Category: اقتصادي

سياسات حكومية ترسل المزارعين إلى السجون، وتغيرات مناخية تعمق أزمة الغذاء في السودان

أية السماني

أية السماني

“زجت السلطات بعدد من المزارعين بسبب تخلفهم عن سداد ديون البنك الزراعي. خسرنا الكثير هذا العام واضطررنا لبيع القمح بنصف تكلفة إنتاجه، كما لم تفِ الدولة بشراء المحاصيل، لذلك بالتأكيد لن يتمكن أحد من سداد الدين”. يقول عضو اتحاد مشروع سندس الزراعي بالولاية الشمالية،مأمون الفكي، لـ(بيم ريبورتس).

لم يقف القطاع الزراعي بمعزل عن بقية القطاعات التي تأثرت بالتوجه الاقتصادي الحديث للسودان، حيث كان له نصيبُ متعاظم من الضغط الناجم عن السياسات التي أقرتها حكومة السودان الانتقالية، في فبراير 2021، بتحرير اقتصادي اقتضى رفع الدعم عن المحروقات والكهرباء والسلع الاستهلاكية، بدواعي قطع الطريق أمام الفساد في بعض القطاعات وإنعاش بعضها.

وبالنسبة للمزارعين، فإن التكاليف قد ارتفعت بشكل عام للمشاريع الزراعية، إلا أن الأسعار تتفاوت حسب أنظمة الري؛ وكان للمشاريع المروية بولايتي نهر النيل والشمالية التأثير الأعظم، نسبة لاعتمادها على مضخات الديزل، في المقابل كان التأثير أقل على المشاريع التي تعتمد على التوليد الكهربائي كمشروع الجزيرة.

الجدير بالذكر أن ارتفاع الأسعار كان له أثراً بالغاً في ارتفاع تكاليف النقل والتوزيع، علاوة على ارتفاع تكلفة مدخلات الزراعة من تهيئة للتربة وحصاد وعمالة.

سياسات تزداد شراسة

لم يتوقف الأمر، بالنسبة للمزارعين، على رفع الدعم المحروقات، فمع انقلاب قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، في 25 أكتوبر 2021، بدا واضحاً أن حكومة الأمر الواقع ستنتهج ذات السياسات ولكن بصورة أشرس وأوسع، عبر فرض الضرائب على جميع القطاعات ورفع الدعم عن مزيد من السلع.

كان اتجاه وزارة المالية متوقعاً نسبة لتوقف المانحين الدوليين عن تمويلهم للسودان، فخسارة السودان للتعهدات المالية التي قدرت بأكثر من 4 مليارات دولار من دول وصناديق اقتصادية دولية كان لابد أن يقابل بحلول فورية، ولم تخف موزانة العام 2022 اعتمادها، على  الإيرادات الداخلية التي تمثلت في الضرائب وحدها  في سبيل تغطية عجزها المقدر بنحو 40%.  

احتجاجات وإغلاق

في يناير 2022، نفذت حكومة الأمر الواقع زيادة في تعرفة الكهرباء وصلت الى 600% وفور تنفيذ القرار طُبقت الزيادة مباشرة على استهلاك القطاع الزراعي.

أطلق هذا القرار شرارة الاحتجاجات في أوساط سكان المناطق التي تمثل فيها الزراعة عصب الحياة للمواطنين والوسيلة الوحيدة لكسب عيشهم، وبتنفيذ قرار مفاجئ في خضم الموسم الشتوي، أصبح المزارعون بين خيار إيقاف مشاريعهم التي لم تُهيأ لاستقبال هذه الزيادة أو الاحتجاج حتى إلغاء التعرفة الجديدة للكهرباء. حيث أغلقوا في 9 يناير طريق شريان الشمال القاري (الذي يربط بين السودان ومصر) وأُعِدت مذكرة قدمها المحتجون إلى والي الولاية، حيث حوت المذكرة مطالب بتقليل تعرفة الكهرباء إلى جانب مطالب أخرى تمس المزارعين بالمنطقة.

وعود مجهضة

أقرت السلطات بتجميد مؤقت في تعرفة الكهرباء لأصحاب المشاريع الزراعية، كما قدمت الكثير من الوعود لسكان المنطقة، بسبب أن إغلاق الطريق كان مكلفاً لحكومة الأمر الواقع التي تواجه في الأصل احتجاجات متفرقة في مناطق السودان المختلفة. وبالرغم من أن الحراك وجد تضامناً واسعاً من كافة أنحاء السودان، وكان له تأثيراً مباشراً على حكومة الأمر الواقع وأجهزتها، إلا أن الحكومة تنصلت عن تلك الوعود لاحقاً.

السجون في انتظارهم

 تواصلت سياسات رفع الدعم وفرض الجبايات والضرائب، كما استمر الارتفاع في تكاليف مدخلات الزراعة من تقاوٍ وأسمدة وجازولين طوال العامين المنصرمين، الأمر الذي أدخل المزارعين بمختلف قطاعاتهم الزراعية، في تعقيداتٍ عديدة ضاعفت العبء الاقتصادي الذي يعاني منه جميع مواطني السودان وقطاعاته.

وألقت السلطات، خلال الأشهر السابقة، القبض على عدد من المزارعين المعسرين والمتخلفين عن سداد قروض البنك الزراعي والجهات الزراعية الممولة، في الوقت الذي يرى فيه المزارعون أن الموسم الزراعي كان فاشلا ومكلفاً، نسبة لشح الأمطار في قطاع الزراعة المطرية، علاوة على ارتفاع تكاليف مدخلات الزراعة ذاتها.

ويوضح مأمون في هذا السياق قائلاً:” فوجئنا فور حصاد القمح،  بأنه يباع في السوق بنصف السعر المحدد للمزارعين من البنك الزراعي، ولاحقاً علمنا أن الدولة حصلت على منحة قمح خارجية أدت لانخفاض أسعاره”.

وكانت حكومة الأمر الواقع قد استقبلت في نوفمبر 2022 شحنة قمح بميناء بورتسودان، قُدرت بـ 52,521 طن، مقدمة من المملكة العربية السعودية.

ويضيف مأمون:”يعمل المزارعون وفق السعر الذي يحدده البنك الزراعي، والغالبية يعتمدون على نظام الاستدانة من البنك الزراعي لشراء مدخلات الزراعة، فيما تطمئنهم الوعود الحكومية بشراء المحاصيل. والآن، بعد انخفاض أسعار القمح إلى نصف التكلفة المبذولة للإنتاج، فإن المزارعين تعرضوا للخسارة، ولم تف الدولة بشراء المحاصيل وأصبح المزارعون يواجهون أزمة حصادهم الخاسر والعجز عن سداد ديون البنك الزراعي وانتهى الأمر ببعضهم في السجون”.

سياسات مغايرة :

وخلال الفترة 2012 -2021 أبدت حكومة السودان الانتقالية اهتماما واضحا بالقطاع الزراعي، و في الفترة التي سبقت انقلاب 25 اكتوبر شهد السودان أحد أنجح مواسم زراعة القمح منذ أعوام. 

في 8 مارس 2021 وجه رئيس وزراء حكومة السودان الانتقالية، عبد الله حمدوك، بزيادة سعر شوال القمح من المزارعين قائلا “ما يحكمنا في السياسة السعرية لمحصول القمح ليس فقط أن يكون السعر مجزياً، بل أن يكون محفزاً للإنتاج». وأضاف لذلك قررنا رفع السعر التأشيري لجوال القمح من 10000 جنيه إلى 13500 جنيه”.

وشهد موسم القمح 2021 إنتاجا غير مسبوق في محصول القمح حيث بلغت جملة المساحة المزروعة بالقمح هذا الموسم 510 آلاف فدان، وسط توقعات أن يغطي الإنتاج أكثر من 60 في المائة من احتياجات الاستهلاك الداخلي.

مهددات المناخ

تقدر ثلث مساحة السودان باعتبارها أراضٍ صالحة للزراعة، في حين يشكل الجزء المستغل للزراعة منها 25% فقط، وتهدد هذه المساحة المتواضعة، ونظيرتها غير المُستغلة آفة التغير المناخي، التي أصبحت من أهم القضايا الشاغلة لدول عدة في العالم. لكن وبرغم المخاطر التي في انتظاره لا تقع قضية تغير المناخ بين هموم السودان الحالية، وهو الأمر الذي يثير تساؤلات جدية حول مستقبل موارد البلاد الطبيعية، والتي تعتبر احتياطي محتمل قابل للتطوير في المستقبل، ضمن سردية إمكانية أن يصبح السودان سلة غذاء عالمية وفي أقل الفروض سلة إقليمية ولمواطنيه قبلاً.

يتمظهر التغير المناخي في أشكال عدة، يواجه السودان منها حالياً السيول والفيضانات، وفي مناطق أخرى متفرقة يواجه نقيضها من موجات جفاف وارتفاع مطرد في درجات الحرارة . 

على الرغم من خطورة قضايا التغير المناخي وتأثيره المباشر على الاقتصاد والوضع الاجتماعي في البلاد، إلا أنه في خضم صراع سياسي متواصل وانهيار اقتصادي، تدخل هذه القضية ضمن موضوعات الترف السياسي ويتغذى هذا المفهوم على الفكرة العامة بأن السودان إحدى الدول الأقل نموا ولا يصنف بين الدول الصناعية، ما يجعل نسبة الانبعاثات ضئيلة جدا مقارنة بدول أخرى، وفي حقيقة الأمر، فإن ذلك لا يلغي كون السودان متأثرا ضمن بقية الدول.

 

وتشير تقارير إلى أن مناطق شاسعة في السودان قد تصبح غير قابلة للحياة البشرية، و بالنسبة للزراعة في السودان، فيمكن التكهن بمدى الضرر الذي سيقع على القطاع إذا ما استمر التجاهل الرسمي للقضية.

وفي نوفمبر 2021 حذر تقرير صادر بعد انعقاد مؤتمر (كوب 26) المرتبط بالمناخ في غلاسكو أن 65 دولة متأثرة بتغير المناخ على رأسها السودان ستشهد انخفاضا في إجمالي ناتجها المحلي بمعدل 20% خلال العقود الثلاث المقبلة.

وخلال العقد الأخير شهدت مواسم الزراعة المطرية بالخريف تذبذباً في كميات الأمطار مما أربك عملية الزراعة، التي تعتمد بشكل كامل على توقع كميات الأمطار وتوقيت دخول الخريف الذي يتطلب استقراراً مناخياً لنجاحه.

انعدام الأمن الغذائي

شهد القطاع الزراعي خلال العقود الثلاثة الأخيرة تدميراً وفساداً طال كافة المشاريع الزراعية بالسودان، بما في ذلك فقدان أكبر المشاريع الزراعية في السودان (مشروع الجزيرة) لأكثر من 85% من شبكة ريّه التصميمية، وهو المشروع المعتمد في الأساس على الري الانسيابي. 

وتهدد تداعيات إنهيار القطاع الزراعي الأمن الغذائي في السودان، وأعلنت الأمم المتحدة في تحديثها الأخير أن عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي في تزايد مستمر، وبحسب إحصاءاتها تشير الأمم المتحدة إلى أن 4 ملايين امرأة وطفل دون السن الخامسة يحتاجون إلى مساعدات إنقاذ وتغذية خلال العام 2023، كما تشير التقديرات إلى أن ربع سكان السودان (11.7 مليون شخص) يواجهون الجوع الحاد.

وبينما تتسع فجوة انعدام الأمن الغذائي، في المقابل يواجه القطاع الزراعي تدهوراً مستمراً، ليغلق بذلك الأبواب أمام التعويل عليه لسد الفجوة الغذائية بالبلاد. وحتى الآن لا يبدو أن حكومة الأمر الواقع تستشعر عواقب الانهيار الذي يعاني منه القطاع الزراعي، إذ ما تزال مستمرة في سياساتها بالتضييق على المزارعين، من خلال فرض الجبايات والزيادات المطردة في مدخلات إنتاجهم، الأمر الذي سيؤدي بالتأكيد إلى عزوف مزيد من المزارعين عن العمل بالزراعة لاستحالة قدرتهم على مجاراة هذه السياسات.

ويعتمد اقتصاد السودان بشكل كبير على القطاع الزراعي، حيث يسهم القطاع الزراعي بشقيه المروي والمطري بنحو 44% من إجمالي الناتج القومي بالبلاد.  وبحسب المنظمة العالمية للغذاء والزراعة (الفاو)، فإن عدد الأشخاص الذين يعملون بالزراعة يبلغ نحو 65% من سكان السودان.

رفع الدعم عن غاز الطهي وصفة جديدة لمضاعفة معاناة السودانيين

أية السماني

أية السماني

ماضون في قرار رفع الدعم عن غاز الطهي ضمن حزمة سياسات تقضي بتوسيع القاعدة الضريبية خلال العام الجاري، وإدخال مزيد من السلع ضمن موارد التحصيلات الضريبية”. هذا ما قاله وزير المالية في حكومة الأمر الواقع، جبريل إبراهيم، في مقابلة مع قناة (cnbc عربية) الإخبارية، في الرابع عشر من فبراير الماضي.

ويطمح إبراهيم، أن تصل حصيلة الإيرادات الضريبية لموازنة العام الحالي، حسبما قال للقناة، إلى 2.5 تريليون جنيه سوداني. غير أن تصريحاته تأتي في ظل أوضاع اقتصادية متداعية، لا يقابلها أي إنفاق حكومي على الخدمات، في وقت تذهب نسبة معتبرة من موازنة البلاد إلى القطاع الأمني الذي ظل يقمع السودانيين بالاقتطاع من مواردهم على مدى نحو عام ونصف العام.  

في المقابل، طبق موزعو الغاز بولاية الخرطوم، في التاسع من شهر مارس الحالي، زيادة جديدة على سعر أسطوانة الغاز بزيادة 350 جنيهاً سودانياً، وتأتي هذه الزيادة بعيداً عن القرار المرتقب لوزارة المالية، والذي سيؤدي، في حالة إجازته وتطبيقه، إلى زيادة إضافية في سعر الغاز.

ندرة وأزمات متوالية

يواجه قطاع الغاز، منذ سنوات، تحديات عديدة  تمظهرت في الأزمات المتتالية والتي ظلت تكرر دون بذل أي جهود حكومية من أجل إيجاد حلول ناجعة لها. فبجانب الازدياد المطرد في أسعار هذه السلعة الحيوية، فإن احتياج مصفاة واحدة للصيانة الدورية خلال فترة زمنية قصيرة، كان جديراً بأن يزاحم صفوف المواطنين للحصول على أسطوانة واحدة من الغاز، مما يخلق مغالاة صارخة في أسعاره بالسوق الموازي. علاوة على الفساد الذي وصل أوجه في خضم هذه الأزمات، متمثلاً في الاحتكار والتلاعب في أسعاره الرسمية.

 

ومن المتوقع، ميلاد أزمات عديدة في حال تم رفع الدعم عن غاز الطهي، والتي ستضاعف الضغوطات على المواطنين الذين لا يبدو أن الحكومة تأخذ أوضاعهم المادية بعين الاعتبار، في إجازة قراراتها ووضع السياسات التي ما زالت تثقل عليهم يوماً بعد يوم.

ويأتي اعتزام إبراهيم لرفع الدعم عن غاز الطهي، ضمن سياسات كانت قد ابتدرتها حكومة السودان الانتقالية في فبراير 2021 بتحرير اقتصادي؛ شمل سعر الصرف ورفع الدعم عن المحروقات والكهرباء والقمح، وعدد من السلع الاستهلاكية، في محاولة لإنعاش اقتصاد البلاد وقطع الطريق أمام المضاربين والفساد التجاري في هذه السلع، حسب ما أعلن وقتها.

