Category: سياسي

وسط صراع نفوذ محتدم.. القاهرة تبحث عن أجندتها في أزمنة الخرطوم الأكثر اضطرابًا

وسط صراع نفوذ ومحاور إقليمية ودولية محتدم، تشهده الساحة السياسية السودانية، تصاعد بعد إطاحة ثورة ديسمبر بنظام الرئيس المخلوع، عمر البشير، في أبريل 2019 م، وفي خضم حالة انقسام في تركيبة القوى العسكرية والمدنية.

لم تكف القاهرة صاحبة الخبرة والنفوذ التاريخي في الخرطوم، عن محاولاتها المستمرة، التي تتخذ أشكالاً عديدة، في البحث عن أجندتها في أزمنة الخرطوم الأكثر اضطرابًا، من خلال توجيه العملية السياسية، في بلدٍ يعيش تحت زعازع التدخل الأجنبي ومخاطر التشظي الداخلي، تعمقت في أعقاب انقلاب 25 أكتوبر 2021م، الذي يُعتقد بأن لها فيه ضلع كبير، حسبما أشارت لذلك تقارير صحفية عديدة.

ومع ذلك، ظلت القاهرة تنفي مثل هذه الاتهامات، بما في ذلك محاولة التدخل في الشأن السوداني، ودائماً ما تشير إلى أنها تحترم سيادة البلاد وتقف على مسافة واحدة من الأطراف كافة، وأن ما تريده فقط؛ هو استقرار الخرطوم، لا أكثر.

ويعتقد بعض المراقبين المراقبين، بأن مخاوف القاهرة الرئيسية، تتركز على تنامي دور الدعم السريع كقوات مستقلة، مقابل الجيش، ورغم ذلك، ليس من الواضح، ما إذا كان موقف القاهرة المبدئي من الدعم السريع يأتي من كونها مليشيا تُثير مخاوفها، أم كونه صراع نفوذ، خاصة وأن اجتماعات عديدة ضمت مسؤولين مصريين، بينهم الرئيس عبد الفتاح السيسي ومدير المخابرات عباس كامل، مع قائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي).

صورة تجمع الرئيس المصري مع حميدتي

أيضاً، يمثل امتلاك أبوظبي نفوذاً كبيراً على الدعم السريع، علاوةً على تحركات الأخيرة الاستثمارية، خاصةً في شرق السودان الذي يشهد قلاقل غير مسبوقة، مخاوف إضافية بالنسبة للقاهرة.

وتبدو الدلائل على ذلك واضحة، بعدما عاد من القاهرة في أكتوبر الماضي، القيادي في حزب المؤتمر الوطني المحلول، محمد طاهر إيلا، آخر رئيس وزراء في عهد الرئيس المخلوع، عمر البشير، إلى البلاد، في محاولة للعب دور سياسي في مسرح الشرق الملتهب، تحت لافتة الجهة والعرق. 

أيضاً، عاد من القاهرة، إلى الخرطوم، في نوفمبر الماضي، رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي وزعيم الطائفة الختمية، محمد عثمان الميرغني، عبر طائرة مصرية خاصة، أتى وهو يعارض العملية السياسية التي تمخضت عن الدستور الانتقالي الذي اقترحته اللجنة التسيرية لنقابة المحامين، وأدت لاحقاً لتوقيع اتفاق إطاري مع الجيش، ينتظر أن يسفر عن اتفاق نهائي، يقود إلى تشكيل حكومة بقيادة مدنية. 

طائرة مصرية أخرى، أقلت إيلا من مدينة بورتسودان إلى القاهرة على وجه السرعة، الشهر الماضي، بعد تعرضه لانتكاسة صحية، حسبما أشارت لذلك تقارير صحفية، والذي كان قد بدأ حراكاً سياسياً واسعاً وظهر مع بعض الجماعات المسلحة هناك. 

وفي خضم تسارع العملية السياسية التي تيسرها الآلية الثلاثية المكونة من الاتحاد الأفريقي، إيغاد والأمم المتحدة، بجانب (الرباعية) وعودة إيلا إلى القاهرة، ألقى الزعيم الأهلي بشرق السودان، سيد محمد الأمين ترك والذي يتقلد منصباً رفيعاً في تحالف الكتلة الديمقراطية الذي يضم حركات مسلحة والحزب الاتحادي الأصل، بالونة اختبار سياسي، بتقديم دعوة غير مسبوقة للرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، بالتدخل في الشأن السوداني.

قال ترك مخاطباً السيسي: “أنا من هنا داير أقول كلام للرئيس المصري السيسي، أنه المبادرة المصرية دي يا السيسي أسعى في هذه المبادرة، يا أفتح لينا الحدود البرية.. نحن وانت كلنا نكون عايشين سوا عشان نثبت تقرير مصيرنا”. 

حديث ترك، جاء في أعقاب زيارة مدير المخابرات العامة المصرية، عباس كامل للبلاد، بحثاً عن منظور القاهرة لكيفية حل قضايا الخرطوم، من خلال مبادرة قدمها للفرقاء السودانيين، تطورت لاحقاً إلى ورشة عمل، رفضتها قوى الحرية والتغيير فيما أيدتها حركات مسلحة ومجموعات وأحزاب، محسوبة على نظام الرئيس المخلوع، عمر البشير، والقائد العام للجيش، عبد الفتاح البرهان. 

ورغم تأرجح العلاقات السياسية بين الخرطوم والقاهرة، في كل الحقب ما بعد الاستقلال، إلا أن العلاقة بين جيشي البلدين ظلت وطيدة إلى حد كبير، فيما يتعلق بالتدريبات المشتركة، والتنسيق المشترك، بما في ذلك دراسة قادة الجيش السوداني في المعاهد العسكرية المصرية.

كذلك يحتفظ الجيش المصري بعلاقات اقتصادية مستقلة مع نظيره السوداني، بالإضافة إلى وجود شبح تدخل للجيش المصري في الانقلابات العسكرية الفاشلة والناجحة في البلاد، بما في ذلك الإرهاصات التي سبقت أول انقلاب عسكري في السودان في نوفمبر 1958م، وآخرها حتى الآن في أكتوبر 2021م.

الدور المصري في السودان بعد الثورة

مع أن الدور السياسي المصري في السودان قديم، لكنه بدأ يأخذ منحنى متصاعداً في الأيام الأخيرة لسقوط نظام الرئيس المخلوع، عمر البشير، في أبريل 2019م، قبل أن يصل ذروته في سنوات الثورة السودانية اللاحقة تباعاً.

بعد يوم واحد فقط من اعتصام مئات آلاف المتظاهرين بالمقر الرئيسي للقيادة العامة للجيش السوداني بالعاصمة الخرطوم في 6 أبريل 2019م، تتويجاً لاحتجاجات شعبية واسعة بدأت في ديسمبر 2018م، وصل في السابع من الشهر نفسه نائب مدير جهاز الأمن والمخابرات الوطني وقتها، جلال الشيخ، إلى العاصمة المصرية القاهرة، حيث اجتمع مع مسؤولين في جهاز المخابرات المصري حول مدى قبول القاهرة للإطاحة بالبشير، حسب (وكالة أسوشيتد برس).

وقالت الوكالة الأمريكية، إن الشيخ، استفسر المسؤولين المصريين في جهاز المخابرات العامة، عن رد فعل القاهرة إذا قاموا بالإطاحة بالبشير، وما إذا كانت الرياض وأبوظبي ستدعمهم مالياً.

لم تمر سوى خمسة أيام على زيارة الوفد الأمني السوداني إلى القاهرة، حتى أعلن الجيش عزل البشير من منصبه وتولي نائبه ووزير الدفاع عوض ابن عوف رئاسة مجلس عسكري انتقالي، في 11 أبريل 2019م، لكنه سرعان ما تنحى عن رئاسته، ليخلفه القائد العام الحالي للجيش، عبد الفتاح البرهان، في اليوم التالي.

البرهان الذي تولى رئاسة المجلس العسكري، في 12 أبريل 2019م، كانت أولى زياراته الخارجية إلى العاصمة المصرية القاهرة، في الخامس والعشرين من شهر مايو 2019م، حيث أدى التحية العسكرية للرئيس، عبد الفتاح السيسي، خلال مراسم استقباله في القصر الرئاسي.

البرهان يؤدي التحية العسكرية للرئيس المصري

وقال المتحدث الرسمي باسم الرئاسة المصرية، بسام راضي، في تصريحات صحفية، إن مباحثات البرهان والسيسي أسفرت عن “التوافق على أولوية دعم الإرادة الحرة للشعب السوداني واختياراته”.

فيما أكد البرهان، ما وصفه بالتقارب الشعبي والحكومي المتأصل بين مصر والسودان، ومشيداً بـ”الدعم المصري غير المحدود لصالح الشعب السوداني وخياراته للحفاظ على سلامة واستقرار السودان في ظل المنعطف التاريخي الهام الذي يمر به”.

فيما سبقت مباحثات البرهان والسيسي، عقد الرئيس المصري، قمة تشاورية حول الأوضاع في السودان، في حضور بعض الدول الأفريقية في 23 أبريل 2019م، معبراً عن دعمه للاستقرار في السودان.

خفوت الدور المصري

لاحقاً، خلال تعثر المفاوضات بين قوى الحرية والتغيير والجيش في أعقاب الإطاحة بالبشير، شدد المصريون من خلال وفود إعلامية وسياسية على ضرورة مشاركة الجيش في الفترة الانتقالية لحمايتها وحماية الأمن في البلاد، بعدما كانت القوى المدنية تطرح ضرورة ابتعاد الجيش من العملية السياسية.

ومع تشكيل حكومة انتقالية في أغسطس 2019م، خفت الدور المصري في البلاد قليلاً، ومع ذلك ظلت القاهرة تستضيف مسؤولين سودانيين رفيعين سابقين في الجيش والمخابرات ونظام الرئيس المخلوع، عمر البشير، على رأسهم آخر رئيس وزراء في عهده، محمد طاهر إيلا، بجانب مدير المخابرات السابق، صلاح قوش، ورئيس أركان الجيش السابق، كمال عبد المعروف، ورئيس المجلس العسكري السابق، عوض ابن عوف.

انضم جميع هؤلاء القادة العسكريين، إلى رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي، وزعيم الطائفة الختمية، محمد عثمان الميرغني، الذي ظل مقيماً في القاهرة لحوالي 9 سنوات، فيما ظل الموضوع الوحيد الذي يشغل الخرطوم والقاهرة بعدها، هو ملف سد النهضة الإثيوبي.

ومع ذلك، يكشف موقف القاهرة من قادة النظام المخلوع، وعملها مع مجموعات الإسلاميين في السودان حالياً، التناقض مع كونها داخلياً ضد تقف ضد الجماعات الإسلامية.

زيارة حمدوك إلى القاهرة

وفيما يبدو، فإن زيارة رئيس الوزراء السابق، عبد الله حمدوك، إلى العاصمة المصرية القاهرة في مارس 2021م، وحديثه عن ما وصفه بالمسكوت عنه في العلاقات بين الخرطوم والقاهرة، مثّلت قلقاً كبيراً لمصر وأثارت مخاوفها، خاصة بعد حديثه عن مثلث حلايب السوداني المحتل مصرياً، وضرورة تغيير القاهرة نظرتها للخرطوم، وغيرها من الملفات والمواضيع الحساسة التي تحدث عنها. كان المصريون عموماً، غير راضين عن قيادة حمدوك، خاصة انفتاحه العلني على سد النهضة الإثيوبي، علاوةً على احجامه عن تعميق العلاقات مع إسرائيل.

في الشهور اللاحقة لزيارة حمدوك إلى القاهرة، تأزم الوضع السياسي الداخلي في البلاد، إلى أن نفذ الجيش انقلابه في 25 أكتوبر 2021م، والذي أشارت صحيفة (وول ستريت جورنال) الأمريكية، إلى أن رئيس المخابرات العامة المصرية، عباس كامل، سافر إلى الخرطوم قبل الانقلاب للقاء البرهان. وحسب ما نقلت الصحيفة، فقد قال للبرهان “حمدوك يجب أن يذهب”. وأشارت الصحيفة الأمريكية كذلك، إلى أن البرهان سافر سراً إلى مصر قبل يوم من الانقلاب حيث التقى الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، لإجراء محادثات سرية للتأكد من أنه يدعم الانقلاب، ولضمان حصول خطته على دعم إقليمي، وفق الصحيفة.

وامتداداً للدور المصري في السودان، بعد الانقلاب، وقعت مجموعة من الفصائل الاتحادية بالقاهرة في أواخر مارس الماضي، على إعلان سياسي يمهد لوحدتها شارك فيه رئيس حزب الأمة مبارك الفاضل. وفي الثامن عشر من الشهر نفسه، أعلن رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل، وزعيم الطريقة الختمية في السودان، محمد عثمان الميرغني، عن طرح مبادرة سياسية تسعى لإنهاء الأزمة السياسية المتطاولة في البلاد.

رحلة العودة من القاهرة

في الثالث من أكتوبر الماضي، عاد إلى البلاد القيادي بحزب المؤتمر الوطني المحلول وآخر رئيس وزراء في عهد النظام المخلوع، محمد طاهر إيلا، على الرغم من وجود بلاغات مقيدة ضده، إلا أنه تم استقباله رسمياً في مطار مدينة بورتسودان، وسط حشد أهلي كبير. 

جاءت عودة إيلا إلى البلاد، في خضم قلاقل كبيرة يشهدها شرق البلاد، وحالة سياسية محتقنة وحافلة بالانقسامات والتكتلات. 

ماذا يريد إيلا وما هي مهمته؟ سرعان ما أفصح عن شواغله غداة عودته في إعادة ترتيب مشهد الشرق -وفق تصوره-. وقال “تتسارع الخطى عندي عملاََ وترتيباً لوحدة شعب البجا في الشرق شعباََ وقيادة وقاعدة ومنصة لأجل السودان، فإن اختلفوا على الاتفاق فهدفهم واحد وآمالهم شرق لأجل سودان قوي متماسك نام متطور.. ويقيني أنها باتت وشيكة وواقع قائم على أرض صلبة حدد معالمها الأمير دقنة بأنها قومية سودانية مية المية”. 

وأضاف قائلاً “إن أهل الشرق أكثر أهل السودان دعوة للوحدة الوطنية والسلام وأكثرهم تنازل عن ومن حقوقهم لأجل دولة السودان الوطن الكبير الواحد. والشواهد على ذلك كثيرة دونما تذكر فهي معلومة لكل السودانيين”.

لكن خطابه الذي بدا تصالحياً، سرعان ما بددته تصريحات له في نوفمبر الماضي، عندما أيد حق تقرير المصير ودعا (البجا) لحمل السلاح والدفاع عن الأرض والموارد، من ما وصفها بالمجموعات الأخرى.

في نوفمبر الماضي، عاد رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي وزعيم طائفة الختمية، محمد عثمان الميرغني إلى البلاد، بعد بقائه سنوات طويلة في منفاه الاختياري بالعاصمة المصرية القاهرة.

عاد الميرغني وسط انقسام في حزبه بين ابنيه الحسن وجعفر، بدا ظاهراً في استقباله. فبينما انضم الحسن موقعاً على وثائق الحرية والتغيير ولاحقاً على الاتفاق الإطاري، ترأس جعفر الكتلة الديمقراطية التي تضم حركات مسلحة وجماعات سياسية أخرى، والتي ترفض مواثيق الحرية والتغيير ولم توقع على الاتفاق الإطاري.

مدير المخابرات المصري في الخرطوم

في خضم جدل سياسي، أعقب التوقيع على الاتفاق الإطاري في الخامس من ديسمبر الماضي، وبدء المرحلة النهائية في يناير الحالي، لما يطلق عليها العملية السياسية النهائية والتي من المنتظر أن تؤدي إلى اتفاق نهائي بين المدنيين والجيش، هبط مدير المخابرات العامة المصرية في الخرطوم، حاملاً معه مبادرة لما أسماه بالحوار السوداني – السوداني، برعاية وتسهيل من القاهرة، وهي المبادرة التي سرعان ما رحبت بها الكتلة الديمقراطية ومجموعات أخرى، بينها حزب الأمة بقيادة مبارك الفاضل، ومجموعات محسوبة على الإسلاميين.

“هذه رؤية نرحب بها، وليس لدينا اعتراض عليها، والمسؤول المصري رأيه هو أن يساعد السودانيين لتجاوز خلافاتهم”، هكذا رحب نائب رئيس الكتلة الديمقراطية، جبريل إبراهيم، بالمبادرة المصرية.

ومضى قائلاً “بأن هناك أطراف -لم يسمها- تقف ضد المقترح المصري لاعتبارات من بينها أنها تراهن على جهات خارجية أخرى داعمة لمواقفهم ويعتبرونها أهم من الدعم المصري، ويعترضون على تدخل القاهرة”.

في السياق نفسه، رحب حاكم إقليم دارفور، مني أركو مناوي، بالمبادرة المصرية وقال إن “الدعوة المصرية المقدمة لكل المكونات السودانية لإزالة التباينات، نعتقد أنها مهمة وسوف تلعب دوراً في تقريب المواقف وإزالة الخلافات المصطنعة.. علينا قبول هذه الدعوة للخروج من المأزق”.

أما بالنسبة لرئيس حزب الأمة، مبارك الفاضل، فقد ربط المبادرة المصرية بالأمن القومي للخرطوم والقاهرة.

وقال "استقرار السودان مهم للأمن القومي المصري والسلم والأمن الدوليين، ومن هذا المنطلق نرحب في حزب الأمة وتحالف التراضي الوطني بالمبادرة المصرية لجمع وتوحيد الفرقاء السودانيين حول سلطة انتقالية تحقق الاستقرار وتنقل السودان إلى نظام منتخب عبر انتخابات حرة وندعمها بصدق وقوة".

وسط هذا التأييد الحاشد للمبادرة المصرية، رفضت قوى الحرية والتغيير دعوة مصرية رسمية للمشاركة في ورشة عمل بالقاهرة في الفترة بين يومي 1-8 فبراير المقبل، بعنوان: “آفاق التحول الديمقراطي نحو سودان يسع الجميع”.

