الخدمات بشكل ملحوظ في فترة وجيزة.

سقط نظام نميري، وجاءت الحقبة الديمقراطية الثالثة، والتي سرعان ما أطاح بها انقلاب 30 يونيو 1989م، والذي تمددت في عهده مدينة الخرطوم دون أي تخطيط حضري واضح المعالم. 

وفي محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، أجاز المجلس التشريعي ومجلس الوزراء في عهد النظام المخلوع، في عام 2009 المخطط الهيكلي الاستراتيجي لولاية الخرطوم والذي تم إعداده بواسطة شركة مفيت الايطالية. تعتبر هذه الخطة هي الخامسة لولاية الخرطوم بعد خطة ماكلين 1912، دوكسيادس 1959، مفيت 1975 ودوكسيادس وعبدالمنعم مصطفى 1991. رغم أن هذه الخطط نفذت بنسبة ضعيفة، باستثناء خطة ماكلين التي نفذت بنسبة 100%. 

واقترحت الخطة نقل الوزارات والمباني الحكومية من مركز الخرطوم، وتحويل مواقعها لمناطق سياحية وترفيهية. وفيما يخص مسألة الإسكان لم يشمل المخطط على مقترحات واضحة حول الإسكان قليل التكلفة والذي يعتبر الهم الأساسي للغالبية العظمى نسبة لتدني مستويات دخل الفرد بالسودان. كما لم يتطرق المخطط لقضية السكن غير الرسمي بالرغم من أن التقرير المقدم للمخطط أشار لفئة النازحين والنساء والأطفال على أنهم مجموعات مستهدفة.

بعد سقوط النظام المخلوع في عام 2019م، و تشكيل الحكومة الانتقالية في السودان التقى والي الخرطوم بمسؤولي وزارة التخطيط العمراني، وطالب بتقرير مفصل يتضمن إنجازات الخطة والمعوقات التي واجهتها، والذي يعتبر اعتمادا ضمنيا للمخطط الذي لاقى جدلا واسعا حول مدى فعاليته لعملية التحول الحضري في المدينة.

تمظهر عجز الأنظمة السابقة في تطوير سياسات تخطيط تصب في مصلحة النهوض بالمدينة وبيئتها الحضرية. وتشير تجارب تلك الحكومات إلى الفشل الذريع في الوصول لصيغة تلبي احتياجات التنوع الحضري بين مدن السودان، وكان لكل ذلك الأثر البالغ في خلق تشوهات بالتخطيط الحضري لمدينة الخرطوم.

معضلات حضرية

ترتب على فشل سياسات التخطيط نتائج أدت إلى التدني في مستوى التنمية والتباطؤ في تغيير الشكل الحضري، ما يعني جميع مظاهر الدولة الحضرية من نشاطاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، علاوة على تطور العمران و قطاع الخدمات كافة. 

تواجه الخرطوم مشكلة الإسكان منذ عقود، إلا أن المشكلة تزداد عمقا عام تلو الآخر. وتقف الآن مدينة الخرطوم في مواجهة معدلات مستمرة الارتفاع في زيادة السكن، إثر النزوح من الأرياف لأسباب مختلفة كانعدام الأمن والتأخر التنموي الكبير مقارنة بمدينة الخرطوم، وهو نتيجة متوقعة لتجاهل الحكومات المتعاقبة قضايا السلام والتنمية والعدالة الاجتماعية.

كما يواجه التخطيط والشكل الحضري مسألة الفقر التي لطالما لازمت السودان، ونتج عنها ظاهرة “السكن الاضطراري”، وهي ظاهرة تفرض نفسها لتلبي متطلبات الفقر في السودان. كما أنها نتيجة مباشرة لفشل خطط الإسكان على مدى السنوات السابقة. بالإضافة للارتفاع الجنوني في أسعار العقارات والأراضي ومواد البناء مقارنة بمستوى الدخل المعيشي في السودان.

كل تلك المشاكل، كانت عاملا رئيسيا في خلق تلك التشوهات، لم تأت تلك العوامل دفعة واحدة، بل تدرجت بين الحقب المختلفة و زاد من حدتها الانهيارات الاقتصادية والسياسية التي يعاني منها السودان بفعل الحكومات المتعاقبة التي تجاهلت الأمر أو كانت سببا في تعميق الأزمة.

كيف يحرم الإهمال الحكومي الطلاب (الصم) من مواصلة تعليمهم وتحقيق طموحاتهم؟

"أريد التعبير عما تعنيه لي المساهمة في لفت الانتباه للصم وأصحاب الإعاقات المبدعين، الذين لا تُسمع أصواتهم عادةَ، ولا تلقى مواهبهم ما تستحقه من الاهتمام".

هكذا عبّرت التشكيلية والحرفية السودانية، أميمة مضوي، عن فخرها بنيل وسام (الإمبراطورية البريطانية) لجهودها في رعاية الأطفال الصم وذوي الإعاقة المبدعين في المملكة المتحدة.

 

وكانت مضوي قد منحت، في فبراير الماضي، رتبة (الإمبراطورية البريطانية)، ضمن قائمة المكرّمين لخدمتهم المجتمع المستحقة للتقدير، وذلك بعد حوالي 50 عاماً على هجرتها إلى المملكة المتحدة في عام 1979م. واليوم، تعد أميمة التي حصلت على درجة البكالوريوس في تصميم الأنسجة، من رائدات الأعمال في المملكة المتحدة، كما تنشط في رعاية المبدعين من الصم والبكم.

 

وصلت أميمة، التي أصيبت بالصمم في الرابعة من عمرها، إلى المملكة المتحدة وهي بعمر الثانية عشرة، بحثاً عن رعاية لا يوفرها بلدها الأم، وربما لو أنها لم تغادر البلاد لكان سقف أحلامها لا يتجاوز أحلام طلاب معهد الضياء والأمل للصم والبكم في عطبرة، بإعادتهم إلى المدرسة التي طردوا منها. 

 

حيث يجابه الصم والبكم، وغيرهم من ذوي الإعاقة في السودان، وضعاً يسلب حقوقهم الأساسية. ومع قلة الفرص الضئيلة المتاحة لهم، وقلة الاهتمام الذي يجدونه، كانت كل هذه العقبات لتحول دون بلوغ أميمة إلى ما وصلت إليه الآن، من نجاح مهني كبير ونيلها وسام ملكي مرموق. 