استجابات متفاوتة

تباينت وجهات النظر، حول سياسات الحكومة الانتقالية السابقة، بين مؤيد ورافض. حيث رأى الكثير أن هذه القرارات، حتى وإن نجحت في سد الفجوة والوصول بالاقتصاد السوداني إلى بر آمن، فلن يستطيع المواطنون السودانيون مجاراة الغلاء الذي تسببت فيه، في خضم فقر طاحن ودخل لا يسد الرمق أو يلبي أساسيات المعيشة.

 

وكانت الحكومة الانتقالية، تعمل على إيجاد حلول مرحلية لمواجهة الانهيار المحتمل لتطبيق سياسات التحرير الاقتصادي ورفع الدعم عن السلع الاستراتيجية كالقمح والدواء والوقود، بالاستعانة ببرنامج (ثمرات)، وهو برنامج دعم نقدي مباشر ممول من قبل صندوق النقد الدولي، وكان يهدف لحماية الشرائح الفقيرة من تبعات السياسات القاسية والتي وصفت بكونها حزمة من الإصلاحات التي لا مفر منها.

 

ومع تدشينه، واجه برنامج (ثمرات) عقبات عديدة كان أولها؛ عدم دقة الإحصاءات بأعداد السكان، ما يشكك بصورة مباشرة في إمكانية وصوله إلى جميع الشرائح الفقيرة بأنحاء السودان، حيث اعتمد البرنامج على إحصاءات قديمة.

لكن في أعقاب انقلاب 25 أكتوبر 2021، واستيلاء قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، على السلطة في البلاد، توقف برنامج (ثمرات) ضمن ردود فعل خارجية إزاء الانقلاب العسكري الذي أطاح بالحكومة الانتقالية المدنية، والتي من بينها توقف جميع المساعدات الخارجية منذ يوم الانقلاب الأول. 

عٌلّقَ برنامج ثمرات،  فيما ظلت سياسات التحرير الاقتصادي مستمرة مع ارتفاع متواصل في الضرائب وتوسع في القاعدة الضريبية بناء على الموازنة التي وضعتها حكومة الأمر الواقع، وقد وصلت الإيرادات الضريبية أوجها في موازنة العام 2022 التي اعتمدت بشكل كامل على الإيرادات الداخلية دون دعم خارجي الأمر الذي شكل سحقا جديدا في غياب أي فرصة لدعم خارجي محتمل.

 

والآن؛ تسير موازنة العام 2023 بخطى سابقتها بذات السياسات،  حيث أشار وزير المالية بحكومة الأمر الواقع، جبريل إبراهيم، خلال حديثه عن خطوة رفع الدعم عن غاز الطهي، بأن الحكومة تطمح إلى زيادة في الاستثمارات تصل إلى 40% وتوسعة المظلة الضريبية لدخول مزيد من السلع والقطاعات في إيرادات الدولة الضريبية بالاضافة إلى رقمنة الاقتصاد.

 

يرى خبراء اقتصاديون، أن رفع الدعم عن الغاز له عواقب وخيمة ستقع على كاهل المواطن المثقل مسبقاً جراء السياسات الاقتصادية. وفي هذه الحالة، فإن القرار يؤثر مباشرة على أحد أهم السلع الاستراتيجية وهو الخبز، الذي بالرغم من غلاءه حالياً، إلا أن كونه أحد مكونات المائدة السودانية الأساسية، يجعل لا مفر من الحصول عليه.

يعتقد الخبير الاقتصادي محمد الناير، أن الحكومة لم تراع في هذا القرار الأسر ذات الدخل الضعيف، والذين اعتبرهم السواد الأعظم من السودانيين، مشيراً إلى أن الحكومة في تطبيقها لمثل هذه السياسات لا تتجاهل الضائقة المعيشية فحسب، بل أنها لم تتوافق مع تبريراتها بشأن سياسة رفع الدعم.

ويتابع الناير في حديثه لـ(بيم ريبورتس) قائلاً: “لم توظف الحكومة الأموال من رفع الدعم بالشكل المطلوب لدعم قطاع الإنتاج لأننا نشهد الآن معاناة كبيرة تقاسيها القطاعات الإنتاجية، بل تكاد أن تتسبب في توقف العملية الإنتاجية نتيجة للسياسات الاقتصادية التي أرهقت كاهل المنتجين والمواطنين”.

تبعات أخرى

إلى جانب كل المؤشرات التي توضح عدم قدرة الحكومة على التحكم بقطاع الغاز والسيطرة عليه لحمايته من الفساد والتلاعب، إلا أن صدور مثل هذه القرارات يجعل المواطن يتساءل، حول ما إذا كانت الدولة تتبع منهجية مدروسة لوضع سياساتها بخصوص السلع التي تمس حياته بصورة مباشرة.

 

وتخبط السياسات، يتضح بتتبع منهجية الحكومة السودانية خلال العامين الماضيين وإقرارها باعتمادها الكلي على الإيرادات الداخلية، في دولة تعاني من توقف عجلة إنتاجها وتدهور كبير في قطاع الصناعات. وبحكم الأمر الواقع، فإن الحكومة ظلت تعتمد على جيوب المواطنين غير آبهة لفداحة ما قد تجتره هذه السياسات من زيادة في معدل الفقر وتداعياته، وكذلك نتائجه التي ستثقل عاتق دولة تعاني في الأصل من فراغ سياسي وأمني كبيرين.

 

ومع الإرهاق المستمر الذي يقاسيه المواطنون، جراء الغلاء المستمر في سلعهم الاستهلاكية الرئيسية، يبدو أنه لن يكون بمقدورهم تحمل تبعات زيادة الغاز، في حال إقرارها، وهو ما قد يضطرهم للبحث عن بدائل أخرى كالفحم، والذي بدوره سيكلف السودان معركة أخرى، لا يبدو مستعداً لمواجهتها.

في أوقات سابقة، ومع اشتداد أزمة الغاز واستحالة الحصول عليه، كان المواطنون يتجهون إلى استخدام الفحم الطبيعي لسد الفجوة، مرةً بسبب غلاء أسعاره ومرةً أخرى بسبب ندرته، وأيضاً في وقت الصيانة السنوي للمصفاة، والتي كأن الحكومة تفاجأ بمواعيدها.  

 

كان توجه المواطنون للفحم الطبيعي جديرا بأن يصنع تجاراً جدد من الملتفين حوله والمغالين بأسعاره كذلك، فقد شهدت أسعار الفحم الطبيعي قفزات عديدة.

كذلك، كان استمرار ازمة الغاز بمثابة خطوة جديدة في تدمير الغطاء النباتي في السودان، حيث أدى اتساع تجارة الفحم لقطع الأشجار غير الضروري و تدمير الغابات بغرض حرقها والحصول على فحم طبيعي، دون مراعاة للآثار المترتبة على ذلك ما ينذر باختفاء مساحات شاسعة من الغابات في السودان والذي يقود لتعريض البيئة و حياة الحيوان والإنسان لخطر محدق.

 

ويبدو أن محاولة رفع الدعم عن غاز الطهي، يمثل مدخلاً جديداً بالنسبة لحكومة الأمر الواقع لتمويل نفسها من جيب المواطن السوداني الذي ظل يعيش على مدى السنوات الماضية، في خضم سياسات اقتصادية وموازنات قاسية، تقربه من حافة الموت فقراً، يوماً بعد يوم.

يلمع بعيداً عن أعين السودانيين.. هل تنجح (بورصة الذهب) في إنهاء العبث بالمورد الرئيس لاقتصاد البلاد؟

ما يزال قرار إنشاء (بورصة الذهب والمعادن)، يراوح مكانه حتى الآن، على الرغم من مرور ثلاث سنوات على تاريخ صدوره من قبل رئيس الوزراء السابق، عبدالله حمدوك. ومع ذلك، يؤكد مسؤولون حاليون لـ(بيم ريبورتس)، اقتراب موعد افتتاحها في الأشهر القليلة المقبلة.

 

وظل الحديث عن إنشاء بورصة للذهب والمعادن، مستمراً، منذ تشكيل الحكومة الانتقالية في عام 2019م، في ظل تنامي عمليات تهريبه إلى خارج البلاد من خلال المنافذ الرسمية وطرق أخرى، ومحاولة تنظيم عمل القطاع الذي يمثل أهم الموارد الاقتصادية للبلاد في الوقت الحالي، من ناحية أخرى.

رغم ذلك، ما تزال الترتيبات جارية، لتشغيل البورصة التي يقع مقرها بوسط العاصمة السودانية الخرطوم، والذي تبدو عليه آثار حداثة التشييد، ويتناثر بداخله الأثاث المكتبي الجديد والكمبيوترات والمخلفات، حسبما رصدت (بيم ريبورتس).

 

وفيما لا تزال الأحاديث والتصريحات تتجدد عن تشغيل البورصة، إلا أن إنشائها وتشغيلها، قد يصطدم بظروف اقتصادية ولوجستية عدة، بحسب خبراء، والتي ربما قد تقلل من جودة عملها، ما لم يتم ذلك وفق المواصفات العالمية وتشديد الرقابة عليها.

رغم ذلك، يرى مسؤولون أن تأخر إنشاء البورصة أمر طبيعي في ظل الإجراءات المطلوبة لتشغيلها.

 

“البورصة لم تتأخر، بل تعطلت بسبب إجراءات طبيعية، كون أنها  تحتاج للإشراف من كل الجوانب: التشريعية والقانونية والفنية والمالية والإدارية”. يقول مدير مشروع البورصة ومقرر اللجنة التسيرية لسوق مال المعادن الطيب الجعلي لـ( بيم ريبورتس).

ويضيف: “ليس بالضرورة أن يعني إصدار حمدوك لقرارات بشأن إنشاء البورصة قبل 3 أعوام، أن يتم تنفيذها سريعاً”، مشيراً إلى أن أسرع مشروع لتنفيذ بورصة في العالم، تم في اليابان، حيث استغرق إنشاؤها 9 أشهر للعمل، رغم أنها موجودة بالفعل، وفق ما قال.

وحسب الجعلي، فإن وزارة المالية دفعت مبلغ 3 تريليونات ونصف التريليون جنيه سوداني  للبورصة ضمن موازنة العام الحالي، بعد تقديم اللجنة التسيرية دراسات مالية عن احتياجات البورصة.

 

 وعزا أسباب تأخر البورصة حتى اليوم لعدم تخصيص ميزانية لها ضمن موازنة الأعوام الماضية، قبل أن يشدد على دخول بورصة الذهب في موازنة الربع الأول من العام الحالي.

ورأى الجعلي، أن فوائد البورصة بعد إنشائها، تتمثل في كونها سوق منظم ومرتب ويخضع لقوانين ولوائح تغني الدولة عن الوسطاء وتتم بإشراف الجهات الرقابية، وتقدم سعراً عادلاً للمنتج والمستهلك.

 

أيضاً أشار إلى أن البورصة تعزز من الشفافية والنزاهة التجارية وتنظم العائد، وتساهم في مراقبة عائد الصادرات المعدنية. كما أنها ستمكن بنك السودان المركزي من تنفيذ سياساته النقدية عبر تنويع احتياطه وتوفير أدوات مالية  وتجذب الاستثمارات من داخل وخارج السودان، مما يدعم استبقاء الذهب داخل البلد. بالإضافة إلى دورها في معالجة مشاكل التهريب والتوزيع والتخزين.

قرار إنشاء البورصة

في الرابع من مايو عام 2020م، أصدر رئيس الوزراء السابق، عبد الله حمدوك، 6 قرارات اقتصادية، على رأسها إنشاء بورصة للذهب، والنظر في تمثيل الجهات المختصة فيها وتوحيد سعر الذهب مع السعر العالمي. 

 

قرار حمدوك، أكدته وزارة المالية والتي أشارت إلى أهمية البورصة، وقالت إن “الخطوة ستشجع على تدفق رؤوس الأموال الأجنبية للسودان”، قبل أن تؤكد موافقتها على إنشاء بورصة للذهب والمعادن وبورصة للمحاصيل الزراعية في الرابع عشر من ديسمبر عام 2020م، كما جاء على لسان وزيرة المالية السابقة، هبة محمد علي، والتي قالت إنها ستساهم في تقليل الاستدانة من النظام المصرفي لمكافحة التضخم، كأحد أهداف موازنة العام 2020م.

 

ومع ذلك، يعد قرار افتتاح بورصة للذهب، خطوة قديمة تعود لأكثر من خمس سنوات، لكن عدم جاهزية حكومة النظام المخلوع للوفاء بمتطلباتها أدى لتجميدها. إذ حاولت، في آخر أيامها احتكار شراء الذهب لبنك السودان المركزي، لكنها تراجعت قبل أن تحرر سعره بعد أيام قليلة.

 

وطوال الأعوام الماضية، كان شراء الذهب وتصديره مسموحاً به للقطاع الخاص فقط. ورغم أن الحكومة الانتقالية كانت قد أكدت على اتخاذها خطوات جادة في تأسيس البورصة وشرعت فعلياً في ذلك، إلا أن الخطوة تأخرت بسبب عقبات عديدة، بحسب خبراء اقتصادين ومراقبين.

تشكيل لجنة تسييرية

 بتاريخ 12 أغسطس 2021م،  أصدر وزير المالية، جبريل إبراهيم، قراراً بتشكيل لجنة تسييرية للإعداد لقيام سوق مال المعادن تحت رئاسة وكيل أول وزارة المالية، وعضوية كل من: وكيل وزارة المعادن، مدير عام سلطة تنظيم أسواق المال، نائب محافظ بنك السودان المركزي، مدير عام مصفاة السودان للذهب ومدير سوق الخرطوم للأوراق المالية. بالإضافة إلى خبراء متخصصين في أسواق المال العالمية والمعادن الثمينة؛ مثل عمرو زكريا عبده وعبد العظيم الأموي.

 

المضي قدماً في قرار إنشاء البورصة وجد ترحيباً فورياً، لكونه يعطي دفعة قوية لقطاع الذهب.

 قال عضو اتحاد أصحاب العمل السوداني، أحمد محمد سيد، في تصريح صحفي إن “إنشاء بورصة الذهب يمثل دفعة حقيقية للإنتاج في قطاع التعدين، ويحد من تدني سعر الشراء الذي يعد سبباً رئيسياً لتهريب الذهب للخارج، ويحد من تحمل المنتج مخاطر التهريب، والاتجار في السوق السودان”.

 

وأضاف: “أن وجود بورصة معتمدة يعفي المنتجين من الذهاب ببضاعتهم للخارج؛ ويقلل المخاطر والفاقد بالنسبة للمنتج. كما يمكن من إنشاء عقود آجلة بضمان الإنتاج مما يوفر عائداً من العملات الصعبة للمنتجين والبنك المركزي، ويساهم في إنشاء سندات ذهبية بضمان الذهب نفسه للاستثمار في مدخرات المغتربين السودانيين؛ مما سيضخ تمويلاً لتطوير البورصة وتوسعها، ويوفر للبنك المركزي مورداً من العملات الصعبة بهامش ربح أفضل من الاقتراض”.

 

في الاتجاه نفسه يمضي خبراء، غير أنهم يتحدثون عن متطلبات أساسية لنجاح بورصة الذهب. 

يقول الخبير الاقتصادي، فتحي هيثم، لـ(بيم ريبورتس)، “إن إنشاء بورصة في صورة كيان مؤسسي حكومي شبه ذاتي التنظيم. أو بورصة خاصة أو شركة مساهمة سودانية مع بورصات أجنبية، أو كيان (شركة) تضم شركاء من بورصات إقليمية ودولية، يعد أولى الخطوات الجادة لجذب الاستثمارات في سوق الذهب”.