وعرّفت الدعوة الهدف من الورشة، حسب بيان لقوى الحرية والتغيير، بأن تكون منبراً لحوار جاد يؤدي لتوافق سوداني-سوداني، وهو الأمر الذي رأت أن العملية السياسية الحالية المرتبطة بالاتفاق الإطاري قد تجاوزته، خاصة أنها كانت قد أبلغت مدير المخابرات المصري إبان زيارته الماضية إلى الخرطوم، بأن على القاهرة فقط أن تقوم بدعم الاتفاق الإطاري.

لاحقاً، أعربت وزارة الخارجية المصرية عن ترحيبها بالعملية السياسية النهائية المستندة على الاتفاق الإطاري. وبررت الحرية والتغيير رفضها المشاركة في الورشة المزمع عقدها في القاهرة، بكون الاتفاق الإطاري وضع أساساً جيداً لعملية يقودها ويمتلكها السودانيون، وقد شكلت اختراقاً في مسار استرداد التحول المدني الديمقراطي، مما يجعل الورشة متأخرة عن هذا السياق، وقد تجاوزها الزمن فعلياً.

كما رأت أن الورشة المزمع عقدها تشكل منبراً لقوى الثورة المضادة، الذين ذكر البيان أنهم يأملون أن يحتشدوا فيه لتقويض الجهود الشعبية السودانية لاستعادة المسار المدني الديمقراطي، لافتاً إلى أن هذه القوى مرتبطة بالنظام البائد الذي أضرت سياساته بالبلدين و شعبيهما.

إغلاق الباب في وجه المبادرة المصرية، مقابله فتحت الحرية والتغيير الباب أمام كل الجهود الدولية والإقليمية لدعم مسار العملية السياسية التي تستند على الاتفاق الإطاري.

مع ذلك، أقرت الحرية والتغيير بتقييمها وتقديرها للعلاقات التاريخية بين السودان ومصر، مشيرة إلى إدراكها لأهميتها الاستراتيجية، غير أنها انتقدت الدور المصري في السودان صراحةً، في أعقاب الثورة.

وقال البيان: "نعتقد أن الموقف المصري من التطورات السياسية في السودان في أعقاب ثورة ديسمبر المجيدة يحتاج لمراجعات عميقة تتطلب تفاكراً حقيقياً على المستوى الرسمي والشعبي بين البلدين".

لكن ومع ذلك، يبدو أن الحرية والتغيير، لا تريد قطع شعرة التواصل مع القاهرة، حيث قال القيادي فيها وعضو مجلس السيادة الانتقالي السابق، محمد الفكي، إن الحرية والتغيير ستذهب إلى القاهرة ولكنها لن تشارك في الورشة.

إذن؛ يبدو أن الحج إلى القاهرة التي تحاول إعادة تشكيل المشهد السوداني وفق أجندتها، في خضم صراعاتها مع العواصم الإقليمية والدولية الأخرى المؤثرة في البلاد، يبدو أنه بمثابة فريضة على الأطراف السودانية، سواء شاركت في الورشة المزمعة، أو لم تشارك.

يقول المحلل السياسي، د.الحاج حمد، إن لمصر مصالح تسعى لتحقيقها، مشيراً إلى أنه ظلت هناك جهات سودانية تراعي هذه المصالح، فالختمية مثلا طائفة دينية في صعيد مصر كما في السودان. بالإضافة إلى ما وصفه بولاء الاتحاديين أيضًا منذ عهد الزعيم السياسي الراحل إسماعيل الأزهري.

وأضاف “الآن مصر في مرحلة صارت فيها إحدى أدوات التحالف الأمريكي – الإسرائيلي، وصار الجيش المصري، يخدم كما مجموعة البرهان هذا التحالف، وتنعكس التناقضات الثانوية داخل هذا التحالف على مصر”.

وتابع “نلاحظ أن الأمريكيين بدأوا في تحجيم دور إسرائيل بالضغط على البرهان ومجموعة الحركات المسلحة. لذا هناك إعادة خلط وترتيب للتحالفات في ساحة الفاعلين الأجانب للوصول لحاضنة مدنية لمصالح الاستراتيجية الأمنية الأمريكية التي لديها فوبيا الروس وتسعى حثيثا أن لا تتقدم”.

وأوضح حمد في حديثه لـ(بيم ريبورتس)، أن تدخل مصر يعني محاولة خلق حلف سوداني من المجموعة التي تضررت من الاتفاق الإطاري. قبل أن يشير إلى أن الوضع لا يخدم “مصالح وطنية مصرية”.

كيف قدم طلاب كلية الطب بجامعة دنقلا نموذجاً مغايراً للاحتجاج على زيادة الرسوم الدراسية؟

 “لن نرضى بأن تكون الزيادات غير القانونية سبباً لانسحاب زملائنا عن الدراسة، أو أن يحمل ذوونا أحمالاً لا تطيقها أكتافهم”، بهذه الكلمات عبرت رابطة طلاب كلية الطب بجامعة دنقلا شمالي البلاد عن رفضها واستنكاراها لزيادة رسوم التسجيل التي فرضتها إدارة الجامعة للمرة الثانية خلال عام دراسي واحد.

لم تكتفِ رابطة كلية الطب بالاحتجاج والاعتصام كما جرت العادة في الأوساط الطلابية، لكنها ذهبت إلى وجهة تبدو غير مسبوقة، وذلك باللجوء إلى القضاء في مواجهة قرارات إدارة الجامعة.

ونجحت الدعوة التي قيدتها الرابطة ضد إدارة جامعة دنقلا، بمحكمة الطعون الإدارية، في استصدار قرار مؤقت بتعليق زيادة الرسوم إلى حين الفصل في القضية، وهو الأمر الذي وضعها في سياق فريد بالنسبة لاحتجاجات الطلاب عادةً.

وكانت إدارة جامعة دنقلا، ضاعفت في أواخر سبتمبر الماضي، الرسوم الدراسية للتسجيل للفصل الدراسي الثاني بنسبة تزيد عن 500 %، بعدما كانت قد أصدرت قراراً مماثلاً في بداية المستوى الدراسي الأول.

وتزامن الحراك في كلية الطب بجامعة دنقلا، مع قرارات مشابهة، أقرتها عدد من الجامعات ومؤسسات التعليم العالي الحكومية وتسببت في موجة واسعة من الاحتجاجات والإضرابات.

وكانت رابطة طلاب الطب، قد أشارت في بيان لها أنها تنازلت عن التصعيد في الزيادة السابقة تقديرًا لما وصفته بـ”الراهن الاقتصادي”، إذ قالت في البيان: “الزيادة السابقة تم قبولها من طرفنا تقديرًا منّا للراهن الاقتصادي ودعمًا منّا لاستمرار العملية التعليمية”، قبل أن تشير في البيان  نفسه إلى أن تنازلها عن مطلب تخفيض الرسوم، تم بعد تعهد مدير الجامعة الأسبق، بعدم إضافة زيادات جديدة في الرسوم للطلاب المسجلين.

في أواخر العام 2020م، حددت جامعة دنقلا زيادة في رسوم التسجيل من 2 ألف جنيه سوادني لتصبح 5 آلاف جنيه، ووافق الطلاب في 15 كلية على دفعها بعد تعهد المدير الأسبق للجامعة، عمر بشارة، بعدم إضافة زيادة ثانية في وقت قريب، لكن المدير الحالي للجامعة، وليد مصطفى، عاد وقرر زيادة أخرى للرسوم قدرها 5 آلاف جنيه سوداني لتصبح رسوم التسجيل بالجامعة 10 آلاف جنيه.

«الضرورات تبيح المحظورات»

في سبيل الوصول إلى حلول، عقد مدير الجامعة وأمين الشؤون العلمية وعميد شؤون الطلاب في العاشر من أكتوبر الماضي، اجتماعاً مع ممثلي الرابطة. 

لكن، في أعقاب الاجتماع، أقامت الرابطة ركن نقاش للطلاب أعلنت فيه تمسك إدارة الجامعة بموقفها في الزيادة، مع إشارتها للطلاب بأن الزيادة لن تكون الأخيرة وستستمر كلما دعت الحاجة إلى زيادة جديدة دون الاحتكام لأي لائحة مالية. وأشارت الرابطة، إلى أن الإدارة بررت خرق لائحة الجامعة، بأنه جاء بتوجيه من وزارة التعليم العالي دون تسليمهم نسخة من القرار رغم مطالبة الرابطة به في بيان أصدرته بعد الاجتماع.

ودعت الرابطة بعدها الطلاب إلى التمسك بعدم التسجيل إلى حين موافقة الإدارة على مطالبهم، واستنكرت في بيان لها تبرير المدير الحالي، وليد مصطفى، تجاوزه العهد الذي التزم به المدير السابق بعدم تحديد زيادة جديدة في مدى زمني قريب، بمقولة “الضرورات تبيح المحظورات”، كما عبرت عن رفضها في البيان لما أسمته خرق الجهات التنفيذية نص لوائح يجوز فيها الخرق لجهة تشريعية فقط.

رفض التسجيل يضمن عدالة مستقبلية للطلاب

“الزيادة غير القانونية لرسوم التسجيل قد تؤدي لانسحاب بعض الطلاب عن الدراسة، وتعاطي المسائل بأنانية محضة قد يضر بفئة مكافحة منا كانت كل رؤيتها الاجتهاد بحثاً عن مستقبلٍ أمثل لهم ولعائلاتهم”، شددت رابطة طلاب كلية الطب في بيان لها على أن تمسكها بالرفض يأتي لصالح مستقبل الطلاب الحاليين والقادمين، وأضافت في البيان نفسه:

"عدم ثبات اللوائح وتغيرها على هوى الجهات التنفيذية لا يضمن أي عدالة مستقبلية، وقد يؤدي لأضرار أجسم في مستقبل الأيام".

طعن إداري ضد إدارة جامعة دنقلا

في التاسع من نوفمبر الماضي، أعلنت الرابطة عن تقييدها بلاغ لدى محكمة الطعون الإدارية بمدينة دنقلا، ضد قرار زيادة الرسوم، في خطوة فريدة حازت على اهتمام الرأي العام وروابط الطلاب بالجامعات الأخرى والنقابيين بالمؤسسات المهنية والتعليمية والعمالية، خاصة وأن الخطوة تزامنت مع حراك كبير لهذه الأوساط ضد سياسات الدولة بما فيها الموازنة الجديدة للعام 2023م، كما سيرت موكبا إلى مباني إدارة الجامعة يرفع شعارات رافضة لزيادة الرسوم الدراسية. 

وذكرت الرابطة، أن البلاغ جاء بسبب مخالفة الإدارة البند 14/1 من لائحة الرسوم لمؤسسات التعليم العالي لعام 2018م، والذي ينص على “عدم جواز زيادة رسوم التسجيل سنوياً بما لا يتجاوز عن 10% للطالب المستمر مما دفعها للجوء للقضاء الإداري”.

وبعد 3 أيام من رفع القضية، أجرت الرابطة تصويتاً للجمعية العمومية في 12 نوفمبر الماضي للإدلاء بآرائهم حول القبول بالتسجيل بالزيادة حتى صدور الحكم القضائي، أو التمسك بخيار رفض الزيادة والاستمرار في الاتجاه القضائي، حيث صوت 559 طالباً وطالبة من أصل 681 لصالح التمسك بالاتجاه القضائي، فيما عبر 79 طالباً عن قبولهم التسجيل بالزيادة.

تعليق الامتحانات ومنع الطلاب من الدخول للكلية

من جهتها، أعلنت إدارة الجامعة تعليق الامتحانات لكل الدفعات المقبلة على امتحانات في 28 ديسمبر 2022م، بتوجيه من مدير جامعة دنقلا، كما وجهت إدارة الصندوق القومي لرعاية الطلاب بإخلاء الداخليات، وشددت الحراسة عند مدخل الكلية، وجاءت القرارات قبل صدور حكم نهائي من محكمة الطعون في القضية.

لكن الرابطة، أعلنت التصعيد، ضد قرارات الإدارة بتعليق الدراسة، ورفضت طلب الإدارة التي وجهت الطلاب بدفع زيادة الرسوم المقررة لحين البت في القضية، أو تعليق الدراسة لحين صدور القرار.

وبالفعل، أصدرت محكمة الطعون الإدارية بتاريخ 29 ديسمبر الماضي،  قراراً بإيقاف تنفيذ زيادة رسوم التسجيل لحين الفصل في الطعن.

لكن رابطة طلاب كلية الطب، أعلنت في بيان لها في الثاني من يناير الحالي، بعد اجتماع  ضم كلاً من: (لجنة أمن الولاية، لجنة ممثلة للطلاب ومدير جامعة دنقلا) لمناقشة إغلاق الكلية، أعلنت عن تنفيذها اعتصاما مفتوحاً لحين تراجع الإدارة عن قرار تعليق الدراسة بالكلية. ونوهت الرابطة، إلى أن الموضوع أصبح في طاولة المحكمة الإدارية لتفصل فيه بما يوافق صحيح القانون، لكن إدارة الجامعة اشترطت على الطلاب القبول بخيار تقسيط الرسوم وشطب الطعن الإداري، مقابل استئناف الدراسة.

ومع ذلك، نفذت الرابطة اعتصاماً استمر لثمانية أيام في الفترة من 2 -11 يناير الحالي، قبل أن تعلن رفع الاعتصام قبل أسبوع، مشيرة إلى توسط أولياء الأمور وعدد من الأعيان بين الإدارة والطلاب، وتوصلهم لاتفاق أفضى إلى استمرار العملية الدراسية وعدم تعطلها، وأعلنت بعده عن فتح باب الكلية لاستقبال الطلاب. كما أثنت على مساعي هذه الجهات الشعبية، بتعهدها بالدعم الكامل للوصول لهدف اعتماد الكلية بنهاية العام الحالي.

تسليع التعليم

“خطوة فرض الزيادات في الرسوم غير قانونية ودستورية، في ظل عدم وجود حكومة تجيز الميزانية”، يقول النقابي محجوب كناري معلقاً على حراك طلاب جامعة دنقلا. واعتبر في حديثه لـ(بيم ريبورتس)، الزيادة تسليعاً للتعليم. وأضاف: “من حق الطلاب اتخاذ الإجراءات التي يرونها مناسبة في التصعيد للقضية بما فيها الاحتكام للقانون، قبل أن يدعو المحامين للوقوف معهم إلى حين كسب القضية.

ورأى الخبير النقابي، أن إدارات الجامعات الحالية، إدارات معينة، ومتجاوزة لقوانين الجامعات في تعيين الإدارات بالانتخابات. وأوضح أن موقف إدارة جامعة دنقلا في تعليق الدراسة أثناء القضية موقف يتسق مع سياسات الحكومة الانقلابية التي قال إنها لا تهتم بالتعليم، مشيراً إلى أن موقفها شبيه بقرار إغلاق المدارس بعد إضراب المعلمين.

يشير رئيس رابطة طلاب كلية الطب بجامعة دنقلا، محمد علي، إلى أنهم استبقوا خطوتهم في التقاضي باتخاذ عدة إجراءات. ويقول إن التوجه للخطوة القانونية، يجب أن يسبقه تسليم خطابي تظلم لجهتين إدارتين، ممثلتين في وزارة التعليم العالي ومدير الجامعة، مشيراً إلى أن إدارة الجامعة ردت على الخطاب برفضها إلغاء قرار زيادة الرسوم نسبة لـ”الوضع الاقتصادي”، أما وزارة التعليم العالي فلم ترد على الخطاب.

وأشار علي، إلى أن بقية الجامعة بإمكانها المضي في نفس اتجاه طلاب كلية الطب بجامعة دنقلا، حال اتباعها الإجراءات الإدارية المشار إليها.

زيادة طبيعية

عميد عمادة شؤون الطلاب بجامعة دنقلا، محمد إبراهيم محمد قال لـ(بيم ريبورتس)، إن مسألة زيادة الرسوم طبيعية، معللا ذلك بأن زيادة رسوم التسجيل بالجامعة بدأت منذ العام 2020م، بتعديل الرسوم من 2 الف جنيه إلى 5 آلاف لكل الطلاب في الجامعة. وأضاف “في أكتوبر 2021م، تمت إجازة تحديد الرسوم لكل الطلاب في 15 كلية من قبول 2015م حتى 2020م لتصبح 10 آلاف جنيه بما في ذلك كلية الطب، مشيراً إلى أن الزيادة تذهب في طباعة البطاقة الجامعية ورسوم طباعة الامتحانات والمكتبة.

وأعلن العميد عن مبادرة قادها أولياء أمور الطلاب، طالبت إدارة الجامعة بتقسيط الزيادة ودفع الطلاب مبلغ 7.5 ألف جنيه من المبلغ الكلي 10 آلاف جنيه على أن ينظر في مسألة الـ 2.5 ألف جنيه الأخيرة لاحقاً، مشيراً إلى موافقة الجامعة على الطلب.

وفيما يخص تعليقه على لجوء الطلاب للطعن ضد قرار زيادة الرسوم، يقول إبراهيم إنه ليس الجهة المناط بها تحديد الصواب أو الخطأ وأن القضاء السوداني هو المسؤول عن ذلك.

وأكد عميد شؤون الطلاب، أن الكلية لم تقم بتعليق الدراسة بالكلية، مشيرا إلى أن التعليق المعني هو تعليق موعد الإعلان عن الامتحانات، وأضاف: “قمنا بتعليق الامتحانات بسبب ضوابط ولوائح التسجيل الذي يتم فتحه لفترة زمنية محددة والتي تنص على أن الطالب يكون طالباً متى ما استكمل اجراءات التسجيل، مشيرا إلى أن الكلية كانت قد استمرت في تدريس الطلاب إلى أن استكملت كل مقررات الفصل الدراسي، لذلك تم الإعلان عن تعليق الامتحانات.

وبرر حضور الشرطة يوم قرار تعليق الامتحانات بكونه إجراءً عادياً لتأمين الكلية، وليس الغرض منه قمع الطلاب.

لكن رابطة طلاب كلية الطب ذكرت في أحد بياناتها، أن الإدارة قصدت تضليل أمين عام الولاية في أحد الاجتماعات بتمليكه معلومات غير صحيحة، منها انتهاء المقررات الأكاديمية.