 

فبينما كان الملك البريطاني (تشارلز الثالث) يعلق وساماً رفيعاً على كتف أميمة، كان طلاب معهد الضياء والأمل للصُم والبكم في مدينة عطبرة بولاية نهر النيل يعيشون حالة إحباط وحزن عميقين، بعدما اقتلعت منهم مدرستهم، لتستخدم كمدرسة متوسطة، وهو القرار الذي قذف بمستقبل عشرات الطلاب إلى المجهول.

تأسيس المدرسة

يقول رئيس اتحاد الصم بولاية نهر النيل، هشام ميرغني، لـ(بيم ريبورتس)، إن مدرسة الصم والبكم بعطبرة تأسست في العام 2015م، مشيراً إلى أنها آنذاك كانت مستضافة في كلية تنمية المجتمع بجامعة وادي النيل. 

ويضيف: “في نهاية العام نفسه، انتقلت المدرسة إلى مبنى كان يخص مدرسة متوسطة، جففت منذ إلغاء النظام المخلوع للمرحلة المتوسطة في سبتمبر 1990م. وظل الطلاب منذ ذلك الوقت هناك، يفصلهم حائط عن القاعة والمكتب الذي يخص اتحاد المكفوفين”.

وأوضح ميرغني، أن القائمين على أمر المعهد، ظلوا يعملون على لفت انتباه الجهات المختصة إلى ضرورة معالجة حالة المبنى المزرية، وغير الملائمة، التي لا تفي الحد الأدنى من متطلبات التي تسمح للطلاب بتلقي تعليمهم، وهو الأمر الذي يساهم في تسرب نسب كبيرة من الطلاب.

 إلا أنه وبالرغم من  الآمال الكبيرة التي بثها المسؤولون عبر وعود متكررة خلال زيارة الولاية على مر السنوات، والحديث لميرغني، لم يتم اتخاذ أي خطوات في صيانة أوضاع الطلاب الصم والبكم حتى نهاية العام 2022م. وأضاف قائلاً: “شرع صندوق تنمية ولاية نهر النيل في صيانة المبنى في نهاية العام 2022م، واستمرت الصيانة حتى يناير 2023”.

في المقابل، يقول أمين الشباب باتحاد الصم بعطبرة، والي الدين علي، في مقطع فيديو منشور على وسائل التواصل الاجتماعي وهو محاط بالطلاب الذين بدا عليهم الحزن: “إننا مستاؤون جداً، التلاميذ ليس لهم مكان”. 

ويضيف: “كنا نوجد هنا قبل بدء صيانة المبنى، والآن انتهت الصيانة لكن الأبواب مغلقة، وعندما ذهبنا للمسؤولين أخبرونا بالبقاء في مبنى المكفوفين الذي لن يسع لنا ولهم” .

وحول الأحداث اللاحقة، يعود رئيس اتحاد الصم بعطبرة، ويقول إن القائمين على المدرسة، وأولياء الأمور لجأوا إلى إدارة التعليم الخاص بالولاية، التي أخبرتهم بأن ينتقلوا إلى مقر اتحاد المكفوفين، على أن ينتقل المكفوفون (المعاقون بصرياً) إلى أرض أخرى تعود إليهم، وهو الخيار الذي استنكره، موضحاً بأن الأرض التي يقصدها مدير التعليم خالية وغير مشيدة.

وأضاف: “نناشد نحن، وأولياء أمور هؤلاء الطلاب، وزير التعليم، وجميع المسؤولين، بألا تتجاهلوا حق هؤلاء الطلاب في التعليم، وفي توفير بيئة مدرسية جيدة مخصصة لهم، و تراعي احتياجاتهم”.  

جهود شعبية وإهمال حكومي مستمر

شهد العام 1970م، تتويج مجهودات أخصائي الأنف والأذن والحنجرة، طه أحمد طلعت، في إنشاء الجمعية القومية لرعاية الصم، بمجهودات ودعم أهلي، من أجل العمل على اكتشاف وتأهيل الصم وضعاف السمع، وتدريب معلمين وإنشاء معاهد لتعليم الصم. 

وبالرغم من أن مجهودات الجمعية، وعدد من أجسام المجتمع مدني الأخرى التي أولت القضية اهتماماً، إلا أن ضعف الدعم الحكومي ومؤسسات التعليم والرعاية الاجتماعية بالدولة ظل عائقاً أمام منح الصم والبكم في البلاد نصيبهم العادل في التعليم والتأهيل الذي يمكنهم من الحصول على مصادر دخل. وهو الأمر الذي أشارت إليه الباحثة الإجتماعية بمعاهد تعليم الصم، وئام فضل، في فبراير 2022م، في ورقتها البحثية تحت عنوان (إشكالية التسول عند مجموعة من الصم)، حيث وضحت فضل، أن الواقع الذي يعيشه الصم، من ضعف الاهتمام بتعليمهم، وقلة المعاهد والمدارس التي تستوعبهم، وضعف فرص المشروعات الإنتاجية المقدمة من الدولة للصم والتمييز السلبي فيها،  تتسبب في صعوبات بالنسبة لهم في القدرة على الحصول على فرص العمل. وأشارت أيضاً للعوائق الحكومية، وتقييد قبول الصم بكليات ومجالات معينة.

وأزمة الطلاب الصم والبكم بعطبرة الماثلة حالياً، لا تنفصل عن عقود طويلة من تجاهل وإهمال الأنظمة المتعاقبة على حكم السودان لحقوق ذوي الإعاقة. وحتى بعد مرور نحو 7 عقود على الاستقلال، لم تضع الدولة أية سياسات وطنية لحفظ حقوقهم، خاصةً في التعليم، الأمر الذي يضيف أعداداً كبيرة من الأطفال إلى إحصائيات الأمية والتجنيد والعنف، في بلد تشير تقارير منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفل، أن واحد من كل ثلاثة أطفال فيها لا يذهبون للمدرسة.

بعيداً عن الزمن الكوشي.. (تهارقا العظيم) يصحو لوهلة وسط ضجيج أحفاده

في أمسية السبت الرابع عشر من يناير الماضي، يصحو الملك الكوشي العظيم تهارقا، لوهلة من الزمن، بعد أكثر من 2700 عام على ميلاده، ليجد أحفاده المفترضين غارقين في وحل اللادولة. سرعان ما عاد إلى نومته الأبدية، تاركاً إياهم في غمرة يأسهم، يحركونه ذات اليمين وذات الشمال.

ومع ذلك، حاول أحفاده المنهكين، القول إنهم ما يزالون يذكرونه. فوسط أجواء من الزغاريد والصافرات، وحضورٍ إعلامي كثيف، تم تحريك تمثال الملك الكوشي تهارقا إلى مكانه الجديد داخل المتحف القومي على مقربة من مقرن النيلين، بالعاصمة السودانية الخرطوم. 