 

 ويضيف: “في تقديري ستنجح البورصة في تنظيم قطاع التعدين، لأنَّ قيامها سوف يعمل على التساوي بين السعرين العالمي والمحلي، وبالتالي لن يكون هناك سوق موازٍ للذهب في السودان مما سيحد من الأزمات الخدمية والمعيشية التي ظل يعاني منها المواطن سنوات طويلة، كما أنها ستنظم حركة التداول داخل السوق”.

 

ويشير هيثم، إلى أن أهم متطلبات نجاح بورصة الذهب تتمثل في إكمال محاور الاعتراف الدولي بمصفاة الذهب في الخرطوم، وهو أمر ما يزال يحتاج إلى عدة خطوات، حسبما قال. بالإضافة إلى ضرورة تحسين النظام المصرفي السوداني وجعله أكثر تواصلاً مع النظام المصرفي الدولي، مع أهمية تجهيز البورصة بكل أدوات التواصل الإلكتروني مع أسواق الذهب العالمية وتحقيق كل الضوابط الأمنية والتأمينية وفق المعايير الدولية.

 

بالإضافة إلى إنشاء مجلس إدارة يمتلك خبرات كافية لوضع صياغة فنية للذهب والعقود، والاستعانة بشركة إدارة لديها خبرات سابقة في بورصات الذهب حول العالم لإنشاء بورصة سودانية متخصصة بالذهب وإداراتها بكفاءة في فترتها الأولى”، يوضح الخبير الاقتصادي. 

 ويرى أنه من الضروري توفير تدريب خارجي للعاملين ورفع كفاءتهم، وشدد قائلاً: “هذا ما كان يعرقل قيام بورصة الذهب في السودان ونجاح التجربة”. 

الشركة السودانية للموارد المعدنية

في المقابل، أكد المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية المحدودة (شركة حكومية)، مبارك أردول، في تصريح له خلال اجتماع مشترك بين الشركة واللجنة التسييرية لسوق مال المعادن في مايو الماضي، على ترحيب الشركة بخطوة إنشاء البورصة. 

 

وسرعان ما أعلن عن ابتعاث الشركة مجموعة من منسوبيها للتدريب المبكر في بورصة دبي لتلقي تدريبات وصفها بـ المكثفة والمتقدمة، حول كيفية متابعة أعمال البورصة وكيفية التداول فيها والضوابط التي تحكم أعمالها.

 

وبخصوص عائداته، أعلنت الشركة السودانية للموارد المعدنية في تقرير لها عن تحقيقها أعلى إنتاجية للذهب في تاريخ قطاع المعادن في السودان خلال العام الماضي، إذ قدر التقرير إنتاج الذهب بحوالي 15.28 طن.

وقال مدير الإدارة العامة للإشراف والرقابة على شركات الإنتاج، علاء الدين محمد علي، في تصريح نقلته منصات الشركة على وسائل التواصل الاجتماعي، “إن نسبة إنتاج البلاد من معدن الذهب للعام الماضي بلغت 18 طناً و 637 كيلوغراماً من إنتاج القطاع المنظم من شركات الامتياز وشركات معالجة مخلفات التعدين التقليدي”.

 وأضاف: “الإنتاجية  تعد الأعلى في تاريخ الشركة السودانية للموارد المعدنية بزيادة بلغت طن واحد و611 كيلوغراماً عن أعلى إنتاج في الفترة الماضية، الذي تحقق في العام 2019م والبالغ 17 طنا و26 كيلوغراما”.

وحسب التقرير، فإن شركات الامتياز أنتجت  3.64 طن في وقت كان مخطط له 3.35 طن بنسبة إنجاز بلغت 105 %، فيما أنتجت شركات معالجة مخلفات التعدين التقليدي 6.09 طن من 5.69 طن بنسبة بلغت 107% ، أيضا بلغ إنتاج التعدين التقليدي 5.55 طن من المخطط 17.5 طن بنسبة 32%.

وأوضح التقرير، أن التعدين  يشغل 173.000 كلم تعادل 16% من مساحة السودان.

 

 كما ذكر التقرير، أن  شركات التعدين الوطنية تشغل 62% من المساحة، مقابل 38% تشغلها شركات امتياز أجنبية يبلغ عددها  “36” شركة امتياز أجنبية، من “18” دولة، تتصدرها الصين بعدد “11” شركة تعدين، ثم “3” شركات لدول الهند وتركيا والمغرب وقطر، وشركتان سعوديتان، وشركة واحدة لكل من الإمارات، أرمينيا، مصر، الأردن، كندا، جنوب أفريقيا، اليابان، اليمن، روسيا، عمان وبريطانيا، فيما توجد “21” شركة امتياز أجنبية أخرى لم يصنفها التقرير.

وطبقاً للشركة، فإن 12 ولاية في البلاد استفادت من مشروعات المسؤولية المجتمعية التي قدرتها بـ79 مشروعاً استضافته مناطقها بقيمة اجمالية تجاوزت 1.9 مليار جنيه. 

 

وذكر التقرير، أن آخر إحصاء لأسواق التعدين قدرها بـ”86″  تنتشر في 12 ولاية، تتصدرها ولاية جنوب كردفان بعدد “24” سوق تعدين.

ورغم حجم الإيرادات الكبير الذي ينتجه السودان واحتلاله المرتبة الثالثة من حيث الإنتاج في القارة الأفريقية بعد جنوب أفريقيا وغانا بحسب تقرير أصدرته هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية، إلا أن مراقبين أكدوا على عدم وجود عوائد كبيرة للمعدن على اقتصاد البلاد التي تعاني في الأصل من توفير العملات الأجنبية، مما جعل اقتصاديين يعولون على  قرار تأسيس بورصة للذهب، بهدف المساعدة في الاحتفاظ بهذه الثروة داخل البلاد وتقلّيص عمليات تهريبها.

تهريب مستمر للذهب

في سبتمبر 2021م، كشف تقرير أعده فريق من الاتحاد الأفريقي ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية، عن تهريب 267 طناً من الذهب السوداني خلال 7 سنوات بواقع 80 كجم يومياً.

 

وأفاد التقرير، بأنه جرى تهريب هذه الكمية خلال الفترة بين عامي 2013 -2018م، وأشار إلى وجود فرق 13.5 مليار دولار، بين معلومات الحكومة السودانية، والدول التي استوردت الذهب والنفط.

وطبقاً للتقرير، فإن التدفقات غير المشروعة تكلف السودان 5.4 مليار دولار، فيما بلغت فجوة المعاملات التجارية العالمية للسودان خلال الأعوام 2012 – 2018م، 30.9 مليار دولار، وهو مبلغ يمثل 50% من إجمالي تجارة البلاد خلال هذه السنوات.

وفي أواخر يوليو 2022م، نشرت شبكة الـ(سي إن إن) الأمريكية، تقريراً عن تهريب ذهب السودان إلى روسيا بما يقدر بمليارات الدولارات بمساعدة القيادة العسكرية في البلاد. وقالت إنه تم التقاط صورة داخل بنك السودان المركزي لشاشة كمبيوتر تظهر، أن الإنتاج الرسمي في عام 2021 كان 49.7 طن، 32.7 طن منها ليست موثقة من قبل البنك المركزي.

 

وأضافت الشبكة التي قالت إنها تواصلت مع وزارتي الخارجية والدفاع الروسيتين ومع مكتب القائد العام للجيش وقائد الدعم السريع، ولم تتلق ردًا: “الإنتاج الحقيقي قد يكون أكثر من 220 طنًا، أو ما يعادل 13.4 مليار دولار من الذهب سنويًا تتم سرقتها من السودان”.

 

غير أن وزير المعادن بحكومة الأمر الواقع، محمد بشير عبد الله، علق على التقارير حول تهريب ذهب السودان بنفيه صحة الأرقام التي توردها هذه التقارير، ووصفها “بالمبالغ بها”، كما أشار إلى أن الجهات التي تطلقها لديها أجندة.

 

أيضاً،  كشف تقرير لصحيفة (النيويورك تايمز) الأمريكية عن تورط دولة الإمارات في تهريب ذهب السودان بالتنسيق مع مليشيا فاغنر الروسية. ونسب تحقيق الصحيفة الأمريكية، إلى خبراء سودانيين تصريحات عن هيمنة عائلة قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) على تجارة الذهب الذي يهرب حوالي 70% منه وفق تقديرات بنك السودان المركزي التي حصلت عليها الصحيفة.

 

وأقر قائد الدعم السريع نفسه في تصريح له أثناء اجتماع مع رجال الأعمال والمستوردين والمصدّرين ببرج اتحاد الغرف التجارية في التاسع من مارس الماضي بتهريب ذهب السودان عن طريق ما أسماها بـ(المافيا) التي تنشط في المضاربة بالدولار والذهب وتتكسب من عرق الشعب السوداني، على حد تعبيره.

 

ورغم تأكيدات القائمين على أمر إنشاء بورصة الذهب في حكومة الأمر الواقع على قرب موعد افتتاحها، إلا أن وعود الأعوام الماضية التي اصطدمت بواقع الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تفاقمت في أعقاب انقلاب 25 أكتوبر 2021. بالإضافة إلى أن البلاد ظلت ميداناً لصراع محاور دولي وإقليمي، ينشط في عمليات تهريب ذهب البلاد بالمنافذ كافة، وهي العمليات التي يشترك فيها نافذون في أعلى مستويات الدولة. 

 

لكن مع ذلك، لا يزال المترقبون لافتتاح البورصة على مدى السنوات الثلاث الماضية، يأملون في أن يرونها على أرض الواقع، للقيام بدور رقابي وتنظيمي لطالما افتقده قطاع الذهب الذي يمثل أحد أهم موارد البلاد الاقتصادية.

«الجديدة» تنتهج نفس السياسات.. كيف سحقت موازنة العام «2022» مدخرات ملايين السودانيين؟

أية السماني

أية السماني

“نبشر المواطن بأن العام فيه خير، بُذل مجهود في الموازنة لخلق وظائف ودعم للقطاعين الصحي والتعليمي.. كما خصصت مبالغ معتبرة لدعم الأسر الفقيرة، وستزداد أجور الموظفين بصورة طيبة”. هكذا تحدث وزير المالية بحكومة الأمر الواقع، جبريل إبراهيم، عن موازنة العام الماضي 2022م.

غير أن حديثه لم يتحقق على أرض الواقع، بل كان عكس ما أشار إليه حيث سحقت الضرائب والجبايات والسياسات الاقتصادية عامةً مدخرات الملايين، ليضم السودانيون حديثه إلى ذاكرتهم المليئة بوعود الدولة. حيث تتجدد ذات العهود على لسان الحكومات المتعاقبة، سواءً تلك التي أتت بقوة السلاح أو بشرعية الانتخابات، ببناء نظام صحي متماسك، وإنفاق على قطاعات التعليم والصحة وغيرها من القطاعات الحيوية، بالإضافة إلى أجور تتعدى الخط الأدنى وتبشر بواقع أفضل لمعيشتهم، فيما يحدث العكس تماماً.

هكذا..مر عام على إعلان حكومة الأمر الواقع لموازنة العام 2022م والتي استغرقت وقتاً أكثر من المعتاد، إذ أعلنت بعد مضي أكثر من 20 يوماً من شهر يناير 2022م وهو الوقت المتوقع لبدء تنفيذ الموازنة والصرف على المؤسسات الحكومية.

في وقت تثور التساؤلات، ما إذا كانت موازنة العام 2023م، ستمضي في ذات نهج سابقتها بالاعتماد على الضرائب والجبايات، مع انعدام التمويل الخارجي للعام الثاني على التوالي، وهو الأمر الذي  يضاعف الضغط على المواطنين، في خضم سيل من الأزمات الطاحنة على الصعد كافة.

وكانت وزارة المالية، أعلنت في ديسمبر الماضي، أنها أودعت مشروع موازنة العام 2023م، منضدة مجلس الوزراء، مشيرة إلى أن الخطوة تأتي توطئة لمناقشته على مستوى اللجان وقطاعات المجلس المتخصصة، ومن ثم رفعه لإجازته من المجلس وفق الجدول الزمني المحدد له. ومع ذلك، أعلنت غالبية ولايات البلاد الـ18 إجازة موازناتها للعام الحالي.

بينما قال وزير المالية، إن المبلغ المرصود لموازنة العام 2023م، يصل لحوالي 5 تريليونات جنيه سوداني، مقراً في الوقت نفسه بوجود عجز في الموازنة، أشار إلى أنه لا يتخطى نسبة 15%، مع إمكانية تغطيته باللجوء إلى الاقتراض من بنك السودان المركزي.

تأخر إجازة موازنة العام 2023م، هو نفس سيناريو الموازنة السابقة والتي وضع تأخيرها الكثير من التساؤلات حول عجز الجهاز التنفيذي بالحكومة لإعدادها، إذا أجيزت في ظل وضع سياسي محتقن ومؤشرات تنذر بتراجع اقتصادي كبير وقد قدرت المالية حدوث عجز كلي في الموازنة بمبلغ (363) مليار جنيه بنسبة (1,3%) من الناتج المحلي الإجمالي يتم تغطيته من أدوات الدين الداخلي والاستدانة من بنك السودان المركزي بمبلغ (374) مليار جنيه، ومبلغ (11,0) مليار جنيه من الأصول المالية، لكن ذلك لم يمنع الحكومة من تقديم  ذات الوعود المعتادة.

وعود متجددة

بلغة غير اقتصادية وغير مدعمة بالأرقام، أعلن وزير المالية بحكومة الأمر الواقع، إجازة الموازنة، مشيراً إلى أنه تم بذل مجهود كبير فيها لخلق وظائف ودعم القطاعات الحيوية، وزيادة الأجور.

غير أن الوقائع كانت تقول أشياء أخرى، على عكس أحاديث واضعي الموازنة والقائمين عليها، حيث أن العام 2022م شهد اضطراباً اقتصادياً واضحاً تمظهر في الإضرابات المتتالية التي نفذها مهنيون وعاملون بكافة القطاعات في السودان، احتجاجاً على الأجور الضعيفة، في خضم أزمة اقتصادية طاحنة، وقد شملت الإضرابات العاملين في القطاعين الصحي والتعليمي. علاوة على ارتفاع معدل الفقر في السودان ونذر فقدان ثلث السودانيين أمنهم الغذائي بحسب تقرير صادر عن الأمم المتحدة.

موازنة بدون دعم خارجي

أجيزت موزانة العام 2022م لأول مرة منذ عقود بلا دعم خارجي، حيث اعتمدت بشكل كلي على الموارد الذاتية للدولة. وبطبيعة الحال، فإن السبب الأساسي يرجع لتجميد المساعدات المالية الضخمة التي وعد بها السودان والتي قدرت بأكثر من 4 مليارات دولار، عمل السودان حثيثا ليظفر بها خلال عامين قبل أن يطيح القائد العام للقوات المسلحة بالحكم الانتقالي في السودان في 25 أكتوبر 2021م.

رأى وزير المالية جبريل ابراهيم، وقتها أن انعدام التمويل الخارجي في الموازنة يمثل تحدياً كبيراً لكنها اعتبرها “موازنة واقعية” مضمونة التنفيذ، على حد قوله.

ومع ذلك، كانت الوزارة تأمل في أن يتم استئناف التعاون الخارجي باعتبار أن المساعدات لم تتوقف نهائيا ولكنها جمدت بسبب الأحداث السياسية وأن “المياه ستعود لمجاريها” عقب التشكيل الوزاري واستئناف نشاط مؤسسات الدولة بحسب الناطق الرسمي باسم وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي، أحمد الشريف.