ومع استقرار الدراسة في جامعة دنقلا، رغم عدم الفصل في الطعن، توجه طلاب كلية الطب نحو التركيز على قضية اعتماد الكلية التي بدأوا الحراك فيها منذ عامين. فيما لا يزال طلاب بجامعات أخرى في الخرطوم والولايات يواصلون حراكهم بشأن قضية زيادة رسوم التسجيل للطلاب الجدد بعد الزيادات الهائلة التي أقرتها الدولة في رسوم التسجيل، وهم كما يشيرون في خطاباتهم وبياناتهم، متمسكين بالتصعيد من أجل حفظ حقوق الأجيال القادمة من الطلاب في التسجيل بأسعار مناسبة.

الاتفاق الإطاري أعاد طرحها.. هل تنجح المرحلة السياسية المقبلة في تمهيد الطريق لتحقيق العدالة الانتقالية؟

ظلت الحرب عبثًا طويل الأمد يتجرع مراراتها السودانيون منذ ما قبل استقلالهم في العام 1956م، دونما أن يُحاسب عليها أحد. ريثما يتم إطفاء حرب، تندلع أخرى جديدة، وكأنها الأسلوب الوحيد لممارسة السياسة لدى قادتها من كل الأطراف.

الشهر المقبل، تكون قد مرت 20 عاماً على بداية اندلاع الحرب في إقليم دارفور غربي السودان، ومع ذلك تبدو آثار الحرب شاخصة وكأنها اندلعت اليوم، لا في نهايات فبراير 2003م، حيث ما يزال الملايين مشردين ويسقطون ضحايا للسلاح المنتشر في شتى بقاع الإقليم، على الرغم من عقد 3 اتفاقات سلام كبيرة بين الحكومات وحركات مسلحة.

لم تنحصر الحرب في دارفور وحدها، إذ في يونيو المقبل، تكون الحرب في جنوب كردفان والنيل الأزرق (المنطقتين)، وصلت إلى عامها الثاني عشر، مخلفة بدورها آلاف القتلى والمشردين داخلياً وخارجياً.

ومع ذلك، يبدو واضحاً من خلال نمط تجارب الحرب والسلام في البلاد، أن الاتفاقات تطفئ نار الحرب الظاهرة فقط، لكنها لا تخاطب جذورها، ولا تقدم أي فلسفة تُسهم في اقتلاع مسبباتها مرة واحدة للأبد. 

إذ لطالما، مثلت اتفاقات السلام، صفقات فوقية بين أطراف الحرب، دون أن تمر على ضحاياها وتمنحهم التعويض اللازم والحقوق الواجبة، كما لم تقدم الدولة أياً من أطراف الحرب إلى المحاكمة في أحد الأيام، لتصبح مثل هكذا محاكمات، ربما مقدمة لإخماد أوار الحرب في البلاد.

مع بدء تكشف النتائج الوخيمة للحرب في إقليم دارفور، أحال مجلس الأمن الدولي ملف دارفور للمحكمة الجنائية الدولية والتي تأسست في 2002م، أي قبل عام من اندلاع الحرب في دارفور. بعد تحقيقات أجراها المدعي العام للمحكمة، وجهت الجنائية تهماً شملت عدداً من قادة الحركات المسلحة، قبل أن تطال الاتهامات مسؤولين حكوميين، على رأسهم الرئيس المخلوع، عمر البشير. إذ ما تزال، المحكمة الجنائية الدولية، هي الجهة الوحيدة التي وجهت تهماً تختص بالحرب لقادة سودانيين.

الطريق للعدالة الانتقالية

من بين الأدوات المهمة والتي تُسهم في إخماد نار الحروب، حسب خبراء، هي العدالة الانتقالية، والتي جرى تضمينها في الوثيقة الدستورية التي حكمت الفترة الانتقالية بين عامي 2019 – 2021م، بناء على اتفاق سلام جوبا. حيث بدأت الحكومة الانتقالية في صياغة “قانون مفوضية العدالة الانتقالية – قانون العدالة الانتقالية”، غير أن هذه الإجراءات شابها البطء، حتى تنفيذ انقلاب 25 أكتوبر 2021م.

ومع توقيع الاتفاق الإطاري بين قوى مدنية والجيش في 4 ديسمبر الماضي، تجدد الحديث مرةً أخرى عن العدالة الانتقالية، ومع ذلك تم تأجيل هذه القضية حتى الوصول إلى الاتفاق النهائي. يقول كبير مفاوضي تجمع قوى تحرير السودان، وأمين التنظيم والإدارة، إبراهيم موسى زريبة، إن الاتفاق الإطاري نادى بإطلاق عملية شاملة تحقق العدالة الانتقالية وتكشف الجرائم وتحاسب مرتكبيها.

وأضاف “بالنسبة لنا قضية العدالة الانتقالية قضية مركزية متكاملة، أفردت لها اتفاقية جوبا بروتوكولات متكاملة وحددت لها آليات عدة؛ أولها تسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية وكذلك إنشاء محكمة جنايات دارفور الخاصة التي تعمل في ذات نطاق المحكمة الجنائية الدولية لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية”.

"من الآليات المهمة أيضاً القضاء الوطني وهذا يقودنا لأهمية الإصلاح في المؤسسات العدلية السودانية كلها وبناء مؤسسات عدلية سياسية وتنفيذية وأمنية تحفظ تماسك واستقرار السودان"، يوضح زريبة في حديثه لـ(بيم ريبورتس).

وأشار إلى أن انتهاكات حقوق الإنسان كانت جسيمة طيلة فترة الإنقاذ التي شهدت جرائم الحرب وجرائم ضد الانسانية، وقال “إن فاجعة فض الاعتصام لا تقل فداحة عن تلك الانتهاكات، بالإضافة لجرائم قتل الثوار من الخامس والعشرين من أكتوبر 2021 وحتى الآن”. وشدد قائلاً “ينبغي أن لا يكون هناك إفلات من العقاب هذه المرة”.

مفاهيم جديدة

“مع تطاول أمد الحروبات وآثارها الكارثية، برزت العدالة الانتقالية كمفاهيم جديدة لمعالجة آثار ما بعد الحرب والنزاعات الدامية في الدولة الواحدة، وبين مواطنيها، بغرض تسوية تراكمات المشكلات التي تخلف مرارات عميقة بين المكونات الاجتماعية وانحياز الدولة”، يوضح رئيس مجلس أمناء هيئة محامي دارفور المكلف، الصادق علي حسن. قبل أن يشير إلى نموذجي رواندا والمغرب.

بالنسبة للسودان، يعتقد حسن، أن تجربة بعض المناطق مثل دارفور، تكاد تكون شبيهة لتجربة رواندا، حيث حدثت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان استخدمت فيها آلية الدولة.

وقال إن تطبيق مفهوم العدالة الانتقالية يتطلب وجود اتفاق سلام أولاً تتأسس عليه المفاهيم، وأنه من دون اتفاق للسلام سواء أكان مكتوباً أو غير مكتوب، لن تكون هنالك مرجعية لأطر يتأسس عليها تطبيق الفكرة، مضيفاً ” لذلك من السابق لأوانه الحديث عن عدالة انتقالية قبل اتفاق سلام يكون مرجعية لها”.

لافتاً إلى أن العدالة الانتقالية، هي عدالة تكميلية للعدالة القانونية المقننة، وفقاً لنظم الدولة القانونية والممثلة في أحكام المحاكم وليست بديلة عنها، وحتى تحقق نتائجها، فهذا يعني بالضرورة عدم تعطيل العدالة القانونية وتطبيقها بسلاسة لتتماشى مع العدالة الانتقالية التكميلية، وفق ما قال.

وأوضح قائلاً “وأعني بذلك اللجوء للمؤسسات العدلية القانونية وعدم تعطيلها وتحديد الجناة والضحايا والتسامي فوق الجراحات والمصالحات المجتمعية. أما إذا تأسست الفكرة على الإفلات الجنائي بشكل أساسي يظل الغبن في النفوس، وبالتالي لا يحقق مشروع العدالة الانتقالية أهدافه وتظل المشكلات والمرارات قائمة ومستمرة بمثل ما نشهده الآن بالبلاد.

“أما بالنسبة للعدالة الانتقالية الواردة في الاتفاق السياسي، فإنه شكل من أشكال الاستهبال السياسي”، يقول حسن ويشير إلى أن المطلوب الآن، هو تصحيح الأوضاع الدستورية بالبلاد أولاً والتأسيس عليه في بلورة مفاهيم لإنتاج النموذج الأمثل للعدالة الانتقالية من المجتمعات المتأثرة نفسها، وإذا حدث ذلك أتصور ستكون هنالك عدة نماذج للعدالة الانتقالية.

ورأى رئيس مجلس أمناء هيئة محامي دارفور المكلف، أن تنوع وتعدد النماذج سيمثل إثراءً للتجارب السودانية في تسوية النزاعات المجتمعية، لافتاً إلى أن النموذج الواحد لن يستجيب للنزاعات المتنوعة والمتعددة. مؤكداً أن النوع الأنسب للعدالة الانتقالية، هو الذي يلبي رغبات المتأثرين وينتج الحقيقة التي ينبني عليه التصالح المجتمعي المستدام”.

وحول دور العدالة الانتقالية في تحقيق الاستقرار، قال إن تحقيق السلام هو الذي ينهي الحرب، والعدالة الانتقالية تأتي لإزالة الغبن المتراكم بتسوية الظلامات من خلال الحقيقية والمصالحات التي تعزز العدالة التقليدية القائمة، وأقصد بذلك أجهزة إنفاذ القانون من مقاضاة أمام المحاكم وسيادة أحكام القانون.

رؤية الضحايا

تسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية وإصلاح المؤسسات العدلية في ظل دولة مدنية، يمكن أن يشكل مدخلاً للعدالة الاتتقالية. يقول الناطق الرسمي باسم المنسقية العامة للنازحين واللاجئين، آدم رجال، لـ(بيم ريبورتس)

إن تحقيق العدالة الانتقالية، لن يتم إلا في ظل حكومة مدنية تؤسس لمؤسسات مدنية تقوم بتغيير وإعادة هيكلة القوانين والسياسات السابقة لهذه المؤسسات بما فيها القضائية والعسكرية، ووضع قوانين جديدة ترتكز على كيف يحكم السودان، وليس من يحكم السودان وتستمد قوتها من الشعب السوداني.

واعتبر رجال، أن مهددات تنفيذ العدالة الانتقالية، تتمثل في عدم وجود الأمن، وعدم وجود مؤسسات ذات طابع قومي، مؤكداً على أن السلام الحقيقي لن يتم ما لم تسقط حكومة الانقلاب.

ويعتقد رجال، أن الاتفاق الإطاري الأخير لن يحقق شيئاً في قضية العدالة الانتقالية، معللا ذلك بكون الموقعين عليه هم نفس الواجهات التي فقدت ثقة الشعب السوداني من أحزاب سياسية أو قوات عسكرية انقلابية.

في المقابل، طالب رجال الحكومة الانتقالية المقبلة، أن تعتذر لضحايا الحروب نيابة عن الدولة، وقال “يجب على الحكومة القادمة إذا ما أرادت كسب ثقة الشعب والمتضررين من الحرب تجاه المؤسسات العدلية، تسليم المطلوبين للعدالة للمحكمة الجنائية الدولية، أو لدى المحاكم الأفريقية الإقليمية، أو حتى تنفيذ محاكمات وطنية بحق المطلوبين جنائياً بعد إعادة هيكلة المؤسسات السودانية.

ويضيف: أيضاً يجب على الدولة إعادة هيكلة الجيش والأمن على عقيدة وطنية جديدة وموحدة تكون مهمتها الأساسية حماية الدستور وليس قتل المواطنين السودانيين وتشكيل المليشيات.

وحسب رجال، فإن رؤيتهم للعدالة الانتقالية تتمركز في الانتقال من مرحلة الحرب للسلام الشامل الذي يتطلب من طرفي الصراع تحقيق سلام حقيقي للوصول إلى مرحلة العدالة القانونية والاجتماعية والاقتصادية، مشيراً إلى أنهم كنازحين ملوا من تجارب اتفاقيات السلام التي لا تؤدي لنتيجة، وخطابات الساعين للسلطة والمال على حساب المتضريين من الحرب.

«الجديدة» تنتهج نفس السياسات.. كيف سحقت موازنة العام «2022» مدخرات ملايين السودانيين؟

أية السماني

أية السماني

“نبشر المواطن بأن العام فيه خير، بُذل مجهود في الموازنة لخلق وظائف ودعم للقطاعين الصحي والتعليمي.. كما خصصت مبالغ معتبرة لدعم الأسر الفقيرة، وستزداد أجور الموظفين بصورة طيبة”. هكذا تحدث وزير المالية بحكومة الأمر الواقع، جبريل إبراهيم، عن موازنة العام الماضي 2022م.

غير أن حديثه لم يتحقق على أرض الواقع، بل كان عكس ما أشار إليه حيث سحقت الضرائب والجبايات والسياسات الاقتصادية عامةً مدخرات الملايين، ليضم السودانيون حديثه إلى ذاكرتهم المليئة بوعود الدولة. حيث تتجدد ذات العهود على لسان الحكومات المتعاقبة، سواءً تلك التي أتت بقوة السلاح أو بشرعية الانتخابات، ببناء نظام صحي متماسك، وإنفاق على قطاعات التعليم والصحة وغيرها من القطاعات الحيوية، بالإضافة إلى أجور تتعدى الخط الأدنى وتبشر بواقع أفضل لمعيشتهم، فيما يحدث العكس تماماً.

هكذا..مر عام على إعلان حكومة الأمر الواقع لموازنة العام 2022م والتي استغرقت وقتاً أكثر من المعتاد، إذ أعلنت بعد مضي أكثر من 20 يوماً من شهر يناير 2022م وهو الوقت المتوقع لبدء تنفيذ الموازنة والصرف على المؤسسات الحكومية.

في وقت تثور التساؤلات، ما إذا كانت موازنة العام 2023م، ستمضي في ذات نهج سابقتها بالاعتماد على الضرائب والجبايات، مع انعدام التمويل الخارجي للعام الثاني على التوالي، وهو الأمر الذي  يضاعف الضغط على المواطنين، في خضم سيل من الأزمات الطاحنة على الصعد كافة.

وكانت وزارة المالية، أعلنت في ديسمبر الماضي، أنها أودعت مشروع موازنة العام 2023م، منضدة مجلس الوزراء، مشيرة إلى أن الخطوة تأتي توطئة لمناقشته على مستوى اللجان وقطاعات المجلس المتخصصة، ومن ثم رفعه لإجازته من المجلس وفق الجدول الزمني المحدد له. ومع ذلك، أعلنت غالبية ولايات البلاد الـ18 إجازة موازناتها للعام الحالي.

بينما قال وزير المالية، إن المبلغ المرصود لموازنة العام 2023م، يصل لحوالي 5 تريليونات جنيه سوداني، مقراً في الوقت نفسه بوجود عجز في الموازنة، أشار إلى أنه لا يتخطى نسبة 15%، مع إمكانية تغطيته باللجوء إلى الاقتراض من بنك السودان المركزي.

تأخر إجازة موازنة العام 2023م، هو نفس سيناريو الموازنة السابقة والتي وضع تأخيرها الكثير من التساؤلات حول عجز الجهاز التنفيذي بالحكومة لإعدادها، إذا أجيزت في ظل وضع سياسي محتقن ومؤشرات تنذر بتراجع اقتصادي كبير وقد قدرت المالية حدوث عجز كلي في الموازنة بمبلغ (363) مليار جنيه بنسبة (1,3%) من الناتج المحلي الإجمالي يتم تغطيته من أدوات الدين الداخلي والاستدانة من بنك السودان المركزي بمبلغ (374) مليار جنيه، ومبلغ (11,0) مليار جنيه من الأصول المالية، لكن ذلك لم يمنع الحكومة من تقديم  ذات الوعود المعتادة.

وعود متجددة

بلغة غير اقتصادية وغير مدعمة بالأرقام، أعلن وزير المالية بحكومة الأمر الواقع، إجازة الموازنة، مشيراً إلى أنه تم بذل مجهود كبير فيها لخلق وظائف ودعم القطاعات الحيوية، وزيادة الأجور.

غير أن الوقائع كانت تقول أشياء أخرى، على عكس أحاديث واضعي الموازنة والقائمين عليها، حيث أن العام 2022م شهد اضطراباً اقتصادياً واضحاً تمظهر في الإضرابات المتتالية التي نفذها مهنيون وعاملون بكافة القطاعات في السودان، احتجاجاً على الأجور الضعيفة، في خضم أزمة اقتصادية طاحنة، وقد شملت الإضرابات العاملين في القطاعين الصحي والتعليمي. علاوة على ارتفاع معدل الفقر في السودان ونذر فقدان ثلث السودانيين أمنهم الغذائي بحسب تقرير صادر عن الأمم المتحدة.

موازنة بدون دعم خارجي

أجيزت موزانة العام 2022م لأول مرة منذ عقود بلا دعم خارجي، حيث اعتمدت بشكل كلي على الموارد الذاتية للدولة. وبطبيعة الحال، فإن السبب الأساسي يرجع لتجميد المساعدات المالية الضخمة التي وعد بها السودان والتي قدرت بأكثر من 4 مليارات دولار، عمل السودان حثيثا ليظفر بها خلال عامين قبل أن يطيح القائد العام للقوات المسلحة بالحكم الانتقالي في السودان في 25 أكتوبر 2021م.

رأى وزير المالية جبريل ابراهيم، وقتها أن انعدام التمويل الخارجي في الموازنة يمثل تحدياً كبيراً لكنها اعتبرها “موازنة واقعية” مضمونة التنفيذ، على حد قوله.

ومع ذلك، كانت الوزارة تأمل في أن يتم استئناف التعاون الخارجي باعتبار أن المساعدات لم تتوقف نهائيا ولكنها جمدت بسبب الأحداث السياسية وأن “المياه ستعود لمجاريها” عقب التشكيل الوزاري واستئناف نشاط مؤسسات الدولة بحسب الناطق الرسمي باسم وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي، أحمد الشريف.