“تهارقا يتحرك”، هكذا أعلنت منظمة الثقافة والتربية والعلوم التابعة للأمم المتحدة (اليونسكو) عن عملية نقل التمثال للمرة الرابعة خلال ما يقارب الثلاثة آلاف سنة. وبحسب إفادة كبيرة أمناء متحف السودان القومي، إخلاص إلياس، لـ(بيم ريبورتس)، فإن التمثال تحرك لأول مرة من المعبد إلى متحف مروي، ومن ثم نُقِل إلى المتحف القومي في المرة الأولى، من مستقره في ستينيات القرن الماضي، ضمن عملية إنقاذ آثار النوبة إثر تشغيل بحيرة السد العالي.

تهارقا الذي تميز عصره بالعمارة والبناء، جرى تحريكه في مدينة لا تمتلك أي هوية معمارية، والبحث عن الجمال فيها مهمة شاقة تكاد تلامس المستحيل.

أيضاً، بالنسبة لنظام الحكم الذي ظل يتغير على مدار التاريخ، ليخاطب حاجات الشعوب المتغيرة، تجدر الإشارة إلى أن جمهورية أحفاده التي أنشأوها حديثاً ما تزال تبحث عن إرساء نظام حكم يقيها شرور التفكك والانحلال، انحلال الدولة.

أما بالنسبة للعسكر، فهم على عكس نظم جيشه الذي كان يقاتل خارج الحدود، يهجمون على الشعب في وضح النهار، تاركين قطعاً واسعة من الأرض تُقتطع بأيدي الجيوش الأجنبية، يوماً بعد يوم. 

تهارقا

في العام ٧٢٢ قبل الميلاد، ولد تهارقا (ابن الملك بعانخي) والذي سيصير خامس ملوك مملكة كوش، حيث امتدت فترة حكمه ما بين أعوام 690 – 664 ق.م. عُرف تهارقا كواحد من ضمن أعظم المقاتلين في التاريخ، كما أنه كان قائداً جسوراً، امتلك جيشاً مكنه من التوغل شمالاً ليصير حاكماً لمصر، ما جعله يعرف بملك الأرضيين، حيث كان ابن الأسرة الـ 25 التي حكمت مِصر.

يتصف عصر تهارقا بالاهتمام الكبير تجاه العمارة وتشييد المعابد، فشهدت فترة حكمه بناء الكثير من الآثار التاريخية، التي ضمنت له خلود اسمه كأشهر ملك من ملوك السودان القديم (مملكة نبتا) التي امتدت من القرن الثامن إلى القرن الرابع قبل الميلاد.

عملية النقل

كانت عملية النقل صعبة للغاية، وذلك بسبب ضيق مساحة الصالة” هكذا عبّر سائق عربة (الكرين) ، الفاتح إسماعيل، عن دوره في مهمة نقل التمثال. وأضاف إسماعيل، أنه برغم مشقة العملية، إلا أنه سعيد وفخور بكونه من ضمن من شاركوا في هذه المهمة التاريخية. وكان الملك قد حُرك عن طريق استخدام روافع، وأجريت عملية النقل تحت إشراف فريق عمل إيطالي متخصص.

وحظيت الفعالية باهتمام إعلامي عالمي ومحلي، لما يمثله الملك تهارقا للحضارة الإنسانية القديمة، وبفعاليات رسمية من سلاح الموسيقى السوداني الذي ألقى التحية على الملك لحظة جلوسه على عرشه الجديد، الذي تحفه عدد من التماثيل.

فقدان الآثار

وسط غياب الدولة ومسؤوليتها في حماية الآثار، بل ومشاركتها في جريمة تدمير الآثار عبر سياساتها وقوانينها فيما يخص منح تراخيص وأذونات تنقيب عن الذهب في الأماكن الأثرية، دون إجراء أي عمليات مسح أثري. 

كانت نتيجة ذلك هو أنه في ظل تنامي التنقيب عن الذهب والآثار، فإن عدداً من المواقع الأثرية في شمال السودان (ولايتي نهر النيل والشمالية) قد تعرضت للتخريب. فما بين 2000م إلى 2008م تعرض جبل البركل (موقع أثري في مدينة كريمة) لعدد من عمليات السرقة، الأمر الذي أدى إلى فقدان 50 تمثالاً، لتعاود ثلاثة من هذه التماثيل الظهور خلال مزاد علني بعاصمة إسبانيا، مدريد، في أكتوبر 2020م، وهي تماثيل تخص الملك تهارقا.

إهمال مؤسسي

لكن المواقع الأثرية لا تتعرض للتخريب فقط عن طريق منح وزارة المعادن رخصاً لشركات التنقيب، بل كذلك عبر التمدد السكاني والزراعي داخل المواقع الأثرية، هذا التمدد الذي باركته مؤسسات الدولة. ومثال لذلك، ما شهدته منطقة الكوة الأثرية، في مدينة دنقلا بالولاية الشمالية، حيث صادقت سلطات الولاية على تحويل جزء كبير من الموقع لأنشطة زراعية، وهو ما تسبب في التعدي على 80 فداناً من المنطقة الأثرية، التي ضرب عليها سوراً من حولها من أجل حماية مساحتها المقدرة  بـ 700 فدان، وتعتبر من المواقع الأثرية المهمة لاحتوائها على مدن و مدافن أثرية. 

السرقات لا تقتصر على المواقع الأثرية فقط، بل امتدت إلى المتحف القومي في العاصمة الخرطوم، حيث تعرض لعدد من السرقات في فترات مختلفة. والحادثة التي شهدها العام 1991م، والتي استغل فيها اللصوص فتحات التهوية من أجل الوصول إلى المتحف وسرقة تمثال ذهبي. لكن المتحف، الذي لم يكن يحتوي على كاميرات مراقبة وأجهزة الإنذار حينها، تعرض إلى السرقة مرة أخرى في العام 2003م، والتي كانت عملية سطو كبيرة، فقدت على إثرها 52 قطعة أثرية. حدثت خلال غياب القائمين على حراسة المتحف لتناول الشاي خلال شهر رمضان. لكن السلطات تمكنت من القبض على اللصوص واستعادة القطع المنهوبة.

وتبين هذه الحوادث الطريقة التي تتعامل بها السلطات في السودان مع ملف الآثار، وهي طريقة لا تستند على أي وعي تاريخي بأهمية الآثار، كما أنه خلال فترات مختلفة في تاريخ السودان، كانت الآثار تمنح من قبل الرؤساء إلى نظرائهم كهدايا وقروض طويلة الأجل في مراتٍ أخرى.