التضخم

كان خفض التضخم إحدى الأولويات التي تطمح إليها موازنة العام 2022م، وبالفعل، اختتم الجهاز المركزي للإحصاء ذلك العام بنشر التقرير الدوري لحساب معدل التضخم في نوفمبر 2022م، حيث انخفضت نسبة التضخم لتصل إلى 88.83، والذي يعد انخفاضاً كبيراً مقارنة بنسبة التضخم قبل عام في نوفمبر 2021م و التي كانت 339.58.

بالرغم من أن هذه الأرقام (الرسمية) تعتبراً انخفاضاً هائلاً، إلا أن محللين وخبراء اقتصاديين لديهم تقديرات مختلفة حول هذه الأرقام، لأن غلاء الأسعار وضيق المعيشة في السودان يقابل انخفاض التضخم. مشيرين إلى أن الأرقام تشير مباشرة إلى الكساد الاقتصادي وضعف القوة الشرائية ما يعد انخفاضاً سلبياً في التضخم.

بالنسبة لمعدل التضخم المحسوب من قبل الجهاز المركزي للإحصاء، فإنه يعتمد بشكل أساسي على سلة السلع التي تستهلكها الأسر السودانية المتوسطة، وبحسب المدير العام لجهاز الإحصاء المركزي، علي محمد عباس، فإن سلة السلع التي يحسب على أساسها معدل التضخم لم تتغير منذ أكثر من عقد ونصف العقد.

تعتبر هذه المدة طويلة وقد تؤثر بشكل أساسي على مدى صحة حساب متوسط التضخم الذي يجب أن يعبر عن السلع الأساسية ومدى استهلاكها والارتفاع الذي يطرأ عليها ويؤثر على المواطنين مباشرة. وحسب محللين اقتصاديين، فإن انعدام الشفافية حول ماهية السلع المختارة في السلة، يضع الكثير من الاحتمالات حول مصداقية هذه الأرقام، كما يثير الشكوك حول إمكانية تسييس هذه الأرقام لأغراض أو لجهات بعينها.

يرى الخبير الاقتصادي، معتصم أقرع، أن استقلالية الجهاز المركزي للإحصاء ضرورية للحصول على بيانات موثوقة، ويقول:

"يجب تحويل الجهاز المركزي السوداني للإحصاء لهيئة وطنية مستقلة. ويمكن تحقيق ذلك الاستقلال عن طريق سن تشريعات ووضع ترتيبات مؤسسية مستوحاة من تلك المعمول بها لضمان استقلال القضاء واستنادا على الإرث العالمي المتعلق بأفضل الممارسات في مجال الإحصاء والبيانات"

واجهت الموازنة منذ إجازتها انتقادات واسعة وشكوك حول مدى إمكانية تنفيذها، من فئات مجتمعية وقطاعات مختلفة نسبة لاعتمادها الكبير على الجبايات والضرائب التي تثقل كاهل المواطن في الوقت الذي يواجه فيه السودانيون ضائقة اقتصادية طاحنة في ظل العجز المتوقع والمشهد السياسي المتوتر ووسط تدني الأجور في مقابل الارتفاع الهائل للأسعار.

عام جديد

بالرغم من أن موازنة العام 2023م، -لم تجز حتى الآن- إلا أن وزير المالية، قدر المبلغ المرصود للموازنة بـ5 ترليونات جنيه سوداني، كما قدر أن العجز المتوقع في الموازنة بأنه لا يتجاوز 15% مع إمكانية الاستدانة من بنك السودان المركزي. ونسبة لاستمرار تعليق المساعدات الخارجية، فقد أعدت الموازنة للسنة الثانية على التوالي بلا دعم خارجي وباعتماد كلي على الموارد الذاتية.

"موازنة العام الحالي، ستتبع ذات المنهج السابق بالمبالغة في تضخيم الإيرادات و المصروفات، ما يقود للتدهور الاقتصادي الذي تعيشه البلاد حاليا" يقول الخبير الاقتصادي، فتحي هيثم لـ(بيم ريبورتس).

ويدخل السودان العام الجديد في ظل تراجع اقتصادي ملحوظ تقاسيه البلاد، تمثل في كساد عام في الأسواق وضائقة معيشية يكابدها المواطنون في ظل انعدام استقرار سياسي وأمني في أنحاء كثيرة من البلاد بما في ذلك العاصمة الخرطوم. ويشكل الاحتقان السياسي في البلاد تأثيراً مباشراً في الوضع الاقتصادي بالبلاد وفي هذا السياق يواصل هيثم قائلاً: “إن كان للمسألة الاقتصادية أن تحل فلا بد من إصلاح سياسي يفك القيود، ويفسح المجال للعمل الجماعي والفردي”، مؤكداً أن الضائقة الاقتصادية في السودان بالرغم من طول فترتها إلا أنها” قابلة للحل.

في ظل بقاء الوضع على ما هو عليه إلى حد كبير في الصعد كافة حتى الآن، وخاصة الاقتصاد، تشير المؤشرات الأولية وتوقعات الخبراء، أن الموازنة الجديدة للعام 2023م، سوف تنتهج نفس السياسات السابقة القائمة على تمويل أنشطة الحكومة ومسؤوليها من جيوب المواطنين، وذلك من خلال الجبايات والضرائب المتزايدة يوماً بعد يوم، وهو الأمر الذي لن يسحق مدخرات المواطنين وحسب، وإنما يضعهم في مواجهة محتومة مع الفقر.  

بعد عام من حكم الجيش.. هل أصبح الاقتصاد السوداني على حافة الانهيار؟

من تحت رماد الأزمة الاقتصادية والمالية، انطلقت شرارة ثورة ديسمبر 2018م، التي أطاحت بنظام الرئيس المخلوع عمر البشير في أبريل 2019م.

والأزمة الاقتصادية التي يمر بها السودان حالياً، تعد في الأصل امتداداً لتركة الخسائر التي خلفها نظام البشير، تضافرت مع فقدان البلاد لأكثر من ثلثي عائداتها الاقتصادية من النفط عقب انقسام جنوب السودان في يوليو 2011م.

لم يكن فقدان عائدات النفط كل شيء، إذ صاحبه سوء في إدارة الموارد واستشراء الفساد، بالإضافة إلى تسارع وتيرة التدهور الاقتصادي والصرف الأمني العالي، للنظام المخلوع، أثناء محاولته قمع الثورة.

كان “البرنامج الإسعافي” خطة المعارضة الرئيسية لمعالجة الوضع الاقتصادي في البلاد، قبل سقوط نظام الرئيس المخلوع، عمر البشير. لكن، مع وصول الحكومة الانتقالية للسلطة في أغسطس 2019م، بدا أن لديها خطة مختلفة في إدارة الملف الاقتصادي عن حاضنتها السياسية، في خضم عقوبات غربية وديون مليارية وسيطرة القطاع العسكري على الاقتصاد، اختارت إعادة هيكلة الاقتصاد عن طريق الدعم الخارجي المرتبط بمؤسسات التمويل الدولية.

لتبدأ الحكومة الانتقالية تعاطيها مع الأزمة الاقتصادية، من خلال العمل على إعادة علاقات البلاد مع المجتمع الدولي، قبل أن تنخرط في اتفاقات وتفاهمات، على أمل إعفاء الديون وإيجاد تمويل من المؤسسات الدولية، في محاولة لإعادة هيكلة الاقتصاد وإنعاشه.

وأثمر حراك الحكومة الانتقالية في هذا الاتجاه، عن وصول السودان في التاسع والعشرين من يونيو 2021م إلى نقطة القرار التي قضت بتخفيف أعباء الديون، بعد قرار المجلسين التنفيذيين للمؤسسة الدولية للتنمية بالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، إذ تعد هذه العملية هي الأكبر في تاريخ مبادرة دعم الدول الفقيرة المثقلة بالديون (الهيبيك).

لكن، بعد عام واحد فقط من انقلاب الجيش في 25 أكتوبر 2021م، تم تعليق عملية إعفاء الديون، وأصبحت حتى تلك المكتسبات القليلة والتي كانت في طور البداية في مهب الريح، ولم يعد الاقتصاد السوداني، يعاني من حالة تدهور وحسب، وإنما بات أقرب إلى حالة السقوط الحر.

تلقائياً تعمقت أزمة الاقتصاد السوداني، كون الحكومة الانتقالية كانت تعول على الدعم الخارجي المرتبط بعملية إعفاء الديون والاستمرار في تطبيق سياسات البنك الدولي.

ومع ذلك، أعلنت سلطة الأمر الواقع، أنها ستعتمد على الموارد الذاتية، لكن بعد عام من خطتها المعلنة، انزلقت البلاد إلى حالة حادة من الركود الاقتصادي، تجلت مظاهرها في انخفاض كبير للطلب، وخروج قطاعات عديدة وحيوية من خط الإنتاج، بجانب احتجاجات مستمرة للتجار والشركات والمنتجين، بما في ذلك الإضرابات والعصيان المدني، خلال الأشهر الأخيرة.

ويعرف المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية، وهو مجموعة من الاقتصاديين، الركود بأنه: “انخفاض كبير في النشاط الاقتصادي، ينتشر في جميع أنحاء الاقتصاد ويستمر لأشهر عديدة”.

في مسار الاقتصاد قبل الانقلاب، أشار المجلسين التنفيذيين للمؤسسة الدولية للتنمية بالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وقتها، إلى أنه من شأن تخفيف أعباء الديون دعم جهود السودان في تنفيذ إصلاحاته المرجوة، بموجب هذا التخفيف وفق مبادرة (هيبيك) وغيرها من المبادرات، سينخفض الدين الخارجي العام للسودان بأكثر من 50 مليار دولار، أي ما يمثل أكثر من 90% من مجمل الدين الخارجي إذا تمكن السودان من الوصول لنقطة الإنجاز وفق هيبيك في غضون 3 أعوام تقريباً. في خطوة وصفها رئيس الوزراء آنذاك، عبد الله حمدوك، بأنها “علامة فارقة ومهمة تدعم جدول أعمال السودان للإصلاح والتنمية وتشجع رفع المستويات المعيشية لبلادنا”.

كما اعتبر وصول السودان رسمياً الى نقطة قرار مبادرة الهيبيك بأنه “إنجاز هائل”، بعدما أصبح مؤهلاً للاستفادة من هذه المبادرة.

ونتيجة لهذه الخطوات التي تصب “في مصلحة الإصلاحات الاقتصادية” اقترب السودان من تحقيق استقرار اقتصادي في الفترة التي سبقت انقلاب الجيش في 25 أكتوبر 2021م، حيث انخفض معدل التضخم بمقدار 35 نقطة لأول مرة منذ ما يزيد عن عام، نتيجة لذلك أيضاً انخفض العجز المزمن في الميزان التجاري بنسبة 25%.

علاوة على ذلك، بلغت حصيلة الضرائب غير المباشرة ما يقارب 48 مليار جنيه في أغسطس 2021م مما ساعد وزارة المالية على تغطية التزاماتها، لكن لم يستمر الحال طويلا حيث تأثر الاقتصاد بإغلاق الشرق وميناء بورتسودان ضمن سلسلة الأحداث التي سبقت الانقلاب.

غير أن انقلاب القائد العام للجيش، عبد الفتاح البرهان، في 25 أكتوبر 2021م، مثل نقطة تراجع كبيرة بالنسبة إلى التقدم المحرز، وأفشل خطط الحكومة الانتقالية التي سعت حثيثا من أجل الوصول إليها.

عقب إطاحته بالحكومة الانتقالية، أصدر البرهان عدداً من القرارات تبنى فيها التزام السودان بالمضي في نفس مساره الاقتصادي، لكن لم تمر ساعات حتى تتالت ردود الفعل الدولية الحاسمة إزاء الانقلاب، كان أولها إعلان “واشنطن الصارم” إنها “مستعدة للجوء إلى كل الإجراءات المناسبة لمحاسبة من يحاولون تعطيل إنفاذ إرادة الشعب السوداني “مؤكدة قيامها بقطع المساعدات المالية”.

في وقت وجيز، علّق المجتمع الدولي مساعداته وخططه تجاه السودان، وأصبحت سلطة الأمر الواقع في مواجهة داخلية وخارجية، جعلت الاقتصاد يتراجع سريعاً إلى الخلف، بناء على ما خلفته التغييرات السياسية.

جزء من هذه التراجعات التي شهدها الاقتصاد السوداني، كشفها نائب محافظ بنك السودان المركزي السابق، فاروق كمبريسي، والذي قال إن السودان خسر حوالي 4.6 مليار دولار أمريكي من المساعدات التنموية الضرورية، من بينها حوالي 2.6 مليار دولار من مؤسسة التنمية الدولية التابعة للبنك الدولي، كانت مخصصة لتطوير مشاريع حيوية في الزراعة والري والطاقة والصحة، بالإضافة إلى حوالي 580 مليون دولار خصصها المانحون الأجانب لبرنامج دعم الأسر السودانية (ثمرات). كما قامت الولايات بتعليق 700 مليون دولار من المساعدات التي تمت الموافقة عليها بعد إلغاء تصنيف السودان كدولة راعية للإرهاب.

تجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة كانت قد بدأت في تسليم السودان 350 ألف طن متري من القمح بقيمة 125 مليون دولار لتخصص للخبز المدعوم في البلاد، قبل أن توقفها. واستمرت التداعيات عندما أعلنت مجموعة دول نادي باريس، في يونيو 2022م، تعليق إعفاء مديونيتها المستحقة على السودان، إلى حين قيام حكومة ديمقراطية بقيادة مدنية.

كل تلك الخسائر الاقتصادية، لم توقف البرهان من مواصلة ما سماه “إجراءات تصحيحية” غداة انقلابه حيث أعد وزير المالية في سلطة الأمر الواقع، جبريل إبراهيم موازنة في مطلع العام 2022م، قال إنها تعتمد على موارد البلاد الذاتية. غير أن خبراء، رأوا أنها موازنة فاشلة وغير منطقية، بل وشككوا في مقدرة الدولة على الالتزام بها، بالنظر للتحديات التي يواجهها السودان في مشهده السياسي الحالي.

في هذا السياق، يقول الباحث والمحلل الاقتصادي، فتحي هيثم لـ(بيم ريبورتس)، "إن غياب الدعم الخارجي، أدى إلى صعوبات بالغة في موزانة العام 2022م، مضيفاً أن هذه الصعوبات سوف تمتد حتى موازنة العام 2023م، إذ أن هناك بنوداً لا تستطيع الدولة القيام بها دون مساعدات خارجية، أهمها بنود استحقاقات اتفاق سلام جوبا والمشاريع التنموية في مناطق النزاعات".

خلال عام من الانقلاب، فرضت سلطة الأمر الواقع، سلسلة من الزيادات على أسعار الخدمات والرسوم والضرائب لتغطية العجز الكبير في الموازنة بسبب المشكلات المتنامية التي يعاني منها الاقتصاد في الوقت الراهن، بالإضافة للعزلة الاقتصادية التي يعانيها السودان بعد انقطاع وإيقاف المساعدات الدولية.

ساهمت هذه العوامل مجتمعة في تدهور كبير في أوضاع الموظفين والعاملين، وتمثل ذلك في ضعف الأجور في ظل ارتفاع هائل في أسعار السلع الاستهلاكية والخدمات الأساسية. بالإضافة إلى زيادات جمركية أثرت على التجار والمنتجين الذين يواجهون تحدياً مزدوجاً في مواجهة ارتفاع تكاليف السلع المحلية والمستوردة والتراجع المهول في القدرة الشرائية، ما اضطر التجار والمنتجين إلى وقف البيع خوفاً من الآثار الكارثية المرتبطة بارتفاع الضرائب والرسوم وتكاليف النقل والشحن وغيرها.

وينطبق هذا الأمر على المنتجين الذين يواجهون عقبات كثيرة، للاستفادة من إنتاجهم مما جعلهم في نفس موقف التجار.