التضخم

كان خفض التضخم إحدى الأولويات التي تطمح إليها موازنة العام 2022م، وبالفعل، اختتم الجهاز المركزي للإحصاء ذلك العام بنشر التقرير الدوري لحساب معدل التضخم في نوفمبر 2022م، حيث انخفضت نسبة التضخم لتصل إلى 88.83، والذي يعد انخفاضاً كبيراً مقارنة بنسبة التضخم قبل عام في نوفمبر 2021م و التي كانت 339.58.

بالرغم من أن هذه الأرقام (الرسمية) تعتبراً انخفاضاً هائلاً، إلا أن محللين وخبراء اقتصاديين لديهم تقديرات مختلفة حول هذه الأرقام، لأن غلاء الأسعار وضيق المعيشة في السودان يقابل انخفاض التضخم. مشيرين إلى أن الأرقام تشير مباشرة إلى الكساد الاقتصادي وضعف القوة الشرائية ما يعد انخفاضاً سلبياً في التضخم.

بالنسبة لمعدل التضخم المحسوب من قبل الجهاز المركزي للإحصاء، فإنه يعتمد بشكل أساسي على سلة السلع التي تستهلكها الأسر السودانية المتوسطة، وبحسب المدير العام لجهاز الإحصاء المركزي، علي محمد عباس، فإن سلة السلع التي يحسب على أساسها معدل التضخم لم تتغير منذ أكثر من عقد ونصف العقد.

تعتبر هذه المدة طويلة وقد تؤثر بشكل أساسي على مدى صحة حساب متوسط التضخم الذي يجب أن يعبر عن السلع الأساسية ومدى استهلاكها والارتفاع الذي يطرأ عليها ويؤثر على المواطنين مباشرة. وحسب محللين اقتصاديين، فإن انعدام الشفافية حول ماهية السلع المختارة في السلة، يضع الكثير من الاحتمالات حول مصداقية هذه الأرقام، كما يثير الشكوك حول إمكانية تسييس هذه الأرقام لأغراض أو لجهات بعينها.

يرى الخبير الاقتصادي، معتصم أقرع، أن استقلالية الجهاز المركزي للإحصاء ضرورية للحصول على بيانات موثوقة، ويقول:

"يجب تحويل الجهاز المركزي السوداني للإحصاء لهيئة وطنية مستقلة. ويمكن تحقيق ذلك الاستقلال عن طريق سن تشريعات ووضع ترتيبات مؤسسية مستوحاة من تلك المعمول بها لضمان استقلال القضاء واستنادا على الإرث العالمي المتعلق بأفضل الممارسات في مجال الإحصاء والبيانات"

واجهت الموازنة منذ إجازتها انتقادات واسعة وشكوك حول مدى إمكانية تنفيذها، من فئات مجتمعية وقطاعات مختلفة نسبة لاعتمادها الكبير على الجبايات والضرائب التي تثقل كاهل المواطن في الوقت الذي يواجه فيه السودانيون ضائقة اقتصادية طاحنة في ظل العجز المتوقع والمشهد السياسي المتوتر ووسط تدني الأجور في مقابل الارتفاع الهائل للأسعار.

عام جديد

بالرغم من أن موازنة العام 2023م، -لم تجز حتى الآن- إلا أن وزير المالية، قدر المبلغ المرصود للموازنة بـ5 ترليونات جنيه سوداني، كما قدر أن العجز المتوقع في الموازنة بأنه لا يتجاوز 15% مع إمكانية الاستدانة من بنك السودان المركزي. ونسبة لاستمرار تعليق المساعدات الخارجية، فقد أعدت الموازنة للسنة الثانية على التوالي بلا دعم خارجي وباعتماد كلي على الموارد الذاتية.

"موازنة العام الحالي، ستتبع ذات المنهج السابق بالمبالغة في تضخيم الإيرادات و المصروفات، ما يقود للتدهور الاقتصادي الذي تعيشه البلاد حاليا" يقول الخبير الاقتصادي، فتحي هيثم لـ(بيم ريبورتس).

ويدخل السودان العام الجديد في ظل تراجع اقتصادي ملحوظ تقاسيه البلاد، تمثل في كساد عام في الأسواق وضائقة معيشية يكابدها المواطنون في ظل انعدام استقرار سياسي وأمني في أنحاء كثيرة من البلاد بما في ذلك العاصمة الخرطوم. ويشكل الاحتقان السياسي في البلاد تأثيراً مباشراً في الوضع الاقتصادي بالبلاد وفي هذا السياق يواصل هيثم قائلاً: “إن كان للمسألة الاقتصادية أن تحل فلا بد من إصلاح سياسي يفك القيود، ويفسح المجال للعمل الجماعي والفردي”، مؤكداً أن الضائقة الاقتصادية في السودان بالرغم من طول فترتها إلا أنها” قابلة للحل.

في ظل بقاء الوضع على ما هو عليه إلى حد كبير في الصعد كافة حتى الآن، وخاصة الاقتصاد، تشير المؤشرات الأولية وتوقعات الخبراء، أن الموازنة الجديدة للعام 2023م، سوف تنتهج نفس السياسات السابقة القائمة على تمويل أنشطة الحكومة ومسؤوليها من جيوب المواطنين، وذلك من خلال الجبايات والضرائب المتزايدة يوماً بعد يوم، وهو الأمر الذي لن يسحق مدخرات المواطنين وحسب، وإنما يضعهم في مواجهة محتومة مع الفقر.  

استطلاعات لأعضاء (المقاومة) تكشف عن تحدياتهم ومواقفهم من الأحزاب السياسية

أجرى قسم (سوداليتيكا) في (بيم ريبورتس) استطلاعين للرأي استهدفا لجان المقاومة في جميع محليات ولاية الخرطوم، بشأن طبيعة دورها، والتحديات التي تواجهها في بناء منظومتها الأفقية، التي ظلت تشارك بصفة رئيسة في تشكيل المشهد السياسي والاجتماعي في البلاد، منذ اندلاع الثورة في عام 2018م. كما وقفا على آراء أعضاء اللجان الخاصة بقضايا الحكم والتحول الديمقراطي، وتصورهم لدور الفاعلين السياسيين في الفترة الانتقالية.

واستهدف الاستطلاع الأول فهم طبيعة تكوين اللجان من فئات عمرية، وتوزيع النوع الاجتماعي والمهن داخلها، ومدى فاعلية الأعضاء في المناطق المختلفة، كما تضمن جزئية لقياس آرائهم حيال الأساليب المتبعة للتنظيم الداخلي، مثل الهيكلة، وطرق اختيار وتصعيد القيادات، وطرق صناعة المواثيق، بالإضافة إلى فهم أراء أعضاء اللجان، بخصوص الدور الذي يجب أن تلعبه اللجان في مناطقها، إن كان دوراً سياسياً أم اجتماعياً أم ثقافياً أم خدمياً.

بينما استهدف الاستطلاع الثاني معرفة تصور أعضاء لجان المقاومة بولاية الخرطوم عن دور اللجان والفاعلين السياسيين في عملية التحول الديمقراطي، وقضايا الانتقال الأكثر أهمية من وجهة نظرهم، كما استهدف الاستطلاع الثاني قياس اتجاهات الرأي العام بخصوص تكوين هياكل الحكم خلال الفترة الانتقالية، على المستوى السيادي والمستوى التنفيذي والمستوى التشريعي، وآراءهم بخصوص المجالس المحلية ودور اللجان في تشكيلها، وتصور الأعضاء لمستقبل اللجان فيما بعد الفترة الانتقالية، والدور الذي يمكن أن تلعبه اللجان في ظل حكومة منتخبة. 

وجمع الاستطلاع الأول 300 عينة، منها 66 عينة من محلية الخرطوم تمثل (22 %) من مجموع العينات، و 63 عينة من محلية جبل أولياء تمثل (21 %) من مجموع العينات، و56 عينة من محلية أمبدة تمثل (18.67 %) من مجموع العينات، و45 عينة من محلية بحري تمثل (15 %) من مجموع العينات، و 45 عينة من محلية شرق النيل تمثل (15 %) من مجموع العينات، و 15 عينة من محلية أمدرمان تمثل (5 %) من مجموع العينات، و 10 عينات من محلية كرري تمثل (3 %) من مجموع العينات.

وتضمن الاستطلاع الثاني آراء 320 عينة، 80 عينة منها جُمعت من محلية الخرطوم تمثل (25 %) من مجموع العينات، و80 عينة من محلية جبل أولياء تمثل (25 %) من من مجموع العينات، و40 عينة من محلية أمدرمان تمثل (12.5 %) من مجموع العينات، و40 عينة من محلية بحري تمثل (12.5 %) من مجموع العينات، و40 عينة من محلية أمبدة تمثل (12.2 %) من مجموع العينات، و21 عينة من محلية شرق النيل تمثل (6.5 %) من مجموع العينات، و20 عينة من محلية كرري تمثل (6.2 %) من مجموع العينات.

وبيّن تحليل النوع الاجتماعي للاستطلاع الأول أن أغلبية المستجيبين للاستطلاع هم من الذكور بنسبة (69 %)، بينما مثلت نسبة المستجيبات الإناث (31 %). إضافة إلى أن أغلبية المشاركين في الاستطلاع تراوحت أعمارهم بين 20 إلى 35 عاماً، ويمثلون نسبة (81.88 %).

وفيما يخص المهن، أوضحت نتائج الاستطلاع الأول أن (37.25 %) من المستجيبين هم من الطلبة، ما يجعلهم يمثلون الفئة الأعلى وسط المشاركين بالاستطلاع، يليهم الموظفون بنسبة (18.79 %)، وأصحاب الأعمال الحرة بنسبة (15.77 %) على التوالي.

وجاء تحليل النوع الاجتماعي للاستطلاع الثاني ليؤكد أيضاً أن أغلبية المستجيبين للاستطلاع هم من الذكور باختلاف بسيط في النسب مع الاستطلاع الأول، حيث مثلت نسبة الذكور (64 %)، ومثلت نسبة الإناث المشاركات في الاستطلاع (36 %)، إضافة إلى أن أغلبية المشاركين في الاستطلاع الثاني تراوحت أعمارهم بين 20 إلى 35 عاماً، بنسبة بلغت (82.2 %).

أما بالنسبة للمهن، فبيّنت نتائج الاستطلاع الثاني، أن (42.2 %) من المستجيبين طلبة، يليهم الموظفون بنسبة (13.4 %)، وأصحاب الأعمال الحرة بالنسبة نفسها.

وخلُصت نتائج الاستطلاعين إلى أن المستجيبين يمثلون جزءًا من العضوية الفاعلة داخل اللجان، مِن ثَمَّ فإن تحليل مهن المستجيبين يمكن أن يكون مؤشراً إلى أن الطلاب والخريجين الجدد لديهم إمكانية أكبر للتفرغ لعمل اللجان أكثر من بقية أصحاب المهن الأخرى.

وكشف الاستطلاع الأول عن أن تمثيل النساء والفئات ذات الدخل المنخفض ضعيف داخل لجان المقاومة، غير أن حضور هاتين الفئتين يختلف من منطقة لأخرى، فمحليات الخرطوم وجبل أولياء هي الأوفر حظًا في عدد النساء المشاركات في عمل لجان المقاومة، بناء على رأي المستجيبين، بينما يزيد تمثيل الفئات ذات الدخل المنخفض في محليتي شرق النيل وجبل أولياء. 

واتفق غالبية أعضاء لجان المقاومة في معظم المحليات على أن الدور الأهم للجان هو الدور السياسي، ثم الاجتماعي، ويليهما الدور الخدمي، باستثناء محلية بحري، التي رأى أعضاء لجانها أن الدور الاجتماعي أو الثقافي هو الأهم، ومحلية شرق النيل التي يوجد بها تقارب كبير بين عدد الذين أجابوا بالدور السياسي والاجتماعي.

وفيما يخص دور الفاعلين السياسيين في عملية التحول الديمقراطي، رأت أغلبية المستجيبين من أعضاء لجان المقاومة، وفقاً للاستطلاع الثاني، أن اللجان يجب أن تتجه إلى البناء القاعدي، وذلك بنسبة (70.6 %)، إلى جانب الضغط على السلطة لتحقيق الأهداف المعلنة بنسبة (68.1 %)، أما نسبة المشاركين في الاستطلاع الذين أجابوا بالأدوار المتعلقة بالمشاركة في هياكل الدولة كانت (42.8 %)، وتليها المشاركة في تنفيذ خطط الحكومة الانتقالية المعلنة بنسبة (38.1 %).

وأشار فريق البحث الخاص بقسم (سوداليتيكا) إلى أن النسب الخاصة بدور لجان المقاومة في عملية التحول الديمقراطي، تتوافق مع نتائج الاستطلاع الأول المتعلقة بدور اللجان في الأحياء (دور سياسي، اجتماعي، أم خدمي)، فالنتائج كانت تصب في اتجاه دور اللجان في التوعية السياسية لسكان المناطق، وأن ثمة حاجة للتنظيم والتنسيق، بالإضافة إلى أن لجان المقاومة تختلف عن اللجان التي عُرفت بـ “لجان التغيير والخدمات”، التي كانت تختص بالدور الخدمي في الأحياء، وتعمل وفقاً لموجهات وخطط الحكومة الانتقالية التي سبقت انقلاب 25 أكتوبر.  

وأكدت نتائج الاستطلاعين أن عدداً كبيراً من أعضاء لجان المقاومة قد فقد الثقة في الأحزاب السياسية، وتحديداً فيما يتعلق بإدارة الدولة خلال الفترة الانتقالية، بيد أن الاستطلاع الثاني نوه إلى الاتجاهات الخاصة بأعضاء لجان المقاومة حيال دور الأحزاب في الفترة الانتقالية، لافتاً إلى أن (91.6 %) من نسبة المستجيبين أجابت بأن دور الأحزاب السياسية يجب أن يحصر في التجهيز للانتخابات كأولوية، ما يتضمن تركيزها على البناء التنظيمي، كما رأى (32.5 %) من المستجيبين أن الأحزاب لديها دور رقابي يتمثل في مراقبة أداء الحكومة الانتقالية، بينما رأى (21.6 %) أن الأحزاب يجب أن تشارك في هياكل الدولة في ظل الفترة الانتقالية.

واتفقت أغلبية المستجيبين للاستطلاع الثاني بنسبة (71.6 %)، أن الدور الأساس للنقابات المهنية هو التركيز على القضايا الفئوية المتعلقة بالقواعد التي يمثلها الجسم المهني، وأجاب (52.2 %) بأن النقابات ينبغي أن يكون لديها دور في مراقبة أداء الحكومة الانتقالية، بينما رأى (30.9 %) من المستجيبين أن النقابات المهنية يجب أن تشارك في هياكل الدولة، وفي الحوار السياسي.

ورأت أغلبية المستجيبين الذين يشكلون نسبة (72.5 %) أن المشاركة في تنفيذ خطط الحكومة الانتقالية تمثل الدور الأهم للمجتمع المدني، يأتي بعد ذلك الدور المتعلق بمراقبة سير الحكومة الانتقالية والذي حاز نسبة (53.4 %) من المستجيبين، وهو الدور المشترك بين جميع عناصر التحول الديمقراطي، ثم تأتي المشاركة في هياكل الدولة أو الحوار السياسي بنسبة (16.9 %) وتمثل نسبة الاستجابات الأقل فيما يخص دور منظمات المجتمع المدني، وتضمنت أغلبية الإجابات التي صٌنفت كأخرى بنسبة (7.5 %) إشارات إلى أدوار تتعلق بتعزيز الحوار المجتمعي عبر الأنشطة الثقافية والتوعوية.

وبالنسبة لقضايا الانتقال ذات الأولوية القصوى، كشف الاستطلاع الثاني عن أن الاتجاه العام وسط أعضاء لجان المقاومة يرى أن تلك القضايا على التوالي تتمثل في إصلاح المنظومة الأمنية والعسكرية، وإصلاح المنظومة الحقوقية والعدلية، والقصاص والعدالة الانتقالية.

وشددت الغالبية العظمى من المستجيبين بنسبة (93.1 %) على أن نموذج الشراكة بين العسكر والمدنيين على مستوى المجلس السيادي لا يجب أن يستمر. وأوضح عدد كبير من الرافضين للشراكة يمثلون نسبة (46.3 %) أن المؤسسة العسكرية لا يمكن الوثوق بها، وأن التجارب عبر تاريخ السودان أثبتت أن الجيش يعتبر مهدداً حقيقياً لعملية التحول الديمقراطي. ويعتقد بعض المستجيبين بنسبة (37.9 %) أن السبب وراء رفضهم للشراكة يعود إلى أن المؤسسة العسكرية ليس من صلاحياتها المشاركة في هياكل السلطة، وأنها لا يجب أن تتدخل في السياسة بصورة عامة.

بينما أشار الذين يعتقدون بإمكانية استمرار الشراكة ونسبتهم (6.9 %) إلى ضرورة إيجاد شروط لاستمرارها، من بينها القصاص للشهداء، وتحقيق العدالة الانتقالية، وعدم التدخل في مهام الحكومة التنفيذية، وأن تنحصر مهامهم في حفظ الأمن والسلام، وإصلاح المؤسسة العسكرية.

وبالعودة إلى الاستطلاع الأول، أوضح عدد كبير يُمثل نسبة (63.1 %) من المستجيبين أن التحدي الأكبر الذي يواجه بعض لجان المقاومة هو الاختراقات الأمنية، وأضافوا أن بعض اللجان تواجه إشكالية فقد الأعضاء الثقة في بعضهم بعضاً، وثمة شبه اتفاق على أن هذه الإشكالات قد تولد انقسامات داخلية، مما يعطل فاعلية اللجان وتوافقها على رؤية موحدة.

وذكر (43.96 %) من المستجيبين أن التحدي الثاني الذي يواجه اللجان يتمثل في ضعف الخبرة في العمل السياسي والتنظيمي، ثم تأتي مسألة تأخير صياغة رؤية سياسية موحدة، كإحدى العوامل التي تعيق التوافق بين عضوية اللجان بنسبة (22.48 %)، أما بقية الردود الخاصة بتشخيص التحديات التي تواجه اللجان، فأشارت إلى تدهور الوضع الاقتصادي كعامل يعيق عمل اللجان بنسبة (13.4 %)، بالإضافة إلى القبضة الأمنية، واستهداف الأعضاء من قبل السلطات بنسبة (13.4 %)، والبعد عن المجتمع والقواعد بنسبة (13.4 %).