مبادرات مختلفة

وسط غياب رؤية الدولة تجاه الآثار وتاريخ البلاد، إلا أنه، على صعيد آخر، توجد مطالبات مستمرة من السودانيين والسودانيات بضرورة استرجاع آثار البلاد التي بدأت سرقتها منذ عصر الاحتلال التركي المصري، والتي تتوزع في عدداً من الدول والمتاحف الأوروبية. قبل أربع سنوات نشط هاشتاق أعيدوا مومياء أماني ريديس في وسائل التواصل الاجتماعي، والذي ناقش فيه المتفاعلون قضية الآثار السودانية في الدول الغربية. وفي حين طالب كثيرُ من الناس بضرورة عودة الآثار إلى السودان باعتبارها ملك للتاريخ السوداني، رأى آخرون أن تبقى الآثار محفوظة بالخارج، في ظل عدم اهتمام داخلي قد يؤدي إلى فقدانها للأبد.

برغم حالة الاحتفاء التي صاحبت تحريك الملك تهارقا، والاحتفاء اللحظي بالحركة نفسها، إلا أن سؤال كيفية التعاطي مع الآثار في السودان، وعدم التنظيم البائن الذي صاحب فعالية نقل الملك، تشي تماماً بحالة الفوضى التي يعيشها السودان اليوم، والتي لا تتجسد في الحالة السياسية والاجتماعية فقط، وإنما تجسدت بشكل أكثر وضوحاً في الطريقة العشوائية التي حرك بها، وكأن من يُحرك، ليس أحد أبرز رموز البلاد.

سياسات فاشلة لعقود.. كيف حوّلت الأزمات المتضافرة التعليم المدرسي إلى امتياز طبقي؟

أية السماني

أية السماني

في حال استمرت الوزارة والحكومة في تجاهل الإغلاق الحالي سأتوجه مع زميلاتي نحو تجميد العام الدراسي.. لن يكون الوقت كافياً لإكمال المقررات والدراسة وامتحانات الشهادة على الأبواب”، توضح كلمات الطالبة، ميس أحمد التي تدرس بمدرسة الحارة 12 بأمدرمان الثورة،  حال عدد كبير من الطلاب مع الظروف الدراسية المتعثرة، وكم يبدو مستقبلهم على المحك.

وميس التي تساورها شكوك جدية حول قدرتها وعدد من زميلاتها في الجلوس لامتحانات الشهادة الثانوية بعد أشهر معدودة، بعدما قضين الفترة الماضية في ظل عدم استقرار دراسي. رأت في حديثها لـ(بيم ريبورتس)، إن الإغلاقات المتتالية خلال الأعوام الماضية، لأسباب كثيرة، أثرت بشكل مباشر على مستواها الاكاديمي، مشيرة إلى أن التوقف المستمر كان خصماً عليها بشكل ملاحظ. 

في المقابل، يواصل آلاف الطلاب بالمدارس الخاصة والعالمية عامهم الدراسي بشكل طبيعي، خاصةً وأن المشكلة التي يواجهها قطاع التعليم في الوقت الحالي لا تمس المدارس الخاصة ومعلميها بشكل مباشر.

أزمات مستمرة

الأزمات السياسية والاقتصادية التي تعصف بالبلاد والأطراف المنخرطة فيها، لا تعبأ كثيراً بالعواقب، والتي تجلت بشكل واضح في قطاع التعليم المدرسي العام، والذي يدفع ثمنه آلاف الطلاب.

فبعد انقلاب 25 أكتوبر، عاد أعضاء النظام المخلوع، إلى وزارة التربية والتعليم، وأدت سياساتهم إلى خلق صراعات في أوساط المعلمين المطالبين بتحسين أوضاعهم من خلال إضرابات بدأوها منذ أكتوبر الماضي.

وفي خضم هذا الحراك المطلبي للمعلمين، أصدرت وزارة التربية والتعليم بولاية الخرطوم، في خطوة مفاجئة، قراراً قضي بتغيير التقويم الدراسي، حيث أعلنت تقديم عطلة منتصف العام، بدأت في 10 يناير وانتهت في أواخر الشهر نفسه.

سلسلة إضرابات

نظمت لجنة المعلمين السودانيين إضراباً، ضمن سلسلة إضرابات شملت جميع القطاعات المهنية في السودان، عقب انقلاب قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، في 25 أكتوبر 2021م.

 ومع ذلك، جاء الإضراب على خلفية مطالب بزيادة في الحد الأدنى للأجور وزيادة الإنفاق على قطاع التعليم في موازنة العام 2023 وإقالة الوزير الحالي للتربية والتعليم، محمود سر الختم الحوري. 

بدأ المعلمون إضرابهم  تدريجياً وسط تجاهل حكومة الأمر الواقع لمطالبهم، ليقوموا بالتصعيد فيما بعد، حيث أعلنوا الإضراب الكامل وتوقف المدارس الحكومية في جميع الولايات.

 وقد وصفت لجنة المعلمين السودانيين، تعاطي حكومة الأمر الواقع، مع حراكهم الحالي “بالتعنت و المماطلة”، وعزت قرار وزير التربية والتعليم المفاجئ، بأنه محاولة لإفشال الإضراب المعلن مسبقاً، قبل أن تؤكد أن اللجنة والمعلمين ماضون في إضرابهم.

“لم تبارح الأزمة مكانها منذ 16 اكتوبر الماضي، عندما رفع المعلمون مذكرة بمطالبهم في ولايات البلاد الـ 18، لكن السلطات تجاهلت الحراك حتى وصل إلى الإغلاق الشامل، وفي الوقت الحالي وصل الملف إلى رئيس مجلس السيادة، في انتظار قرار حاسم ينقذ العام الدراسي من الانهيار”. يقول عضو لجنة المعلمين السودانيين،  سامي الباقر لـ(بيم ريبورتس).

عدم الإنصاف في التعليم

فور انتهاء العطلة التي أقرتها وزارة التربية والتعليم، استؤنفت الدراسة بشكل طبيعي في ظل إضراب معلن وتوقف كامل للدراسة بأغلب المدارس الحكومية بالسودان. ولأن الإضراب لا يشمل المعلمين بالمدارس الخاصة تم استئناف الدراسة فيها مباشرة، في تجاهل تام لعوامل أخرى ذات أهمية مثل التقويم الدراسي الموحد. علاوة على الامتحانات الشهرية والنهائية الموحدة والتي تضعها وزارة التربية والتعليم وضرورة جلوس جميع الطلاب في أنحاء البلاد للامتحانات بفرص عادلة وفي وقت واحد محدد من قبل الوزارة ضمن التقويم الموحد.