يقول الخبير الاقتصادي معتصم أقرع لـ(بيم ريبورتس) “على الرغم من أنه لا توجد إحصاءات دقيقة، لكن المؤشرات تقول إن النمو الاقتصادي ضعيف للغاية، إذ يقدر بين 1%-2%، أو يعتبر نمواً سلبياً.”

ويشتكي التجار من أن بضائعهم لا تباع والغرف الصناعية تحتج على الضرائب الباهظة، بالإضافة لعدم استقرار الكهرباء التي أدت لتوقف عملها كلياً أو جزئياً، وحاليا يعمل القطاع الصناعي بطاقة أقل من 20 %”.

في ظل هذه الظروف الطاحنة، اضطر الموظفون والعاملون في القطاعات الحكومية للاحتجاج وذلك باللجوء للإضرابات التي نظمتها نقابات وأجسام مهنية من أجل زيادة الأجور. شملت الإضرابات والاحتجاجات، مختلف القطاعات المهنية مثل أطباء الامتياز والعاملين في الكهرباء وأساتذة جامعات ومدارس حكومية وغيرها من مؤسسات إنتاجية وخدمية لها تأثيرها المباشر على الوضع في السودان، كما طالت الأزمة عدداً من الأسواق في مدن مختلفة حيث أقفلت أبوابها احتجاجاً، على سياسات سلطة الأمر الواقع.

استمرت تداعيات الركود الاقتصادي في التنامي مع تطور الأزمة السياسية في السودان، ومنذ الخامس والعشرين من أكتوبر 2021م، دخلت سلطة الأمر الواقع في معركة متواصلة لتهدئة الوضع السياسي لكنها لم تفلح في ذلك، حيث تواصلت الاحتجاجات منذ اليوم الأول للانقلاب بالتزامن مع موجة من الإضرابات المتواصلة والتي تزداد رقعتها يوماً بعد يوم.

يعتقد خبراء، أن لهذه الظروف مجتمعة آثارها على الاقتصاد والذي يضع سلطة الأمر الواقع في خيارات ضيقة، اختارت فيها حتى الآن، صرف أموال الدولة على القطاع الأمني باعتباره أولويتها ضد المعارضة.

يعود أقرع ويقول: “إن تأزم الوضع والاحتقان السياسي الخارجي والداخلي، جعل موارد الدولة موجهة تجاه السيطرة الأمنية واحتواء التظاهرات من أدوات للقمع ورواتب للموارد البشرية التي أصبحت تعمل لوقت إضافي، مشيراً إلى أنه كان بالإمكان صرف تلك الموارد والأموال لدعم الاقتصاد، لكنها اليوم تذهب لتمويل الأجهزة الأمنية.”

طوال هذه الفترة المتأزمة كانت التقارير الصادرة من الجهاز المركزي للإحصاء السوداني تشير إلى انخفاض هائل ومستمر في معدل التضخم الاقتصادي، حتى وصل في سبتمبر الماضي إلى (107%)، لكن تلك الأرقام التي تظهر في التقارير لم تنعكس على أسعار السلع الاستهلاكية الأمر الذي يراه محللون وخبراء اقتصاديون انخفاضاً سلبياً.

السودان - معدل التضخم

يقول المحلل الاقتصادي (فتحي هيثم) لبيم ريبورتس: “إن الاقتصاد السوداني الآن في أوج ضعفه وهناك عرض كبير للسلع مقابل انخفاض في الطلب.

ويضيف “ما حدث من انخفاض في التضخم جاء نتيجة ارتفاع معدل الركود في الأسواق قياسا بأسعار الدولار إلى جانب انخفاض دخل الأسر السودانية، ما أدى إلى خفض استهلاكها اليومي من السلع الضرورية”.

في حين يصف أقرع تقارير الجهاز المركزي للإحصاء، بأنها “أرقام مسيسة”، قائلاً “إن هذه الإحصاءات مشكوك في مصداقيتها، لأن الجهاز المركزي لا يوضح منهجيته في حساب المعدل ولا يوضح ماهية سلة السلع التي بنى عليها الإحصائية، بالإضافة لضعف قدرات وإمكانيات الجهاز المادية”.

حديث الخبراء الاقتصاديين عن ارتفاع معدل الركود وانخفاض الطلب مقابل العرض يعضده تجار يعملون في قطاع المواد الغذائية.

"القوة الشرائية منخفضة للغاية، كان متجري السابق بمنطقة الطائف بالخرطوم مكتظاً طوال الوقت، خاصة في بداية الشهر، أما الآن لا يوجد زبائن على الإطلاق"، يقول محمد بلة صاحب محل لبيع المواد الغذائية.

ويضيف “يظهر الفرق أيضاً في نوعية المشتريات، يشتري الزبائن الآن الضروريات الاستهلاكية فقط، معظم المشتريات؛ إما سكر، بصل أو زيت، أما بالنسبة للمعلبات والبضائع المستوردة وأي سلعة غير ضرورية فهي غالباً ما تنتهي بالتلف داخل الرفوف، نتيجة لذلك صافي الربح من المتجر أصبح لا يغطي معي تكاليف المعيشة، مع أني أعمل فيه بدوامين صباحي ومسائي”.

ويتابع بلة قائلًا “حتى الشركات أصبحت غير مستقرة. فالأسعار ليست ثابتة وكل شهر له أسعاره المختلفة وبعض الشركات تُوقِف إنتاجها لأشهر ثم تعاود التوزيع بعد مدة بأسعار عالية”.

الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعيشها البلاد، حذرت من تداعياتها الأمم المتحدة والتي أعلنت في آخر تقرير لها في أغسطس بخصوص الوضع في السودان، عن استمرار ارتفاع أسعار المحاصيل المحلية الاستهلاكية، حيث ارتفعت بنسبة 10-35%. وكشف التقرير عن تأثر المحاصيل التي سيتم حصادها في الشهر الحالي سلبيا نتيجة ارتفاع أسعار المدخلات الزراعية كالوقود وتكاليف النقل وغيرها.

كل تلك الأزمات الطاحنة إلى جانب انخفاض احتياطيات العملات الأجنبية والذهب واستمرار انخفاض قيمة الجنيه السوداني، تمثل مصدراً إضافياً للقلق بشأن قدرة البلاد في السيطرة على الاقتصاد في ظل وضع سياسي محتدم ونزاعات أهلية في مناطق متفرقة بالبلاد، علاوة على اعتماد الدولة على جيب المواطن بشكل كبير لتغطية الموازنة الموضوعة.

هل يتماشى السعر المحلي للوقود مع أسعاره عالمياً؟

منذ مطلع العام الجاري، أصدرت حكومة الأمر الواقع في السودان، 6 قرارات متعلقة برفع أسعار الوقود في البلاد، وقبلها في العام 2021م، كانت الحكومة قد أصدرت ثلاثة قرارات مشابهة.

وبلغت جملة القرارات الصادرة برفع أسعار الوقود، 9 قرارات، منذ أن أعلنت الحكومة الانتقالية، في 8 يونيو 2021م، تحرير أسعار الوقود بصورة كاملة، إثر خطة حكومية لهيكلة الاقتصاد وربط القطاع الخاص مع مؤسسات التمويل الدولية.

وقالت الحكومة الانتقالية، وقتها، وعلى لسان وزير المالية، جبريل إبراهيم أن “أن أسعار الوقود ستخضع للمراجعة حسب سعر الدولار مقابل العملات الأجنبية بصورة دورية”.

وبرر وزير الطاقة السابق، جادين علي عابدين، خطوة تحرير أسعار الوقود، بأنها تهدف إلى “توفير موارد لتطوير حقول النفط” التي عجزت الحكومة عنها.

وقالت وزارة المالية، حينها، في بيان رسمي لها، إن “رفع أسعار الوقود يأتي في إطار سياسة الدولة الرامية لإصلاح الاقتصاد الوطني، وتأسيس بنية تمكن مؤسسات الدولة والقطاع الخاص من التعامل مع مؤسسات التمويل الدولية”.

في هذا التقرير تتقصى (بيم ريبورتس) حول عدد المرات التي رفعت فيها الحكومة أسعار الوقود، منذ يونيو 2021م، ومقارنتها مع السعر العالمي للوقود، لمعرفة ما إذا كان رفع الأسعار المحلية مطابقاً للأسعار العالمية.

الزيادة الأولى

لم تمهل الزيادة الأولى المواطنين كثيراً، حيث ارتفع في نفس اليوم الذي أعلن فيه عن القرار في يوم 8 يونيو 2021م، سعر لتر البنزين من 150 جنيه (0.35 دولار أمريكي) إلى 290 جنيهاً (0.68 دولار أمريكي) بزيادة مقدارها 93.3%. في ذات التاريخ كان سعر خام برنت 72.74 دولار أمريكي للبرميل (0.46 دولار للتر)، وسعر سلة أوبك 70.35 دولار أمريكي للبرميل (0.44 دولار للتر).  

و وجهت الزيادة، بموجة غضب واحتجاجات صاحبها إغلاق للطرق الرئيسية، كما صاحبتها انتقادات من القوى السياسية المعارضة مثل قوى الإجماع التي عبرت عن استيائها من مضي الحكومة في تطبيق سياسات السوق الحر بدون استعداد لمراجعة النتائج.

الزيادة الثانية

حدثت الزيادة الثانية، بعد شهر من الزيادة الأولى في بداية يوليو 2021م، وارتفعت أسعار البنزين هذه المرة من 290 جنيه سوداني (0.64 دولار أمريكي) إلى 320 جنيه سوداني (0.71 دولار أمريكي). بالمقارنة مع الأسعار العالمية، بلغ سعر سلة أوبك 73.93 دولار أمريكي للبرميل (0.46 دولار للتر)، بينما بلغ سعر خام برنت 76.31 دولار أمريكي للبرميل (0.48 دولار للتر). 

الزيادة الثالثة

بعد أقل من شهر من انقلاب البرهان على الحكومة الانتقالية، حدثت الزيادة في 20 نوفمبر 2021م، إذ أعلنت الحكومة عن زيادة أسعار المحروقات بمقدار 42 جنيه (0.09 دولار أمريكي)، حيث أصبح سعر البنزين 362 جنيه سوداني للتر (0.81 دولار أمريكي)، وسعر الديزل 347 جنيه سوداني (0.78 دولار أمريكي). شهدت الأسعار العالمية ارتفاعا طفيفا، حيث أصبح سعر سلة أوبك 79.89 دولار أمريكي للبرميل (0.50 دولار للتر)، وسعر خام برنت حوالي 77.51 دولار أمريكي للبرميل (0.49 دولار للتر).

الزيادة الرابعة

حدثت الزيادة في 5 فبراير من العام الحالي مصحوبة بموجة ارتفاع في الأسعار العالمية، أعلنت الحكومة عن زيادة أسعار البنزين إلى 408 جنيهات سوداني للتر (0.89 دولار أمريكي) والديزل إلى 390 جنيها للتر (0.85 دولار أمريكي). كما شهدت الأسعار العالمية ارتفاعا مشابها، حيث أصبح سعر سلة أوبك 93 دولار أمريكي للبرميل (0.58 دولار للتر)، وسعر خام برنت 94.2 دولار أمريكي للبرميل (0.59 دولار للتر). 

الزيادة الخامسة

بعد 15 يوم من الزيادة الرابعة، ارتفعت أسعار البنزين مرة أخرى في 20 فبراير من العام الحالي، حيث بلغ سعر لتر البنزين 420 جنيه للتر (0.90 دولار أمريكي)  بمعدل بلغ 30%. عالمياً بلغ سعر سلة أوبك 91.81 دولار أمريكي للبرميل (0.58 دولار للتر)، أما سعر خام برنت فقد بلغ 95.4 دولار أمريكي للبرميل (0.60 دولار للتر).   

الزيادة السادسة

في 9 مارس الماضي، بدأت محطات الوقود تطبيق تسعيرة جديدة دون إعلان رسمي من الحكومة، وكانت هذه الزيادة هي الثالثة في الـ 33 يوماً السابقة لها، حيث ارتفع سعر البنزين إلى 547 جنيه سوداني  للتر(1.04 دولار أمريكي). بلغت الأسعار العالمية لسلة أوبك 128.8 دولار أمريكي للبرميل (0.81 دولار للتر)، بينما بلغ سعر خام برنت 112.1 دولار أمريكي للبرميل (0.71 دولار للتر) .

الزيادة السابعة

مع ارتفاع سعر صرف الجنيه بالنسبة للدولار الأمريكي والذي بلغ 612 جنيه سوداني للدولار في 20 مارس من العام الحالي، ارتفعت أسعار الوقود حيث بلغت 672 جنيه سوداني (1.09 دولار أمريكي) للتر بزيادة بلغت 24%. شهدت الأسعار العالمية إنخفاضاً حيث بلغ سعر سلة أوبك 108.51 دولار أمريكي للبرميل (0.68 دولار للتر)، أما سعر خام برنت فقد بلغ 107.32 دولار أمريكي للبرميل (0.67 دولار للتر).

الزيادة الثامنة

مع تواصل انهيار الجنيه أمام الدولار الأمريكي والذي بلغ 647 جنيه سوداني للدولار في تاريخ الزيادة 26 مارس الماضي، ارتفعت أسعار البنزين للمرة الخامسة في شهرين إلى 766 جنيه سوداني (0.84 دولار أمريكي) للتر. بلغت الأسعار العالمية لسلة أوبك 115.66 دولار أمريكي للبرميل، وبلغ سعر خام برنت 120.43 دولار أمريكي للبرميل. 

الجدير بالذكر، أن أسعار صرف الجنيه السوداني مقابل الدولار الأمريكي انخفضت انخفاضا كبيرا في 27 مارس أي بعد يوم واحد من تطبيق الزيادة، حيث انخفض سعر صرف الجنيه السوداني من 647 إلى 577 جنيه للدولار الأمريكي في يوم واحد.

في 1 مايو السابق نفى وكلاء محطات الوقود حدوث أي زيادات رسمية من الحكومة، حيث أوضحوا أن سعر لتر البنزين في مايو بلغ 672 جنيه سوداني (1.19 دولار أمريكي). وفي ذات الوقت بلغت الأسعار العالمية في مايو لسلة أوبك 116.85 دولار أمريكي للبرميل (0.73 دولار للتر)، وسعر خام برنت 119.24 دولار أمريكي للبرميل (0.75 دولار للتر).

الزيادة التاسعة

أعلنت وزارة الطاقة والنفط في بيان يوم 23 يوليو الماضي عن زيادة أسعار البنزين بواقع 90 جنيها لتصل إلى 760 جنيه سوداني (1.35 دولار أمريكي) للتر، كما ارتفعت أسعار الديزل بواقع 108 جنيهات لتصل إلى 748 جنيه (1.33 دولار أمريكي) للتر. بلغت الأسعار العالمية لسة أوبك 107.32 دولار أمريكي للبرميل (0.67 دولار للتر)، أما أسعار خام برنت بلغت 103.74 دولار أمريكي للبرميل (0.65 دولار للتر). 

تحليل العلاقة بين أسعار البنزين المحلية وأسعار الخام العالمية

بالنظر للرسم البياني، نجد أن العلاقة بين أسعار البنزين المحلي و أسعار الخام العالمية حافظت على علاقة زيادة ثابتة نسبياً (علاقة خطية) حتى تاريخ 19 مارس 2022م، حيث بدأت الأسعار المحلية ترتفع بصورة كبيرة رغم انخفاض أسعار الخام العالمية في يونيو 2022.

عليه يمكن القول إن الزيادات الأخيرة لم تكن مدفوعة بالزيادات في السوق العالمي، بل لها أسباب أخرى لا يمكن تحديدها بالنظر للأرقام المذكورة فقط.