ولفت (74 %) من المستجيبين إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي تعتبر الوسيلة الأفضل للتواصل مع المواطنين أو سكان الأحياء، بينما نوه (71 %) إلى أن المخاطبات المباشرة تعتبر الوسيلة الأكثر فاعلية وتأثيرًا في عملية التواصل مع القواعد.

وأجابت الأغلبية بنسبة (53.9 %) بأن التنسيقيات الولائية تعتبر المستوى المطلوب للتنسيق بين اللجان، تليها التنسيقيات المحلية بنسبة ( 34.3 %) ثم الأحياء بنسبة (11.8 %). 

وأوضح الذين أجابوا بالتنسيقيات الولائية أو المحلية، أن القضايا التي تستوجب هذا المستوى من التنسيق هي على الأغلب تلك التي تم وصفها بـ “القضايا القومية”، مثل توحيد المواثيق السياسية بين اللجان، وقضايا الحكم وهياكل الدولة (المجلس السيادي والتشريعي والتنفيذي). أما القضايا التي تستوجب التنسيق على المستوى المحلي، فهي الجوانب الخدمية، مثل الصحة والتعليم، وتوفير مستلزمات العيش للمواطنين، ثم تأتي بعد ذلك قضايا تكوين هياكل الحكم المحلي.

ورأى الذين أجابوا بـ “أحياء فقط”، وهو عدد بسيط نسبياً (يٌمثل 11.8% من العينات ككل)، أن هناك قضايا تحتاج إلى التنسيق بين اللجان، ولكن يمكن أن يتم ذلك عبر المكاتب المختصة بذلك مباشرة.

مرور 18 عاماً على توقيعه.. كيف غير اتفاق السلام الشامل مسار التاريخ في السودان؟

مرّت أمس الاثنين 9 يناير الذكرى الـ18 لتوقيع اتفاق السلام الشامل بين نظام الرئيس المخلوع، عمر البشير والحركة الشعبية لتحرير السودان، وهو الاتفاق الذي غير مسار التاريخ في السودان، وأدى في نهاية المطاف لانقسامه إلى دولتين، لكنه في الوقت نفسه أنهى أطول حرب أهلية في القارة الأفريقية.

ونص اتفاق السلام الشامل، الذي جرى توقيعه في مدينة نيفاشا الكينية، على حق تقرير المصير، حيث صوت الجنوبيون بأغلبية ساحقة على استفتاء جرى بين 9-15 يناير 2011م، حول ما إذا كانوا يرغبون بالبقاء بدولة واحدة مع السودان، أو الانفصال بدولة مستقلة، وهو الأمر الذي تحقق بعد حوالي 6 أشهر فقط من إجراء الاستفتاء.

ففي 9 يوليو 2011م، وسط أهازيج عشرات آلاف الجنوبيين، وهم يلوحون بأعلام بلادهم، في إحدى ساحات العاصمة جوبا، طُوي علم السوداني. قبل أن يتم رفع علم جمهورية جنوب السودان الوليدة على السارية إيذاناً باستقلال بلادهم عن السودان الأم.

احتفال جنوب السودان، باستقلاله عن السودان، تم بحضور الرئيس السوداني المخلوع، عمر البشير، وعدد من الرؤساء الأفارقة والأمين العام للأمم المتحدة السابق، بان كي مون، ومسؤولين دوليين وأمميين رفيعي المستوى.

ومع ذلك، يُعتقد أن ما قاد إلى انفصال جنوب السودان، هو عرقلة حزب المؤتمر الوطني المحلول، تنفيذ بنود اتفاق السلام الشامل، كما شكّل مصرع زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان جون قرنق، في حادثة تحطم طائرة في 30 يوليو 2005، عاملاً جوهرياً في تعزيز التوجه الانفصالي لدى قادة الحركة الشعبية.

ولم يمر سوى عام واحد فقط على توقيع الاتفاق، حتى أصبح واضحاً، أنه لا يمضي قدماً. وظلت المعادلة بين الشريكين (الحركة الشعبية ـ وحزب المؤتمر الوطني المحلول) طيلة الفترة الانتقالية، تبعث على القلق حتى انقسام البلاد. فبينما كان حزب المؤتمر الوطني المحلول يمتلك القدرة على تنفيذ الاتفاق، إلا أنه كان يفتقر إلى الإرادة السياسية، في المقابل كانت الحركة الشعبية ضعيفة وغير منظمة، بالإضافة إلى تخلي المجتمع الدولي إلى حد كبير عن العمل والالتزام السياسي الذي كان بالغ الأهمية في التوصل إلى اتفاق السلام في المقام الأول.

كما تسببت وفاة زعيم الحركة الشعبية جون قرنق، في مفاقمة الوضع حيث أصبحت رؤيتها عشوائية، مقابل تخلى حزب المؤتمر الوطني المحلول عن التزاماته تجاه الشراكة، بمثل ما كان يفعل في حياة زعيمها.

PETER BUSOMOKE/AFP via Getty Images

فصول اتفاق السلام

قام اتفاق السلام الشامل على 6 فصول رئيسية و5 ملاحق، وتمثلت الفصول الستة في: اتفاق مشاكوس، اتفاق تقاسم السلطة، اتفاق تقاسم الثروة، اتفاق حسم النزاع في أبيي، اتفاق حسم النزاع في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، اتفاق الترتيبات الأمنية.

وتمثلت ملاحق الاتفاق في؛ نص اتفاق آلية وقف إطلاق النار والترتيبات الأمنية وآليات التطبيق، نص اتفاق تنفيذ بروتوكول مشاكوس واقتسام السلطة، نص اتفاق وسائل الاتفاق الإطاري لاقتسام الثروة، وسائل تنفيذ بروتوكول حل نزاع أبيي، وسائل تنفيذ بروتوكول حل النزاع في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق.

وضمن تفاصيل أبواب الاتفاق الستة والملاحق، تم منح سكان جنوب السودان حق التصويت على الانفصال في نهاية فترة انتقالية مدتها ست سنوات تطبق خلالها الشريعة الإسلامية في شمال السودان ولا تطبق في جنوبه.

فيما نصت الترتيبات الأمنية التي وقعت في 25 سبتمبر 2003م، على أن يكون هنالك جيشان خلال الفترة الانتقالية، القوات المسلحة السودانية والجيش الشعبي لتحرير السودان. أيضاً اتفق الطرفان على وقف إطلاق النار بمراقبة دولية ويسري من تاريخ توقيع اتفاق السلام الشامل. بجانب نشر قوات مشتركة في جنوب السودان وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق والخرطوم، بالإضافة إلى اتفاق اقتسام الثروة الذي وقع في السابع من يناير 2004م.

كذلك تم تخصيص نسبة 50 في المئة من صافي عائدات النفط الذي تنتجه آبار النفط بجنوب السودان لحكومة جنوب السودان في بداية الفترة قبل الانتقالية، وتحصل الحكومة المركزية وولايات شمال السودان على الخمسين في المئة المتبقية. بجانب العمل بنظام مصرفي مزدوج إسلامي في شمال السودان فيما يطبق نظام مصرفي تقليدي في جنوب السودان.

في 26 مايو 2004م، تم توقيع اتفاق اقتسام السلطة، حيث حصل حزب المؤتمر الوطني المحلول على 52 في المئة من المقاعد والحركة الشعبية لتحرير السودان على 28 في المئة، فيما حصلت أحزاب شمال السودان الأخرى على 14 في المئة وبقية أحزاب الجنوب على ستة في المئة، بجانب تولي رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان منصب النائب الأول لرئيس الدولة.

SIMON MAINA/AFP via Getty Images

كما نص البروتوكول على إنشاء المفوضية الوطنية لمراجعة الدستور والتي تألفت من ممثلين عن حزب المؤتمر الوطني المحلول والحركة الشعبية لتحرير السودان وقوى سياسية أخرى والمجتمع المدني، حيث عملوا على إعداد إطار قانوني ودستوري على أساس اتفاق السلام ودستور 1998م وهو الأمر الذي أسفر عن إجازة دستور جمهورية السودان الانتقالي في 6 يوليو 2005م.

فيما يخص الإدارة الإقليمية لشمال السودان، حصل حزب المؤتمر الوطني المحلول على 70 في المئة من المقاعد التنفيذية والتشريعية وتحصلت الحركة الشعبية لتحرير السودان على عشرة في المئة، بينما تحصلت الأحزاب السياسية في الجنوب على 20 في المئة.

بالنسبة لحكومة الجنوب، حصلت الحركة الشعبية لتحرير السودان على 70 في المئة من المقاعد الحكومية والتشريعية، فيما حصلت القوى الجنوبية الأخرى وحزب المؤتمر الوطني  المحلول على 15 في المئة لكل منهما.

فيما نص بروتوكول حل النزاع في جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق الذي وقع في 26 مايو 2004م، على اقتسام السلطة التنفيذية والتشريعية في الولايتين، حيث حصل حزب المؤتمر الوطني المحلول على 55 في المئة والحركة الشعبية لتحرير السودان على 45 في المئة، على أن يكون الحكم في الولايتين دورياً حيث يتولى كل جانب منصب المحافظ لنصف الفترة السابقة على إجراء الانتخابات.

أيضاَ تم توقيع بروتوكول فض النزاع في أبيي الذي وقع في 26 مارس 2004م، بحيث يكون السكان مواطنين لكل من شمال السودان وجنوبه، بجانب تقسيم صافي عائدات النفط خلال الفترة الانتقالية إلى ستة أجزاء؛ حيث تحصل الحكومة الوطنية على 50 في المئة وحكومة جنوب السودان على 42 في المئة، بينما تحصل كل من منطقة بحر الغزال (جنوب السودان) وغرب كردفان وسكان نجوك دينكا وسكان المسيرية على اثنين في المئة.

على أن يصوت سكان أبيي بعد نهاية الفترة الانتقالية، على الاختيار بين الاحتفاظ بالوضع الإداري الخاص في الشمال، أو الانضمام لولاية بحر الغزال وهي جزء من جنوب السودان، لكن حتى بعد مرور أكثر من 11 سنة على انقسام جنوب السودان، إلا أن أبيي ما تزال تحتفظ بوضعية خاصة.

 

في 31 كانون ديسمبر 2004م تم توقيع اتفاق وقف إطلاق النار الدائم والترتيبات الأمنية وتنفيذها، حيث تنشأ وحدات مسلحة مشتركة قوامها نحو أربعة آلاف جندي وتنشر في أنحاء الجنوب والمناطق الثلاث التي كانت متنازعا عليها فيما سبق؛ وهي أبيي وجنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان، فضلاً عن وحدة واحدة في العاصمة.

فيما يخص التمويل، تقدم الإدارة في جنوب السودان التمويل الرئيسي لوحدات الحركة الشعبية لتحرير السودان، بينما تمول الحكومة في الخرطوم الجيش الشمالي والوحدات المشتركة، خلال فترة انتقالية مدتها ستة أشهر، فيما تم ترك تمويل القوات الجنوبية في المدى الطويل ليقرره المجلس الوطني خلال الفترة الانتقالية.

أيضاً تم الاتفاق على إلغاء حالة الطوارئ المفروضة في السودان منذ عام 1999م في جميع المناطق الخاضعة لاتفاق وقف إطلاق النار الموقع بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان، أيضاً إلغاء حالة الطوارئ في المناطق الأخرى “باستثناء المناطق التي لا تسمح فيها الاوضاع بذلك”، إطلاق سراح أسرى الحرب في غضون 30 يوماً من توقيع اتفاق السلام.

في 31 يسمبر 2004م، تم توقيع اتفاق تنفيذ البروتوكولات والاتفاقيات، حيث يضع الاتفاق الجداول الزمنية ويحدد الأدوار والمسؤوليات في تنفيذ البروتوكولات.

الحروب الأهلية واتفاقيات السلام في السودان.. ماذا تعرف عنها؟

شرارة الحرب ونهايتها

اندلعت شرارة الحرب الأهلية في البلاد، في صبيحة الثامن عشر من أغسطس 1955م، إثر تمرد قادته الفرقة الجنوبية بمنطقة توريت شرقي الاستوائية بجنوب السودان، حيث خلّف مئات القتلى من الشماليين بينهم موظفون وضباط وأطفال ونساء، في المقابل قتل عشرات الجنوبيين. 

وتفجرت الحرب، نسبة للتاريخ الطويل من المرارات وعدم الثقة بين الشماليين والجنوبيين، والتي مثلت أبرز الدوافع التي دفعت الفرقة الجنوبية للتمرد، كما أنه مثل خاتمة متوقعة لسياسات الاستعمار البريطاني، تجاه وضع جنوب السودان. 

وطريق انقسام السودان إلى دولتين، كرّسته حرب أهلية دموية قتل فيها حوالي مليوني شخص، على مدى خمسين عاماً، وسياسات وطنية واستعمارية، ومواثيق مختلفة للأطراف السودانية، بينها مقررات مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية، واتفاق السلام الشامل الذي جاء تتوجياً لبروتوكول مشاكوس 2002م بكينيا، واللذين أقرا حق تقرير المصير لجنوب السودان.

مع ذلك، ورغم نجاح اتفاق السلام الشامل، والذي أتم 18 عاماً منذ توقيعه في 5 يناير 2005م، في إيقاف الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، إلا أن السودْانين ما يزالان يعيشان تحت وطأة النزاعات المسلحة وعدم الاستقرار السياسي. 

ففي الحروب التي أعقبت استقلاله، انزلق جنوب السودان في أتون حروب أهلية طاحنة أودت بحياة مئات الآلاف وشردت مثلهم. في المقابل، عاش السودان في دورة من الحروب الأهلية، ما قبل وبعد، ذهاب الجنوب، أودت بحياة مئات الآلاف وشردت الملايين.

سنوات من الانتظار.. جعلت تحقيق العدالة لشهداء الثورة أكثر ضبابية

حتى بعد مرور 4 سنوات على مقتل ابنها الطبيب، بابكر عبد الحميد، الذي اقتنصه رصاص قوات الأمن في يناير 2019م بمنطقة بري شرق العاصمة السودانية الخرطوم، ما تزال شريفة عوض تبحث عن العدالة، حيث شاركت في وقفة احتجاجية أمام مقر السلطة القضائية، بوسط الخرطوم، رفضاً لقرار إلغاء محكمة الشهداء في 15 من شهر ديسمبر الماضي. بعدما كان يحدوها الأمل بإدخال ملفه إلى محكمة خاصة بالشهداء.

جاءت وقفة ذوي الشهداء أمام مقر السلطة القضائية بالخرطوم، احتجاجاً على إصدار رئيس القضاء في حكومة الأمر الواقع، عبد العزيز فتح الرحمن عابدين، قراراً بإلغاء المحاكم الخاصة بالشهداء، بعدما كانت نيابة الشهداء قد تقدمت بدعاوى البلاغات إلى المحكمة.

وتمت الوقفة بعد دعوة من أسرة الشهيد الفاتح النمير التي تقاسم أسرة شريفة عوض وجع اغتيال فلذة أكبادهم في موكب 9 يناير ببري على يد نفس المتهمين في نفس اليوم، وتأخر المحكمة الخاصة بالشهداء في إدخال الملفين للمحكمة.

ومع ذلك، ليست أسر الشهداء وحدها من رفضت قرار رئيس القضاء الذي وجد اعتراضات عديدة، حيث حذرت لجنة أطباء السودان المركزية من التعامل مع قضايا الشهداء بهذا الاستسهال، مؤكدة أنها ستقف مع قوى الثورة للتصدي لهذا الانحراف، عبر التصعيد الإعلامي والوقفات الاحتجاجية ووسائل الضغط الأخرى المجربة. كما طالبت السلطات المختصة بتكملة إجراءات تسليم المتهمين واستجواب الشهود في قضايا وملفات دعاوي الشهداء والانتهاكات ما بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021م.

كذلك تفاعلت مع الدعوة منظمة أسر شهداء ديسمبر التي نشرت بيان مناشدة للمشاركة في الوقفة، وبالإضافة إلى لجان مقاومة وكيانات نقابية وحقوقية عبرت عن غضبها من القرار، فيما استنكرت لجنة أطباء السودان المركزية القرار قائلة إنه “أمر خطير يكرس لحالة الإفلات من العقاب ويهدد العدالة”.

في السياق نفسه مضت مجموعة محامو الطوارئ التي تنشط في رصد الانتهاكات، والتي اعتبرت تبرئة المتهمين بقتل الشهداء مخططا متكاملاً للإفلات من العقاب وضوءاً أخضر للأجهزة الأمنية بالمزيد من التنكيل فی حق الثوار.

وأشار محامو الطوارئ في تصريح صحفي، إلى عدم إلغاء المنشور 3/2021 الذي منح الحصانة لأفراد الأجهزة الأمنية، فيما استنكرت تحول النيابة العامة إلى أداة في يد السلطة وأجهزتها الأمنية.

وتأسست محكمة الشهداء، بقرار من رئيسة القضاء السابقة، نعمات عبد الله، التي تم اعفاؤها بتاريخ 18 مايو 2021م بعد سبعة أشهر من تعيينها بالتزامن مع استقالة النائب العام تاج السر الحبر ليصبح بعدها منصب رئيس القضاء فارغاً حتى تاريخ انقلاب 25 من أكتوبر، بالإضافة إلى استمرار غياب تشكيل المجلس الأعلى للقضاء في السودان.

ودخلت على إثر القرار قضايا الشهداء: “حنفي عبد الشكور، ومحجوب التاج ، والأستاذ أحمد الخير، بينما رفضت نيابة الشهداء استلام قضيتي الشهيدين  بابكر والفاتح النمير.

وبعد تنفيذ الوقفة الاحتجاجية، ردت السلطة القضائية بتأكيد عدم صدور قرار بإلغاء المحاكمات الخاصة، فيما أوضحت منظمة أسر الشهداء لاحقاً صدور قرار بتاريخ 16 /12/ 2022 بتوقيف قرار الإلغاء.

“الدستور والإتفاق الذي يتبنى قتلة الشهداء ويستند على وضعنا أيدينا في أيدي قتلة أبناءنا، مرفوض لدينا تماماً تقول شريفة لـ( بيم ريبورتس) تأكيداً على عدم قبولها وغالبية أسر شهداء ديسمبر بالمستجدات السياسية في البلاد وآخرها توقيع العسكر والمدنيين على الاتفاق الإطاري الأخير.