يقول الخبير التربوي، أحمد مختار، لـ(بيم ريبورتس)، إن استئناف الدراسة في المدارس الخاصة والعالمية، واستمرار تعليقها في المدارس الحكومية، هو نتيجة لتغليب المصلحة الفردية على المصلحة العامة، وبذلك ستخلق طبقات في التعليم، وقد تتولد الكراهية والأحقاد في قلوب الملايين الذين يرون أبناء المقتدرين يواصلون دراستهم.

 لاحقاً، مع استمرار الإضراب، أعلن وكيل وزارة المالية، عبد الله إبراهيم، بدء صرف فروقات المتأخرات حصراً لمعلمي ولاية الخرطوم، على أن يتم تأجيل صرف المتأخرات لباقي المعلمين في الولايات الأخرى. ورداً على هذه الخطوة، أعلنت لجنة المعلمين السودانيين الدخول في اعتصام أمام المدارس احتجاجاً على المعالجات الجزئية التي أقرتها وزارة المالية.

هل يقف الإضراب وحده في وجه الطلاب؟

واجه حراك المعلمين نقداً واسعاً في مواقع التواصل الاجتماعي وأسر الطلاب، وتباينت الآراء حوله، حيث رأى البعض أن الإضراب سيؤثر سلبا على طلاب الذين لم تشهد سنواتهم الدراسية السابقة استقرارا بفعل الظروف السياسية والأمنية في البلاد.  

فمنذ العام 2018م، توالت الإغلاقات، مرورا بإغلاق المدارس إثر فض اعتصام القيادة العام ، ثم تلاها إغلاق آخر بسبب إضراب المعلمين في فترة الحكومة الانتقالية 2020م، وأعقبها إغلاق طويل شمل كل البلاد إثر انتشار وباء كورونا، كما لم تستقر الدراسة طويلاً، حتى انقلاب 25 اكتوبر 2021م.

سياسات فاشلة

لسنوات طويلة ظلت مسألة السلم التعليمي في السودان محل نقاش وصراع دائمين بين الحكومة وخبراء التعليم الذين ينددون بالتدهور التعليمي في البلاد. وتعاقبت على السودان 3 أشكال مختلفة للسلم التعليمي، استقرت على 8 سنوات أساس و 3 ثانوية في عهد نظام النظام المخلوع. لاحقاً، قامت عدة مؤتمرات لمناقشة شأن التعليم في السودان وكان أحدها مؤتمر التعليم القومي 2013م والذي كانت أبرز مخرجاته إعادة المرحلة المتوسطة للسلم التعليمي وتمت إجازتها قانونياً في العام 2015م.

في العام 2016م، أصدرت وزارة التربية والتعليم قراراً ينص على زيادة سنة تاسعة لمرحلة الأساس لتعود السنوات الدراسية مجددا لـ 12 سنة، ما أثار جدلا في أوساط المختصين.

ورأى مختصون، أن القرار زاد من حدة الأزمة وأن هذا التغيير في السلم التعليمي يعبر عن سياسات عشوائية وخطوات غير مدروسة.

بعد تشكيلها في 2019م، شرعت الحكومة الانتقالية في تنفيذ خطة عودة المرحلة المتوسطة وأعلنت عودتها على أن يتم إلغاء الصف السابع أساس ويحل محله أول متوسط. وأوضحت أن المرحلة المتوسطة ستكون منفصلة تماما بزي ومنهج مختلفين وتركت أمر فصل المباني للولايات لتنظر في أمره حسب الإمكانيات المتوافرة.

لكن، العقبات كانت حاضرة في تنفيذ هذا القرار كغيره، ويرى خبراء أن قرار الحكومة الانتقالية بإرجاع المرحلة المتوسطة هو قرار سليم ولكنه أتى متعجلا لعدم توافر إمكانيات الفصل. وفي هذا السياق، يقول سامي الباقر: “كان من الأولى أن تتم العودة للمرحلة المتوسطة بامتحانات صفية وليست مرحلية، ثم التدرج في الفصل بين المرحلتين في مدى زمني لا يقل عن 3 سنوات، لكن الحكومة الانتقالية تعجلت في القرار دون توفير المطلوبات”.

وضع كارثي

في ظل الإغلاق الحالي والأحداث الجارية بخصوص التعليم من إضراب وتجاهل من قبل سلطة الأمر الواقع، أصدرت منظمة اليونسيف تقريرا ، أشارت فيه إلى أن ثلث أطفال السودان خارج المدارس حالياً، أي أن هناك واحد من كل ثلاثة أطفال لا يتلقون التعليم. 

وقالت إن الوضع العام للتعليم لا يبشر بواقع أفضل لمستقبل الأطفال بسبب نقص في المعلمين، بالإضافة لوضع البنى التحتية وانعدام البيئة الدراسية المناسبة. في هذا الاتجاه يعتقد سامي الباقر، أن المدارس تعاني من نقص حاد في المعلمين واكتظاظ في الفصول يصل في بعض المدارس إلى 100 تلميذة وتلميذ في الفصل الواحد. علاوة على عدم وجود الخدمات الأساسية من مياه الشرب وحمامات، ويرجع السبب في كل ذلك لضعف إنفاق الدولة على التعليم.

ويعاني السودان من أزمات سياسية وأمنية واقتصادية ألقت بظلالها على وضع التعليم في السودان وزادت من حدة الأزمة وكان الناتج الأهم لذلك هو تسرب الطلاب من المدارس بشكل متباين في مختلف الولايات لأسباب مختلفة، علاوة على التأثير السلبي المباشر على جودة التعليم.

ويعد التدهور الاقتصادي الذي يشهده السودان هو العامل المشترك في جميع أنحاء السودان الذي لطالما اضطر أسر الطلاب لإيقاف تعليم أبنائهم لاستحالة تحمل تكاليفه، وما زالت الحكومات المتعاقبة على السودان تعد بمجانية التعليم العام باعتباره حقا مكفولا، إلا أنه يزداد غلاءً عاماً تلو الآخر. 