مع تواصل انخفاض أسعار الخام العالمية بدرجة كبيرة حيث تساوى سعر لتر خام برنت وسلة أوبك في 18 أغسطس الجاري واستقر عند 95.4 دولار أمريكي للبرميل (0.60 دولار للتر)، لم تشهد الأسعار المحلية أي انخفاض منذ الزيادة الأخيرة التي أعلنتها الحكومة في 23 يوليو الماضي، و دون ظهور أي بوادر لتوجه الدولة نحو تخفيض الأسعار المحلية.

ما دور الحركة التعاونية في تحسين حياة الأسر السودانية؟

“الحركة التعاونية هي؛ مجموعة الجمعيات والاتحادات والمؤسسات التي ينشئها و يديرها أعضاؤها وفقاً لمبادئ التعاون ونظمه لتحقيق أهدافهم الاقتصادية والاجتماعية، بجانب أنها حركة شعبية شورية تؤدي نشاطها في تكامل ووحدة وفقاً لسياسة الدولة ونهجها ومواثيقها”، هكذا يُعرف قانون التعاون لعام 1999م، الحركة التعاونية، مشيراً لدورها المهم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية وترسيخ قيم التكافل ومبادئ الديمقراطية في المجتمع.

وتعود جذور الحركة التعاونية في السودان، إلى أواخر عشرينات القرن الماضي، وكان أول تمظهر منظم لها بظهور جمعيات التسليف الزراعي بدلتا طوكر شرقي البلاد، سبقت تكوين أول جمعية تعاونية بمبادرة شعبية في عام 1937م سميت بالشركة التعاونية. ثم اتخذت الحركة شكلها القانوني في عام 1948م بعد تقديم مذكرة لحكومة الاحتلال البريطانية، تعلن عن صدور أول قانون للتعاون والذي اكتمل في عام 1952م. (1)

ومع ذلك، شهدت حركة التعاونيات تقلبات كثيرة مع اختلاف الأنظمة الحاكمة في البلاد، لكن مثلت حقبة نظام مايو 1969م فترة ازدهار الحركة التعاونية، حيث اعتمدت الدولة على التعاونيات في الإصلاح الزراعي، وحولت عدد من المصانع المؤممة للحركة، وساهم ذلك في مضاعفة عدد التعاونيات إلى 9 أضعاف مما كانت عليه في الفترة بين عامي 1954م – 1955م، وتواصل العدد في الارتفاع حتى بلغ 10 آلاف منظمة تعاونية في 2007م. (1)

وتعتبر التعاونيات، إحدى وسائل تخفيف الأزمات الاقتصادية وتحسين المستوى المعيشي للأعضاء المنتسبين إليها، وذلك عن طريق زيادة دخلهم الحقيقي بمختلف الوسائل الإنتاجية والتسويقية الاقتصادية. ويكمن سبب فاعلية التعاونيات، في تحقيق ذلك، هو أن الهدف النهائي لها ليس تحقيق الربح، بل تعتبر وسيلة لتحرير أعضائها من السيطرة الاجتماعية والاستغلال الاقتصادي اللذين يتمتع بهما المسيطرون على المواقع الاستراتيجية في المجتمع.

في الدول النامية، يتعدى دور التعاونيات البعد الاقتصادي الذي يتمثل في توفير فرص العمل والمعيشة ومصادر الدخل، حيث تمثل التعاونيات مؤسسات ترتكز على  رأس المال البشري وتساعد في تعزيز العدالة والمساواة الاجتماعية. كما أنها مؤسسات ديمقراطية يديرها الأعضاء، مما يعزز من دورها الريادي في المجتمعات لتحقيق التنمية المستدامة.

وبالعودة إلى الحركة التعاونية في البلاد، شكلت حقبة النظام البائد (نظام الإنقاذ) 1989م – 2019م، ضربة كبيرة لها، بعدما توقف نشاط المنافذ التعاونية المخصصة لتوزيع حصص السلع المدعومة، مصحوبة بسياسات الخصخصة صاحبه تحول اهتمام الدولة إلى القطاع الخاص، وتنامي تدخل الجهات الحكومية المعنية بالتعاون في شؤون التعاونيات، مما أفقدها استقلاليتها وذاتيها، كما شهدت أيضاً توسع بنك التنمية التعاوني الإسلامي، على حساب حساب أصول الجمعيات التعاونية ودورها في الريف والحضر، خاصة الجمعيات الإنتاجية والحرفية والزراعية. (1)

الحركة التعاونية بعد الثورة

لكن، بعد ثورة ديسمبر في عام 2018م، حاولت الحكومة الانتقالية، التي شكلت في أعقاب إطاحة نظام الرئيس المخلوع عمر البشير، في أبريل 2019م، إعادة الحركة التعاونية للواجهة حيث عملت وزارة التجارة والصناعة على العودة للجمعيات التعاونية للحد من ارتفاع السلع والخدمات، حيث عرضت رؤيتها في تكوين جمعيات تعاونية بمواصفات ومقاييس عالمية تعتمد على الموارد الذاتية. (1)

بعد تعيينه مستشاراً للتعاون وشؤون التعاونيات في وزارة الصناعة والتجارة الاتحادية في الحكومة الانتقالية الأولى. صرح الخبير الفاتح العتيبي في ذلك الوقت، أن رؤية الوزارة تتمثل في “تكوين جمعيات سودانية أصيلة بمواصفات ومقاييس تعاونية عالمية، تعتمد على الموارد الذاتية بناءً على قانون التعاون ولكن في إطار مفهوم ومبادئ والقيم التعاونية العالمية وذلك بالدخول للمنظومة العالمية للاستفادة من الميز والحقوق العالمية”.

وأوضح العتيبي أن الوزارة تعمل على توسيع المشاركة الشعبية من كل قطاعات المجتمع في تنفيذ رؤية الوزارة، كما ستعمل الجهات الإدارية المختصة على التثقيف والتوعية لهذه القطاعات. مضيفاً أن الحكومة قامت بحل الاتحادات التعاونية التي أنشأتها الحكومة السابقة لتغولها على الاتحادات التعاونية المنتخبة، وتم تعيين لجان تسييرية لإعادة هيكلة الاتحادات والاستعداد لانتخابات صحيحة تأتي بقيادة تعاونية منتخبة، كما تم حل مجلس إدارة المركز القومي للتنمية والتدريب التعاوني، وتعيين إدارة جديدة مصحوبة بلجنة تسييرية تعمل على إعادة هيكلة إدارة التعاون وترفيعها لوكالة للتعاون باختيار كفاءات.
وأشار العتيبي، إلى أن الطريق لتحقيق هذه الرؤية ملئ بالمصاعب، حيث تمثل المفاهيم الخاطئة التي يتم على أساسها تكوين التعاوينات أحد المشكال وتطلب عدم تمرير الجهات المسؤولة لهذه الأخطاء، عليه قامت الوزارة في ذلك الوقت بإصدار قرار يغضي بإيقاف تكوين الجمعيات التعاونية قبل ستة أشهر وبعدها أصدر قراراً لاحقاً بإلغائه وفتح المجال لتكوينها على الأسس والضوابط الصحيحة التي وضعتها الوزارة.

أنواع الجمعيات التعاونية

تنقسم الجمعيات التعاونية للأنواع الآتية

  1. الجمعيات التعاونية متعددة الأغراض، وهي: التي تباشر جميع فروع النشاط الاقتصادي والاجتماعي.
  2. الجمعيات التعاونية الاستهلاكية، وهي: التي تعمل على البيع بالتجزئة، للسلع الاستهلاكية التي تشتريها أو التي قد تقوم بإنتاجِها بنفسها أو بالتعاون مع الجمعيات التعاونية الأخرى.
  3. الجمعيات التعاونية الزِراعية الإنتاجية، وهي: التي تنشأ للقيام بإنتاج السلع الزِراعية وتخزينها وتحويلها وتسويقها، وكذلك مد الأعضاء عن طريق البيع أو الإيجار بما يحتاجونه من أدوات زراعية للمساعدة على زيادة الإنتاج الزراعي، سواء كانت هذه الأدوات من صنع الجمعية أو من صنع الغير.
  4. الجمعيات التعاونية المهنية، وقصد بها: تلك الجمعيات التي يكونها صغار أو متوسطو الحال، من المنتخبين المشتغلين بمهنة معينة، بقصد خفض نفقات إنتاجهم، وتحسين ظروف بيع منتجاتهم.
  5. الجمعيات التعاونية للخدمات، وهي: التي تقدم لأعضائها خدمات بطريقة تعاونية، كجمعيات الإسكان التعاونية والجمعيات التعاونية المدرسية والجمعيات التعاونية للنقل والمواصلات وجمعيات الكهرباء التعاونية، وغيرِها من الجمعيات.
  6. البنوك التعاونية والفدراليات التعاونية الخاصة بالتمويل والادخار والتسليف والاقراض وهي: التي يكنها الاعضاء من اجل تقديم كافة الخدمات المتعلقة بالتمويل والادخار والتسليف والاقراض.

أسباب اضمحلالها في فترة حكم الإنقاذ البائد

  • توجه الدولة 

واجهت التعاونيات في ظل النظام البائد، عقبات تمثل أكبرها في توجه الدولة المناهض للتعاونيات، وانعكس هذا التوجه في إصدار التشريعات المناهضة للتنمية التعاونية (قانون الضرائب، قانون الجمارك، الرسوم المختلفة، …) وإلغاء الإعفاءات والمزايا المتعلقة بالتعاونيات. بالإضافة إلى ذلك، وضعت هذه التشريعات العديد من القيود علي التعاونيات مما أثر في استقلاليتها وحريتها. كذلك، واجهت التعاونيات أزمة أخرى تمثلت في مصادرة ممتلكاتها وأصولها، بدايةً من المركز القومي لتدريب التعاونيات وحتى مقار ومخازن الجمعيات من دون تقديم تعويض، كما تجاهلت الدولة رغبات التعاونيين في إصدار التشريعات المناسبة والتي تضمن العلاقة بين التعاونيات وأجهزة الدولة. 

أيضاً، استمرت الهمينة الحكومية على المؤسسات التعاونيية وسيطرتها على الهيئات الحكومية وتوجيه امورها دون أن تقوم بأي حركة جادة في سبيل تحسين أوضاعها حتى سقوط النظام. 

  • ثقافة التعاونيات

من ناحية أخرى، مثلت الثقافة التعاونية الرسمية والشعبية، أحد معوقات التطور التعاوني، حيث يسود التصور الخاطئ عن التعاون والخلط بينها وبين أجهزة الدولة في أذهان متخذي القرار في قمة أجهزة الدولة، والموظفين، والجماهير، وحتى بعض القيادات التعاونية. وقد ساهم الإعلام الرسمي في مرحلة من المراحل في ترسيخ هذه الأفكار، الأمر الذي أدى إلى ضعف الثقة في الفكرة التعاوني وفي المنظمات التعاونية. 

  • الهيكل التنظيمي

عانت أيضاً الحركة التعاونية من مشكلات أخرى، مثل حالة الجمود التي ضربت الكثير من الهياكل التنظيمية والإدارية للتعاونيات، بحيث أصبحت مختلة وغير متوازنة، بالإضافة لعدم وجود أي نظم إحصائية أو قواعد بيانات يُعتمد عليها في إدارة وتخطيط قطاع التعاونيات. كذلك، ساهم ضعف الهياكل الإدارية في إضعاف أنشطة التدريب والتثقيف التعاوني وأصبحت شكلية في معظم الأحيان، كما تزايدت الأعباء المالية من نفقات جارية واستثمارية بسبب غياب المصادر التمويلية المناسبة التي تواجه التعاونيات مع تقلص حجم مواردها وإلغاء معظم المزايا التي كانت تتمتع بها. 

  • الضعف العام

رغم تاريخها القديم في البلاد، إلا أن التعاونيات لم تكن منيعة ضد الضعف والترهل الذي أصاب الكثير من القطاعات في النظام البائد، وصاحب هذا الترهل ضعف في الإنتاجية وسيطرة البيروقراطية والفساد وتغليب المصالح الفردية على المصلحة العامة. وقد أدت هذه الظروف مجتمعة على عزوف الأعضاء عن المشاركة في الأنشطة التعاونية بشكل اختياري، وفقدانهم الثقة في التعاونيات كمنظومة والقدرة على إصلاحها، وقد تمدد هذا العزوف إلى المواطنين بمستوياتهم المختلفة، حيث أصبحوا يترددون في اختيار التعاونيات كبديل لمواجهة مشاكلهم المختلفة وإيجاد الحلول لها عبر التعاونيات.  

  • التغيرات في السياسة الاقتصادية

ومن ناحية السياسات الحكومية، مثل تغير توجه السياسيات الاقتصادية للدولة بالأخض الزراعية منها على التعاونيات، حيث تغير توجهها نحو تسيير سياسة التحرير غير المتوازنة للقطاع التعاوني، واعتماد آليات السوق الحر في توجيه الموارد، مما أدى إلى تغيير البيئة الاقتصادية التي كانت تعمل فيه التعاونيات. كما واجهت التعاونيات مجموعة من التغييرات الإضافية نتيجة إلغاء الدعم وكثير من الامتيازات، تحرير سعر الفائدة، والتحرير النسبي لسعر الصرف وغيرها من الإجراءات التي دفعتها لإعادة النظر في أساليب عملها واستراتيجياتها حتى تستطيع الاستمرار، الأمر الذي أثر في أداء التعاونيات في مختلف القطاعات.

مع تاريخها المتأرجح صعوداً وهبوطاً، حسب الأنظمة السياسية الحاكمة، وجه انقلاب 25 أكتوبر الماضي، ضربة جديدة للحركة التعاونية، بعدما بدأت الحكومة الانتقالية خطوات في إعادة الحياة إليها.

ما خيارات السودانيين للأضحية في ظل ارتفاع هائل للأسعار؟

“سأكتفي بشراء القليل من اللحم، صبيحة يوم العيد، لكن لن أستطيع شراء أضحية هذا العام، نظراً لغلاء أسعار الأضاحي، وهذه هي المرة الأولى التي يحدث فيها هذا الأمر”، بهذه الكلمات لخص، أحمد زكريا نور، قصة تدهور الأوضاع المعيشية والاقتصادية للسودانيين في مواجهة أزمة ارتفاع الأسعار عموما، وارتفاع أسعار خراف الأضاحي على وجه الخصوص.

ويواجه السودانيين ضائقة اقتصادية ومعيشية خانقة في ظل تدهور عام تشهده البلاد.

والنور، وهو موظف، يسكن بأحد أحياء مدينة امدرمان، يمثل شريحة واسعة من المواطنين الذين يعتمدون في دخلهم على رواتب حكومية محدودة، لا تكفيهم لتدبير معيشة عائلاتهم في الأوضاع الطبيعية، ناهيك عن شراء أضحية يتجاوز سعرها أضعاف الرواتب الحكومية.

وعادةً ما ترتفع أسعار الخراف مع اقتراب عيد الأضحى، سنوياً، لكن هذا العام شهدت أسعار المواشي ارتفاعاً فوق المتوقع، أعقبه عزوف عديد من المواطنين عن شراء الأضاحي.

(Photo by ASHRAF SHAZLY / AFP)

“يمثل الأسبوع الذي يسبق العيد وقت ذروة، حيث نبدأ في استقبال طلبات الزبائن…لكن هذا العام يكاد يكون الطلب معدوماً، ويواجه سوق الماشية ركوداً شديداً”، هكذا يحدثنا محمد الخير الخاتم، صاحب ملحمة في منطقة الخرطوم (2)، ويؤكد في حديثه لـ (بيم ريبورتس) إحجام العديد من الناس عن شراء الأضاحي هذا العام.