وكانت منظمة أسر الشهداء تمسكت في بيان لها في نوفمبر الماضي بموقفها الرافض لأي تفاوض بالنيابة عنها، مشددة على أن أسر الشهداء هم أصحاب المصلحة، كما أكدت على تمسكها بالعدالة ومحاسبة مرتكبي الجرائم.

شهداء ما قبل السقوط

وطريق الإطاحة بالرئيس المخلوع، عمر البشير، منذ ديسمبر 2018م، وحتى تاريخ سقوطه في أبريل 2019م، روته دماء مئات الضحايا الذين سقطوا أثناء مواجهات مع الأجهزة الشرطية والأمنية وكتائب ظل النظام السابق، حتى أن يوم عزل البشير من السلطة وحده شهد سقوط 19 شهيداً بالقيادة العامة بالخرطوم وخارجها في مدينتي زالنجي وعطبرة.

وأحصت لجنة أطباء السودان المركزية حتى تاريخ سقوط البشير أكثر من 80 قتيلاً بينهم 51 بالخرطوم و9 في احتجاجات القضارف و8 في مدينة زالنجي بولاية وسط دارفور، بينهم 4 نساء و12 طفلاً.

وبلغ عدد القتلى منذ اعتصام القيادة العامة وحتى 19 ديسمبر 2019م، ما يزيد عن 150 قتيلاً.

شهداء فض اعتصام القيادة العامة

نشرت منظمة أسر شهداء ديسمبر إحصائية لعدد 180 شخصاً تم قتلهم أثناء فض قوات المجلس العسكري لاعتصام القيادة العامة، بينما قالت وزارة الصحة إن العدد 64 وهو الأمر الذي دحضته تقارير لمنظمات حقوقية وشهود عيان.

لجنة تحقيق ولكن

بعد وصول المكون المدني والعسكري لاتفاق ثنائي والتوقيع على وثيقة دستورية لحكم المرحلة الانتقالية في 17 أغسطس 2019م ، تم الإعلان عن إنشاء لجنة تحقيق وطنية في 21 سبتمبر للتحقيق في أحداث فض الاعتصام من سبعة أعضاء أبرزهم قاضي المحكمة العليا وممثل من وزارات الدفاع والعدل والداخلية ومحامون مستقلون، وتمت تسمية المحامي نبيل أديب رئيساً للجنة في 20 أكتوبر 2019م بتعيين رسمي من مجلس الوزراء.

ولكن اللجنة التي منحت صلاحيات واسعة في التحقيق واستدعاء المسؤولين والأفراد، رغم استجوابها لما يزيد عن 3000 شاهد، إلا أنها لم تعلن عن أي نتائج للتحقيق الذي يفترض أن تكون مدته 3 أشهر فقط، وظل رئيس اللجنة يعزو تأخر النتائج إلى عدم قدرة الأدلة الجنائية السودانية على التعامل مع الأدلة المادية، إضافة إلى بعض الصعوبات المتعلقة بالدعم اللوجستي.

تعليق عمل اللجنة

ظلت اللجنة تباشر أعمالها حتى بعد انقلاب 25 أكتوبر واستقالة رئيس الوزراء، عبدالله حمدوك، لكنها أعلنت بشكل مفاجئ تعليق عملها بعد 5 أشهر من الانقلاب لجهة استيلاء قوة أمنية عسكرية على مقرها بالخرطوم وحذرت من احتمال إدخال معدات وأدوات يمكن استخدامها في كشف أسرار التحقيق المستمر منذ نحو 3 أعوام، ولم تزاول اللجنة أعمالها من وقتها وحتى اليوم. 

شهداء انقلاب 25 أكتوبر

منذ تنفيذ القائد العام للجيش، عبد الفتاح البرهان، انقلابه العسكري ضد الحكومة الانتقالية بلغت حصيلة إصاباته حتى ديسمبر 2022م حوالي 3200 مصاب بينها 34 حالة إصابة بالشلل الكامل و8 في حالة غيبوبة، بينما خلف الانقلاب ما يزيد عن 130 شهيداً وهو عدد سيصعب التحقيق حول تفاصيل مقتلهم، بالإضافة إلى عدم استقرار البلاد سياسياً ورفض مكونات كثيرة للاتفاق الجديد، بما في ذلك  أسر شهداء ديسمبر، بعد تأجيل ملف العدالة في الاتفاق حتى موعد الاتفاق النهائي.

لجنة تحقيق الانقلاب

بعد شهرين من الانقلاب، أصدر النائب العام بالإنابة خليفة أحمد خليفة في 13/12/2021 قرار رقم 69 قضى بتشكيل لجنة برئاسة وكيل أعلى نيابة الطاهر عبد الرحمن و8 أعضاء نيابة آخرون، للتحري والتحقيق حول وقائع ما أسماه ملابسات الأحداث والانتهاكات التي حدثت بعد 25 أكتوبر، وقتها بلغت أعداد قتلى ما بعد الإنقلاب 43 شخصاً قتلوا خلال المواكب الاحتجاجية، لكن اللجنة لم تجد قبولا من الشارع بسبب تكوينها بتوجيه من قائد الانقلاب المتهم في نفس القضية.

رؤية أسر الشهداء للعدالة

تقول مديرة الإدارة القانونية بمنظمة أسر شهداء ثورة ديسمبر، سعدية سيف لـ(بيم ريبورتس)، إن المنظمة أعدت رؤية قانونية فيما يخص ملف العدالة تشمل شروطها للموافقة على منظور العدالة في الاتفاق الإطاري، وكشفت عن عرض الرؤية في مؤتمر صحفي يوم الاثنين المقبل وتسليم نسخة منها للآلية الثلاثية ومسؤولي التفاوض الحالي ومنظمات المجتمع المدني.

وحسب مديرة الإدارة القانونية بالمنظمة، فإن الرؤية تتمسك بعدم إفلات المتهمين من العقاب، ورفع الحصانات وتنفيذ الأحكام وإصلاح القوانين، مشيرة إلى أنها تستند في ذلك على تجارب دول تعاملت مع قضية العدالة. ووصفت القضية بالمتمرحلة خاصة وأن وضع شهداء ما قبل الاعتصام يختلف عن ما بعده وعن وضع شهداء ما بعد انقلاب 25 أكتوبر بحسب المحامية.

عدد من المتهمين في القضايا أعضاء بمجلس السيادة

وترى سعدية، أن أي رؤية لملف العدالة لن تنجح مع وجود العسكر في السلطة، خاصة وأن عدداً من المتهمين في القضية أعضاء بمجلس السيادة.

وتؤكد أن موافقتهم على الاتفاق الإطاري مبنية على قبول الأطراف الموقعة والشارع السوداني على رؤية المنظمة تجاه قضية العدالة والتي ترتكز بشكل أساسي على إلغاء الحصانة.

وكشفت عن تصور ستقدمه المنظمة يطالب تكوين لجنة مستقلة مختلطة تتكون من عضوية محامين محليين ودوليين مع تصور للميزانية التي ستحتاجها اللجنة.

وترى سعدية، أن قضية محاكمة شهداء ثورة ديسمبر يمكن أن تصل لمبتغاها بتعيين كفاءات وطنية مستقلة وإصلاح المنظومة العدلية والقضائية ووزارة العدل في ظل وجود حكومة مدنية.

وفيما يخص شهداء 25 أكتوبر، أشارت سعدية لوجود رؤية متعلقة بملفاتهم في النيابات قبل أن تشير لعدم وصولها للمحاكم، وأضافت “تحريك قضايا الشهداء يتطلب معالجة مشاكل متعلقة بحماية الشهود وبالأدلة ورفع الحصانات وتحتاج لتغيير القوانين والمنظومة العدلية”.

وأوضحت عن إدخال ملف الشهيدين “بابكر عبدالحميد والفاتح النمير” لمحكمة خاصة خلال الأسبوع المقبل، وأضافت هنالك متهمين في القضية هربوا إلى مصر ومطلوبين من الانتربول. فيما كشفت عن شروعهم في إجراءات لاستئناف قرار المحكمة الدستورية بإطلاق سراح متهم رئيسي في قضيته وسيتم الرد على طلب الاستئناف الأسبوع المقبل أيضاً.

6 قضايا فقط رفعت للمحاكم

ورغم كم الشهداء الذين سقطوا خلال مسيرة الثورة، بواسطة القوات الأمنية، إلا أن ملفات 85 شهيداً فقط وصلت النيابة، لشهداء ما بعد انقلاب 25 أكتوبر، بينما تمت محاكمات في 6 قضايا فقط لشهداء ما قبل فض اعتصام القيادة العامة، ولا يزال الغموض يكتنف مصير تحقيق لجنة أديب في قضية شهداء فض الاعتصام.

ويصطدم التحقيق في هذه القضايا بوضع البلاد الأمني والقانوني، إذ شهدت محاكمات الشهداء التي وصلت المحكمة تراجعاً كبيراً بعد انقلاب 25 أكتوبر حيث تمت تبرئة أحد قتلة الشهيد حنفي عبد الشكور في سبتمبر 2022م، بعد إصدار محكمة أم درمان في 24 مايو 2021م حكما بإعدام الضابط المنتدب من جهاز الأمن إلى قوات الدعم السريع يوسف محي الدين بعد إدانته بقتل الشهيد دهسا بسيارته بعد ساعات من مجزرة فض اعتصام القيادة العامة.

بينما برأت محكمة عطبرة في الثالث من أكتوبر 3/10/2022 المتهمين بقتل الشهداء (طارق علي، مختار عبد الله وعصام علي حسين) بسبب عدم كفاية الأدلة ورغم صدور حكم الإعدام بحق قتلة الشهيد أحمد الخير وشهداء مجزرة الأبيض لم يتم تنفيذ الحكم حتى اليوم.

ومؤخرا صدر حكم بالإعدام على قاتل الشهيد حسن محمد عمر الثلاثاء الماضي بينما لا تزال جلسات الشهيد محجوب التاج مستمرة حتى اليوم.

ما بعد توقيع الاتفاق الإطاري

بتوقيع المكون العسكري اتفاقا سياسيا جديدا سمي بالاتفاق الإطاري بتاريخ 4/12/2022 اخذت الاحداث في البلاد منعطفا جديدا بعد عام من الإنقلاب ،لكن الإتفاق السياسي أجل النقاش في 5 قضايا مصيرية لحين البت فيها منها العدالة والعدالة الانتقالية. واصطدم الإتفاق ببيانات رفض له من أجسام ثورية ومن أسر شهداء ثورة ديسمبر.

يقول عضو اللجنة القانونية لقوى الحرية والتغيير محمد صلاح لـ(بيم ريبورتس)، إن ملف العدالة في الاتفاق لا يزال محل نقاش، حيث تم تقسيمه لـ3 محاور هي (إصلاح الأجهزة العدلية، و العدالة الجنائية و العدالة الانتقالية). ويرى صلاح أنه ليس بالضرورة أن توافق أسر شهداء الثورة على الإتفاق الإطاري أو توقع عليه لأنها ليست جهة سياسية.

ويشير صلاح إلى أن إصلاح الأجهزة العدلية سيشمل تغيير رؤوس الأجهزة العدلية الحالية من رئيس القضاء ونوابه والنائب العام ومساعديه وتعيين آخرين عبر مجلس عدلي متخصص به قانونيين معروفين.

والأجهزة يتم شغلها عبر المجلس العدلي بواسطة مفوضية إصلاح الأجهزة العدلية والحقوقية، وهي مفوضية تعمل على ترتيب وعمل إصلاح حقوقي داخل المؤسسات العدلية وهيكلتها ولوائحها، وشكل الإدارة الداخلية للأجهزة العدلية وهي التي تكون مجلس القضاء العالي والمجلس الأعلى للنيابة.

وثانيها تفعيل العدالة الجنائية بتحديد الجناة المسؤولين عن الانتهاكات منذ عام 1989م وحتى جرائم ما بعد 25 أكتوبر وبتشكيل لجان تحقيق خاصة مدعومة دوليا ومحليا وفنيا ولديها سلطات النائب العام.

وأضاف صلاح، أن المحور الثالث يستند على العدالة الانتقالية عبر تشكيل مفوضية العدالة الانتقالية لجان خاصة بالمصالحة الوطنية ولجان خاصة بقضايا شهداء وانتهاكات ما قبل وبعد 25 أكتوبر للوصول لمرتكبي الجرائم.

وأشار إلى أن اللجان الخاصة مثل لجنة نبيل أديب سيتم إعادة تشكيلها وتعيين محاكم خاصة بالشهداء وبانتهاكات 25 أكتوبر بواسطة رئيس القضاء ،وتفعيل قرارات المحكمة الدستورية،وأكد صلاح على أن الاتفاق السياسي لن يمنح أي حصانة لمرتكبي الجرائم.

ومع مرور 4 أعوام على الثورة لم تنطفئ النيران المشتعلة في قلب شريفة وأهالي شهداء الثورة على فقد أبنائهم، وعلى الرغم من تمسك الشارع بدماء الشهداء واستمرار مواكب العدالة والقصاص  للتذكير بحق الشهداء وتسليم عشرات المذكرات تؤكد شريفة أن غليلها لن يشفيه إلا الاقتصاص من قاتل ابنها الطبيب الشاب.

كيف تتصاعد خلافات شرق السودان منذ توقيع اتفاق جوبا إلى ما بعد الاتفاق الإطاري؟

لا يزال التعقيد يتصدر المشهد في شرق السودان، حتى بعد سنوات الفترة الانتقالية لحكومة ما بعد ثورة ديسمبر التي عينت فيها مسار لشرق السودان ضمن اتفاقية سلام جوبا والذي واجه بدوره نقدا كبيرا بمفاقمته الأزمة في الشرق.

ومنذ توقيعه، ظل الاتفاق الخاص بمسار شرق السودان محل جدل، إلى لحظة اعلان قائد الجيش عبد الفتاح البرهان عن تجميد العمل به في  16 ديسمبر 2021م.

 

هذه التعقيدات دفعت بحكومة الأمر الواقع الحالية، بعد توقيعها الاتفاق الإطاري مع قوى الحرية والتغيير وأحزاب سياسية وأجسام مهنية في الخامس من ديسمبر الحالي،   لتضمين ملف شرق السودان على رأس (خمس قضايا)، لم يبت فيها الاتفاق الإطاري لـ”مزيد من التشاور”، وتم تأجيلها إلى حين الوصول إلى اتفاق نهائي. 

 

ومع ذلك، أتت ردة الفعل الأولى على الاتفاق بعد يومين فقط من توقيعه، حيث سارع رئيس (تحالف أحزاب وحركات شرق السودان) شيبة ضرار بإغلاق الميناء الجنوبي لمدة يومين احتجاجاً على الاتفاق.

اتفاق مسار الشرق

وتنص بنود وثيقة اتفاق  مسار الشرق الذي تم توقيعه في 21/2/2020 بين الحكومة الانتقالية والجبهة الثورية على تخصيص نسبة 30% من السلطة للطرفين الموقعين ضمن أجهزة السلطة التشريعية والتنفيذية في ولايات الشرق الثلاث، فيما لم يحدد المسار مصير غير الموقعين من الشرق خارج نسبة الـ 67% من عضوية الجهاز التشريعي المخصصة لقوى الحرية والتغيير.

 

 ونص بند  “حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية ” المدرج في الاتفاقية، على إجراء التحقيقات والمحاكمات العادلة وتشكيل لجان تحقيق مستقلة للبحث عن التجاوزات التي تمت في الإقليم منذ عام 1989م وعلى رأسها جريمة مذبحة بورتسودان عام 2005م، وتفعيل مبدأ التمييز الاجتماعي وإعادة هيكلة صندوق إعمار الشرق وإقامة مؤتمر جامع لأهل الشرق يضم كل القوى السياسية والمدنية والأهلية، لكن متابعين عابوا على الحكومة عدم تحديد ما إذا كان المسار سيستمر حتى بعد الحكومة الانتقالية.

ردود فعل متباينة

صاحب التوقيع على مسار الشرق ردود أفعال تباينت ما بين الترحيب والرفض، حيث مثّل الزعيم الأهلي، محمد الأمين ترك، أبرز الأصوات الرافضة للمسار والذي ناهض الاتفاق عبر ما يعرف بـ(المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة). 

 

وامتداداً لذلك الرفض، وقعت اشتباكات مختلفة في مدن الشرق أبرزها بورتسودان بعد توقيع الاتفاق، أسفرت عن وفيات وعشرات الجرحى. 

واتهم المجلس وقتها رئيس الجبهة الثورية، الأمين داؤود، بالضلوع في الأحداث التي شهدتها الولاية لأشهر عبر مساهمته في تعبئة الشباب بإقامة ندوة للتبشير بالمسار ما أدى للإقتتال .

 

وفي أكتوبر 2020م أجبرت احتجاجات في ولاية كسلا تزامنت معها تظاهرات في بورتسودان الحكومة الإنتقالية على إعفاء  صالح عامر من ولاية كسلا بعد ثلاث أشهر من تعيينه بعد رفض 9 مكونات من أصل 11 مكون ولايته ، فيما شهد قرار إعفائه ردود فعل غاضبة من المكونات الموالية له.

 

في المقابل وقع 28 حزبا سياسيا وكيانا مدنيا بشرق السودان على ميثاق يطالب بالإسراع في تنفيذ اتفاق مسار شرق السودان أثناء انعقاد مؤتمر القضايا المصيرية لشرق السودان الذي تم في 25 أغسطس 2022 بالخرطوم.

 

 وتفاقمت أزمة شرق السودان بعد التوقيع على المسار حتى أن مجلس الوزراء ابتعث على آخر أيام الانتقالية في سبتمبر 2021 وفد حكومي كان من ضمنه وزيرة الخارجية مريم الصادق من أجل بحث الحلول الجذرية لقضايا الشرق .

 

ولاحقاً في نفس الشهر، أغلق المجلس الأعلى لنظارات البجا الميناء الجنوبي والطرق القومية لمدة 40 يوماً، ولم يعاد فتحها إلا بعد انقلاب الجيش في 25 أكتوبر 2021م.