التعليم في ظل النزاعات

لطالما وقفت الحروب والنزاعات في وجه التعليم، وكانت عاملا في زيادة صعوبة تمسك الطلاب السودانيين بمقاعدهم في صفوف الدراسة. ولأعوام طويلة اتجه الطلاب في مناطق النزاعات وخاصة في المناطق التي تشهد انهيارا أمنيا في غرب السودان إلى ترك مقاعد الدراسة، إما للالتحاق بمجموعات مسلحة والانضمام لركب الحرب، أو التشرد خارج مناطقهم التي بدأوا الدراسة بها.

في العام 2015م، أصدرت منظمة اليونسيف تقريراً، أشار إلى أن ثلاثة ملايين طفل في مناطق دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان لم يلتحقوا بالمدارس، بالإشارة إلى أن 45% من الأطفال يتسربون من الدراسة في المرحلة الأخيرة من التعليم الأساسي، بينما لا تلتحق نسبة 43% منهم بالمدارس أبداً.

و بجانب أخص، فقد ألقت الظروف الأمنية والاقتصادية بالبلاد بظلالها على تعليم البنات، حيث خرجت العديد من الطالبات ولم يلتحق بعضهن من الأساس بالمدارس. ويشير تقرير لمعهد اليونسكو للإحصاء، أن عدد الطالبات اللاتي يلتحقن بالمدارس في السودان أقل في جميع المستويات المدرسية من الطلاب الذكور.

لكل هذه الأزمات مجتمعة أثرها البالغ على قطاع التعليم، و بالرغم من أنه يحتل مكانة ذات أهمية لدى كثير من السودانيين، إلا أنه لم يجد الاهتمام الكافي من قبل معظم الحكومات المتعاقبة على حكم السودان. تمظهر ذلك في الموازنات السنوية العامة التي لا تنفق على التعليم بقدر مناسب وسياسات الدولة الفاشلة تجاه التعليم، التي نتجت عنها مشكلات عديدة تمتد جذورها لعوامل مختلفة وتختلف آثارها التي تظهر على السطح بشكل أو بآخر. 

ويبدو واضحاً، أن السودان بجملة أزماته التي يعاني منها في الوقت الحالي، لن يستطيع مستقبلا تحمل تكلفة غياب ثلث أطفاله الذين هم في سن التمدرس عن مقاعد الدراسة وعزوفهم القسري عن التعليم.

(عقد الجلاد).. صوت الحرية الذي لا يغيب عن محافل السلطة أحياناً

“حاجة آمنة كفاك صبر”، بتصرف طفيف في كلمات الأغنية الشهيرة، خاطب العضو المؤسس لفرقة عقد الجلاد الغنائية، شمت محمد نور، من على مسرح اعتصام القيادة العامة للجيش، الجمهور المحتشد، فرحاً، بانتهاء 3 عقود من الظلم والاستبداد. 

 دواعي تغيير حالة “حاجة آمنة” بالنسبة لنور، وهو أستاذ موسيقى بالجامعات السودانية، كان الحفل الاستثنائي الذي أحيته المجموعة؛ بمناسبة احتفال السودانيين في أمسية الحادي عشر من أبريل 2019م، بسقوط نظام الرئيس المخلوع، عمر البشير.

 

على الرغم من حماسة نور في تلك الأمسية الثورية، واستمرار تبشير المجموعة لأكثر من ثلاثة عقود بوعود الثورة والتغيير، في ظل حكم النظام المخلوع الذي استولى على السلطة بعد سنوات معدودة من تأسيسها. إلا أن مسيرتها لم تخلُ من مشاركات في محافل السلطة نفسها التي كانت تناهضها بالموسيقى، وتتعنت في منحها تصديقات إقامة الحفلات، في أحيان كثيرة.

كان آخر تلك المشاركات المثيرة للجدل، هو إحيائها  حفلاً بمعرض الخرطوم الدولي في يناير الماضي، الأمر الذي أثار التساؤلات القديمة/الجديدة حول موقفها المتأرجح من السلطة عموماً. بينما كانت تغني فرقة عقد الجلاد ليلتها على مسرح المعرض، كانت حكومة الأمر الواقع من جهتها، تمطر منطقة بري المحيطة بالمعرض، بعبوات الغاز المسيل للدموع، والقنابل الصوتية. 

 

وانتقادات الجمهور لموقف عقد الجلاد من السلطة، ليس هو الأزمة الوحيدة التي تحيط بإحدى أهم المجموعات الغنائية في البلاد اليوم، وهي تمر بأضعف حالاتها؛ في ظل مغادرة جميع أعضائها المؤسسين، وإيقاف غالبية الشعراء والملحنين الذين كتبوا للمجموعة أعمالهم منها، بأوامر قضائية.

المؤسس:

يرجع الفضل في تأسيس عقد الجلاد عام 1984م إلى الموسيقار عثمان محمد النو، الذي لمع نجمه في التأليف الموسيقي وكان من محترفي آلة (الغيتار) في مدينة ود مدني (ولاية الجزيرة) منذ المرحلة الثانوية التي درسها بمدرسة حنتوب، حيث قاد النو فرقتها الموسيقية إلى إحراز المركز الأول، في الدورة المدرسية للعام 1976م بمقطوعات موسيقية من تأليفه.

بعدما وجد النو تشجيعاً وانبهاراً من أساتذة الموسيقى الذين كانوا ضمن لجنة تحكيم الدورة المدرسية، التحق في العام التالي بقسم الموسيقى، بمعهد الموسيقى والمسرح بالخرطوم، كما عمل في تلك الفترة كعازف (غيتار) مع عدد من الفنانين. وفي نهاية الأعوام الدراسية الخمسة، نال مشروع تخرجه الذي كان لحن قصيدة: (بين الخليفة وأمونة بت حاج أحمد) للشاعر محمد طه القدال، إعجاب طيف واسع من أساتذة وطلاب المعهد، وتم تسجيله بأداء مجموعة من الفنانين في التلفزيون القومي. 

ومع ذلك، لم يُغر النو، تراكم الأعمال الملحنة لديه، بأن يوزعها على الفنانين، كغيره من الملحنين، حيث كانت تتملكه فكرة تكوين فرقة، فبدأ في جمع طلاب من المعهد وتدريبهم على أعماله يومياً، وكان عدد المجموعة يتذبذب في تلك الفترة بين الزيادة والنقصان.

البدايات:

كان الظهور التلفزيوني الأول لمجموعة عقد الجلاد عام 1988م، خلال برنامج (أنغام وإبداع) بالتلفزيون القومي، وكان قوامها آنذاك 5 مغنيين هم؛ أنور عبدالرحمن، شمت محمد نور، عوض الله بشير، منال بدرالدين، ومجاهد عمر. 