ويتخوف الخاتم من ضعف القوة الشرائية، حتى من زبائنه الدائمين، نسبة لركود عام في سوق المواشي مع إقتراب عيد الأضحى.

وقال الخاتم، بأنه سيضطر إلى “تقليل عدد الخراف التي اعتاد جلبها كل عام”، حتى يتجنب الخسارة. ويتخوف الخاتم ورفاقه في سوق المواشي، من أن يتسبب ارتفاع الأسعار في ركود السوق، والذي يشكل لهم “أزمة كبيرة في مبيعات التجار السنوية”– بحسب الخاتم، إذ يعتبر عيد الأضحى الموسم الأهم بالنسبة إليهم.

وفي ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تشهدها البلاد، فمن المتوقع أن يحرم ارتفاع الأسعار العديد من الأسر من شراء الأضاحي هذا العام.

وبحسب إفادات متعاملين بسوق المواشي، فإن ارتفاع الأسعار يعود لعدة أسباب، من بينها ارتفاع تكاليف الترحيل من مناطق تربية المواشي إلى مناطق الاستهلاك بالمدن، وهو الذي تسبب فيه الارتفاع الكبير في أسعار الوقود والمواد البترولية.

يقول محمد الخير، أن “أسعار الخراف في الخرطوم في منتصف شهر يونيو كانت تتراوح ما بين 50 إلى 60 ألف جنيه سوداني، وكانت هناك توقعات تشير إلى أن يصل أقصى سعر لها بحلول عيد الأضحى إلى 90 ألف جنيه سوداني. لكن موجة ارتفاع الأسعار لم تتوقف، حيث بلغت أسعار الخراف قبل أسبوع من العيد حوالي 90 إلى 150 ألف جنيه سوداني، وتصل حتى 200 ألف جنيه سوداني للخراف كبيرة الحجم”.

وعزا الخير، ارتفاع الأسعار بولاية الخرطوم، إلى الأرباح التي يضيفها تجار المواشي إلى أسعارها الفعلية بمنطقة (سوق قندرهار) – سوق مواشي غربي مدينة أمدرمان- ويقول الخير إن أسعار الخراف بتلك المنطقة “تتراوح بين 80 إلى 130 ألف جنيه سوداني”، ويتابع، “يضيف التجار مبالغ تتراوح بين 5 وحتى 20 ألف جنيه كأرباح في أوقات انتعاش السوق”. لكنه استبعد إمكانية حدوث انتعاش في الأمد القريب، مستشهداً بازدياد أعداد المواطنين الذين يلجأون لشراء مقادير قليلة من اللحم “كيلوغرام أو أثنين” لعدم تمكنهم من شراء الأضاحي.

(Photo by ASHRAF SHAZLY / AFP)

وبخلاف ما يراه المتعاملين بأسواق الخرطوم، يقدم معاوية أحمد، وهو راعي مواشي، بمحلية سودري، بولاية شمال كردفان، تفسيراً لأسباب ارتفاع الأسعار هذا العام، إذ يقول في إفادته لــ(بيم ريبورتس)، “أسعار الخراف في ولاية شمال كردفان تتراوح بين 40 إلى 70 ألف جنيه، لكن ترتفع الأسعار عند ترحيلها إلى مناطق خارج الولاية”، إذ تسبب تكاليف الترحيل والشحن والحراسة والرعاية والأعلاف ومصروفات العمال والرسوم وغيرها من المصروفات في مضاعفة الأسعار، ويضيف، “تختلف أسعار الخراف من منطقة إلى أخرى، فالمناطق التي يضطر فيها مربي المواشي إلى شراء الأعلاف تكون فيها الأسعار مرتفعة بخلاف المناطق التي يعتمدون فيها على الرعي”.

ويضيف أحمد، متحدثاً من منطقة سودري، “تراوحت أسعار الخراف في منطقتنا مع تأخر الأمطار ما بين 40 ألف جنيه سوداني للأحجام المتوسطة، وحتى 70 ألف جنيه سوداني للأحجام الكبيرة. وترتفع الأسعار عند نقل الخراف إلى الولايات الأخرى، حيث يباع الخروف بزيادة أكثر من 30 ألف جنيه على سعره في منطقتنا”.

وعن تكاليف الترحيل، يقول أحمد، “تبلغ تكلفة نقل الخروف الواحد من شمال كردفان إلى الخرطوم حوالي 4 ألف جنيه سوداني، بالإضافة للتكاليف الأخرى التي يصل مجموعها حوالي 10 ألف جنيه سوداني”. ويعتقد أحمد أن السبب وراء ارتفاع أسعار الخراف بالخرطوم والولايات الأخرى هو،  “السماسرة (الوسطاء) والتجار الذين يريدون أن يربحوا اضعافاً”– طبقاً لرأي أحمد.

(Photo by ASHRAF SHAZLY / AFP)

ويتفق رئيس جمعية حماية المستهلك السودانية، ياسر ميرغني مع ما ذهب إليه معاوية، في أن “أحد الأسباب الرئيسية في زيادة أسعار الأضاحي تتمثل في السماسرة (الوسطاء)، الذين يتحكمون في الأسعار”– وفقاً لقوله.

وأشار ميرغني، إلى أن وزارة الزراعة والثروة الحيوانية والري كانت قد طرحت خطة لبيع خراف الأضاحي بالوزن الحي، وذلك في عدد من المواقع في ولاية الخرطوم، وحددت اللجنة الوزارية المختصة بهذا الأمر سعر الكيلو بالوزن الحي بقيمة (2,150) جنيه سوداني، وهو سعر مقارب لأسعار السوق، و يتطابق معها في بعض الأماكن.

لكن ميرغني يشكك في فاعلية هذه الخطوة، ويقول أن “بيع الماشية في السودان ما زال عشوائياً وغير منظم”.

واًوضح ميرغني في إفادته لـ (بيم ريبورتس)، “البيع بالوزن هو الوضع الطبيعي للمستهلك، ولكن هناك تحايل، حيث لا توجد موازين حديثة أو تمت معايرتها والتأكد من موثوقيتها”. وتابع، “كان يجب على الحكومة تحديد أماكن وتجهيزها بموازين حديثة وتقديم هذه الخدمة في أماكن أكثر احتراما للمستهلكين”.

ازمة اقتصادية خانقة تمر بها البلاد، قد يعجز في ظلها كثير من السودانيين عن شراء الأضاحي هذا العام، لا سيما مع الارتفاع الكبير في أسعار المواشي، بجانب ضعف الرواتب، وانفلات السوق، وعدم قدرة الحكومة على طرح حلول اقتصادية تخفف قسوة هذه الأوضاع على المواطنين.

ما التأثير الاقتصادي لتعليق عملية إعفاء ديون السودان بنادي باريس؟

أعلن نادي باريس يوم الثلاثاء الماضي، في بيان صحفي نشره على موقعه الإلكتروني، تعليق عملية إعفاء ديون السودان.

وأضاف البيان، أنه “بعد عزل القوات العسكرية للحكومة الانتقالية في السودان، تم تعليق التوقيع على الاتفاقيات الثنائية المنفذة لهذه الاتفاقية متعددة الأطراف، إلى أن يتحسن الوضع ويُستأنف تنفيذ برنامج صندوق النقد الدولي”.

وأكد نادي باريس مراقبة الوضع عن كثب، بالتعاون الوثيق مع صندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي. فيما ذكر التقرير السنوي لنادي باريس، نشر أيضاً يوم الثلاثاء الماضي، أنه على ضوء الأحداث الأخيرة (انقلاب 25 أكتوبر)، بإطاحة القوات العسكرية بالحكومة الانتقالية، فإن التقييم الجماعي لأعضاء نادي باريس، أنه لا يمكن توقيع الاتفاقات الثنائية حتى يتحسن الوضع بجانب استئناف تنفيذ برنامج صندوق النقد الدولي.

وأكد نادي باريس، أن أعضاءه سيستمرون في مراقبة تطورات الأوضاع بالتنسيق الوثيق مع صندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي. وفي 15 يوليو 2021م، قرر السودان وممثلو الدول الدائنة في نادي باريس، إعادة هيكلة ديون البلاد العامة الخارجية. 

وهنأ وقتها نادي باريس السودان “على التدابير القوية” للحد من الفقر والإصلاحات الاقتصادية الطموحة التي سمحت للبلاد بالوصول إلى نقطة القرار في إطار مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون (HIPC) في 28 يونيو 2021م.

وسبق عملية هيكلة ديون السودان ووصوله إلى نقطة القرار، تنظيم الجمهورية الفرنسية، لمؤتمر باريس يومي 16-17 مايو 2021م لدعم السودان، حيث شارك فيه وقتها رئيس الوزراء السابق، عبد الله حمدوك وعدد من المسؤولين الآخرين، إلى جانب رئيس مجلس السيادة الانتقالي وقتها، عبد الفتاح البرهان.

المؤتمر الدولي من أجل السودان باريس 2021م

ترك الإجراء الأخير الذي اتخذه نادي باريس بشأن السودان الباب موارباً أمام استكمال عملية إعفاء الديون، موضحاً الكيفية التي يمكن من خلالها إكمال الاتفاقيات الثنائية، ممثلة في استئناف عمليات صندوق النقد والبنك الدوليين وتحسن الوضع السياسي في البلاد. 

ويوم الجمعة الماضي، قبل قرار نادي باريس، قال وزير المالية، جبريل إبراهيم، إنهم لا يعملون بتعليمات البنك وصندوق النقد الدوليين. 

وقال إبراهيم، في مقابلة مع الإذاعة السودانية، أن الإصلاحات الاقتصادية التي يقومون بها أساسية لإزالة التشوهات، لافتاً إلى أنهم جلسوا مع المؤسسات الدولية بهدف إزاحة عبء الديون البالغة أكثر من 60 مليار دولار.

وأكد على أن الحديث عن تخلص السودان بصورة نهائية من رقم معين من الديون غير دقيق، مبيناً أنهم تلقوا وعوداً من دول نادي باريس بحذف(14.1) مليار من الديون وإعادة جدولة (9) مليار دولار. وأضاف: “الآن التعاون بيينا والبنك الدولي وصندوق النقد متوقف، وحتى تعاملنا مع البنك الأفريقي متأثر لحد كبير”.

وفي ظل تداعيات قرار نادي باريس، قالت وزارة المالية في بيان، إن بعض وسائل التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام تناولت في الآونة الأخيرة أن مجموعة نادي باريس التي تم الاتفاق معها في يوليو 2021م على إعفاء ديون السودان قد تراجعت عن هذا الاتفاق.

وادعت وزارة المالية، أن “هذه الأخبار عارية من الصحة تماماً”، وقالت ” أن السودان قد خاطب سكرتارية مجموعة نادي باريس في أبريل الماضي بشأن تمديد توقيع الاتفاقيات الثنائية بين السودان ومجموعة دول نادي باريس حتى أبريل 2023م، وقد تمت الموافقة على التمديد، كما أن السودان لم يتلقَ أي إفادة مكتوبة من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي  تشير إلى إلغاء أو تجميد الاتفاقيات”.

وقبل انقلاب 25 أكتوبر، كانت الحكومة الانتقالية قطعت شوطاً في محاولتها لتخفيض الديون الخارجية للسودان، حيث يعتبر السودان بلداً مثقلاً بالديون، إذ يشكل الدين الخارجي حوالي 253,1% من إجمالي الناتج المحلي برصيد ديون خارجية مقداره 70 مليار دولار، منها 57.5 مليار دولار لمجموعة نادي باريس والباقي عبارة عن ديون ومتأخرات للصناديق الإقليمية والدائنين التجاريين.


بيان وزارة المالية حول إعفاء ديون السودان

ووصل السودان لنقطة اتخاذ قرار الهيبيك (مبادرة تخفيف عبء الديون للدول الفقيرة المثقلة بالديون)، بشأن تخفيف أعباء مديونيته بعدما طبقت الحكومة الانتقالية البرنامج الذي يراقبه موظفو الصندوق (SMP)، عليه بدأت الحكومة الانتقالية في أكتوبر 2021م المحادثات الثنائية مع دول نادي باريس وفق الاتفاقية الموقعة معهم في باريس في يوليو 2021م وإعفاء 14 مليار دولار في 30 أبريل 2022م. 

وبغية الوصول إلى نقطة الإنجاز/ الإكمال في يونيو 2024، طلبت الحكومة الانتقالية عقد اتفاق مالي جديد مدته 39 شهراً مع صندوق النقد الدولي (تسهيل ائتماني مُمدد بقيمة 2.5 مليار دولار) لدعم السياسات على المدى المتوسط خلال الفترة بين نقطة اتخاذ القرار ونقطة الإنجاز في إطار مبادرة الهيبيك، لكن بعد الإنقلاب اُوقِف البرنامج وعملية إعفاء الديون والمحادثات الثنائية مع دول نادي باريس.

وكان من المنتظر أن يدعم تخفيف عبء الديون، السودان في تنفيذ الإصلاحات الأساسية لتحسين حياة شعبه عـن طريق السماح بتحرير الموارد لمعالجة الفقر وتحسين الظروف الاجتماعية، وبناء على ذلك سيتم تخفيض الدين العام الخارجي للسودان بشكل لا رجعة فيه – من خلال تخفيف ديون البلدان الفقيرة المثقلة بالديون وغيرها من مبادرات تخفيف عبء الديون المرتكزة على مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون – بأكثر من 50 مليار دولار أمريكي، حيث القيمة الحالية الصافية، وهـو ما يمثل أكثر من 90 في المائة من إجمالي الدين الخارجي للسودان – إذا وصل إلى نقطة إنجاز مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون في غضون ثلاث سنوات تقريباً.

وفيما يتعلق بتسوية ديون المؤسسات المتعددة الأطراف، يرى بعض الخبراء، أن الحكومة الانتقالية عملت مع عدد من الدول المانحة في الوفاء بهذا الشرط، على النحو التالي، أولاً تم التعامل مع ديون البنك الإفريقي التي تبلغ 413 مليون دولار بتمويل جسري من بريطانيا والسويد وجمهورية أيرلندا (12 مايو 2021)، ثانياً سداد ديون البنك الدولي تصل إلى 15.1 مليار دولار من خال تمويل الجسور من الولايات المتحدة الأمريكية (26 مارس 2021)، ثالثاً سداد ديون صندوق النقد الدولي تصل إلى 415.1 مليار دولار (يونيو 2021) بتمويل جسري من فرنسا.

والتمويل الجسري هو خيار تمويل مؤقت تستخدمه الكيانات المختلفة لتوطيد مركزها على المدى القصير حتى تتمكن من ترتيب خيار تمويل طويل الأجل (غالبًا ما يكون في شكل قرض مبدئي). وفي حالة السودان فإن التمويل الجسري ساعد الدولة على سداد ديون المؤسسات الدولية المذكورة، وذلك في سبيل إكمال الخطوات اللازمة للوصول لنقطة اتخاذ قرار مبادرة الهيبك. وساعدت بعض المؤسسات الدولية السودان في عملية سداد هذه الديون التجسيرية، إذ قدم صندوق النقد الأوروبي مقدماً للسودان لسداد القرض التجسيري الفرنسي.

خطوة نادي باريس بتعليق الديون، أثارت جدلاً في الأوساط السياسية والاكاديمية حول تأثيرها وأهميتها، يقول أستاذ الاقتصاد بجامعة الخرطوم، محمد الجاك أحمد، “هذه القرارات (قرار تعليق الديون) ستؤثرسلباً على الوضع الاقتصادي بالبلاد كما يتوقع أن تؤدى إلى عزلة السودان كما كان في السابق، ولذلك قد قد تلجأ الدولة إلى الاعتماد على المواطن في تحمل عبء هذا التعليق من خلال زيادة الأسعار ورفع الدعم”. 