تجميد مسار الشرق

أصدر قائد الانقلاب، عبد الفتاح الرهان، قراراً في ديسمبر 2021م،  جمد فيه مسار الشرق، ولاقى القرار قبولاً من التحالفات التي ظلت تطالب بإلغاء المسار حتى قبل التوقيع عليه. وتعالت، في الوقت نفسه، أصوات رافضة لخطوة التجميد، خاصة من الموقعين على اتفاق المسار، والذين عبروا عن رفضهم لأي خطو مشابهة منذ ما قبل الانقلاب.

 

وكان مشرف مسار الشرق، خالد شاويش، ورئيس وفد التفاوض أسامة سعيد قد صرحا في بيان مشترك بأن:“المسار غير قابل للتنازل أو المساومة وسندافع عنه بكل الوسائل”. وأضاف البيان “الصراع في شرق السودان يتم توجيهه الآن ليكون صراعاً حول المواطنة بخطاب شعبوي بغيض يقسم شعب الشرق إلى مواطنين من الدرجة الأولى، وإلى أجانب ولاجئين”.  واعتبر كل ذلك مقدمات للحرب الأهلية.

تطورات جديدة

ومع التطورات السياسية الجديدة، بتوقيع الاتفاق الإطاري، بعد مرور أكثر من عام على انقلاب الجيش، أغلق (شيبة ضرار) الموانئ رفضاً للاتفاق، لكنه تراجع عن الإغلاق “إلى حين إجراء محادثات بينه وبين الحكومة  في الخرطوم “.

 

وجاءت أسباب (ضرار ) للإغلاق، بحسب تصريحات صحفية له، في كون الموقعين على الإتفاق الإطاري لا يمثلون الشرق، قبل أن ينفي وجود أي صلة بينه وبين نظام المخلوع، وذلك رداً على الإتهامات التي طالته نتيجة موقفه من استقبال آخر رئيس وزراء للنظام المخلوع، محمد طاهر إيلا، لكن محللون اعتبروا أن إيلا المحرك الرئيسي والخفي لضرار.

 

وكانت أزمة شرق السودان، قد اتخذت، مطلع أكتوبر الماضي، اتخذت منعطفاً جديداً، إثر عودة والي البحر الأحمر السابق وأخر رئيس وزراء في عهد النظام المخلوع، محمد طاهر إيلا، إلى البلاد بعدما أنهى منفاه الاختياري في العاصمة المصرية القاهرة، التي فرّ إليها، في أعقاب الإطاحة بنظام الرئيس المخلوع، عمر البشير في أبريل 2019م.

 

وعلى الرغم من ملاحقته بتهم فساد، إلا أن إيلا لم يتعرض للإيقاف بعد عودته، بل سرعان ما انخرط في العمل السياسي، حيث دعا إلى مبادرة لتوحيد تيارات (المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة ) المنقسم.

 

واعتبر محللون، أن عودة إيلا مرتبطة بالإرهاصات المتعلقة بالتسوية السياسية المرتقبة في البلاد، وتعويل البعض في الشرق على لعبه دوراً في مستقبل الإقليم من الناحية السياسية، وعزز استقبال الناظر ترك له اعتقاد مجموعات قبلية أنه من المؤهلين لهذا الدور.

انقسامات داخلية

على نحو بدا مفاجئاً، أعلن (ترك) انضمامه لائتلاف الحرية والتغيير (الكتلة الديمقراطية) التي تضم حركتي العدل والمساواة وتحرير السودان الموقعتان على اتفاق السلام في 2020، إلى جانب أحزاب سياسية أبرزها؛ الحزب الاتحادي الديمقراطي (الأصل) – فصيل جعفر الميرغني، والتي تعتبر كتلة تؤيد وتبقي على اتفاق سلام جوبا الذي ظل ترك أبرز المناهضين له. 

 

وانقسم (المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة) لكتلتين كتلة تناصر ترك وكتله أخرى مناوئة له. فيما  تسببت خطوة انضمامه لـ(الكتلة الديمقراطية) في سخط الكتلة المناوئة في المجلس وإعلانها التصعيد المتدرج في الإقليم.

غير أن (ترك) الذي تم تعيينه كنائب لرئيس (الكتلة الديمقراطية)، جعفر الميرغني،  أكد بأنه لا عودة لمسار شرق السودان ضمن اتفاق جوبا للسلام.

 

وتضم (الكتلة الديمقراطية)، أيضاً، الجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة  والتي عبرت عن تمسكها بالمسار، إذ جاء على لسان أمينها السياسي، جعفر محمد الحسن، بأن وجودهم مع (ترك) في الكتلة الديمقراطية لا يعني تنازلهم عن مسار شرق السودان، معدداً ما وصفها بالمكاسب التي حققها الاتفاق، مبدياً استعدادهم للنقاش حول الاتفاق في مؤتمر يجمع مكونات شرق السودان.

 

وحول حراك (تحالف أحزاب وحركات شرق السودان) بقيادة شيبة ضرار، يقول المحلل المتخصص في قضايا الشرق خالد محمد نور لـ(بيم ريبورتس)، إن “شيبة ضرار” لا يملك القوة والشخصية السياسية ولا التنظيم الذي يجعله قادراً على التحرك، مضيفاً أن “فشل الإغلاق دليل على عدم استناد قواته على القاعدة”.

 

واعتبر نور، أن الأمر نفسه ينطبق على (مؤتمر البجا – قوى الحرية والتغيير) الذي يشمل مجموعة من الأفراد المنشقين عن (حزب مؤتمر البجا ـ جناح موسى محمد أحمد) خلال ثورة ديسمبر، لعدم استناد التنظيم على قاعدة وهياكل ومكاتب معروفة. بالإضافة إلى عدم عقدهم مؤتمر عام لتحديد ما إذا كانوا حزب سياسي أو تيار مخالف لتوجهات موسى، معتبراً أن تأثيرهم غير كبير في الشرق.

 

وبخصوص الإغلاق، وصف نور رفض العمال تنفيذ الإغلاق، بأنه خطوة في سبيل استعادة وفرض صوتهم النقابي الذي لا يرتهن لجهات سياسية رغم وجود النفس القبلي داخل التكتلات العمالية، على حد تعبيره.

 

وذكر المحلل السياسي، أن الكتل المختلفة في الشرق ليس لديها خط استراتيجي واضح ومواقف ثابتة تجعل الشعب يتكهن بخطواتها، منوهاً إلى أن مواقفها رد فعل لقوى أخرى تستخدمها في تمرير مصالحها، على حد قوله.

 

 وأضاف :” إذا تم التوقيع النهائي فلن يكون هناك مشكلة لأنها مجموعات تجمعها علاقة طيبة بالعسكر ويمكن التأثير عليها عبرهم، إلا إذا أراد المكون العسكري استخدامها مرة أخرى”.

صراعات المجلس الأعلى

يعيش المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة صراعات عاصفة بين قيادته بسبب مواقف ترك، وذكر المجلس في بيان  أنه لن يسمح بتكرار ما وصفه بالخطأ الذي أجبر عليه بسبب سوء تقدير قيادته السابقة، مشدداً على عدم تدخله في صراعات قوى مركزية تسعى لتمكين نفسها على حد تعبيره، ولن يكون مطية لأي حلف مصلحي.

 

فيما أكد على تمسكه بإلغاء مسار الشرق وإعلان منبر تفاوضي تنفيذا لمقررات مؤتمر سنكات وأن البجا والإقليم لن يكونوا جزءاً من أي تسوية أو عملية لا تتبنى حلاً جذرياً لقضية الإقليم.

ووصف البيان التحالف الجديد بين (ترك والأمين داؤود) بالمشروع المقيت والخيانة التي لا تغتفر. وقال مقرر المجلس الأعلى، عبد الله أوبشار، لـ(بيم ريبورتس)، إن موقفهم من الاتفاق الإطاري وجميع تحالفات الأطراف المتصارعة بسبب اعتقادهم أن هذه الأطراف بعيدة عن قضايا الشرق التي اعتبرها لا زالت قائمة وتحتاج لحلول، مشدداً على عدم رغبة المجلس في الانتماء لأي طرف من المتصارعين، معللا ذلك بعدم رغبتهم في فقدان قضية الشرق خصوصيتها.

وفيما يخص موقف تِرك الحالي من الإتفاق، يقول أوبشار إنه رهن القضية لأطراف سياسية وهو ما يرفضه المجلس الذي لن يعمل على إرضاء أي جهة.

موقف آخر

من جهته، صرح مؤتمر البجا المعارض – قوى الحرية والتغيير بدعمه للاتفاق الإطاري، واعتبره حلاً سياسياً يفضي لإنهاء الانقلاب.

 ووصف القوى السياسية الموقعة عليه بالشجاعة، مشيراً  إلى أن دعمه يأتي بسبب  مناقشة الاتفاق لقضايا الشرق، فيما ذكر أن توحيد الشرق يتطلب حوار جاد وعميق بين جميع مكونات شرق السودان. “الاتفاق الإطاري، هو الخيار المتاح في الوقت الحالي، في ظل ضيق الخيارات المتاحة أمام القوى السياسية والعسكرية، ولكن البعض تمنى أن يكون بشكل أفضل” ، يقول والي كسلا السابق، صالح عمار لـ( بيم ريبورتس)، مشيراُ إلى انتظار أهل الشرق لما سيسفر عنه الاتفاق المقبل.

 

وبالنسبة لمحاولة إغلاق الشرق مرة أخرى، وصف صالح تهديدات (ضرار) بالفرقعة الإعلامية لإثبات نفسه في الساحة، وقال إن عمال الميناء أفشلوا الإغلاق، مشيرا إلى وعي أهالي الشرق بالضرر الذي لحق بهم جراء الإغلاق السابق، معتبراً أن خطوة ضرار يقف وراءها محمد طاهر إيلا العقل المدبر له.

 

وأشار والي كسلا السابق، إلى أن الإرباك في المشهد في الشرق سببه المواقف المتعددة لـ(ترك) وتغييره لولاءاته كل فترة.

 واعتبر أن المطالب المتعلقة بـ(مؤتمر سنكات) تخص ترك ومجموعته ولا تهم مواطن الشرق الذي تقتصر مطالبه على السلام والتنمية ودرء التهميش. مضيفاً “الحل يكمن في حوار شامل مع جميع المؤثرين في الشرق وتجاوز ترك وجماعته حال لم يتم التواصل معهم لحل”، مشيراً إلى عدم قدرة ترك أو ضرار، المراهنة على إغلاق الميناء مرة أخرى.

 

وبالنسبة لظهور إيلا في الساحة السياسية مجدداً، اعتبر صالح أنه موقفه يضع الحكومة المدنية المقبلة في تحد كبير لتنفيذ أمر القبض في مواجهته خاصة وأنه يحرض على تقرير المصير.

وحول انقسام المجلس، قال إنه انقسام ولاءات ما بين موالين للبرهان وموالين لقائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو والحركة الإسلامية.

 

ورأى صالح، أن الفيصل في مسألة قضية الشرق يحكمه موقف المؤسسات العسكرية والحركة الإسلامية، مضيفاً أن هذه المجموعات ستعود لحجمها الطبيعي حال رفعت الأيدي العسكرية يدها من المشهد، داعياً المكون المدني للتأكد من وقوف العسكر في صفهم، وليس في صف ترك وجماعته. 

 

والإثنين الماضي أفضى اجتماع عقده قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو مع نحو 17 من قيادات الإدارات الأهلية الممثلة في المجلس الأعلى للإدارة الأهلية ،إلى تأكيد المجلس دعمه للاتفاق الإطاري كخارطة لحل الأزمة السياسية،إذ اعتبر المجلس بحسب تصريحات عن مسؤوله الإعلامي أن وضع أزمة شرق السودان بين القضايا المزمع نقاشها تفصيلا يشير لحسن النوايا بشأن إيجاد حل يرضي جميع الأطراف.

 

رغم التاريخ الحافل بالاتفاقيات والمفاوضات الطويلة في القضايا المتعلقة بشرق السودان منذ التوقيع على اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا بين النظام المخلوع، وجبهة الشرق 2006م والذي توقفت على إثره حربا استمرت لأكثر من عقد ولكن حكومة المخلوع لم تنفذ حتى عام 2012 إلا نحو 25% من بنوده ومع ذلك بقي موسى محمد أحمد في منصب مساعد رئيس رئيس الجمهورية عمر البشير حتى يوم سقوط النظام .

 

 ظلت تداعيات أزمة الشرق مستمرة منذ ذلك الوقت، وحتى اليوم، إذ لا يزال الإقليم يشهد توترات سياسية واجتماعية واقتصادية، مع تعقد المشهد بشعارات الجماعات التي تلوح بالانفصال والتي تسببت في إجهاض الحكومة الانتقالية. وهي نفس المشاكل التي ستواجه الحكومة المقبلة أيضاً حال لم تقدم رؤية واضحة حول الشرق وقضاياه بشكل يرضي جميع الأطراف وهو ما يعتبره البعض أمراً تعجيزياً يصعب على أي جهة تنفيذية تحقيقه مالم تصل المكونات المختلفة في الشرق إلى حل مشترك فيما بينها.

فجرها طلاب المدارس.. كيف انطلقت شرارة ثورة ديسمبر من الولايات إلى الخرطوم؟

تخلقت الثورة في مدينة مايرنو على مر السنوات الأخيرة، وكانت كبركان محموم، أوقده الحراك الطلابي المستمر والتنظيمات العمالية والسياسية، غير أن “لحظة” 6 ديسمبر 2018م، التي شقّت فيها هتافات تلاميذ مرحلة الأساس عنان السماء، عندما خرجوا في تظاهرات حاشدة، مثلت انفجار ذلك البركان في وجه النظام المخلوع، وانجرف إلى كل أرجاء البلاد.

 

 كانت تظاهرة من أجل الحياة؛ حيث ردد الطلاب والشباب والذين سرعان ما انضم إليهم المواطنون، هتافات تندد بالوضع المعيشي والغلاء، لكن قوات الشرطة لم تدخر وقتاً؛ حيث هاجمت التظاهرات باستخدام العنف المفرط، واستبسل المتظاهرون في صده. 

 

يسترجع عضو لجنة مقاومة مايرنو، رعد شهاب، تلك اللحظات المفصلية في تاريخ البلاد، قائلاً: إن احتجاجات طلاب ومواطني مايرنو في ذلك اليوم خلقت صدمة لدى إدارتها الأهلية الموالية للنظام وحكومة الولاية لاعتقادهم أنها تحت سيطرة النظام. 

ويضيف شهاب لـ(بيم ريبورتس): “دخلنا في مواجهة مفتوحة مع الشرطة وقدنا الموكب لمنطقة نائية غرب المدينة بعيداً عن المباني السكنية والأراضي الزراعية. لكن الشرطة لاحقتنا بالغاز المسيل للدموع إلى الأحياء مرة أخرى، حيث ألقته في المنازل ومسجد “السلطان” الشهير، ويضيف: كما شهد الموكب محاولات دهس، واعتقل مواطن وضرب بسبب تصويره للتظاهرات. ويواصل رعد عن المعتقل: “كان المواطن من أنصار النظام قبل أن يخلع ثوبه وينضم إلى صفوف المتظاهرين والناشطين في المدينة بعد حادثة الاعتقال”.

 

ربما انتبه الناس لمايرنو مع ثورة ديسمبر، إلا أن للمدينة تاريخاً ممتداً في مقاومة نظام الإنقاذ، في السنوات الأخيرة. على سبيل المثال، شهدت المدينة في العام 2010م حراكاً مهماً رافضاً لتزوير الانتخابات الرئاسية، الذي توج بتكوين حركة مقاومة باسم “عدنا” وهي بدأت كجسم صغير ومن ثم توسع إلى “شباب مايرنو الثوري التقدمي” حيث ضمت شباباً ثورياً من المنطقة، والذي قاد تظاهرات مناهضة للوالي حينها، أحمد عباس في العام 2012م. واستخدم النظام الرصاص الحي في فض تظاهرة نظمتها الحركة.

النيل الأزرق

سرعان ما انتقلت شرارة الثورة من مايرنو إلى مدينة الدمازين (إقليم النيل الأزرق) في  13 ديسمبر 2018، وخرج طلاب المدرسة الفنية الثانوية بالدمازين احتجاجاً على انعدام الخبز، ولاحقاً انتقلت حالة الغضب إلى ثانويات البنات في رفيدة التجارية وذات النطاقين وبنت وهب، ومدارس القطاع الجنوبي، وأدى تعامل السلطات العنيف مع الطلاب إلى انخراط أهالي المدينة في الحركة الاحتجاجية حتى أصدرت لجنة أمن الولاية قراراً بإغلاق المدارس.

 

“سبقت أحداث 13 ديسمبر حالة من الضغط المعيشي نتيجة التدهور الاقتصادي العام، بالإضافة إلى حراك المعدنيين في منطقة بلقوة بمحلية ود الماحي بسبب فرض الحكومة وقتها نسبة ربح 10% على كل جوال ذهب”، يقول عضو لجان مقاومة الدمازين، معاذ عيسى لـ(بيم ريبورتس).

ويضيف “رفض العمال الزيادة، خاصة وأن توقيتها جاء في نهاية العام، بالإضافة إلى مطالبتهم الشركة السودانية للمعادن بمنشور رسمي للزيادة، وتعبيراً عن احتجاجهم قام المعدنيون بحرق آليات تتبع للشركة السودانية للمعادن”. 

 

لم يقف الحراك في النيل الأزرق يوم 13 ديسمبر، ولكنه شهد تصعيداً في أماكن عدة داخل الإقليم في الأيام التالية، خاصة وسط الحركة الطلابية التي كانت جزءاً أصيلاً منه، حيث رفع طلاب كلية الهندسة بجامعة الروصيرص لافتات تحمل مطالب سياسية واضحة يومي 14 و 15 ديسمبر2018؛ ويوضح عيسى “توج حراك طلاب المدارس والجامعات بإنضمام المواطنين للحراك على مدى الثلاث أيام اللاحقة، وتراجع الحراك في الدمازين في 18 ديسمبر بعد قمع الشرطة العسكرية المفرط للمحتجين وإغلاق المدارس”. 