في تلك الحلقة، أوضح أستاذ الموسيقى بمعهد الموسيقى والمسرح، أزهري عبد القادر، أن ظهور مشروع فني كعقد الجلاد هو أمر طبيعي، حيث أن الغناء الجماعي في السودان يعتبر إرث قديم جداً بالرغم من تباين أشكاله في الثقافات والبيئات المختلفة، ودّعم عبدالقادر حديثه بضرب أمثلة بغناء الحقيبة، والإنشاد الديني، وأغاني العمل في الأسواق التي يتغنى بها العمال، وكذلك طقوس الزار.

وبالرغم من أن عقد الجلاد ولدت داخل معهد الموسيقى والمسرح، إلا أن  الموسيقي الأكاديمي، كمال يوسف، يرى أن عقد الجلاد خرجت من الشكل المعهود للأداء الكورالي الذي اشتهر به المعهد، حيث قال في إفادته لـ(بيم ريبورتس) ” تعتبر عقد الجلاد تجربة رائدة لما كان وقتها لشكل جديد للغناء الجماعي المنظم المدعوم بمعرفة علمية وأكاديمية، وإن كانت تشبه في ذلك الكورال، إلا أن اعتمادها على موسيقى الأصوات البشرية كان أكبر، وتنازلت كذلك عن الأوركسترا الضخمة التي تصاحب الكورال عادة.”



نجاح كبير

لاقت المجموعة نجاحاً كبيراً منذ انطلاقها، واحتشد في حفلاتها الجماهيرية أعداد كبيرة من المستمعين، خاصة في أوساط طلاب الجامعات والمثقفين الذين انجذبوا لطرح أعمال المجموعة للقضايا، الأمر الذي أشار عثمان النو في إحدى مقابلاته الإعلامية، أنه كان مقصوداً، حيث روى أنه أثناء وجوده بالمعهد كان يسكن بجوار الشاعر الراحل، محمد طه القدال، الذي كان يقرأ عليه أعماله. كما كان كثيراً ما يلتقي بشعراء مثل عماد الدين إبراهيم، ومحمد محمود الشيخ (محمد مدني)، الذين منحوه الذخيرة الأولى لأعماله اللحنية. يقول النو: “وجدت أنه أصبح لدي مجموعة كبيرة من القصائد، وبدأت في التلحين، وكنت حريصاً على الأعمال التي تناقش الأوضاع الاجتماعية والسياسية.”

ولكن هذا الحرص، وضع عقد الجلاد، تحت أعين نظام انقلاب الإنقاذ لاحقاً، والذي كان حديث العهد بالحكم عند بداية رواج المجموعة، فمنعت أجهزة الأمن المجموعة من أداء بعض الأعمال، وكذلك من إقامة الحفلات العامة عدة مرات، حتى وجدت المجموعة نفسها، في لحظة عجز تام، تناقش خيار الهجرة. 

وروى عضو المجموعة السابق، شمت محمد نور، في أحد حواراته التلفزيونية، أنهم شرعوا فعلياً في الهجرة إلى مصر في بداية التسعينات، ولكنهم فوجئوا بوجود أسمائهم في قائمة الممنوعين من السفر. ويشير نور إلى أنهم حاولوا مغادرة البلاد مرة أخرى عبر الطريق البري، إلا أن قوات الأمن اعتقلتهم في ولاية النيل الأبيض وهم في طريقهم لمغادرة البلاد عبر الحدود الغربية، ومع ذلك يرى نور أن كل هذا يعد ضريبة الرسالة التي حملتها المجموعة.

خيبة أمل:

“تسمرت عيناي وأنا أطالع الإعلان”، كانت هذه الكلمات التي عبر بها عضو عقد الجلاد السابق، أنور عبدالرحمن، عن اندهاشه وخيبة أمله عندما أعلنت المجموعة في نوفمبر 2017م إحيائها لحفل ضمن فعاليات المؤتمر السابع للاتحاد الوطني للشباب، المحسوب على حزب المؤتمر الوطني المحلول، استنكر عبدالرحمن ما وصفها بالمشاركة في “أنشطة ديكورية لتجميل هذا النظام”. ولعل عبدالرحمن لم يكن الصوت الرافض الوحيد داخل المجموعة، فقد غاب مغني المجموعة، وعضوها المؤسس، شمت محمد نور عن الحفل الجماهيري الذي تلى مشاركتها تلك، كما امتنعت المجموعة عن أداء الأعمال التي لحّنها، وكان تعليق عقد الجلاد على هذا الأمر، أن غياب نور وألحانه يتعلق بخلافات داخلية، لم يتم تفصيلها، ويجري حلها.

 

ورأى الكاتب والناقد السر السيد في إفادته لـ(بيم ريبورتس)، “عدم وجود أي ضرورات تتطلب تماهي عقد الجلاد مع أنظمة تعادي ما تدعيه المجموعة في خياراتها من أعمال، من قيم الحرية والعدالة والديموقراطية”. وأضاف أنه كان لهذا الأمر تداعيات سيئة على التماسك الداخلي للمجموعة، وقال” تسبب هذا الغياب للاتساق في انشقاقات وخلافات عديدة داخل عقد الجلاد”.

 

وبالرغم من مواقفها المثيرة للجدل أحياناً، تظل عقد الجلاد أحد أهم التجارب الفنية، التي آثرت أن تشهر فنها سلاحاً في مقاومة الاستبداد في أزمنة البلاد الأكثر قتامة.  

من صالون (فوز) إلى الجمعيات الأدبية.. كيف لعبت الثقافة دوراً طليعياً في استقلال السودان؟

من هناك، منزل “فوز” بأمدرمان مطلع العشرينيات، خرجت الأشعار والأغاني التي شكلت وجداناً مقاوماً للاستعمار البريطاني. حيث احتضن المنزل رهطاً من الشعراء والأدباء والسياسيين، وكان لهم ملاذاً آمناً من أعين المخابرات البريطانية، التي ضيّقت الخناق على الأنشطة التي نظمها مثقفو وسياسيو السودان في ذلك الزمان. وهو المكان الذي صدح فيه خليل فرح بأغنياته الوطنية لأول مرة، وخبئت فيه آلة طباعة استخدمت لنسخ المنشورات السياسية التي انتشرت في جميع أنحاء الخرطوم.