ورأى الجاك في حديثه لـ(بيم ريبورتس)، أنه إذا توافقت الأطراف السياسية على تشكيل حكومة مدنية يمكن بذلك أن تتم مواجهة المشكلة وكسب رضا الشارع، موضحاً أن تقرير البنك الدولي أشار إلى أن هنالك تنسيق مع صندوق النقد الدولي ومؤسسات التمويل بهدف قيام حكم مدني حتى تعود تلك الإعفاءات التي كانت نتاج مؤتمر باريس 2021م.

وأضاف في العام الماضي وحسب ما جاء من صندوق النقد الدولي، فإن السودان قد وصل إلى ما يجعله يستفيد من مبادرة تخفيف ديونه ولذلك حصل على تمويلات بمقدار 8 مليارات دولار، هذا اضافة إلى تمويل لعدد من المشروعات من دول وكذلك الاتحاد الأوروبي.

ويعتقد الجاك ان استفادة السودان من مبادرة الهيبيك كان سيحسن كثيراً من الوضع الاقتصادي في السودان، موضحاً أن تعليق إعفاء ديون السودان سيكون له آثار سلبية على اقتصاد البلاد ويزيد من معاناة الشعب السوداني وتنامي معدلات الفقر.

ويؤكد أستاذ الاقتصاد بجامعة الخرطوم، أنه إذا عاد السودان إلى مسار الإعفاء فإن لذلك مردود ايجابي على الاقتصاد من حيث أن ذلك يحسن من مؤشرات الاقتصاد الكلي، كما أن عودة الاستثمارات والمساعدات الدولية التي يحتاجها السودان وهي نتاج التزام السودان بشروط ورقابة صندوق النقد الدولي.

غير أن الاقتصادي معتصم أقرع، لديه منظور آخر للأمر، إذ يقول “لن يحدث تغيير، وذلك لأن هذه الديون موجودة منذ عشرات السنين وليست بالأمر الجديد، وامتدت عبر نظام مايو والديمقراطية الثانية ونظام البشير، وأصلا توقف السودان عن السداد منذ الثمانينات والتسعينات. عليه، فإن هذه الديون موجودة فقط على الورق ولا جديد فيها، لذلك فإن تعطيل إعفاءها لن يخلق أي تغيير سلبي”. 

ويضيف الأقرع في حديثه لـ(بيم ريبورتس)، “إذا كان هنالك تغيير فقد يتمثل في قطع الطريق أمام أي تمويل جديد، إذ كان للحكومة السابقة أمل بعد إعفاء الديون، أن تتحصل على مساعدات مالية أو تمويل من الغرب والمؤسسات المالية العالمية وكان مربوط بذات التمويل المؤسسي من صندوق النقد الدولي والبنك وكان مرتبط بملف إعفاء الديون.

لذلك، ما سيحدث الآن بما أنه تم تعطيل عملية إعفاء الديون، فإن احتمالية حصول الدولة على تمويل من المؤسسات المالية العالمية أصبح ضعيف، وهذا الأمر أيضاً لن يغير شيئاً، وذلك لأن هذا التمويل لم يمكن موجوداً في الفترات السابقة وسيتواصل غيابه”.

ورأى الأقرع أنه في حالة وصول هذا التمويل كان يمكن أن يحقق انفراجاً يساعد الاقتصاد السوداني على التنفس بمقدار (ليس بالكبير). ولكن الآن وفي ظل غياب هذا التمويل فلن يحصل تغيير وسيظل الوضع كما هو، ولن تحدث الانفراجة المتوقعة في حال الحصول على تمويل”. 

وفيما يتعلق بتأثير تعليق الديون على تنفيذ مشاريع مؤتمر باريس، يقول “لم تكن هنالك مشاريع ذات تصميم متقدم عرضت في مؤتمر باريس، بل كانت مجرد (حكي ساي)، جرى تحديد قطاعات اقتصادية يأمل السودانيين في أن تمولها الدول المانحة، لكن التمويل الدولي لا يعمل بهذه الطريقة”.

ويشرح الأقرع الطرق المتعارف عليها في عمليات التمويل الدولي، بالقول: “التمويل الدولي مصادره معروفة، فهنالك تمويل يأتي عبر حكومات الدول الأخرى، في صيغة مساعدات أو في شكل قروض، وهذا الشكل من التمويل يُقابَل بحساسية سياسية عالية إذ أن الدول التي يمكن أن تدعم النظام القائم سياسياً هي التي تقدم له التمويل، خصوصاً في حالة توافق النظام السياسي القائم مع توجهاتها العامة، وهذا الأمر ليس له علاقة بأي شيء آخر سوى العلاقة السياسية ومدى تقاربها بين الدولة المانحة والدولة متلقية التمويل، وهي في هذه الحالة السودان”.

ويوضح معتصم، أن “المصدر الثاني للتمويل هي المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وبنك التنمية الأفريقي، وهذا التمويل يتأثر بعملية تعليق الديون، ولكن هذه المؤسسات لم تكن تمول السودان في السنين الطويلة السابقة منذ نظام البشير وحتى الفترة الانتقالية السابقة”. 

ويتابع، “كان هنالك أمل في أن تبدأ هذه المؤسسات في تمويل السودان بعد تطبيق شروط مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون التي تم تعليقها، وبما أن هذه المبادرة قد عٌلِقت فلن يأتي تمويل من هذه المؤسسات المالية الدولية، وبما أنه لم يكن هناك تمويل موجود لينقطع، وكل ما كان هنالك هو أمل في أن يحصل السودان على تمويل من هذه المؤسسات في حالة تحقيقه تقدم ملحوظ في مبادرة الهيبيك ، عليه فإن كل ما في الأمر أن التمويل الذي كان مؤملاً عليه لن يأتي”.

أما المصدر الثالث للتمويل الدولي، حسب الأقرع، هو القطاع الخاص الأجنبي، وهو “عبارة عن شركات وبنوك خاصة يمكن أن تمول السودان فقط في حالة وجدت فرصة لتحقيق أرباح عالية، وهذا الأمر ليس له علاقة كبيرة بالسياسة، ولكن العامل الأساسي بالنسبة للحصول على هذا النوع من التمويل هو وجود فرص الربح، أي وجود فرص استثمارية، وتوفر قطاعات قد تكون مربحة بالنسبة لتلك الشركات، بالإضافة إلى وجود درجة من الأمان ودرجة من الاستقرار السياسي حتى يطمئن رأس المال الأجنبي بأنه لن يتم مصادرته، أو تحدث له كوارث، وأن يحدث أنهيار في الدولة يفقد فيه قيمة استثماراته، وخلافه من المخاطر، وهذا الأمر ليس لديه علاقة بمؤتمر باريس أو بمبادرة الهيبيك، كما ان المتطلبات المذكورة ضعيفة وستظل بهذا الضعف”. 

المشاريع التي قدمتها الحكومة الإنتقالية في مؤتمر باريس - مايو. 2021

كيفيه قراءة المخطط:

ينقسم كل قطاع رئيسي مثل “الطاقة والتعدين” إلى قطاعات فرعية مثل “الطاقة الشمسية”، لمعرفة القطاعات الفرعية يجب الضغط علي عنوان القطاع الرئيسي الموجود في أعلى الدائرة. 

  1. يتضمن كل قطاع فرعي مثل “الطاقة الشمسية” عدد من المشاريع مثل “مشروع محطة أمدرمان”، لمعرفة المشاريع المضمنة يجب الضغط على عنوان القطاع الفرعي الموجود في أعلى الدائرة. 
  2. للرجوع إلى الدائرة السابقة، يجب الضغط على السهم الموجود في يمين الشاشة. 

وحول انعكاسات هذا الأمر على الاقتصاد السوداني والقطاع الاستثماري، في حالة تمكن السودان من العودة إلى مسار الإعفاء، يعتقد الأقرع أن زوال الظروف السياسية التي أدت إلى تعليق المبادرة، وعودة نظام مدني أو شراكة جديدة مقبولة للمؤسسات المالية الدولية وعاد السودان إلى مسار إعفاء الديون، سيكون السودان مطالب في الفترة الأولى بتنفيذ شروط تم الاتفاق عليها سابقاً تثبت لهذه المؤسسات عودته للاتفاق. لذلك، والحديث للأقرع، ففي الفترة الأولى سيكون هنالك تطبيق لسياسات من قبل الحكومة الجديدة قد تكون قاسية بعض الشئ، ولكن لن يحدث تمويل مباشر.

ويتابع، “بعد تثبيت هذه السياسات لفترة من الزمن واقتناع المؤسسات المالية الدولية بأن السودان جاد في تنفيذ الإتفاق، سيبدأ التمويل تدريجاً، في البداية سيبدأ بتمويل قضايا إنسانية أو برامج اجتماعية مثل “ثمرات”، وربما في المراحل المتقدمة في حال قدم السودان تقدم مقبول يمكن لهذه المؤسسات أن تقدم تمويل لمشاريع في قطاعات هامة مثل قطاع الزراعة بتأهيل بعض المشاريع، أو قطاع الطاقة بانشاء محطات توليد كهرباء، وما إلى ذلك”.

ومع قرار نادي باريس بتعليق ديون السودان، عقب انقلاب 25 أكتوبر الماضي، فقدت البلاد تلك النافذة الصغيرة التي كانت تمثل بارقة أمل لملايين السودانيين الذين يعيشون تحت وطأة ظروف اقتصادية صعبة. لكن، في الوقت نفسه، لم يكن اقتصاد البلاد في أحسن حالاته على مدى عقود، بحيث أنه لم تُبنَ سياسات اقتصادية تمثل مصالح السودانيين بشكل أوسع.

واليوم، ما بعد الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر الماضي، باتت العزلة الدولية تلوح مجدداً، ويتهدد شبح الجوع نحو 15 مليون سوداني فيما يزدهر الاقتصاد العسكري والجماعات شبه العسكرية، لكنه لا ينعكس أبداً في الحياة العامة، يظل دائماً حالة من الاقتصاد الموازي والمغلق في أضيق نطاق فائدة. 

ما المصاعب التي تواجه ميزانية العام 2022م؟

“بالتأكيد سنكون في وضع أسوأ مما كنا نخطط للقيام به، ولكن أبواب السماء مفتوحة، نعتقد أن شعبنا يجتهد أكثر في الإنتاج، و يقتصد أكثر، وسنحصل على إيرادات أكثر من أجهزتنا المالية، وبالتالي سنعتمد بصورة كبيرة على ذاتنا”

هكذا أقر وزير المالية، جبريل إبراهيم، في مقابلة تلفزيونية بعد أيام من انقلاب 25 أكتوبر الماضي، بالمصاعب التي تواجه موازنة العام 2022م قبل أن يتم الإعلان عنها لاحقاً في 20 يناير الماضي.

ما المصاعب التي تواجه ميزانية العام 2022م؟

أولاً : ضعف الإيرادات 

تم تقدير إجمالي الإيرادات العامة في موازنة 2022م بحوالي 3,325 مليار جنيه بزيادة قدرها 34% عن موازنة 2021م المعدلة (بدون منح).

  • المصدر: موازنة العام 2022م

فقدت الموازنة المنح الخارجية التي كانت تقدر بحوالي 840,578 مليار جنيه في موازنة 2021م ( بأداء فعلي قدره 167,452 مليار جنيه). شكل المنح الخارجية 12% من إجمالي الإيرادات في موازنة 2021م، حيث إنخفضت النسبة إلى 0% في موازنة 2022م.

أشارت حكومة الأمر الواقع التي سيطرت على البلاد عقب انقلاب 25 أكتوبر، إلى أن موازنة 2022م، ستعتمد على التمويل الذاتي (أي أنها ستقوم بتسخير مقدّرات البلد الإنتاجية لتوليد الإيرادات الضرورية لتغطية الإنفاق الجاري والتنموي).

حسب مصدر مسؤول في الحكومة الانتقالية، تحدث لـ(بيم ريبورتس)، فإن الإنقلاب مثل نقطة تدهور ملحوظة في هذا القطاع، إذ انخفضت حصائل الصادر في يناير 2022م بصورة كبيرة، ويعزى هذا الانخفاض إلى تعطيل التجارة الخارجية، بعدما أصبح السودان بلد عالي المخاطر بعد الانقلاب. غير أن للدولة أرقاماً مختلفة، حيث تقول، إن عائدات الصادر بلغت في يناير 2022م 406 ملايين دولار وفقاً للموجز الإحصائي للتجارة الخارجية للربع الأول لسنة 2022م.

حسب المصدر فإن السودان قد شهد أيضاً تراجعاً في مستوى تحصيل الضرائب الجمركية، بعدما حقق زيادة كبيرة في ظل إدارة الحكومة الانتقالية، وكانت الإيرادات الجمركية في 2021م لشهور (أغسطس، سبتمبر، وأكتوبر) فقط، قد فاقت إجمالي إيرادات العام 2020م.

كما أشار تجمع المهنيين السودانيين في تصريح صحفي بأن الزيادة المفرطة التي قامت بها وزارة المالية في الإيرادات غير حقيقية وغير واقعية، لأنها تتجهل غياب المنح الخارجية عن بنود إيرادات الموازنة، بالإضافة لأنها لا تعتمد على قراءة الواقع ولا تعكس حقيقة ضعف كفاءة تحصيل الإيرادات مع حالةٍ من الركود وتراجع النشاط الإقتصادي.

ثانياً: عجز الموازنة

تضمنت موازنة 2022م زيادة كبيرة في الاستدانة من بنك السودان المركزي التي بلغت 332.5 مليار جنيه لتغطية عجز الموازنة البالغ 363 مليار جنيه.

أشار الخبراء في تجمع المهنيين السودانيين أن موازنة 2022م قد تجاوزت الإستدانة المسموحه على حسب قانون بنك السودان المادة 1/48، والتي تبلغ 221 مليار جنيه.

  • المصدر: موازنة العام 2022م و موازنة العام 2020م

لجعل المقارنة أكثر وضوحاً، فإن المعدل الشهري للإستدانة في موازنة 2022م يبلغ 32 مليار جنيه، عند مقارنته بالإستدانة في موازنة 2021م نجده يعادل 62% من حجم الإستدانة السنوية لعام 2021م كاملاً.

ثالثاً: زيادة أوجه الصرف

تم تقدير المصروفات الجارية في موازنة 2022م بحوالي 3,318 مليار جنيه بزيادة قدرها 38% عن موازنة 2021م المعدلة. 

  • المصدر: موازنة العام 2022م

تم تقدير المصروفات الجارية في موازنة 2022م بحوالي 3,318 مليار جنيه بزيادة قدرها 38% عن موازنة 2021م المعدلة.

“الزيادة (يقصد زيادة الأجور) ستكون حقيقية لن تبلعها السوق، والوزارة لن تلجأ إلى الاستدانة من البنك المركزي أو طباعة الورق كما كان يحدث في عهد النظام السابق، مما أضر بالاقتصاد الوطني”.  كان هذا رأي جبريل معلقاً على زيادة أجور العاملين بالدولة خلال موازنة 2022م. 

شكك تجمع المهنيين السودانيين في ادعاءات جبريل، إذ قارن الخبراء في التجمع بين حجم الإستدانة الشهري في 2022م البالغ 32 مليار جنيه، بفاتورة الأجور والمرتبات البالغة 65 مليار جنيه شهرياً. وخلصوا إلى أن الإستدانة ستغطى 50% فقط من الفاتورة، عليه فإن وزارة المالية سوف تعتمد على الطباعة في تغطية جزء كبير من ال 50% المتبقية من بنود الأجور والمرتبات وتعويضات العاملين، وذلك لأن تقديرات الإيرادات في الموازنة غير منطقية، بالإضافة إلى ضعف تحصيل الإيرادات.