 

 

كان هذا الوضع في النيل الأزرق، يعبر عن أوضاع ولايات البلاد الـ18، فانتقلت شرارة التظاهرات غرباً، حيث خرج طلاب المدارس بمدينة الفاشر بولاية شمال دارفور، في موكب احتجاجي يوم 16 ديسمبر تنديداً بفرض تسعيرة تجارية لشراء الخبز رفعت قيمته بنسبة 300%، واستخدمت الشرطة الهراوات وعبوات الغاز المسيل للدموع لتفريق الطلاب وجرى إغلاق سوق المدينة الرئيسي للحد من حركة الاحتجاجات.

 

وفي صبيحة 17 ديسمبر تسببت عبوات غاز مسيل للدموع أطلقتها الشرطة لفض اعتصام محدود لطالبات داخلية الزهراء في مدن تابعة لولاية الجزيرة احتجاجاً على انعدام الخبز، في حالات اختناق في أوساط الطالبات. وفي الولاية نفسها تظاهر أهالي قرية فداسي ليل 18 ديسمبر احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتردية.

نهر النيل

“توقفت سيارتي بمحطة الوقود لما يقارب الأسبوعين لكي أحصل على البنزين”. هكذا بدأ الشيخ محمد علي (32 عاماً) حديثه لـ(بيم ريبورتس) عن الأوضاع بمدينة عطبرة (ولاية نهر النيل) في الأسابيع التي سبقت اندلاع الثورة، وقال إن المدينة في تلك الفترة كانت تمر بـ”أزمة طاحنة في الوقود والدقيق”.

 

تحدّث الشيخ عن انعدام الدقيق تماماً بمخابز عطبرة منذ التاسع من ديسمبر، “احتدّت حالة الغضب بين المواطنين بسبب توقف عمل المخابز، وتزامن ذلك مع تداول معلومات بين المواطنين بأن حصّة ولاية نهر النيل من الدقيق أرسلت إلى الخرطوم لتغطية العجز هناك”، كما ذكر أن مجهودات الحكومة الولائية كانت منصبّة في تغطية حاجة الوجبة المدرسية للطلاب، إلى أن عجزت عن ذلك.

 

وفي صباح الأربعاء، 19 ديسمبر 2018م، خرجت تظاهرة طلّاب مدرسة عطبرة الصناعية، بعدما أخبرهم المدير بعجزه في توفير حصّة الخبز للمدرسة، وانضم للتظاهرة المتجهة نحو سوق عطبرة أعداد كبيرة من مختلف فئات المواطنين، وأصحاب المحال التجارية، وبعض كوادر الأحزاب السياسية. 

وفي عصر اليوم نفسه، ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بصور تُظهر دار المؤتمر الوطني مشتعلاً بالنيران، حيث أضرم متظاهرون النيران في المبنى عند وصولهم إليه بعدما أغلقوا الشوارع المحيطة به.

 

تجددت التظاهرات في اليوم التالي (الخميس 20 ديسمبر) بالرغم من إعلان الحكومة حالة الطوارىء وإغلاقها سوق المدينة. حاول متظاهرون عبور الجسر الواصل بين عطبرة والدامر للوصول إلى أمانة حكومة ولاية نهر النيل بالدامر، إلّا أن قوات الجيش حالت دون ذلك.

 

ومع خروج طلاب عطبرة شمالي البلاد في 18 و 19 ديسمبر للسبب نفسه أخذت الثورة زخمها فسرعان ما انخرط أهالي المدينة النقابية العريقة في الحراك، إذ رفعت عطبرة لأول مرة شعارات سياسية تنادي برحيل النظام، هذا غير هتافات “شرقت شرقت عطبرة مرقت التي حثت بقية المدن للخروج، ومن ثم جاءت لحظة إحراق دار المؤتمر الوطني لتشكل منظرا رمزيا لسقوط النظام سياسياً.

 

 وفي الـ20 من ديسمبر فضت الشرطة تظاهرة لطلاب جامعة الخرطوم فقد فيها 2 من الطلاب المشاركين أطرافهم جراء محاولتهم إعادة عبوات الغاز المسيل للدموع، فيما تواصلت احتجاجات عطبرة في تحدٍ لحالة الطوارئ التي أعلنها الوالي المكلف حاتم الوسيلة وامتدت لتشمل بقية مدن الولاية مثل الدامر والعبيدية وبربر فقدمت الأخيرة أول شهداء الثورة “محمد عيسى ماكور”. ومن ثم دخلت ولاية القضارف في مواجهات عنيفة مع الشرطة انتهت بسقوط 8 ضحايا، وانضمت مدينة بورتسودان إلى خط الاحتجاجات، بينما أضرم مواطنو كريمة في الولاية الشمالية النيران في مقر الحزب بعد تظاهرات بها مما أدى لسقوط قتيلين، وفي ولاية شمال كردفان، فيما أحرق محتجون في 21 ديسمبر مقر الحزب الحاكم في مدينة الرهد بعد تظاهرات حاشدة.

 

ومنذ انطلاق الثورة في 6 ديسمبر 2018م في مايرنو وتوسعها لمدن وقرى السودان المختلفة؛ شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً؛ إلى الدمازين والفاشر وعطبرة حيث اشتعلت النيران في مقر الحزب الحاكم، ها هي أربعة أعوامٍ تمضي وما يزال حراك الشارع الذي توج بالإطاحة بنظام الرئيس المخلوع، والذي ظن كثيرون انه سينتهي بسقوط عمر البشير، في 11 أبريل 2019م مستمرا،في سعيه الحثيث والدائم لإنهاء الحكم العسكري في السودان، إذ أن الحراك لم يقف هناك،ويواصل مدّه  اليوم في مقاومة انقلاب 25 أكتوبر، ولا يزال كثيرون يعبرون عن عدم تراجعهم عن مطالب الثورة حتى لو تطلب الأمر عقوداً من الزمان لتحقيقها.

جيوش عديدة.. هل تعبد (النصوص) وحدها الطريق للإصلاح العسكري في السودان؟

على مدى السنوات الأربع الأخيرة، في أعقاب ثورة ديسمبر 2018 التي أطاحت بنظام الرئيس المخلوع، عمر البشير، في أبريل 2019، لم يكف الفاعلون السودانيون، مدنيون وعسكريون، عن الحديث بشأن إعادة هيكلة الجيش أو إصلاح القطاع العسكري عامةً، الذي تم تضمينه في جميع الاتفاقات، في ظل ظاهرة الجيوش المتعددة التي تعيشها البلاد.

 

ومع اختلاف المقصد والتصورات من عملية الإصلاح، بين الفاعلين، إلا أنهم جميعاً يتفقون على “ضرورة الوصول إلى جيش قومي واحد”. على أن يكون بعيداً عن السياسة وملتزماً بإطار مهني يحدده الدستور، إلا أن هذا الأمر ما يزال يبدو بعيد المنال بالنظر إلى دور الجيش المتنامي في السياسة منذ اندلاع الثورة.

 

ولا يواجه الجيش السوداني في الوقت الحالي، مجرد عملية دمج وإعادة تسريح تقليدية، مثل تلك التي تم تنفيذها طوال تاريخ اتفاقات السلام التي وقعها السودانيون حكومات وحركات مسلحة، على أمل إطفاء الحروب الأهلية التي وسمت تاريخ البلاد الحديث، وإنما تُثار التساؤلات بالأساس، حول قدرته على احتواء كل تلك الجيوش التي تقدر بنحو 5-9 جيوش، في جيش قومي واحد. 

 

وأكثر من ذلك، يواجه الجيش من جهة، وجميع أولئك الساعين إلى بناء جيش وطني قومي موحد، تحدي كيفية التعاطي مع الدعم السريع الذي تنامت قوته وترسخ وجوده العسكري والسياسي، ما يجعله في مصاف الجيش الرسمي.

تباين وجهات النظر

مثل اتفاق سلام جوبا، وقبله الوثيقة الدستورية واتفاق حمدوك ـ البرهان، لم يغب إصلاح الجيش عن نصوص الاتفاق الإطاري الموقع يوم 5 ديسمبر الحالي، غير أن قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، وقائد الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي) أدليا في كلمتيهما بمناسبة توقيع الاتفاق، بتصريحات متباينة عن دور الجيش المهني وإطاره الدستوري، بما في ذلك الطريق إلى تحقيق ذلك الهدف.

 

ومع ذلك، اتفقا في بعض التفاصيل المتعلقة بخروج الجيش من العملية السياسية. وبينما قال البرهان في كلمته، إن وجود القوات المسلحة والعسكريين في السلطة أمر مؤقت وغير دائم. ذهب حميدتي في كلمته إلى تأكيد انسحاب المؤسسة العسكرية من السياسة، والذي قال إنه أمر ضروري لإقامة نظام ديمقراطي مستدام.

 

عاد البرهان وأضاف قائلاً: “إننا نسعى لتحويل الجيش لمؤسسة دستورية يمنع تحيزه لحزب أو جماعة أو أيديولوجيا ولا تستخدم المؤسسة العسكرية صلاحيتها تجاه طرف من الأطراف وتعمل بمهنية واحتراف”.

 

 ومع أن البرهان، أقر في كلمته بأن السلطة المدنية مسؤولة عن ما وصفها بـ”غايات الوطن وقضاياه”، إلا أنه عاد وحذر القوى السياسية والقوى المدنية بعدم التدخل في العمل الفني للمؤسسة العسكرية، دون تقديم مزيد من التوضيحات. 

 

في المقابل، أضاف حميدتي، أن إقامة نظام ديمقراطي مستدام “يستوجب أيضاً التزام القوى والأحزاب السياسية، بالابتعاد عن استخدام المؤسسة العسكرية للوصول للسلطة، كما حدث عبر التاريخ. وذلك يتطلب بناء جيش قومي، ومهني، ومستقل عن السياسة وإجراء إصلاحات عميقة في المؤسسة العسكرية تؤدي إلى جيش واحد، يعكس تنوع السودان، ويحمي النظام الديمقراطي”.

الدعم السريع

في يناير 2017، أجاز البرلمان المحلول، قانون (قوات الدعم السريع)، والذي بموجبه أصبحت القوات شبه العسكرية والمتهمة بارتكاب انتهاكات فظيعة ضد حقوق الإنسان، في إقليم دارفور بشكل خاص، وأنحاء مختلفة من البلاد، قوات نظامية.

 

ومع ذلك، أثارت وضعيتها مقابل الجيش وتبعيتها لرئاسة الجمهورية منذ ذلك الوقت التساؤلات في الأوساط السياسية، لاحقاً أعادت الوثيقة الدستورية 2019، تقنين وضع الدعم السريع، وهو الأمر عينه الذي فعله الاتفاق الإطاري مرةً أخرى. 

وبالنسبة لقضية الجيش القومي الواحد يعتقد محللون سياسيون أن الاتفاق الإطاري لم يجاوب عليها. 

 

يقول الكاتب عبد الرحمن الغالي، إن “وثيقة دستور المحامين بدأت بتجاهل الدعم السريع ولم تذكره ضمن الأجهزة النظامية الثلاثة (الجيش والشرطة وجهاز المخابرات) وجاء الإعلان الدستوري ليتحدث فقط عن مهام القوات المسلحة وعن دمج كافة القوات دون ذكر الدعم السريع. ولكن في الاتفاق الإطاري، ظهر الدعم السريع ضمن هذه الأجهزة النظامية لتصير أربعة أجهزة (الجيش، الدعم السريع، الشرطة، المخابرات)، وجاء في الاتفاق أنها تتبع للقوات المسلحة وأن القانون سيحدد لها أهدافها ومهامها وأن يكون رأس الدولة قائداً أعلى لها. 

 

وهذا يعني، حسب الغالي في مقال منشور، أنها قوة منفصلة بقانون منفصل وليس قانون القوات المسلحة، وأنه لم ينص على أنها تتبع للقائد العام بل للقائد الأعلى (المدني).

 

ونص الاتفاق الإطاري، في باب (قضايا ومهام الانتقال)، على الإصلاح الأمني والعسكري الذي يقود إلى جيش مهني وقومي واحد، يحمي حدود الوطن والحكم المدني الديمقراطي، وينأى بالجيش عن السياسة. بالإضافة إلى تنقية الجيش من أي وجود سياسي حزبي، وإصلاح جميع الأجهزة النظامية.

 

وعرف الاتفاق الأجهزة النظامية في جمهورية السودان بأنها هي: القوات المسلحة، قوات الدعم السريع، الشرطة، جهاز المخابرات العامة.

ونص الاتفاق على أن القوات المسلحة؛ مؤسسة نظامية قومية احترافية غير حزبية، مؤلفة ومنظمة هيكلياً طبقاً للقانون، تضطلع بواجب حماية الوطن ووحدته وسيادته والحفاظ على أمنه وسلامة أراضيه وحدوده، أيضاً نص الاتفاق على أن  تتخذ القوات المسلحة عقيدة عسكرية تلتزم بالنظام الدستوري وبالقانون وتقر بالنظام المدني الديمقراطي أساساً للحكم، ويكون رأس الدولة قائداً أعلى للقوات المسلحة.

 

كما يحدد القانون الحالات التي يجوز فيها لمجلس الوزراء، أن يلجأ إلى إشراك القوات المسلحة في مهام ذات طبيعة غير عسكرية، على أن تتكون القوات المسلحة من مكونات الشعب السوداني المختلفة بما يراعى قوميتها وتوازنها وتمثيلها دون تمييز أو إقصاء، وتخضع لمؤسسات السلطة الانتقالية ولا تُستخدم ضد الشعب السوداني، ولا تتدخل في الشؤون السياسية.

 

أيضاً يحظر تكوين مليشيات عسكرية أو شبه عسكرية ويحظر مزاولة القوات النظامية للأعمال الاستثمارية والتجارية ما عدا تلك التي تتعلق بالتصنيع الحربي والمهمات العسكرية وفقاً للسياسة التي تضعها الحكومة الانتقالية، وتؤول لوزارة المالية والتخطيط الاقتصادي جميع الشركات الحكومية والمملوكة للقوات النظامية المختلفة وجهاز المخابرات والتي تعمل في قطاعات مدنية، وتخضع بقية الشركات المملوكة للقوات النظامية والتي تعمل في قطاعات عسكرية وامنية لإشراف وسلطة رقابة وزارة المالية في الجوانب المالية والمحاسبية وسلطة ديوان المراجعة القومي.

 

 وحدد الاتفاق مهام القوات المسلحة في الفترة الانتقالية إضافة إلى ما ورد في قانونها؛ هي: الالتزام بالنظام الدستوري، واحترام سيادة القانون، والحكومة المدنية الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة البلاد وحماية حدودها أمام أي عدوان خارجي، احترام إرادة الشعب السوداني في حكومة مدنية تعددية ديمقراطية والعمل تحت إمرتها، وتنفيذ السياسات المتعلقة بالإصلاح الأمني والعسكري وفق خطة الحكومة الانتقالية وصولاً لجيش قومي مهني احترافي واحد. 

 

ويتضمن ذلك؛ تنفيذ بند الترتيبات الأمنية الوارد في اتفاقية جوبا لسلام السودان والإتفاقيات التي تأتي لاحقاً بخصوص قوات حركات الكفاح المسلح.

وبحسب الاتفاق، فإن دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة سيتم وفق الجداول الزمنية المتفق عليها، كما سيتم مراجعة شروط القبول للكلية الحربية ومراجعة المناهج العسكرية، بما يتماشى مع متطلبات العدالة والمواطنة المتساوية والعقيدة العسكرية الديمقراطية، غير أن الاتفاق الذي تحدث عن إدماج الدعم السريع في الجيش أشار إلى أن تنفيذ مهام هذا الإصلاح يتم بواسطة قيادة القوات المسلحة، فيما أشار إلى رئاسة الدولة بواسطة قائد أعلى قوات الدعم السريع.

 

ويرى الخبير العسكري، أمين مجذوب، أن عملية هيكلة ومسألة دمج أفراد وقوات جديدة في القوات النظامية أمر ممكن، ويضيف: ” للقوات المسلحة خبرة كبيرة جداً في دمج القوات مثلما تم في اتفاقية أديس أبابا 1972 وفي  اتفاقية نيفاشا 2005 )، ويشير إلى أن عملية الدمج ستتم بسهولة حال  تم توفير الأموال والمعلومات الصحيحة من جانب الحركات المسلحة والدعم من المجتمع الدولي.


وينوه مجذوب في إفادته لـ(بيم ريبورتس)، إلى أن عملية التسريح “تتم  بتسريح الأفراد للعمل المدني وإرجاعهم  للقرى التي نزحوا منها. أما الدمج، فهو للراغبين في العمل بالقوات المسلحة بعد استيفاء شروطها وتسهيل عملية الإدماج بعد اجتياز القبول ليتم تدريبهم للعمل.

واعتبر مجذوب، أن ما تنادي به بعض الأصوات الأخرى، حول مسألة تفكيك وحل الجيوش تضر بالبلاد أكثر مما تصلحها، مستشهداً بما تم في العام 1985 بحل جهاز أمن الدولة، الذي اعتبره قراراً كان له أثر سلبي على العمل الأمني في البلاد، وأن السودان لا يزال يدفع ثمنه حتى اليوم. 

 

وفيما يتعلق بتجارب مماثلة في دول الجوار، أشار مجذوب إلى ما حدث للجيش الإثيوبي عام 1991 بعد حله، وتعرض المليشيات بعده للهزيمة من القوات الإرترية، وفشل إثيوبيا حتى اليوم في إعادة هيمنة الجيش الذي كان ترتيبه الـ14 في افريقيا رغم إعادتها تجميع الجيش بعد 3 سنوات. 

 

ومع حديث بعض الخبراء، عن إمكانية إجراء عمليات الدمج وإعادة التسريح للجيوش العديدة في البلاد، بما يمهد الطريق إلى توحيدها في جيش قومي واحد، إلا أن التاريخ القريب يخبرنا بأن النصوص والاتفاقات وحدها لا تعبد الطريق لعملية الإصلاح العسكري المنتظرة، في ظل الحاجة الكبيرة للدعم المالي والتحلي بالإرادة السياسية الكافية، وإيمان الفاعلين بضرورة عملية التحول المدني الديمقراطي نفسها.