دار فوز

أسست جمعية الاتحاد السوداني في العام 1921م، وهي واحدة من أوائل التكوينات السياسية مطلع العشرينيات، والتي ضمت عدداً من المثقفين والمتعلمين بالعاصمة والأقاليم، وتكونت من خلايا سرية بعدد لا يتجاوز الخمسة أعضاء في الخلية الواحدة. ومع اتساع نشاط الجمعية وتمدده ومحاولة انفكاكه من قبضة الرقابة المفروضة على أنشطة وأجسام مشابهة من قبل الإدارة الاستعمارية، فإن أعضاء الجمعية كانوا في بحث مستمر عن مقر لتنظيم اجتماعاتهم، ليرسو بهم الأمر إلى استئجار صالون وحوش شاغرين بمنزل السيدة (حلوة) والتي كانت تسكن فيه مع ابنتها الوحيدة (الشُّول) والتي ستصير فيما بعد فوز، ويعرف ذلك المنزل باسمها، ويحتضن الكثير من الاجتماعات وجلسات الأنس والسمر.

منافذ عدة

لم تكن جمعية الاتحاد السوداني هي الجسم أو التجمع الوحيد الذي انتهج الثقافة في سبيل التحرر الوطني، بل كان للأدباء والمثقفين منافذ وأجسام عدة، والتي ساهمت إسهاماً مقدراً  في تحقيق استقلال السودان، في العام 1956م.

 العمل الذي بدأ منذ بواكير تشكل جمعيات القراءة في أمدرمان،  وولاية الجزيرة (جمعية ود مدني الأدبية) وهي التي كانت جنيناً لمؤتمر الخريجين؛ حين أطلق أحمد خير المحامي من منبرها فكرته، ثم نمت الفكرة وتبلورت عن طريق كتابة الصحافيين عن دور المؤتمر الطليعي في جريدة السودان، ومجلة الفجر، الأمر الذي تمكن من جذب مختلف المهتمين.

بدائل جديدة

نسبة للممارسات الاستعمارية والتضييق على السودانيين، فقد تولد حس وطني باحثاً عن هويته، ومناهضاً للوجود الأجنبي، وهي المدعاة الأساسية لظهور الجمعيات السياسية كالاتحاد السوداني، ولاحقاً جمعية اللواء الأبيض، التي ناهضت الاستعمار بأدوات ووسائل عدة. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الأجسام شكلت روحها من داخل الفضاء الثقافي والأدبي، بعد تضييق الاستعمار الخناق على الممارسات السياسية.

وترأس الجمعية علي عبد اللطيف وعضوية  عدداً من الكتبة وصغار الموظفين، لتشهد بعد ذلك تحولاً في مناهضة الإنجليز عبر الفعل السياسي، جنباً إلى جنب مع سطوع عدد من مبدعي وشعراء الحركة الوطنية، مثل الموسيقار إسماعيل عبد المعين، وحسن خليفة العطبراوي، علاوة على الأشعار التي شكلت مزاج تلك الفترة؛ ومنها قصيدة خضر حمد للعلا، وصه يا كنار لمحمود أبي بكر.

جمعية اللواء الأبيض

ارتفع صوت الخلافات داخل جمعية الاتحاد السوداني حول الطريقة المثلى لمقاومة الاستعمار، ورأى البعض أنه ينبغي مواجهته بطريقة أكثر جذرية وحدة، الأمر الذي حدا بتكوين جمعية اللواء الأبيض. وعلى الرغم من توجهها السياسي، إلا أنها اتخذت من الثقافة والأدب رافداً أساسياً، يتمظهر ذلك في الهتافات التي شهدتها التظاهرات التي خرجت ضد السلطة البريطانية من شاكلة  “نحن الشرف الباذخ”، وهتاف طلاب الكلية الحربية “يا أم ضفاير قودي الرسن، اهتفي فليحيا الوطن”.

بعد القمع الذي تعرضت له انتفاضة اللواء الأبيض في 1924م، غير المثقفين تكتيكاتهم في  مقاومة الاستعمار، واتجهوا إلى توعية المجتمع عن طريق زيادة التعليم الأهلي وبث القيم الوطنية. 

وابتكر المثقفون وسائل وأدوات أدبية وفنية عديدة في سبيل نشر القيم التي نادوا بها، مثل المسرح والحفلات، والخطاب الشعري الذي ظهر في النشيد الوطني “في الفؤاد ترعاه العناية” والذي أحدث قطيعة مع مؤسسات الاستعمار؛ حيث ورد فيه “ما بخش مدرسة المبشِّر.. عندي معهد وطني العزيز”.

دور الصحف والمجلات

شكلت الصحف والمجلات فضاء جديداً للمقاومة، وجاءت كتطور طبيعي لمجموعات القراءة والنقاش التي نشطت في الأحياء، وأضحت منفذاً لحركة التنوير في السودان؛ مثل جمعية أبوروف الأدبية، والهاشماب والموردة.

كانت الظروف مواتية لجمعية الهاشماب في تكوين مجلة الفجر، والتي خلقت تأثيراً في الفضاء الاجتماعي والثقافي والسياسي، عبر مناقشتها لقضايا الهوية والانتماء. وانتظمت البلاد عدداً من الندوات والمحاضرات؛ التي نظمها مؤتمر الخريجين بعد توقيع المعاهدة المصرية – البريطانية في عام 1936م، والتي لم يجيء فيها ذكر مصير السودان. لتنشر محاضرة “واجبنا السياسي بعد المعاهدة” في مجلة الفجر.

بعدها نُظم أول مهرجان أدبي، في العام 1939م، بمدينة ود مدني، والذي تطرق – إلى جانب الأدب – لقضايا الاقتصاد والهوية والتخلف. وأقيمت النسخة الثانية من المهرجان بمدينة أمدرمان، في العام التالي. وكان مقرراً إقامة النسخة الثالثة بنادي الخريجين بالخرطوم، إلا أن الإدارة البريطانية منعت قيامه، لكن النسخة الرابعة اتخذت مكانها بمدينة الأبيض (شمال كردفان). 

منذ العشرينيات، ومع دخول التيارات الفكرية الحديثة إلى السودان بشكل كبير، كانت الأسئلة الوطنية الكبرى المتعلقة بالتحرر والهوية قد برزت إلى السطح. وعولجت هذه الأسئلة في البدء من خلال الندوات والأشعار والأغاني التي شكلها الجيل المبكر من الحركة الوطنية السودانية التي انتظمت النوادي والصوالين الأدبية، قبل أن تتبلور في أجندة سياسية واضحة. الأمر الذي جعل هذه الأجسام ومطالبها ذات طابع ثقافي في الأصل، ولكن تنبغي الإشارة إلى عدم القدرة على الفصل القاطع والحاد بين ما هو ثقافي وما هو سياسي.